الفصل العاشر

هل الحوكمة العالمية ممكنة؟ وهل هي مستحبة؟

فقدَت الدولة القومية رونقها؛ فقد اختفت الحدود، وزالت المسافات، وانبسطت الأرض، ولم تعد هوياتنا مرتبطة بمساقط رءوسنا. وحلَّت محل السياسة الداخلية أشكال جديدة وأكثر مرونة من التمثيل تتجاوز الحدود القومية، وأضحت السلطة تنتقل من صُناع القوانين المحليين إلى شبكات عبر قومية من واضعي النظم، والسلطة السياسية تتحوَّل إلى موجة جديدة من الناشطين المنتظمين حول منظمات دولية غير حكومية. وباتت القرارات التي تشكِّل حياتنا الاقتصادية تتخذها شركات كبيرة متعددة الجنسيات وموظفون دوليون نجهل هويتهم.

كم مرة سمعنا هذه التصريحات، أو ما يماثلها، التي تبشر ببزوغ فجر حقبة جديدة من الحوكمة العالمية أو تستنكرها؟

على أية حال، انظر إلى الطريقة التي توالت بها الأحداث خلال الأزمة الأخيرة عامَي ٢٠٠٧-٢٠٠٨. من الذي أنقذ البنوك العالمية كي يَحُول دون تحوُّل الأزمة المالية إلى حدث أكثر كارثية؟ ومن الذي ضخ السيولة اللازمة لتهدئة أسواق الائتمان الدولية؟ ومن الذي حفز الاقتصاد العالمي من خلال توسع مالي؟ ومن الذي قدم تعويضات بطالة وغيرها من خدمات شبكات الأمان للعمال الذين فقدوا وظائفهم؟ ومن الذي يضع القواعد الجديدة بشأن التعويض، وكفاية رأس المال، والسيولة التي تقدَّم للبنوك الكبيرة؟ ومن الذي يتحمل نصيب الأسد من اللوم عن كل الإخفاقات التي ارتُكبت قبل الأزمة وأثناءها وبعدها؟

ثَمَّةَ جواب واحد لكل هذه الأسئلة: إنها الحكومات الوطنية. قد نظن أننا نعيش في عالم حوَّلت العولمة حوكمته تحولًا جذريًّا، لكن المسئولية لا تزال تقع على عاتق صُناع السياسة داخل كل دولة. والجلبة المثارة بشأن تراجع الدولة القومية ما هي إلا مجرد جلبة. قد يكون اقتصادنا العالمي حافلًا بتشكيلة كبيرة من المنظمات الدولية — بدايةً من بنك التنمية الآسيوي إلى منظمة التجارة العالمية1 — لكن صُنع القرار على نحوٍ ديمقراطي لا يزال راسخًا رسوخًا قويًّا داخل الدول القومية. ومصطلح «الحوكمة العالمية» له وقْع لطيف، لكن لا تتوقع رؤيته في أي وقت قريب؛ فعالمنا المعقد والمتنوع لا يسمح لنا إلا بقشرة بالغة الرقة من الحوكمة العالمية — علاوةً على أنه لا يفعل ذلك إلا لأسباب وجيهة جدًّا.

(١) التغلب على طغيان الدول القومية

لم يعد المهووسون والحالمون بالمدينة الفاضلة وحدهم هم من يؤيدون فكرة الحوكمة العالمية؛ فقد انضم العديد من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع والسياسة ودارسي القانون والفلاسفة للبحث عن أشكال جديدة من الحوكمة تتجاهل شكل الدولة القومية. وبطبيعة الحال، قليل من هؤلاء المحللين ينادون بشكل عالمي حقيقي للدولة القومية، ويدركون أن وجود هيئة تشريعية عالمية أو مجلس وزراء عالمي إفراط في الخيال؛ لذا فإن الحلول التي يقترحونها تعتمد على مفاهيم جديدة للتشارك السياسي، والتمثيل، وقابلية المساءلة. والأمل هو أن تتمكن هذه الحلول المبتكرة من محاكاة كثير من الوظائف الأساسية للديمقراطية الدستورية، لكن على المستوى العالمي.

تتصور أبسط أشكال هذه الحوكمة العالمية تفويض تكنوقراط دوليين بممارسة السلطات الوطنية. وهذا ينطوي على وجود هيئات تنظيمية مستقلة منوط بها حل ما يُعتبر بالأساس مشكلات «فنية» قد تنشأ من اتخاذ قرارات دون تنسيق على مستوى الاقتصاد العالمي. لأسباب واضحة، نجد أن الاقتصاديين تحديدًا مغرمون بمثل هذه الترتيبات. على سبيل المثال، عندما التمست شبكة الاقتصاد الأوروبية VoxEU.org مشورةً من كبار خبراء الاقتصاد بشأن كيفية علاج مَواطن ضعف النظام المالي العالمي في أعقاب أزمة عام ٢٠٠٨، اتجهت غالبية الحلول المقترحة إلى فرض قواعد دولية أكثر صرامةً يُنفذها شكل من أشكال التكنوقراطية، يتضمن وجود: محكمة إفلاس دولية، ومنظمة مالية عالمية، ومرسوم دولي لتأسيس المصارف، ومقرض ملاذ أخير دولي، وهلم جرًّا.2 وقد ظل جيفري جارتن، مساعد وزير التجارة لشئون التجارة الدولية في إدارة الرئيس كلينتون، ينادي طويلًا بإنشاء بنك مركزي عالمي.3 واقترح الاقتصاديان كين روجوف وكارمن راينهارت إنشاء جهاز للتنظيم المالي الدولي.
قد تبدو هذه المقترحات تأملات ساذجة من اقتصاديين لا يفقهون شيئًا في مجال السياسة، لكنها في حقيقة الأمر غالبًا ما تقوم على دافع سياسي مباشر؛ فعندما يدعو روجوف وراينهارت إلى التنظيم المالي الدولي، يكون هدفهما إصلاح فشل سياسي بقدر ما هو علاج لانتشار تداعيات الأزمات الاقتصادية عبر الدول، بل وربما يكون الدافع السياسي مقدَّمًا على الدافع الاقتصادي. وهما يأمُلان في وضع حدٍّ للتدخل السياسي على المستوى القومي لأنهما يعتقدان أنه سبب في إضعاف القوانين المحلية. وقد كتبا في ذلك يقولان: «إن وجود جهاز للتنظيم المالي الدولي، مؤهل بكافة الإمكانات اللازمة، والموظفين المحترفين — يعمل دون وجود لتراتبات من السياسيين الفاشلين — سيوفر عاملًا بالغ الضرورة يعمل على موازنة نفوذ قطاع الخدمات المالية المحلي.»4 والنظرية السياسية التي تدعم هذا النهج تذهب إلى أن تفويض السلطات التنظيمية إلى تكنوقراط عالميين مستقلين ومعزولين عن أي تأثير سيؤدي إلى تحسُّن الحوكمة، على المستويَين العالمي والقومي.
على أرض الواقع، يتطلب تفويض السلطات أن يقبل المشرِّعون التخليَ عن صلاحياتهم في مجال وضع القوانين، وأن يُقلصوا قدرتهم على الاستجابة لمطالب ناخبيهم. أمرٌ كهذا لا يحدث عادةً إلا في حالات محدودة للغاية؛ ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، لا يفوِّض الكونجرس صلاحيات وضع القوانين إلى أجهزة تنفيذية إلا عندما تكون تفضيلاتها السياسية مماثلة تمامًا لتفضيلات الرئيس، وعندما تكون القضايا محلُّ النظر فنيةً بدرجة كبيرة.5 وحتى في هذه الحالة، يظل التفويض جزئيًّا وخاضعًا لآليات مساءلة واضحة. إن التفويض إجراء «سياسي»؛ ومن ثَمَّ، لا بد من تحقُّق شروط سابقة عديدة أولًا كي ينتشر تفويض الهيئات فوق الوطنية على نطاق واسع ويصبح مستدامًا. أعتقد أننا سنحتاج إلى إنشاء «هيئة عالمية سياسية» ما، بقواعد مشتركة، وتشارُك سياسي عبر قومي، وآليات جديدة للمساءلة ترقى للتطبيق على الساحة العالمية.
صحيح أن خبراء الاقتصاد لا يعيرون اهتمامًا كبيرًا لهذه الشروط السابقة، لكن غيرهم من العلماء يفعلون. ويرى العديد من بينهم أماراتٍ على أن ثَمَّةَ نماذجَ جديدةً من الحوكمة العالمية آخذة في الظهور بالفعل. وقد ركزت آن ماري سلوتر — الباحثة في العلاقات الدولية بجامعة برينستون — على الشبكات عبر القومية الحافلة بالمنظمين والقضاة والمشرِّعين. تستطيع هذه الشبكات أن تؤديَ مهام الحوكمة على الرغم من أنها لم تُنشأ باعتبارها منظمات حكومية دولية، ولم تتحوَّل إلى مؤسسة رسمية. وتقول سلوتر إن هذه الشبكات توسع نطاق آليات الحوكمة الرسمية، وتدع مجالًا لحشد التأييد وتبادل المعلومات عبر الحدود القومية، وتساهم في وضع المعايير العالمية، وتستطيع أن توفر القدرة على تطبيق المعايير والاتفاقات الدولية في الدول التي لا تؤهلها قدرتها المحلية للقيام بذلك.6

لا شك أن حوكمة الأسواق المالية هي بالفعل الميدان الذي حققت فيه هذه الشبكات أقصى تقدُّم لها، والمنهل الذي تتزود منه سلوتر بأفضل أمثلتها التوضيحية. على سبيل المثال، «المنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية» تجمع المسئولين عن تنظيم الأسواق المالية في العالم وتضع مبادئ عالمية. و«لجنة بازل للرقابة المصرفية» تفعل الشيء نفسه مع المسئولين عن تنظيم المجال المصرفي. لدى كلٍّ من هذه الشبكات سكرتارية محدودة العدد (هذا إن وُجدت) ولا تملك سلطة إنفاذ، ومع ذلك فإنها تمارس نفوذًا مؤكدًا من خلال السلطات التي تتمتع بها في وضع المعايير وشرعية قيامها بذلك، على الأقل من وجهة نظر المنظمين. وغالبًا ما تتحوَّل رؤى هذه الشبكات إلى مرجعيات يُستشهد بها في المناقشات المحلية. قد لا تكون هذه الشبكات بديلًا كاملًا عن الدول القومية، لكنها في نهاية الأمر تشكل شبكات متضافرة دوليًّا تضم عددًا من صناع السياسة في العالم.

