الفصل الحادي عشر

صياغة الرأسمالية ٣

لا شيء يضارع الرأسمالية في قدرتها على إطلاق العنان للطاقة الاقتصادية الجمعية للمجتمعات البشرية. وهذه الميزة العظيمة هي سبب كون جميع الدول المزدهرة دولًا رأسمالية بالمعنى الواسع للكلمة؛ فهي دول قائمة على الملكية الخاصة وتسمح للأسواق بأداء دور ضخم في تخصيص الموارد وتحديد المكافآت الاقتصادية. والعولمة امتداد للرأسمالية في جميع أنحاء العالم. بل صارت الاثنتان متشابكتَين تشابكًا وثيقًا بدرجةٍ بات يستحيل معها أن نناقش مستقبل إحداهما دون أن نناقش مستقبل الأخرى.

(١) نحو الرأسمالية ٣

يكمن سر صمود الرأسمالية في مرونتها التي تكاد تكون بلا نهاية. ومثلما تطورت مفاهيمنا عن المؤسسات المطلوبة من أجل دعم الأسواق والنشاط الاقتصادي على مر القرون، كذلك كانت الرأسمالية. وبفضل قدرة الرأسمالية على التجدد، تغلبت على الأزمات المتكررة وعاشت أكثر مما عاش منتقدوها، بدءًا من كارل ماركس وكل من جاء بعده. وقد لاحظنا في هذا الكتاب كيف تحدث هذه التحولات من خلال النظر إلى الرأسمالية من منظور الاقتصاد العالمي.

لم يكن مجتمع السوق المثالية الذي تصوَّره آدم سميث يتطلب أكثر بكثير من «دولة تؤدي دور العسس». فكل ما كان يتعين على الحكومات أن تفعله كي تضمن تقسيم العمل هو أن تفرض حقوق الملكية، وتحافظ على السلم، وتجمع القليل من الضرائب اللازمة لتغطية تكاليف عدد محدود من المنافع العامة كالدفاع الوطني مثلًا. كانت الرأسمالية خلال بواكير القرن العشرين وأول موجة للعولمة محكومة بالرؤية الضيقة للمؤسسات العامة التي كانت ضرورية لدعمها. وعمليًّا، كان نطاق تدخُّل الدولة كثيرًا ما يتجاوز هذا المفهوم (مثلما حدث عندما قدم بسمارك معاشات لكبار السن في ألمانيا عام ١٨٨٩). لكن الحكومات ظلت ترى دورها الاقتصادي من زاوية ضيقة. يمكن أن نطلق على هذا النوع «الرأسمالية ١» (أو الإصدار الأول من الرأسمالية).

ومع اكتساب المجتمعات مزيدًا من الديمقراطية وتحرُّك النقابات العمالية وغيرها من الاتحادات ضد ما يرَوْن أنه تجاوزات للرأسمالية، تشكلت تدريجيًّا رؤية جديدة وأوسع نطاقًا للحوكمة. بدأ الأمر بسياسات مكافحة الاحتكار، التي فككت الشركات الاحتكارية الكبيرة، تقودها الحركة التقدمية في الولايات المتحدة. ثم حازت السياسات النقدية والمالية النشطة قبولًا واسع النطاق في أعقاب الكساد الكبير. وبدأت الدولة تلعب دورًا متزايدًا في تقديم المساعدات والضمانات الاجتماعية؛ فقد ارتفعت حصة الإنفاق الحكومي في الدخل الوطني للبلدان الصناعية في ذلك الوقت ارتفاعًا سريعًا، من أقل من ١٠٪ في المتوسط في نهاية القرن التاسع عشر إلى أكثر من ٢٠٪ قُبيل الحرب العالمية الثانية. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، صارت هذه البلدان دول رفاهية اجتماعية شهد فيها القطاع العام توسعًا تجاوز نسبة ٤٠٪ من الدخل القومي في المتوسط.

كان نموذج «الاقتصاد المختلط» هذا أعظم إنجازات القرن العشرين؛ فالتوازن الجديد الذي أرساه بين الدول والأسواق دعم فترة غير مسبوقة من التلاحم الاجتماعي والاستقرار والرخاء في الاقتصادات المتقدمة استمرت حتى منتصف السبعينيات. ويمكن أن نطلق على هذا النوع «الرأسمالية ٢» (أو الإصدار الثاني من الرأسمالية).