لكن الحوكمة العالمية يجب أن تتجاوز حدود التجمع الضيق للمنظمين والتكنوقراط لكي تحقق شرعيتها. هل يمكن لهذه الشبكات أن تتجاوز المجالات الفنية الضيقة لتشمل أغراضًا اجتماعية أرحب؟ يجيب بِنعم عن هذا السؤال جون راجي، الباحث بجامعة هارفرد الذي صكَّ مصطلح «الليبرالية الضمنية» لوصف نظام بريتون وودز؛ إذ يسلِّم راجي بأن الشبكات عبر القومية قوضت النموذج التقليدي للحكم الذي يعتمد على الدول القومية فحسب. ويرى أننا بحاجة إلى مزيد من التركيز على المسئولية الاجتماعية المشتركة على المستوى العالمي كي نتمكَّن من إزالة اختلال التوازن هذا؛ إذ تستطيع نسخة محدثة من الليبرالية الضمنية أن تتجاوز نطاق التعددية المتمركزة داخل الدولة فقط إلى «تعددية أرحب تحتضن بهمة كافة المساهمات الممكنة في التنظيم الاجتماعي العالمي التي تُقدَّم من المجتمع المدني والجهات الفاعلة المشتركة.» فهذه الجهات الفاعلة تستطيع أن تقدم قواعد عالمية جديدة — في مجالات حقوق الإنسان، وممارسات العمل، والصحة، ومكافحة الفساد، والإشراف البيئي — ثم تدرجها في العمليات التي تنفذها الشركات الدولية الكبيرة وفي سياسات الحكومات الوطنية. ولعل أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو تمويل الشركات المتعددة الجنسيات لبرامج علاج مرض نقص المناعة البشرية/الإيدز في الدول الفقيرة.

يجسد «الاتفاق العالمي» للأمم المتحدة، الذي كان لراجي دور كبير في صياغته، هذه الأجندة؛ إذ يهدف هذا الاتفاق إلى تحويل الشركات الدولية إلى وسائل لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية. وتحوُّل كهذا من شأنه إفادة المجتمعات المحلية التي تعمل فيها هذه الشركات وفروعها. لكن، كما يوضح راجي، سيكون لذلك مزايا إضافية؛ فتحسين الأداء الاجتماعي والبيئي لشركات كبيرة سيشجع شركات أصغر غيرها على اتباع خُطاها. وهذا سيخفف من حدة القلق الشائع من أن المنافسة الدولية تخلق تنافسًا محمومًا بين الشركات على الانحطاط بمعايير العمل والمعايير البيئية على حساب الاندماج الاجتماعي في الداخل، وسيسمح بتحمُّل القطاع الخاص بعض المهام التي تواجه الدولةُ صعوبةً متزايدة في تمويلها وتنفيذها — مثلًا في مجالَي الصحة العامة وحماية البيئة — الأمر الذي سيُضيق الفجوة بين الأسواق الدولية والحكومات الوطنية.7
لكن الحجج التي تؤيد أشكالًا جديدة من الحوكمة العالمية — شكل التفويض، أو الشبكة، أو المسئولية الاجتماعية للشركات — تثير أسئلة مقلقة مثل: من يفترض أن يُعهد إليه بمهمة المساءلة؟ ومن الذي خوَّل هذه التجمعات العالمية من المنظمين، أو المنظمات الدولية غير الحكومية، أو الشركات الكبيرة بأداء مهامها؟ من الذي يمنحها سلطاتها ويراقبها؟ ما الذي يضمن أن تلقى أصوات ومصالح مَن هم أقل اتصالًا بالشبكة العالمية أيضًا آذانًا مُصغية؟ أرى أن أخطر مَواطن ضعف «الحوكمة العالمية» هو غموض علاقات قابلية المساءلة. في حالة الدولة القومية، يشكِّل الناخبون المصدر الرئيسي للتفويض السياسي وتشكِّل الانتخابات الوسيلة المثلى للمساءلة، فإذا كنت لا تلبِّي توقعات أفراد دائرتك الانتخابية وتطلعاتهم، فلن يصوِّتوا لك في الانتخابات التالية. ووجود مساءلة انتخابية عالمية من هذا النوع مفهوم بعيد المنال للغاية؛ لذا فإننا بحاجة إلى آليات مختلفة.8

ولعل أفضل حجة تؤيد وجود مفهوم «عالمي» بديل للمساءلة هي التي ساقها اثنان من الباحثين السياسيين المتميزين، هما جوشوا كوهين وتشارلز سابل. يبدأ هذان الباحثان بقولهما إن المشكلات التي تهدف الحوكمة العالمية إلى حلها لا تصلح معها المفاهيم التقليدية عن المساءلة؛ ففي النموذج التقليدي، تمنح دائرة انتخابية ذات مصالح واضحة السلطة لممثلها بأن يتصرف نيابة عنها لتحقيق تلك المصالح. لكن التنظيم العالمي يشكِّل تحديات جديدة، غالبًا ما تكون فنية للغاية، وخاضعة لظروف تتطور تطورًا سريعًا. و«الجمهور» العالمي عادةً ما تكون فكرته غامضة عن المشكلات التي يتعين حلها وعن كيفية حلها.

في هذه الظروف، تكون المساءلة معتمدة كليًّا على قدرة الهيئة الدولية المنظمة على تقديم «سبب وجيه» يبرر ما اختارت أن تتخذه من خطوات. كتب كوهين وسابل: «يُبَت في المسائل عن طريق مناقشة أفضل طريقة لعلاج المشكلات، لا [عن طريق] مجرد ممارسة السلطة، أو التعبير عن المصالح، أو التفاوض من موقع السلطة على أساس المصالح.»9 ولا يوجد افتراض هنا أن الحلول ستكون «تكنوقراطية». وحتى عندما تتعارض القيم والمصالح ويسود الخلاف، يبقى الأمل في أن توَلِّد عملية التباحث عبر القومية التفسيرات التي يستطيع الجميع، أو الأغلبية، الإقرار بمنطقيتها؛ وبذلك يكون وضْع القوانين على المستوى العالمي قابلًا للمساءلة إلى الحد الذي يجعل التبريرات الكامنة وراء القوانين تقنع حتى الذين ستطبق عليهم هذه القوانين.

يترك نظام كوهين وسابل متسعًا، من حيث المبدأ على الأقل، للاختلاف في الممارسات المؤسسية عبر الدول القومية داخل إطار شامل للتعاون والتنسيق العالمي؛ فالدول وصُناع سياستها لديهم مطلق الحرية في تجربة مختلِف الحلول وتنفيذها ما داموا يستطيعون أن يقدموا لأقرانهم — صُناع السياسات في دول أخرى — ما يبرر توصلهم إلى تلك الحلول؛ إذ يتعيَّن عليهم أن يبرروا خياراتهم على الملأ ويضعوها في سياق خيارات مشابهة وقابلة للمقارنة اقترحها آخرون. لكن قد يتساءل أحد المشككين عما إذا كانت هذه الآليات لن تؤديَ عكسيًّا إلى انتشار النفاق؛ لأن صُناع السياسات سيواصلون ممارسة العمل التجاري على النحو المعتاد، وفي الوقت نفسه سيبررون ما يفعلونه بعبارات ومصطلحات أرقى.

في النهاية، يأمل كوهين وسابل أن تغذيَ هذه العمليات التداولية تنمية المجتمع السياسي العالمي، الذي «تستطيع فيه شعوب متفرقة أن تتشارك هوية جديدة باعتبار كلٍّ منها عضوًا في جمهور عالمي منظم.»10 لكن من الصعب أن نرى كيف سيعمل مفهومهما عن الحوكمة العالمية حال عدم حدوث مثل هذا التحول في الهويات السياسية. خلاصة القول أن الحوكمة العالمية تتطلب أفرادًا يشعرون بأنهم مواطنون عالميون.
قد لا نكون بعيدين جدًّا عن هذا الوضع. وقد كتب بيتر سنجر — أستاذ علم الأخلاق بجامعة برينستون — فيما كتبه عن تطور أخلاقيات عالمية جديدة نتيجةً للعولمة، فقال: «إذا … كانت الثورة في مجال الاتصالات قد خلقت جمهورًا عالميًّا، فهذا قد يجعلنا نحتاج إلى تبرير سلوكنا للعالم أجمع.»11 وقال الاقتصادي والفيلسوف أمارتيا سين إنه لَأمر خاطئ تمامًا أن نعتقد بأن كلًّا منا مرتبط بهوية واحدة لا تتغير — عرقية أو دينية أو وطنية — وُلد بها. فلكل شخص هويات متعددة، تعتمد على مهنته وجنسه ووظيفته وطبقته وميوله السياسية، وهواياته واهتماماته، والفرق الرياضية التي يشجعها، وهلمَّ جرًّا.12 هذه الهويات لا تطغى بعضها على بعض؛ فنحن أحرار في اختيار الوزن الذي نمنحه لكلٍّ منها. وكثير من الهويات تتجاوز الحدود القومية؛ ما يسمح لنا بتكوين ارتباطات دولية وبتحديد «مصالحنا» عبر مدًى جغرافي واسع النطاق. هذه المرونة والتعددية تخلقان مجالًا، من حيث المبدأ، لإنشاء مجتمع سياسي عالمي بحق.
هناك قدر كبير من الجاذبية في هذه الأفكار حول إمكانية وجود حكم عالمي. يقول سين: «هناك شيء من طغيان الأفكار في الاعتقاد بأن الانفصال السياسي بين الدول (القومية في المقام الأول)، بشكل أو بآخر، ضروري؛ وفي الاعتقاد بأن هذا الانفصال ليس فقط قيدًا مفيدًا لا بد من الاهتمام به، بل إنه ذو أهمية أساسية بالنسبة إلى الأخلاق والفلسفة السياسية.»13 لكن الهوية السياسية والمجتمع السياسي ظلَّا يشهدان إعادة تعريف باستمرار مع مرور الوقت على أسس توسعت أكثر فأكثر؛ فقد تحوَّلت ارتباطات الإنسان من قَبَلية ومحلية إلى ارتباطات بالدول المدن ثم بعد ذلك بالدول القومية. ألا ينبغي أن يكون التحوُّل التالي نشوء مجتمع عالمي؟