صاحَب الرأسمالية ٢ شكل محدود للعولمة تمثَّل في تسوية بريتون وودز؛ فقد كان الوضع بعد الحرب يتطلب إبقاء الاقتصاد الدولي تحت السيطرة لأنه كان مبنيًّا بحيث يناسب مستوى الدول القومية ويعمل داخل إطارها. وهكذا أنشأ نظام بريتون وودز-الجات شكلًا «سطحيًّا» من أشكال التكامل الاقتصادي الدولي، فيه ضوابط على التدفقات الدولية لرأس المال، وتحرير جزئي للتجارة، وكثير من الاستثناءات للقطاعات ذات الحساسية الاجتماعية (كالزراعة، والنسيج، والخدمات)، وللدول النامية أيضًا. هذا أتاح لكل دولة حرية بناء نسختها المحلية من الرأسمالية ٢، ما دامت ملتزمة ببضع قواعد دولية بسيطة.

صار هذا النموذج متهالكًا خلال السبعينيات والثمانينيات، وبدا حينئذٍ أنه انكسر كسرًا لا سبيل لإصلاحه تحت وطأة الضغوط المزدوجة الآتية من العولمة المالية والتكامل التجاري العميق. لكن الرؤية التي قدمتها العولمة المفرطة لتحل محل الرأسمالية ٢ كانت تعاني من نقطتَي ضعف؛ إحداهما: أننا كنا نعمل لتحقيق الاندماج السريع والعميق في الاقتصاد العالمي وتركنا الدعائم المؤسسية لتلحقها فيما بعد. والثانية: أن العولمة المفرطة لم تُحدث أي تأثير، أو أحدثت تأثيرًا خفيفًا في الغالب، على الترتيبات المؤسسية المحلية. والأزمات — المالية والشرعية على حدٍّ سواء — التي أنتجتها العولمة، وبلغت ذروتها في الانهيار المالي عام ٢٠٠٨، أظهرت خطورة هاتين النقطتين.

يجب أن نعيد اختراع الرأسمالية بحيث تتوافق مع قرن جديد باتت فيه قوى العولمة الاقتصادية أكثر عتوًّا. ومثلما سبق أن تحولت رأسمالية سميث الهزيلة (الرأسمالية ١) إلى اقتصاد كينز المختلط (الرأسمالية ٢)، فنحن الآن بحاجة إلى التفكير في انتقالٍ ما من نسخة الاقتصاد المختلط إلى النسخة العالمية. وبحاجة إلى تصور توازن أفضل بين الأسواق وما يساندها من مؤسسات على مستوًى عالمي.

من المغري أن نتصور أن الحل — نسخة الرأسمالية ٣ (أو الإصدار الثالث من الرأسمالية) — يكمن في التوسيع المباشر لمنطق الرأسمالية ٢؛ بحيث نظن أن الاقتصاد العالمي يتطلب حوكمة عالمية. لكننا رأينا في الفصل السابق أن خيار الحوكمة العالمية يشكل طريقًا مسدودًا بالنسبة إلى غالبية الدول، على الأقل الآن وفي المستقبل المنظور؛ فهو ليس خيارًا عمليًّا ولا حتى مرغوبًا. إننا نحتاج إلى رؤية مختلفة، تضمن لنا الحصول على الفوائد العظيمة لعولمة معتدلة، وفي الوقت نفسه تقرُّ صراحة بفضائل التنوع الوطني وبمركزية الحوكمة الوطنية. خلاصة القول أن ما نحتاج إليه في الواقع هو تحديث تسوية بريتون وودز بحيث تلائم القرن الحادي والعشرين.