التجربة خير برهان. وسنرى إلى أي مدًى ستستطيع هذه الأشكال الناشئة من الحوكمة العالمية أن تستمر وأي قدر من العولمة ستدعم؟ لعل خير ما نبدأ به في هذا الصددِ الاتحادُ الأوروبي، الذي قطع شوطًا طويلًا على طريق الحكم عبر القومي أكثر من أي تجمُّع آخر من الدول القومية.

(٢) الاتحاد الأوروبي: الاستثناء الذي يختبر القاعدة

بينما كان كوهين وسابل يطوِّران أفكارهما حول الحوكمة العالمية من خلال التداول، كان في خلدهما مثال ملموس جدير بالاعتبار؛ إنه الاتحاد الأوروبي. فالتجربة الأوروبية تبيِّن إمكانات هذه الأفكار ومَواطن قصورها في الوقت نفسه.

بلغت الدول الأوروبية مستوًى استثنائيًّا من التكامل الاقتصادي فيما بينها. فما من مكان آخر على الإطلاق حقق تقاربًا أفضل على صعيد التكامل العميق أو العولمة المفرطة، وإن كان هذا التكامل على المستوى الإقليمي. ووراء السوق الأوروبية الموحدة تكمن براعة مؤسسية هائلة تعكف على إزالة تكاليف المعاملات وتنسيق القوانين؛ فقد نبذ أعضاء الاتحاد الأوروبي الحواجز المفروضة على حركة السلع ورءوس الأموال والأيدي العاملة. لكن ما هو أكثر من ذلك، أنهم وقعوا على مائة ألف صفحة وأكثر تضمَّنت قوانين عامة على مستوى الاتحاد الأوروبي — تنظم كل شيء من علم السياسة إلى حماية المستهلك — وأرست المعايير والآمال المشتركة. وأَنشئوا أيضًا محكمة عدل أوروبية تجتهد في إنفاذ قوانين هذه اللائحة. وأوجدوا ذراعًا إدارية تمثَّلت في «المفوضية الأوروبية» كي تقترح قوانين جديدة وتنفذ سياسات مشتركة في مجال التجارة الخارجية، والزراعة، والمنافسة، والمساعدات الإقليمية، والعديد من المجالات الأخرى. وأسَّسوا عددًا من البرامج لتوفير المساعدات المالية للمناطق المتخلفة من الاتحاد، ولتعزيز التقارب الاقتصادي. وقد اعتمد ستة عشر عضوًا من أعضاء الاتحاد العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وخضعوا لسياسة نقدية مشتركة يديرها البنك المركزي الأوروبي. يضاف إلى كل هذا أن الاتحاد الأوروبي لديه عدد كبير جدًّا من الوكالات المتخصصة التي لا يتسع المجال لذكرها هنا.

لكن المؤسسات الديمقراطية للاتحاد الأوروبي ليست على القدر ذاته من التطور؛ فالبرلمان الأوروبي المنتخب انتخابًا مباشرًا يعمل في أغلب الأحيان مجرد منبر للكلام لا مصدرًا للمبادرة التشريعية أو الإشراف. والسلطة الحقيقية تقع على عاتق «مجلس الوزراء»، وهو عبارة عن مجموعة من الوزراء من الحكومات الوطنية. لقد ظلت كيفية تأسيس شرعية ديمقراطية وقابلية مساءلة والحفاظ عليهما سؤالًا شائكًا طالما أرَّق المنظومة الأوروبية فوق الوطنية. ثَمَّةَ نقاد من اليمين يلومون مؤسسات الاتحاد الأوروبي لامتداد نطاقها، وثَمَّةَ نقاد آخرون من اليسار يتذمرون من أنها تعاني من «قصور ديمقراطي».

وقد بذل الزعماء الأوروبيون جهودًا كبيرة في السنوات الأخيرة لتعزيز البنية التحتية «السياسية» للاتحاد الأوروبي، لكن الطريق إلى ذلك الهدف كان وعرًا شاقًّا؛ إذ باءت بالفشل محاولة طموحة للتصديق على «دستور أوروبي» موحَّد بعد أن قابله بالرفض المصوتون في فرنسا وهولندا عام ٢٠٠٥. ظهرت في أعقاب هذا الفشل «معاهدة لشبونة» التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر ٢٠٠٩، لكن بعد أن ضمنت المملكة المتحدة وبولندا وأيرلندا وجمهورية التشيك أن تُستثنى من بعض الشروط الواردة فيها. هذه المعاهدة تُصلح قواعد التصويت في «مجلس الوزراء»، وتمنح سلطة أكبر للبرلمان الأوروبي، وتجعل ميثاق الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان ملزمًا قانونًا، وتؤسس منصبًا تنفيذيًّا جديدًا هو منصب «رئيس المجلس الأوروبي».

تبيِّن الاستثناءات التي أرادتها بريطانيا وغيرها أنه لا تزال هناك اختلافات كبيرة بين الدول الأعضاء حول الرغبة في تحوُّل أوروبا إلى اتحاد سياسي حقيقي؛ فبريطانيا تذود بحماس عن استقلالية دستورها ونظامها القانوني ضد طغيان قواعد الاتحاد الأوروبي أو مؤسساته، وهي لم تحاول أن تجعل ممارساتها في العديد من المجالات، مثل النظام المالي والسياسة النقدية، تحاكي ممارسات الأعضاء الآخرين. فما يهم بريطانيا بشأن الوحدة الأوروبية هو الجانب الاقتصادي في المقام الأول. وموقفها المتحفظ من بناء مؤسسات أوروبية يتناقض تناقضًا حادًّا مع ما ترمي إليه فرنسا وألمانيا من أهداف فيدرالية تكون أكثر طموحًا في بعض الأحيان.

وبالرغم من أهمية هذه النقاشات الواسعة النطاق بشأن البناء الدستوري للاتحاد الأوروبي، يُنفَّذ كثير من عمل المنظمة الحقيقي من خلال مجموعة متطورة وغير رسمية من الممارسات التي يُطلِق تشارلز سابل عليها «الحكم التجريبي». تتخذ الدول الأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي الرفيعة المستوى القرارات بشأن الأهداف التي يتعين إنجازها. قد تكون هذه الأهداف طموحة وغير محددة مثل هدف «الإدماج الاجتماعي»، أو ضيقة ومحددة مثل هدف إنشاء «شبكة موحدة للطاقة». وتُمنح الوكالات التنظيمية الوطنية حرية تحقيق هذه الأهداف بالطرق التي تراها مناسبة، لكن في مقابل ذلك يتعين عليها أن تعرض ما اتخذته من خطوات وما حققته من نتائج أمام جهات تختلف أسماؤها من اجتماعات، إلى وكالات مشتركة، إلى مجالس منظمين، إلى نظم تنسيق معلنة. وحينما يستعرض المسئولون ما حققوه أمام أقرانهم يتيح ذلك للمنظمين داخل كل بلد أن يقارنوا نهجهم بنُهُج الآخرين وبأن ينقحوه إذا رأَوْا حاجة إلى ذلك. وبمرور الوقت، يجري تحديث الأهداف وتغييرها في ضوء المعرفة التي تُكتسب من هذه المداولات والنقاشات.14

يساعد الحكم التجريبي في وضع معايير أوروبية عامة، ويسهم في بناء توافق عبر قومي في الآراء بشأن النُّهج المشتركة. قد لا يؤدي ذلك بالضرورة إلى التجانس الكامل، لكن في المجالات التي لا تزال تشهد خلافات، يكون الخلاف داخل سياق من التفاهم المتبادل وقابلية المساءلة، بحيث تقل احتمالية تحوُّله إلى مصدر للنزاع. والشرط الذي يقضي بضرورة تقديم ما يبرر الممارسات الوطنية يسهِّل احتواء الاختلافات بين الدول الأعضاء.

قد يبدو أعضاء الاتحاد الأوروبي كحفنة من الدول المتباينة، لكنهم نموذج للانسجام إذا ما قورنوا بمجمل الدول التي تشكِّل الاقتصاد العالمي؛ فهذه الدول السبع والعشرون مرتبطة معًا بمشتركات جغرافية وثقافية ودينية وتاريخية. وإذا قارنَّا بين مستويات الدخل في نحو ١٩٠ دولة مختلفة في جميع أنحاء العالم وبين مستوياته داخل دول أوروبا — باستثناء لوكسمبورج؛ حيث يرتفع دخل الفرد ارتفاعًا كبيرًا — فسنجد أن دخل الفرد في أكثرها ثراءً (أيرلندا حسب تقديرات عام ٢٠٠٨) لا يفوقه في أكثرها فقرًا (بلغاريا) إلا بمقدار ٣٫٣ مرات فقط. إن أعضاء الاتحاد الأوروبي يحركهم شعور قوي بالهدف الاستراتيجي الذي يمتد إلى ما يتجاوز مجرد التكامل الاقتصادي؛ فالوحدة الأوروبية في حقيقة الأمر تشكِّل هدفًا سياسيًّا أكثر منه اقتصاديًّا.

على الرغم من وجود كل هذه المزايا النسبية، فقد سار التطور المؤسسي للاتحاد الأوروبي ببطء، ولا تزال هناك اختلافات كبيرة بين الدول الأعضاء. خير ما يعبِّر عن ذلك التوترُ الملحوظ بين تعميق الاتحاد من جهة وتوسيعه ليضم أعضاءً جُددًا من جهة أخرى. خذ مثلًا الجدل الذي احتدم طويلًا بشأن انضمام تركيا. كانت معارضة فرنسا وألمانيا دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مستمدة جزئيًّا من أسباب ثقافية ودينية، لكن جزءًا كبيرًا من المعارضة يأتي من الخوف من أن يكون ما تتسم به المعتقدات والمؤسسات السياسية التركية من اختلاف كبير؛ عائقًا أمام التكامل السياسي الأوروبي. في المقابل، نرى بريطانيا ترحب بأي شيء من شأنه أن يحدَّ من الطموحات الفرنسية والألمانية المتطلعة إلى أوروبا موحدة «سياسيًّا»؛ ولهذا السبب تدعم منح تركيا عضوية نهائية. إن الجميع يدركون أن تعميق تكامل أوروبا السياسي يزداد صعوبة بزيادة عدد أعضاء الاتحاد الأوروبي وزيادة التنوع في تكوينه.

ومعضلة أوروبا لا تختلف عن المعضلة التي يواجهها الاقتصاد العالمي ككلٍّ. فكما رأينا في الفصول السابقة، يتطلب التكامل الاقتصادي العميق إقامة بنية حوكمة عبر قومية شاملة لتدعمه. وفي نهاية الأمر، إما أن يجابه الاتحاد الأوروبي المصاعب السياسية للوحدة وإما أن يرضى بأن يكون اتحادًا اقتصاديًّا أكثر محدودية. إن فرصة نجاح من يعملون على توحيد أوروبا سياسيًّا في تحقيق هدف السوق الأوروبية الموحدة بحق؛ أكبر من فرصة نجاح من يريدون أن تقتصر المداولات على الصعيد الاقتصادي. لكن دعاة الوحدة السياسية لم يحسموا الجدل لصالحهم بعد، ويواجهون معارضة حادة، سواءٌ من ناخبيهم داخل الوطن أو من غيرهم من الزعماء السياسيين المختلفين معهم في الرأي.

ومن ثَمَّ لم تقطع أوروبا سوى منتصف الطريق نحو هدفها، صحيح أنها أكثر تكاملًا على الصعيد الاقتصادي من أي منطقة أخرى في العالم، لكن لا يزال أمامها الكثير من العمل على صعيد بنية الحوكمة. وهي قادرة على التحوُّل إلى اتحاد اقتصادي حقيقي، لكنها لم تبلغ هذا الهدف بعد. فحينما تواجه الاقتصادات الأوروبية ضغوطًا، تغلب ردود الأفعال الوطنية غلبة ساحقة.

ظهرت ثغرات الحوكمة واضحةً في أوروبا خلال أزمة عام ٢٠٠٨ وما بعدها؛ فحينما بدأت بنوك أوروبا — التي تُشرف عليها جهات تنظيمية وطنية — في الانهيار، لم يكن هناك أي تنسيق بين حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وكانت عمليات إنقاذ البنوك وغيرها من الشركات تُجريها كل حكومة بشكل مستقل عن غيرها، وبطرق غالبًا ما كانت تضر بأعضاء آخرين في الاتحاد الأوروبي. ولم يكن هناك أي تنسيق أيضًا في خطط الإنعاش وبرامج التحفيز المالي، على الرغم من أن انتشار آثار الأزمة كان واضحًا (كان الاقتصادان الفرنسي والألماني متشابكَين بحيث كانت الشركات الألمانية تستفيد من أي حافز مالي فرنسي بنفس قدر استفادة الشركات الفرنسية منه تقريبًا). وعندما وافق القادة الأوروبيون أخيرًا على وضع إطار «مشترك» للرقابة المالية في ديسمبر ٢٠٠٩، أبرز وزير المالية البريطاني محدودية طبيعة الاتفاق بأن أكَّد على أن «المسئولية ستقع على عاتق الجهات التنظيمية الوطنية».15
لم يكن أمام أعضاء الاتحاد الأكثر فقرًا والأشد تضررًا سوى أن يعتمدوا على الدعم الضنين الذي تقدمه بروكسل. واضطُرت لاتفيا والمجر واليونان إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على المساعدة المالية، باعتبار ذلك شرطًا للحصول على قروض من الحكومات الأكثر ثراءً في الاتحاد الأوروبي.16 (تصور كيف ستكون الحال لو أن واشنطن طلبت من ولاية كاليفورنيا أن تخضع لمراقبة صندوق النقد الدولي كي يُسمح لها بالاستفادة من صناديق الإنعاش الفيدرالية.) تُركت دول أخرى تصارع مشكلات اقتصادية (إسبانيا والبرتغال) لتتدبر أمورها. في الواقع، عانى هذان البلدان أسوأ عواقب الأمرين؛ فقد حال الاتحاد الاقتصادي دون لجوئهما إلى تخفيض قيمة العملة بهدف توفير دفعة عاجلة لقدرتهما التنافسية، في حين حال عدم وجود اتحاد سياسي دون تلقيهما دعمًا يُذكر من بقية دول أوروبا.

في ضوء كل هذا من السهل أن نُسقط الاتحاد الأوروبي من حساباتنا، لكن هذا سيكون حكمًا بالغ القسوة؛ فعضوية الاتحاد أحدثت بالفعل فرقًا في استعداد البلدان الصغيرة للعيش وفقًا لقواعد العولمة المفرطة. خذ مثلًا لاتفيا، وهي دولة صغيرة من دول البلطيق، التي وجدت نفسها تعاني صعوبات اقتصادية مماثلة لتلك التي عانتها الأرجنتين قبل عقدٍ مضى. ظلت لاتفيا تنمو نموًّا سريعًا منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي عام ٢٠٠٤، بفضل حصولها على مبالغ كبيرة من القروض من البنوك الأوروبية وبفضل حدوث فقاعة عقارية محلية؛ فسجلت بحلول عام ٢٠٠٧ عجزًا ضخمًا في الحساب الجاري بنسبة ٢٠٪ وفي الدين الخارجي بنسبة ١٢٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وكما هو متوقع، صار اقتصاد لاتفيا عقب الأزمة الاقتصادية العالمية والتراجع في تدفقات رأس المال عام ٢٠٠٨ في حالة يُرثى لها؛ فمع انهيار أسعار الإقراض والعقارات، ارتفع معدل البطالة إلى ٢٠٪ وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ١٨٪ عام ٢٠٠٩. وفي يناير ٢٠٠٩، شهدت البلاد أسوأ أعمال شغب منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

كانت لاتفيا قد تمتعت بثبات سعر الصرف وحرية تدفق رءوس الأموال، شأنها شأن الأرجنتين، وكانت عملتها مرتبطة باليورو منذ عام ٢٠٠٥. لكن على عكس ما حدث في الأرجنتين، تمكَّن سياسيو لاتفيا من الصمود دون أن يخفضوا قيمة العملة ودون أن يفرضوا قيودًا على رأس المال (الإجراء الأخير كان سيُعد انتهاكًا صريحًا لقواعد الاتحاد الأوروبي). بحلول أوائل عام ٢٠١٠، بدا الأمر كما لو أن اقتصاد لاتفيا قد بدأ يستقر.17 كان الفارق بينها وبين الأرجنتين أن عضويتها في تجمُّع سياسي أكبر حجمًا أحدثت تغيرًا في التوازن بين التكاليف والفوائد على نحوٍ يختلف عما لو كانت مرت بهذه الأزمة وحدها؛ فقد أتاح حق حرية حركة العمالة داخل الاتحاد الأوروبي للعديد من عمال لاتفيا أن يهاجروا منها، وهذا الأمر بمنزلة صمام أمان لأي اقتصاد يعاني الضغط. وأقنعت بروكسل البنوك الأوروبية بدعم فروعها في لاتفيا. الأهم من ذلك، أن ترقُّب صُناع السياسة في لاتفيا اعتمادَ اليورو عملة محلية وتوقُّعهم الانضمام إلى منطقة اليورو؛ أجبرهم على استبعاد أي خيارات — مثل تخفيض قيمة العملة — من شأنها أن تهدد تحقق هذا الهدف، على الرغم من أن التكاليف الاقتصادية القصيرة الأجل التي تكبدتها البلاد كانت باهظة للغاية.