هذا التحديث لا بد أن يسلِّم بواقع الأحوال في الوقت الراهن؛ حيث اكتسبت التجارة حرية أكبر، وخرج مارد العولمة المالية من القمقم، ولم تعد الولايات المتحدة القوة الاقتصادية المسيطرة على العالم، ولم يعد من الممكن تجاهل كبرى الأسواق الناشئة (لا سيما الصين) أو السماح لها بأن تظل تستفيد مجانًا من النظام دون أن تلتزم بقواعده. إننا لا نستطيع، ولا ينبغي لنا، أن نعود إلى «عصر ذهبي» زائف ترتفع فيه حواجز التجارة، وتسوده قيود مفروضة على رأس المال ونظام «جات» الضعيف. ما يمكننا فعله هو أن ندرك أن السعي لتحقيق العولمة المفرطة حرث في البحر، وأن نعيد توجيه أولوياتنا بما يتناسب مع هذا الإدراك. وسأوضح كيفية فعل ذلك في الفصل التالي.

(٢) مبادئ العولمة الجديدة

هَب أن أهم صُناع السياسة في العالم سيلتقون ثانية في فندق «ماونت واشنطن» في ضاحية بريتون وودز في نيوهامشير، كي يصمموا نظامًا اقتصاديًّا عالميًّا جديدًا. بطبيعة الحال سيكون شغلهم الشاغل مشكلات الوقت الراهن المتمثلة في تعافي الاقتصاد العالمي، ومخاطر الحمائية الزاحفة، وتحديات النظام المالي، واختلالات الاقتصاد الكلي العالمي، وهلمَّ جرًّا. لكن معالجة هذه القضايا الملحَّة تتطلب أن يرتفع صُناع السياسة فوق مستواها كي ينظروا في سلامة الترتيبات الاقتصادية العالمية بوجهٍ عام. تُرى ما هي بعض المبادئ التوجيهية التي قد يتفقون عليها بشأن الحوكمة الاقتصادية العالمية؟

سأقدم في هذا الفصل سبعة مبادئ منطقية، تضع في مجملها أساسًا سيفيد الاقتصاد العالمي إفادة كبيرة في المستقبل. وسيظل النقاش في هذا الفصل نقاشًا عامًّا. وفي الفصل المقبل، سأتناول التأثيرات التي تُحدثها تحديدًا بعض التحديات الرئيسية التي تواجه الاقتصاد العالمي.

(٢-١) يجب إدماج الأسواق إدماجًا عميقًا في أنظمة الحوكمة

تلقت الفكرة التي تذهب إلى أن الأسواق تنظم نفسها بنفسها ضربة قاصمة بوقوع الأزمة المالية الأخيرة؛ لذا ينبغي أن تُدفن هذه الفكرة إلى الأبد؛ إذ توضح تجربة العولمة المالية أن «السحر الذي تمارسه الأسواق» أشبه بأغنية فاتنة خطرة يمكن أن تُلهي صُناع السياسة عن إدراك الرؤية المهمة للرأسمالية ٢ التي ترى: أن لا تضاد بين الأسواق والحكومات إلا في كونهما وجهَين لعملة واحدة.

فالأسواق تحتاج إلى دعم مؤسسات اجتماعية أخرى أيضًا؛ فهي تعتمد على محاكم وترتيبات قانونية في إنفاذ حقوق الملكية، وتعتمد على واضعي اللوائح التنظيمية في السيطرة على الاستغلال وإصلاح عيوب السوق. وتعتمد على وظائف إحداث الاستقرار التي يؤديها مقرضو الملاذ الأخير والسياسة المالية التي تثبط التقلبات الدورية في السوق. وتحتاج إلى المشاركة السياسية التي تساعد آليات إعادة التوزيع من ضرائب وشبكات أمان، وبرامج ضمان اجتماعي على توليدها. بعبارة أخرى: الأسواق لا تنشئ نفسها ولا تنظم نفسها ولا توازن نفسها ولا تدعم نفسها. وقد تعلمنا من تاريخ الرأسمالية هذا الدرس مرارًا وتكرارًا.

وما ينطبق على الأسواق المحلية ينطبق أيضًا على الأسواق العالمية؛ فبفضل الصدمة التي شهدتها فترة ما بين الحربين العالميتين وفطنة كينز، كان نظام بريتون وودز يسعى لإحداث توازن حساس بدرجة لم تدفع العولمة إلى حدٍّ يفوق قدرة الحوكمة العالمية على دعمها. ونحن بحاجة إلى العودة إلى هذه الروح نفسها إذا أردنا إنقاذ العولمة من المهللين لها.