نظرًا لكل المشكلات التي واجهتها أوروبا خلال مراحلها الأولى، ينبغي اعتبارها حققت نجاحًا كبيرًا بالنظر إلى التقدم الذي أحرزته على طريق بناء المؤسسات. أما بالنسبة إلى بقية دول العالم، فلا يزال اتحاد أوروبا يشكِّل قصة تحذيرية؛ فالاتحاد الأوروبي يوضح الصعوبات التي يتضمنها تحقيق أي اتحاد سياسي قوي بدرجة تكفي لدعم تكامل اقتصادي عميق، حتى بين عدد صغير نسبيًّا من البلدان المتماثلة التفكير. على أحسن تقدير، يمكن اعتبار التجربة الأوروبية الاستثناء الذي يختبر القاعدة؛ فالاتحاد الأوروبي يثبت أن الحوكمة الديمقراطية عبر القومية خيار عملي، لكن تجربته أيضًا تكشف بمنتهى الوضوح عن المتطلبات العديدة اللازمة لحوكمةٍ من هذا القبيل. وعلى كل من يرى أن الحوكمة العالمية طريق جيد كي يسلكه الاقتصاد العالمي ككلٍّ أن يأخذ في اعتباره تجربة أوروبا.

(٣) هل تستطيع الحوكمة العالمية حل مشكلاتنا؟

دعونا نمنح دعاة الحوكمة العالمية قرينة الشك ونتساءل: كيف ستضع الآليات التي يقترحونها حدًّا للتوترات التي تولدها العولمة المفرطة؟

لاحظ كيف ينبغي لنا أن نتعامل مع التحديات الثلاثة التالية:
  • (١)

    ظهر أن صادرات اللعب الصينية إلى الولايات المتحدة تحتوي على مستويات غير آمنة من عنصر الرصاص.

  • (٢)

    تنتشر أزمة الرهن العقاري من الولايات المتحدة إلى بقية دول العالم لأن العديد من الأوراق المالية التي تصدرها البنوك الأمريكية وتُتداول في بلدان أجنبية تبيَّن أنها «مسمومة».

  • (٣)

    تُستغل عمالة الأطفال في تصنيع بعض السلع التي تُصدَّر من إندونيسيا إلى الولايات المتحدة وأوروبا.

في الحالات الثلاث، ثَمَّةَ بلد يصدِّر سلعة أو خدمة أو أصولًا تسبب مشكلات للبلد المستورِد؛ فصادرات اللعب الصينية الملوثة بالرصاص تشكِّل خطرًا على صحة الأطفال الأمريكيين، وصادرات الرهون العقارية الأمريكية المدعومة بأصول غير مسعرة بقيمتها الحقيقية تهدد الاستقرار المالي في بقية دول العالم، وصادرات إندونيسيا التي يعمل في تصنيعها عمال أطفال تهدد معايير العمل وقيَمه في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. لا تقدم القواعد الدولية السائدة حلولًا واضحة لمجابهة هذه التحديات؛ لذلك نحن بحاجة إلى أن نفكر بأنفسنا في علاجٍ لها. فهل نستطيع أن نعالجها عن طريق الأسواق وحدها؟ هل نحتاج إلى قواعد محددة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل ينبغي أن تكون هذه القواعد وطنية أم عالمية؟ هل من الممكن أن تختلف إجابات هذه الأسئلة عبر هذه المناطق الثلاث؟

لاحظ التشابه بين هذه المشكلات الثلاث على الرغم من أن كلًّا منها في موقع مختلف تمامًا من الاقتصاد العالمي؛ إذ يكمن في صميمها خلاف حول المعايير، متعلق بمحتوى مادة الرصاص، وتسعير الأوراق المالية، وعمالة الأطفال. الحالات الثلاث تتضمن اختلافات في المعايير المطبقة (أو المنشودة) من قِبل البلدين المصدِّر والمستورِد. فقد تكون الدول المصدرة تطبق معايير أقل جودة ومن ثَمَّ تتمتع بميزة تنافسية في أسواق الدول المستوردة. لكن المشترين في البلد المستورد لا يملكون أن يراقبوا عن كثب المعيارَ الذي طُبق عند إنتاج السلعة أو الخدمة التي يشترونها. والمستهلك ليس من السهل عليه أن يميز ما إذا كانت لعبة مستوردة مطلية بطلاء يحوي مادة الرصاص أو أنها صُنعت باستخدام عمالة الأطفال في ظل ظروف استغلالية، كما لا يستطيع مقدم القرض أن يحدد تمامًا ملامح المخاطرة فيما يحتفظ به من أصول مجمعة. من المفترض في حال ثبتت كل العوامل المؤثرة الأخرى أن يقل احتمال شراء المستوردين السلعة أو الخدمة المرغوبة إذا كانت مطلية بطلاء يحوي مادة الرصاص، أو مصنوعة باستخدام عمالة الأطفال، أو عرضة لأن تُحدث خرابًا ماليًّا.

في الوقت نفسه، تفضيلات المستهلكين متباينة؛ فكلٌّ منا يختلف على الأرجح فيما يوليه من اهتمام بالتمسك بالمعايير إذا كان يحصل في المقابل على مزايا أخرى، كانخفاض السعر مثلًا؛ فقد تكون على استعداد لأن تدفع مبلغًا إضافيًّا قدره دولاران مقابل تي شيرت يحمل ما يفيد أنه صُنع من دون استخدام عمالة الأطفال، بينما قد لا أرغب أنا في دفع أكثر من دولار واحد. وقد تكون مستعدًّا لأن تتنازل وتتعرض لشيء من المخاطر الإضافية مقابل الحصول على عائد أكبر على ورقة مالية تشتريها، بينما أكون أنا أكثر تحفظًا في فلسفتي الاستثمارية. وقد يكون البعض مستعدين لشراء اللعب الملوثة بالرصاص إذا كان ذلك يُحدث فرقًا جديرًا بالاعتبار في ثمنها، بينما قد يرى آخرون أن هذا أمر كريه؛ لهذا السبب، يسبِّب تطبيق أي معيار ربحًا للبعض وخسارة للبعض الآخر حال توحيد تطبيقه على الجميع.

كيف نجابه هذه التحديات الثلاثة؟ الخيار المفترض هو أن نتجاهلها حتى تتفاقم إلى درجة يستحيل معها التجاهل. لعلنا سنختار هذا الخيار لأسباب عدة؛ السبب الأول: أننا ربما نثق في المعايير المطبقة في الدولة المصدِّرة. فمثلًا، من المفترض أن وكالات التصنيف الائتماني في الولايات المتحدة هي الأفضل على مستوى العالم، فَلِمَ قد تقلق أي دولة من شراء أوراق مالية مضمونة برهن عقاري أمريكي ما دامت مصنفة من الدرجة الممتازة؟ واللوائح الصينية المنصوص عليها في القانون بشأن استخدام مادة الرصاص أكثر صرامة من تلك الموجودة في الولايات المتحدة، فلماذا التخوف من التعرض لمخاطر صحية من اللعب الصينية؟ السبب الثاني: أننا قد نعتقد أن المعايير والأنظمة المطبقة في البلدان الأجنبية أمر لا يعنينا في شيء؛ وبِناءً على ذلك، ليس على المشترين سوى توخي الحذر فحسب. السبب الثالث: أننا قد نرى في الواقع أن الاختلافات في المعايير التنظيمية مصدر للميزة النسبية — ومن ثَمَّ مصدر لتحقيق المكاسب من التجارة — شأنها شأن الاختلافات بين الدول في الإنتاجية أو المهارات. وإذا كانت معايير العمل المتساهلة تمكِّن إندونيسيا من أن تبيعنا السلع بسعر أرخص، فهذا ليس سوى شاهد آخر على فوائد العولمة.

تنتقص هذه الحجج القصيرة النظر من كفاءة الاقتصاد العالمي وتقوض شرعيته في نهاية المطاف. إن هذه التحديات القائمة تثير مخاوف مشروعة وتستحق ردود فعل جادة؛ لذلك، ينبغي النظر إلى بعض الاحتمالات بعين الاعتبار:

  • المعايير العالمية: قد يروق لنا أن نسعى لوضع معايير عالمية تلتزم بها جميع البلدان. وربما نفرض على جميع المنتجين الامتثال لمعايير العمل الأساسية المتمثلة في مجموعة مشتركة من اللوائح المصرفية، وقوانين موحدة لسلامة المنتجات. وهذه هي الحوكمة العالمية في صورتها المثلى. وكما رأينا من قبل، هذا النهج جذاب بالنسبة إلينا في كثير من المجالات، لكن تظل هناك قيود ملحوظة تحد من تطبيقه؛ فمن المستبعد أن تتفق الدول على المعايير المناسبة، وغالبًا ما يكون ذلك لأسباب وجيهة للغاية.

    أبرز مثال على ذلك معايير العمل؛ فالحجة القائلة إن القيود التي تفرضها الدول الغنية على عمل الأطفال قد لا تناسب البلدان النامية الفقيرة إذا حالت دون التوصل إلى توافق عالمي في الآراء حول هذا الشأن. لكن عمالة الأطفال التي تكون محل اعتراض النشطاء في الدول الغنية غالبًا ما تكون نتيجة حتمية للفقر؛ لذلك فإن منع الأطفال الصغار من العمل في المصانع قد يضر أكثر مما سينفع إذا لم يكن البديل الأكثر احتمالًا أمام الأطفال هو الذهاب إلى المدرسة، وإنما العمل في مهن محلية أكثر انحطاطًا (البغاء هو أكثر الأمثلة على ذلك شيوعًا). تنطبق هذه الحجة أيضًا على قوانين العمل الأخرى، كالحد الأقصى لساعات العمل أو الحد الأدنى للأجور. وبالنظر إلى هذا الأمر على نطاق أوسع، يجب أن تتمتع الدول بحرية اختيار معايير العمل التي تناسب ظروفها وتفضيلاتها الاجتماعية ما دامت لا تنتهك حقوق الإنسان الأساسية، كعدم التمييز وكفالة الحرية النقابية. علاوةً على أن توحيد المعايير أمر مكلف، حتى لو كان سيساعد على أن تحوز أنواع معينة من الواردات قبول المشترين في الدول الغنية.

    وهذا ينطبق أيضًا على مجال التنظيم المالي؛ فالممارسة التي تكون «مأمونة» بالنسبة إلى الولايات المتحدة قد لا تكون «مأمونة بالقدر الكافي» بالنسبة إلى فرنسا أو ألمانيا؛ فقد تتقبل الولايات المتحدة بكل سرور أن تخاطر أكثر قليلًا من البلدين الآخرين، باعتبار المخاطرة ثمنًا للابتكار المالي. من ناحية أخرى، قد ترغب الولايات المتحدة في أن تفرض بنوكها متطلبات رأسمالية أعلى لاعتبارها ذلك أداةً لامتصاص صدمة المخاطرة، بينما لا يرى صُناع السياسة في فرنسا أو ألمانيا أن هذه المتطلبات ضرورية بالقدر نفسه. وفي كل حالة، لا يكون أحد الموقفين صائبًا والآخر خاطئًا بالضرورة؛ فوجهات نظر الدول تختلف نظرًا لأن تفضيلاتها وظروفها تختلف.

    قد يبدو أن قوانين سلامة المنتجات هي أسهل ما يمكن توحيده على النحو الأمثل، لكن حتى في هذا المجال ثَمَّةَ قيود مهمة تعوق ذلك. لاحظ أولًا أن المعايير الصينية المتعلقة بالطلاء المحتوي على الرصاص صارمة جدًّا على أرض الواقع. المشكلة لا تنشأ في هذه الحالة من الاختلافات في المعايير المنصوص عليها، بل من الاختلافات في تطبيقها. فكما هي الحال في معظم البلدان النامية، تعاني الحكومة الصينية صعوبات في إنفاذ معايير المنتجات والرقابة على تطبيقها. وغالبًا لا تكون هذه الصعوبات ناجمة عن عدم رغبة الحكومة، وإنما عن عدم قدرتها نتيجةً لوجود قيود إدارية ومالية وقيود أخرى متعلقة بالموارد البشرية؛ ومن ثَمَّ، ما من معيار عالمي يستطيع أن يغير هذا الواقع الجوهري. ربما، كما تقول سلوتر، قد تساعد المشاركة في الشبكات العالمية المنظمين الصينيين على التطور من خلال تمكينهم من الاستفادة من «أفضل الممارسات» واقتباسها. لكني أنصحك ألا تنتظر؛ لأن تحسن المؤسسات المحلية عملية طويلة الأجل جدًّا عادةً ما يكون تأثير الأجانب عليها محدودًا للغاية.

    حتى لو اتفقت الدول على معايير عالمية، فقد يكون هذا الاتفاق على مجموعة من اللوائح غير المناسبة. وما حدث في حالة التمويل العالمي مثال واضح على ذلك؛ فلطالما كانت «لجنة بازل» للرقابة المصرفية، المنتدى العالمي لمسئولي البنوك، محط إشادة واسعة النطاق على اعتبار أنها النموذج الأمثل للتعاون المالي الدولي، لكنها مع ذلك أنتجت اتفاقات غير صائبة بدرجة كبيرة؛18 فقد شجعت المجموعة الأولى من توصياتها (بازل ١) القروض القصيرة الأجل والمحفوفة بالمخاطر؛ الأمر الذي ربما قد لعب دورًا في التعجيل بوقوع الأزمة المالية الآسيوية. أما المجموعة الثانية من التوصيات (بازل ٢) فقد اعتمدت على وكالات التصنيف الائتماني والنماذج التي أعدتها البنوك كي تولِّد أوزانًا للمخاطر لتحديد متطلبات رأس المال، والآن بات الكثيرون يرَوْن أنها توصيات غير ملائمة بعد حدوث الأزمة المالية الأخيرة. إن كل ما فعلته لجنة بازل — إن كانت فعلت شيئًا بالأساس — بتجاهلها حقيقة أن المخاطر الناجمة عن التدابير التي يتخذها كل بنك منفردًا تتوقف على سيولة النظام برمته؛ هو أنها فاقمت المخاطر النظامية. قد يكون من الأفضل أن نترك عدة نماذج تنظيمية متنوعة تنمو جنبًا إلى جنب ما دمنا غير متيقنين حيال المزايا التي ينطوي عليها كل نهج تنظيمي.
  • الحلول القائمة على السوق: ثَمَّةَ حل آخر أكثر ملاءمة للسوق؛ فبدلًا من أن نفرض الامتثال لمعايير عالمية موحدة، يمكننا أن نفرض تقديم «معلومات». فإذا عزَّزنا توفير معلومات للمستوردين بشأن المعايير التي أُنتجت بموجبها السلع والخدمات التي يستوردونها، يستطيع كل مُشترٍ أن يتخذ القرار الذي يناسب ظروفه.

    في حالة عمالة الأطفال مثلًا، يمكننا أن نتصور وضع نظام تصديق ولصق بطاقات يتيح للمستهلكين في الدول المتقدمة أن يميزوا بين السلع المستوردة التي عمل في إنتاجها أطفال، وغيرها من السلع. هناك العديد من أنظمة لصق البطاقات هذه معمول بها بالفعل. على سبيل المثال، «رجمارك» هي منظمة دولية غير حكومية تضمن عدم مشاركة الأطفال في صنع بعض السجاجيد التي تُستورد من الهند ونيبال. المفترض أن صناعة المنتجات دون استخدام الأطفال يكون أكثر كلفة فيكون المنتَج أغلى ثمنًا. لكن يستطيع المستهلكون أن يعبِّروا عن تفضيلاتهم الشخصية من خلال المنتجات التي يرغبون في شرائها؛ فالذين يعارضون استخدام عمالة الأطفال سيدفعون المزيد ويشترون السلع التي تحمل الملصق المنشود، لكن سيظل آخرون أحرارًا في أن يختاروا استهلاك المنتَج الأرخص ثمنًا. إن الملمح الجذاب في طريقة لصق البطاقات هو أنها لا تفرض معيارًا مشتركًا على الجميع في البلد المستورِد؛ فأنا لست مضطرًا لأن أدفع لقاء ما تنشده أنت من معايير مرتفعة ما دمت أرى أن ما دونها من معايير جيدة بما فيه الكفاية.

    قد يبدو هذا حلًّا جيدًا، لا سيما لأنه لا يُحمِّل الحوكمة العالمية سوى مطالب محدودة. وربما تكون هناك مناطق محددة يُحدث فيها هذا النظام فرقًا جديرًا بالاعتبار. لكنه لا يصلح لأن يعمَّم على جميع الحالات.

    فقبل الأزمة المالية الأخيرة، كنا نشير إلى وكالات التصنيف الائتماني باعتبارها نموذجًا ناجحًا لنظام لصق البطاقات. كانت هذه الوكالات تعمل — من حيث المبدأ — بالطريقة التي يُفترض أن يعمل بها هذا النظام. فإذا كنت ممن ينفرون من المجازفة، فبمقدورك أن تقصر نشاطك على الأوراق المالية ذات التصنيف الممتاز والعائد المنخفض. وإذا كنت ممن يريدون عائدًا أعلى مقابل مخاطر أعلى، فبمقدورك أن تستثمر في الأوراق المالية ذات التصنيف الأقل. هذه التصنيفات تسمح للمستثمرين — من حيث المبدأ أيضًا — أن يقرروا أي مستوًى من المخاطرة يرغبون في خوضه. ولم يكن من الضروري أن تشرف الحكومة على التفاصيل الصغيرة لاتخاذ القرارات المتعلقة بمحفظة الأوراق المالية.

    لكننا بعد الأزمة تعلمنا أن المعلومات التي تقدِّمها التصنيفات الائتمانية ليست معبرة بالقدر الذي كنا نظنه من قبل؛ فقد مُنحت الأصول المسمومة أعلى التصنيفات لأسباب متنوعة، ليس أقلها أن شركات الأوراق المالية كانت تدفع أموالًا لوكالات التصنيف الائتماني المسئولة عن تقييمها. تضرر العديد من المستثمرين لأنهم أخذوا التصنيفات التي تصدرها هذه الوكالات على محمل الجد، وكان أداء سوق المعلومات بالغ السوء.

    لم تقع خسائر التقييمات الخاطئة على عاتق من استثمروا في هذه الأوراق المالية وحدهم، بل على عاتق المجتمع برمته. وهذه هي مشكلة المخاطر النظامية: أن إفلاس مؤسسات كبيرة ومدينة بمبالغ كبيرة يهدد بسقوط النظام المالي برمته في أعقابها. فقد تجاوزت تداعيات فشل وكالات التصنيف الائتماني أولئك الذين اشترَوا الأوراق المالية المسمومة.

    إن كل نظام للصق البطاقات يثير في الواقع سؤالًا أكثر تعقيدًا بشأن الحوكمة: من الذي سيتولى مساءلة من يصادقون على السلع؟ أو: مَن الذي سيصادق على المصادقين؟ كان أداء التصنيف الائتماني ضعيفًا في الأسواق المالية لأن وكالات التصنيف الائتماني عظمت دخلها وأهملت واجباتها الائتمانية حيال المجتمع. في تلك الحالة، «حُلت» إحدى المشكلات المعقدة للحكم بأن سُلمت لكيانات ربحية خاصة تعارضت حوافزها مع حوافز المجتمع.