(٢-٢) الحوكمة الديمقراطية والجماعات السياسية تنتظم في أغلب الأحيان داخل إطار الدول القومية، ومن المرجح أن تظل كذلك في المستقبل القريب

لا يزال شكل الدولة القومية هو الخيار الوحيد المتاح، حتى ولو لم يكن خيارًا جيدًا تمامًا؛ فالسعي لإقامة حوكمة عالمية سعْي وراء سراب؛ لأن الحكومات الوطنية لن تتخلى — على الأرجح — عن قدر كبير من السيطرة للمؤسسات عبر القومية، ولأن التوفيق بين قوانين مختلِف الدول لن يكون في مصلحة المجتمعات التي تتنوع احتياجاتها وتفضيلاتها. ولعل الاتحاد الأوروبي ليس فقط الاستثناء الوحيد لهذه الحقيقة البدهية، بل أيضًا الاستثناء الذي يثبت القاعدة.

أحد أسباب الضعف الذي تعاني منه العولمة حاليًّا هو غض الطرف عن القيود الطبيعية التي تعرقل وجود حوكمة عالمية؛ فنحن نهدر التعاون الدولي على أهداف طموحة أكثر من اللازم، تتمخض في نهاية المطاف عن نتائج ضعيفة لا تتجاوز أدنى أهداف الدول الكبرى. ولا شك أن الجهود الحالية الرامية إلى تنسيق القوانين المالية العالمية، على سبيل المثال، ستنتهي إلى النهاية نفسها تقريبًا. حتى حينما «ينجح» التعاون الدولي فعلًا، فإنه يولِّد في كثير من الأحيان قوانين تعكس تفضيلات الدول الأكثر قوة ولا تتناسب مع ظروف غيرها من الدول. وخير ما يجسد ذلك النمط من التجاوز هو قوانين منظمة التجارة العالمية بشأن الدعم، وحقوق الملكية الفكرية، والتدابير الاستثمارية.

والسعي لتحقيق الحوكمة العالمية يعطي صُناع السياسة داخل كل دولة شعورًا مضللًا بالأمن حيال قوة الترتيبات العالمية وقدرتها على الصمود. ولو كان واضعو اللوائح التنظيمية في المصارف أكثر إدراكًا لواقع الحال، فيما يتعلق بمدى فعالية تأثير قواعد لجنة «بازل» بشأن كفاية رأس المال، أو فيما يتعلق بمدى مصداقية ممارسات التصنيف الائتماني الأمريكية؛ لتوخَّوْا مزيدًا من الحذر مما تتعرض له مؤسساتهم المالية الداخلية من مخاطر.

الأمر الآخر الذي يسببه اعتمادنا على الحوكمة العالمية هو أنه يبلبل إدراكنا لحق كل دولة قومية في وضع ما يخصها من معايير ولوائح داخلية ودعمها، وحقها في الحصول على مساحة تتيح لها ممارسة هذه الحقوق. والقلق من أن هذه المساحة قد تقلصت كثيرًا هو السبب الرئيسي وراء التخوف الشائع من «التنافس على الانحطاط» في معايير العمل، وضرائب الشركات، وغيرهما.

خلاصة القول أن السعي إلى تحقيق الحوكمة العالمية يسبب تقلص الحوكمة الحقيقية لأدنى حد. وفرصتنا الوحيدة لتعزيز بنية الاقتصاد العالمي التحتية تتمثل في تعزيز قدرة الحكومات الديمقراطية على إنشاء مؤسسات البنية التحتية تلك. ونستطيع تعزيز كفاءة العولمة وشرعيتها معًا إذا دعمنا إجراءات الديمقراطية المحلية بدلًا من أن نعرقلها. وحتى إذا كان هذا سيعني تخليَنا عن حلم «العولمة الكاملة» المثالية فلا مانع من ذلك؛ فعالمٌ يحقق قدرًا معتدلًا من العولمة سيكون أفضل بكثير من عالم متورط في سعْي دونكيخوتي نحو العولمة المفرطة.