    ومشكلة لصق البطاقات لا تقل خطورةً في حالة العمالة أو المعايير البيئية، وهما المجالان اللذان بادرت فيهما تحالفات متنوعة من المنظمات غير الحكومية والشركات الخاصة لمواجهة الجمود الحكومي. فنظرًا لأن كل من يشارك في نظام لصق البطاقات له أجندته الخاصة؛ فهذا قد يؤدي إلى إمكانية غموض المعنى الذي تعبِّر عنه العلامات بدرجة كبيرة. على سبيل المثال، بطاقات «التجارة العادلة» تدل على المنتجات — كالقهوة، أو الشوكولاتة، أو الموز — التي تُزرع بطريقة مستدامة بيئيًّا؛ أي غير ضارة بالبيئة، ويحصل زارعوها على الحد الأدنى للسعر. وهذا يبدو نهجًا يعود بالنفع على كل الأطراف؛ فالمستهلك يستطيع أن يرشف قهوته وهو يعلم أنها تسهم في التخفيف من حدة الفقر وفي حماية البيئة. لكن هل يعرف المستهلك حقًّا أو يدرك ما تعنيه بطاقة «التجارة العادلة» التي تحملها قهوته؟

    إننا لا نملك من المعلومات ما يمكن الاعتماد عليه لمعرفة مدى نجاح جهود لصق البطاقات على أرض الواقع، كلصق بطاقة «التجارة العادلة» مثلًا. تناولت إحدى الدراسات الأكاديمية القليلة التي أُجريت حول هذا الموضوع القهوة في جواتيمالا وكوستاريكا، فكان ما رصدته من اهتمام بشهادة التجارة العادلة من جانب المزارعين اهتمامًا هزيلًا للغاية. وهذا أمر مستغرب جدًّا في ضوء ما تحمله هذه الشهادة من مزايا ظاهرة، أهمها حصول المزارعين على أسعار أفضل. لكن على أرض الواقع، كان السعر الاستثنائي الذي يحصل عليه المزارعون يبدو قليلًا إذا ما قورن بالسعر الذي يفترض أن يحصلوا عليه من زراعة أصناف فائقة الجودة من القهوة.

    في كثير من الأحيان، لم يكن السعر مرتفعًا بما يكفي لتغطية الاستثمارات الضرورية لتلبية متطلبات الحصول على شهادة التصديق. علاوةً على أن الفوائد لم تكن تتدفق بالضرورة على أفقر المزارعين، الذين يكونون من السكان الأصليين الذين لا يملكون أرضًا؛19 إذ تشير تقارير أخرى إلى أن ما يصل في نهاية المطاف إلى المزارعين ليس سوى جزء صغير من السعر المرتفع الذي يُدفع لقاء القهوة التي تحمل بطاقة التجارة العادلة.20

    قد تعود التجارة العادلة، أو غيرها من نظم لصق البطاقات مثل «رجمارك»، ببعض الخير على وجه العموم، لكن علينا أن نتشكك حول مدى إفادة المعلومات الذي تقدمها هذه البطاقات والحجم المحتمل لآثارها. وما ينطبق على جهود المنظمات غير الحكومية ينطبق أكثر على المسئولية الاجتماعية للشركات. فما يحرك الشركات في المقام الأول هو حسابات الربح؛ فهي قد تكون على استعداد للاستثمار في مشاريع اجتماعية وبيئية إذا كان ذلك يشتري لها ود العملاء. ومع ذلك، ينبغي لنا ألا نفترض أن تتوافق دوافعها بدرجة وثيقة مع دوافع المجتمع ككلٍّ، وألا نبالغ في استعدادها لتحقيق الأهداف المجتمعية.

    أكثر الاعتراضات جوهريةً على لصق البطاقات وغيرها من النُّهج القائمة على السوق هو أنها تتجاهل البُعد «الاجتماعي» لوضع المعايير. فمثلًا، النهج التقليدي للتعامل مع المخاطر التي تهدد الصحة والسلامة يدعو إلى استخدام المعايير، لا البطاقات. ولو كان لصق البطاقات يعمل على نحوٍ جيد جدًّا، فلماذا لا نتعامل مع هذه المسائل بالطريقة نفسها، ونسمح للأفراد بأن يقرروا كمَّ المخاطر التي يريدون التعرض لها؟ على قدر علمي، حتى خبراء الاقتصاد المؤيدون للتحرر لم يقترحوا أن أفضل طريقة للتعامل مع مشكلة اللعب الصينية الملوثة بمادة الرصاص هي وضع «بطاقات» على اللعب الصينية الصُّنع تشير إلى احتوائها على نسبة مرتفعة أو غير معلومة القدر من الرصاص، ثم ترك المستهلكين ليختاروا وفقًا لتفضيلاتهم الخاصة وما يرغبون في التنازل عنه، فنترك لهم الحق في تقرير التعرض لمخاطر صحية مقابل حصولهم على السعر المنخفض. لكن غريزتنا الطبيعية من المفترض أن تدفعنا للسعي إلى مزيد من التنظيم وتطبيق المعايير القائمة على نحوٍ أفضل. بل إن شركات صناعة اللعب الأمريكية طلبت من الحكومة الفيدرالية فرض معايير إلزامية لاختبار سلامة جميع اللعب التي تُباع في الولايات المتحدة.21

    إننا نفضل توحيد المعايير الحكومية في هذه الحالات لعدة أسباب. ربما نشك في أن المستهلكين لن يملكوا قدرًا كافيًا من المعلومات اللازمة لاتخاذ الخيارات الصحيحة، أو لن يتمكنوا من تحليل المعلومات التي تقدَّم لهم. وربما نؤمن بأهمية الأهداف والمعايير المجتمعية إلى جانب التفضيلات الفردية. فمثلًا، قلة من الناس من وسطنا هم من قد يكونون على استعداد للتوقيع على عقود مؤقتة ليعملوا بموجبها عمالًا مسترقين لقاء أجرٍ ما، ومع ذلك، من المستبعد أن نسمح لهم — نحن المجتمع — بأن يفعلوا ذلك. في نهاية الأمر، قد يؤدي تصرف الأفراد وفقًا لما يحقق مصلحتهم فقط إلى خلق مشكلات لبقية المجتمع؛ ونتيجةً لذلك، قد يكون من الضروري تقييد حريتهم في الاختيار. لك أن تفكر ثانية في الفوضى التي سبَّبتها البنوك التي استثمرت في الأصول المسمومة لبقية المجتمع، أو كيف يمكن أن تعمل المصانع المستغلة للعمال على انحطاط ظروف العمل بالنسبة إلى عمال آخرين في الاقتصاد.

    وتنطبق هذه الأسباب فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية بقدر انطباقها فيما يتعلق بالمخاطر التي تهدد الصحة والسلامة؛ فهي تشير إلى أن لصق البطاقات والتصديق لن يلعبا إلا دورًا محدودًا في التعامل مع صعوبات إدارة الاقتصاد العالمي.

  • حدود الحوكمة العالمية: لا تقدم الحوكمة العالمية عونًا يُذكر في حل هذه التحديات التي تناولناها؛ فنحن نتعامل مع مشكلات متأصلة في انقسامات عميقة بين مجتمعات متباينة من حيث تفضيلاتها وظروفها وقدراتها. فلا الحلول التقنية تنفع، ولا شبكات المنظمين، ولا الحلول القائمة على السوق، ولا المسئولية الاجتماعية للشركات، ولا المداولات على مستوًى عبر قومي؛ فهذه الأنماط الجديدة من الحوكمة لا تشكل في أحسن الأحوال سوى نوع خفيف من الحوكمة العالمية؛ لأنها ببساطةٍ لا تستطيع تحمُّل ثقل اقتصاد العالم المعولم عولمة مفرطة. والعالم بالغ التنوع للغاية بدرجة لا تسمح بحشره داخل وحدة سياسية واحدة.

    في حالة اللعب الملوثة بمادة الرصاص، سيوافق معظم الناس على أن الحل الواضح والصحيح هو ترك القرار للمعيار المحلي المطبق؛ فالولايات المتحدة ينبغي أن تحدد معاييرها فيما يتعلق بالصحة والسلامة، وألا تسمح باستيراد لعب سوى تلك التي تستوفي هذه المعايير. وفي حال كانت دول أخرى ترغب في اعتماد معايير مختلفة، أو كانت غير قادرة على مطابقة معاييرها بالمعايير الأمريكية لأسباب عملية، فمن حقها هي الأخرى أن ترتئي الخيارات التي تناسبها. لكنها لا يمكن أن تنتظر أن يُسمح لمنتجاتها أن تدخل بحُرية إلى الولايات المتحدة ما لم تستوفِ المعايير الأمريكية. هذا النهج يمكِّن كل دولة من دعم أنظمتها الخاصة، حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى عرقلة تجارتها الخارجية.

    لكن هل نستطيع تطبيق المبدأ نفسه على النظام المالي، ومعايير العمل، أو غيرها من مجالات الصراع الناجم عن الاختلافات في المعايير المطبقة داخل كل دولة؟ نعم نستطيع، وينبغي لنا أن نفعل ذلك.