(٢-٣) ليس للازدهار «طريق واحد» فحسب

ما إن نعترف بأن بناء البنية التحتية المؤسسية اللازمة للاقتصاد العالمي يجب أن يجريَ على مستوًى وطني، حتى تصبح البلدان حرة في إنشاء أفضل ما يناسبها من مؤسسات؛ إذ إنه حتى المجتمعات الصناعية المعاصرة التي يُفترض أنها تتسم بالتماثل فيما بينها، تعتمد تشكيلة كبيرة ومتنوعة من الترتيبات المؤسسية.

فمجتمعات الولايات المتحدة وأوروبا واليابان مجتمعات ناجحة؛ أنتج كلٌّ منها على المدى الطويل مقادير مماثلة من الثروة. ومع ذلك فإن القوانين التي تحكم كل مجتمع منها في مجالات سوق العمل، وحوكمة الشركات، ومكافحة الاحتكار، والحماية الاجتماعية، وحتى القطاعين المصرفي والمالي؛ كانت مختلفة اختلافًا كبيرًا. هذه الاختلافات تجعل الصحفيين والنقاد ينتخبون كل نموذج من هذه «النماذج» الواحد تلو الآخر — نموذجًا مختلفًا كل عشر سنوات — باعتباره النموذج الناجح الذي ينبغي للجميع أن يسيروا على خطاه؛ ففي السبعينيات كانت الدول الاسكندنافية النموذج المفضل؛ وفي الثمانينيات صارت اليابان مثلًا وقدوة، وفي التسعينيات كانت الولايات المتحدة هي الزعيمة بلا منازع. لكن هذه الصراعات لا ينبغي أن تعميَنا عن أن أيًّا من هذه النماذج لا يمكن اعتباره فائزًا مطلقًا في مسابقة «الرأسمالية»؛ ففكرة أن هناك «فائزًا» واحدًا بعينه فكرة لا يُعتد بها في عالم تختلف فيه تفضيلات الدول إلى حدٍّ ما؛ فالأوروبيون — على سبيل المثال — يفضلون زيادة ضمان الدخل وقلة التباين فيه بدرجة أكبر من تلك التي اعتاد الأمريكيون على التأقلم معها، حتى إذا كلفهم ذلك مزيدًا من الضرائب.1
وتشير وفرة النماذج هذه إلى معنًى ضمنيٍّ أعمقَ؛ ألا وهو أن الترتيبات المؤسسية المعاصرة، مع اختلافها، لا تشكل إلا مجموعة جزئية من كافة الاحتمالات المؤسسية الممكنة. ولا أظن أن المجتمعات الحديثة قد تمكنت من استنفاد جميع احتمالات التنوع المؤسسي النافعة التي من شأنها أن تدعم صحة الاقتصادات وحيويتها.2 إننا بحاجة إلى أن نلتزم بقدر صحي من التشكك حيال الفكرة التي تفترض أن ثَمَّةَ نوعًا محددًا من المؤسسات — شكلًا بعينه لحوكمة الشركات أو نظام التأمينات الاجتماعية أو تشريعات سوق العمل على سبيل المثال — هو النوع الوحيد الذي يصلح لإنشاء اقتصاد سوق ناجح.

إن أكثر المجتمعات نجاحًا في المستقبل هو الذي سيوفر مجالًا للتجريب وسيسمح بقدر أكبر من تطور المؤسسات مع مرور الوقت. والاقتصاد العالمي الذي يعترف بضرورة التنوع المؤسسي وقيمته سيعزز مثل هذه التجارب وهذا التطور ولن يثبطهما.

(٢-٤) لدى كل بلدٍ الحق في حماية ترتيباته الاجتماعية وقوانينه ومؤسساته

ربما بدت المبادئ السابقة مقبولة وحميدة. لكن لها تداعيات قوية تتعارض مع الأفكار الراسخة التي يعتنقها أنصار العولمة. أحد هذه التداعيات يتمثل في أننا من الضروري أن نقر حق كل بلد في حماية خياراته المؤسسية المحلية. والاعتراف بالتنوع المؤسسي لن يكون ذا معنًى على الإطلاق ما لم تصبح الدول قادرة على «حماية» المؤسسات المحلية، وتتوافر لها الأدوات اللازمة لتشكيل مؤسساتها الخاصة والحفاظ عليها. والتصريح بهذه المبادئ تصريحًا مباشرًا سيجعل هذه العلاقات واضحة.