(٤) العولمة وإحياء الهوية

في رواية نيك هورنبي «جولييت عارية» (٢٠٠٩)، دنكان — إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية — مهووس بموسيقار روك أمريكي مغمور ومنعزل يُدعى تاكر كرو. تتمحور حياة دنكان حول كرو؛ فهو يلقي محاضرات بشأنه، وينظم اجتماعات ومحافل للحديث عنه، وكتب كتابًا لم يُنشر عن تاكر كرو الرجل العظيم. في بادئ الأمر، كان لدى دنكان عدة أشخاص يشاركونه في إعجابه بتاكر كرو. وكان أقرب معجبي تاكر كرو من مكان سكن دنكان يعيش على بُعد ستين ميلًا، ولم يكن دنكان يستطيع لقاءه سوى مرة واحدة فقط أو مرتين في السنة. ثم يدخل الإنترنت حياته، فيؤسس موقعًا إلكترونيًّا ويتواصل مع مئات آخرين من محبي تاكر كرو في شتى أنحاء العالم. كتب هورنبي يقول: «الآن، بات أقرب معجبي تاكر يعيشون داخل كمبيوتر دنكان المحمول»، وبات دنكان يستطيع التحدث إليهم في أي وقت.22

لقد صارت هناك تقنيات معلومات واتصالات تجمع بين أشخاص عاديين، مثل دنكان، حول اهتمامات مشتركة بطرق يأمل علماء مثل بيتر سينجر وأمارتيا سين أن تجعل العالم أصغر. فبفضل هذه الروابط العالمية، أضحت العلاقات المحلية أقل أهمية؛ لأن هناك مجتمعات معنوية وسياسية عبر قومية صارت تطغى عليها أكثر فأكثر … فهل هذا صحيح بالفعل؟

قد تبدو قصة دنكان عادية — مررنا جميعًا بتحوُّلات مماثلة في حياتنا بفضل الإنترنت — لكنها لا تخبرنا القصة الكاملة. هل تذيب تفاعلاتنا العالمية حقًّا هوياتنا المحلية والوطنية؟ الغريب أن الأدلة المستمدة من أرض الواقع تقدِّم صورة مختلفة للغاية ومثيرة للدهشة تمامًا. خذ مثلًا حالة «نِتفيل».

في منتصف التسعينيات، شارك مشروع تطوير عقاري جديد في إحدى ضواحي مدينة تورونتو في تجربة مثيرة للاهتمام. كانت المنازل التي تُبنى في هذا التجمع السكني الكندي تزوَّد بالكامل بأحدث بنية تحتية من وسائل الاتصالات ذات نطاق التردد الواسع، وعدد كبير من تقنيات الإنترنت الحديثة. وكان سكان «نتفيل» (وهو اسم مستعار) يستخدمون الإنترنت العالي السرعة، والهواتف المرئية، وبرامج تشغيل الموسيقي عبر الإنترنت، ويتمتعون بخدمات الرعاية الصحية عبر الإنترنت، ويرتادون منتديات المناقشة الافتراضية، ويستخدمون مجموعة من التطبيقات الترفيهية والتعليمية.23

جعلت هذه التقنيات الجديدة من المدينة بيئة مثالية لتنشئة مواطنين عالميين. كان سكان «نتفيل» يستطيعون قهر المسافات. ويستطيعون التواصل مع أي شخص في العالم بسهولة تواصلهم مع أحد الجيران، ويستطيعون أيضًا إنشاء روابطهم العالمية الخاصة، والانضمام إلى المجتمعات الافتراضية في الفضاء الإلكتروني. وتوقَّع المراقبون أن تبدأ هويات السكان واهتماماتهم تتحدد على أساس عالمي — وليس محلي — أكثر فأكثر.

لكن ما حدث في الواقع كان مختلفًا كل الاختلاف؛ فقد حدث أن واجه مزود خدمة الاتصالات بعض الأعطال التي حالت دون وصول خدمة الشبكة ذات نطاق التردد الواسع إلى بعض المنازل؛ الأمر الذي أتاح للباحثين أن يقارنوا بين الأسر التي تستخدم الخدمة وتلك التي لا تستخدمها، وأن يتوصلوا إلى بعض الاستنتاجات بشأن نتائج العيش في بيئة متصلة. لم تسفر الحياة المتصلة بالإنترنت عن تآكل الروابط المحلية على الإطلاق للأشخاص الذين يستخدمون تقنيات الاتصالات، بل عزز هؤلاء علاقاتهم الاجتماعية المحلية. وعند مقارنتهم بالسكان الذين لا يستخدمون الخدمة، وُجد أنهم يعرفون عددًا أكبر من جيرانهم، ويمضون أوقاتًا أكثر في التحدث إليهم، ويزورونهم بمعدل أكثر تواترًا، ويُجرون عددًا أكبر من المكالمات الهاتفية المحلية، وكانوا أكثر تنظيمًا للأحداث والمناسبات المحلية، وأكثر نشاطًا في حشد المجتمع حيال ما يعانيه السكان من مشكلات مشتركة، وكانوا يستخدمون شبكة الكمبيوتر المشتركة بينهم في الإعداد لمختلِف الأنشطة الاجتماعية، من حفلات الشواء إلى مساعدة أطفال الجيران في واجباتهم المدرسية. لقد كانت «نتفيل»، على حد تعبير أحد السكان، صورة «لتقارب لا يشهده المرء في كثير من المجتمعات.» وهكذا، تمخض الأمر الذي كان يُفترض أن يعزز المشاركة وشبكات العلاقات العالمية عن تقوية الروابط الاجتماعية المحلية.

بالرغم من التأثير الهائل لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لا ينبغي لنا أن نفترض أنها سوف تقودنا إلى تشكيل وعي عالمي أو مجتمعات سياسية عبر قومية؛ فالمسافات لا تزال تقف حائلًا دون ذلك. ولا تزال ارتباطاتنا المحلية تحدد هويتنا وتحدد اهتماماتنا في أغلب الأحيان.

يستقصي «مسح القيم العالمية» دوريًّا مواقف عينات عشوائية من الأفراد في جميع أنحاء العالم وارتباطاتهم. وفي إحدى الجولات الاستقصائية الأخيرة سُئل أشخاص من ٥٥ بلدًا حول مدى قوة هوياتهم المحلية والوطنية والعالمية. كانت النتائج مماثلة في جميع أنحاء العالم، ومفيدة للغاية كذلك؛ فهي تُظهر أن الارتباط بالدولة القومية يطغى على جميع الأشكال الأخرى للهوية؛ فكل شخص يعتبر نفسه مواطنًا لدولته في المقام الأول، ثم عضوًا في مجتمعه المحلي، ولا يقع اعتباره نفسه «مواطنًا عالميًّا» إلا في المرتبة الأخيرة. الاستثناءات الوحيدة لوحظت في الأشخاص الذين يكابدون العنف في كولومبيا، والذين يعيشون في أندورا الصغيرة؛ حيث وُجد أنهم يرتبطون بالعالم أكثر من ارتباطهم بدولتهم.24

تكشف هذه الاستقصاءات عن الهوة الفاصلة بين النُّخب وبقية أفراد المجتمع؛ فالشعور القوي بالمواطنة العالمية، حيثما وُجد، غالبًا ما ينحصر في أفراد أثرياء وآخرين حصلوا على أعلى مستويات التعليم. في المقابل، يكون الارتباط بالدولة القومية أقوى كثيرًا (والهوية العالمية أضعف كثيرًا) بوجه عام بين أفراد الطبقات الاجتماعية الدنيا. ربما لا يبعث هذا الانقسام على الاستغراب؛ فالمستثمرون والمحترفون ذوو المهارات هم من يستطيعون الاستفادة من الفرص العالمية أينما كان مكان نشأتهم. أما الدولة القومية وما تقدمه فلا تشكِّل لهؤلاء سوى قدر أقل بكثير من الأهمية التي تشكِّلها للعمال الأقل تنقلًا وغيرهم من ذوي المهارات الأقل، المضطرين للرضاء بما في متناول أيديهم. تبيِّن فجوة الفرص هذه جانبًا مظلمًا للإصرار على المطالبة بالحوكمة العالمية. إن بناء المجتمعات السياسية عبر القومية هو مشروع أفراد ينتمون إلى النخبة المعولمة؛ لأنه يوافق احتياجاتهم بدرجة كبيرة.

(٥) إذا لم تكن الحوكمة العالمية، فماذا إذنْ؟

إن الأشكال الجديدة للحوكمة العالمية جديرة بالاهتمام وتستحق المزيد من التطوير، لكنها في نهاية الأمر تتعارض مع بعض القيود الأساسية؛ فالهويات والارتباطات السياسية لا تزال تدور في فلك الدول القومية؛ والمجتمعات السياسية تُنظَّم على مستوًى محلي لا عالمي، والمعايير العالمية الحقيقية لم تطبَّق إلا على نطاق ضيق من القضايا، ولا تزال هناك اختلافات كبيرة بين الدول في جميع أنحاء العالم بشأن الترتيبات المؤسسية التي ترغبها كل دولة. قد تستطيع هذه الآليات عبر القومية الجديدة أن تنزع فتيل النزاع في بعض القضايا الخلافية، لكنها ليست بديلًا عن الحكم الحقيقي. وهي غير كافية لدعم العولمة الاقتصادية الشاملة.

إننا بحاجة إلى أن نتقبل حقيقة انقسام الكيان العالمي وأن نتخذ بعض الخيارات الصعبة. علينا أن نكون واضحين بشأن الحد الذي تنتهي عنده حقوق ومسئوليات كل دولة وتبدأ حقوق ومسئوليات غيرها. ليس لنا أن نضلل الآخرين بشأن دور الدول القومية ونتمادى في الافتراض بأننا نشهد ولادة مجتمع سياسي عالمي. يجب أن نعترف ونقبل القيود التي تحد من العولمة والتي يوجبها انقسام الكيان العالمي. إن نطاق التنظيم العالمي القابل للتطبيق يقلص نطاق العولمة التي نتطلع إليها؛ فليس بوسعنا تحقيق العولمة المفرطة، ولا ينبغي لنا أن نتظاهر بأن تحقيقها ممكن.

وفي نهاية الأمر، سيؤدي أخْذ هذا الواقع في الاعتبار إلى نظام عالمي أكثر صحة واستدامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