إن التجارة وسيلة لبلوغ غاية، لا غاية في حد ذاتها. والمدافعون عن العولمة لا يملون وعظ بقية العالم بضرورة تغيير الدول سياساتها ومؤسساتها كي توسع تجارتها الدولية وتصبح أكثر جاذبية بالنسبة إلى المستثمرين الأجانب. وهذا الأسلوب في التفكير يُظهر الوسائل على أنها غايات؛ فالعولمة ينبغي أن تكون أداة لتحقيق الأهداف التي تنشدها المجتمعات، مثل: الازدهار والاستقرار والحرية وجودة العيش. ولا شيء يثير سخط منتقدي منظمة التجارة العالمية أكثر من شكهم في أن المنظمة حينما يقتضي الأمر ستسمح للتجارة بأن تعلوَ على البيئة أو حقوق الإنسان أو ديمقراطية اتخاذ القرار. وما من شيء يغيظ منتقدي النظام المالي الدولي أكثر من فكرة أن مصالح المصرفيين العالميين ينبغي أن تعلوَ على مصالح العمال ودافعي الضرائب العاديين.

يرى خصوم العولمة أنها تُحدث «تنافسًا على الانحطاط»، حال إقبال الدول على أدنى مستويات ضرائب الشركات أو الضوابط المالية أو البيئية أو معايير العمل وحماية المستهلك. ويرد أنصار العولمة على ذلك بأنه ما من دليل على حدوث تدهور في المعايير الداخلية لكل دولة.

وللخروج من هذا المأزق ينبغي لنا أن نقر بأحقية الدول في دعم معاييرها الوطنية في هذه المجالات، وبأحقيتها في فعل ذلك بزيادة العوائق أمام التبادل التجاري إذا لزم الأمر؛ «وذلك حين تهدد التجارة صراحةً الممارسات المحلية التي تحظى بدعم شعبي واسع النطاق.» وإذا كان المدافعون عن العولمة على حق، فستفشل مساعي الجلبة المطالبة بالحماية لعدم كفاية الأدلة أو الدعم. وإذا كانوا على خطأ، فهم بمنزلة صمام أمان ضروري يضمن أن تلقى كلتا الفكرتين المتعارضتين — منافع الاقتصاد المفتوح ومكاسب تعزيز القوانين المحلية — الانتباه اللازم في النقاشات السياسية المحلية.

يستبعد هذا المبدأ التطرف في كلا الجانبين؛ الأمر الذي لا يجعل دعاة العولمة ينتصرون في الحالات التي تكون فيها التجارة والتمويل الدوليان بابًا خلفيًّا لإزالة المعايير المتعارف عليها عامة داخل كل دولة. وبالمثل، لا يجعل دعاة الحمائية يحققون منافع على حساب بقية المجتمع حينما لا يكون هناك خطر يهدد أيًّا من الشئون العامة المهمة. أما في الحالات الأقل وضوحًا، حينما يكون من الضروري التوصل إلى حل وسط بين قيم مختلفة، يستلزم المبدأ التداول والنقاش على مستوًى داخلي، وهذه أفضل طريقة لتناول المسائل السياسية الصعبة.

يستطيع المرء أن يتصور نوعية المسائل التي قد يتناولها نقاش سياسي محلي: ما حجم الخلل الاجتماعي أو الاقتصادي الذي قد تسببه التجارة؟ ما حجم الدعم المحلي الذي يقدَّم للممارسات أو القوانين أو المعايير المهددة؟ هل من ينتمون إلى الفئات المحرومة تحديدًا هم من يتضررون من الآثار السلبية للتجارة؟ ما مدى كبر الفوائد الاقتصادية، إن وجدت، التي تعوض عن ذلك؟ هل من طرق بديلة لتحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية المرجوة من دون تقييد التجارة أو التمويل الدوليين؟ ما الذي تقوله الأدلة — الاقتصادية والعلمية — ذات الصلة في هذا الشأن؟

إذا كانت العملية السياسية شفافة وشاملة، فستثار هذه الأنواع من الأسئلة على نحوٍ طبيعي نتيجة لوجود قوى التنافس بين جماعات المصالح، من مؤيدي التجارة ومعارضيها أيضًا. ومما لا شك فيه أنه لا وجود لآليات محصنة من الفشل تستطيع تحديد ما إذا كانت القواعد قيد النظر تحظى حقًّا «بدعم شعبي واسع النطاق» و«معرضة لتهديد صريح» من جانب التجارة. لكن السياسة الديمقراطية تتسم بالفوضى ولا تفعل «الصواب» دائمًا وفي كل الأحوال. ومع ذلك، لا شيء آخر سوى السياسة الديمقراطية يمكن الاعتماد عليه في الحالات التي يتعيَّن علينا فيها أن نقدم تنازلات بشأن القيم والمصالح المتعارضة.

وأسوأ حل يمكن اللجوء إليه هو استبعاد هذه الأسئلة من نطاق التداول الديمقراطي ونقلها إلى الهيئات الدولية أو التكنوقراط؛ فهذا لا يحقق الشرعية ولا المنافع الاقتصادية. صحيح أن الاتفاقات الدولية «يمكن» أن تلعب دورًا مهمًّا، لكن دورها في حقيقة الأمر هو تعزيز سلامة العملية الديمقراطية المحلية لا الحلول محلها. وسوف أعود لتناول هذه النقطة في الفصل التالي.

(٢-٥) ليس لدولةٍ الحق في فرض أنظمتها على الدول الأخرى

لا بد أن نميز جيدًا بين فرض القيود على التجارة أو التمويل الدوليين بغرض دعم القيم والأنظمة الداخلية، وبين استخدامها لفرض هذه القيم والأنظمة على البلدان الأخرى؛ فقواعد العولمة مثلًا لا ينبغي لها أن تجبر الأمريكيين أو الأوروبيين على استهلاك سلع تُنتَج بطرق لا يراها معظم مواطني تلك البلدان مقبولة، ولا ينبغي لها أن تطالب الدول بأن تسمح بحرية ممارسة معاملات مالية تقوض الأنظمة المحلية، ولا ينبغي لها أن تسمح للولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي باستخدام العقوبات التجارية أو غيرها من أنواع الضغط بغرض تغيير الطريقة التي تدير بها الدول الأجنبية شئونها فيما يتعلق بالتمويل أو أسواق العمل أو السياسات البيئية؛ فالدول من حقها أن تختلف، لا أن يُفرض عليها الامتثال عنوة.

في الممارسة العملية، قد يؤدي التمسك بالحق الأول في بعض الأحيان إلى نتيجة التمسك بالحق الثاني نفسها. لتوضيح ذلك: هب أن الولايات المتحدة قررت عدم استيراد الواردات الهندية المصنوعة باستخدام عمالة الأطفال نتيجةً لقلقها من أن هذه الواردات ستشكل «منافسة غير عادلة» مع السلع المنتجة محليًّا. ألا يشبه هذا توقيع عقوبة تجارية على الهند بغرض تغيير الممارسات الهندية في مجال العمالة بحيث تصبح أكثر شبهًا بالممارسات الأمريكية؟ الإجابة هي: بلى ونعم معًا؛ ففي كلتا الحالتين، يجري منع الصادرات الهندية، وتكون الطريقة الوحيدة أمام الهند كي تتمكن من إدخال صادراتها إلى السوق الأمريكية دون عوائق؛ أن تماثل معاييرها المعايير الأمريكية. لكن المقاصد مهمة في هذا الشأن؛ إذ لا شك أن حماية الأنظمة الداخلية أمر مشروع، لكن الرغبة في تغيير أنظمة الآخرين ليس بالمشروعية نفسها. لو افترضنا مثلًا أن الناديَ الذي أنتمي إليه يفرض قواعد تحدد طريقة اللباس، وتطالب الرجال بارتداء رابطات عنق، فمن المنطقي بالنسبة إليَّ أن أنتظر منك الالتزام بهذه القواعد إذا دعوتك على العشاء في النادي، بصرف النظر عن مدى كراهيتك ارتداء رابطات العنق. لكن هذا لا يعطيني الحق في أن أُملي عليك ما يجب أن ترتديَه في أي مناسبة أخرى.

(٢-٦) يجب أن يكون الغرض من الترتيبات الاقتصادية الدولية هو وضع قواعد توجيهية تحكم التعاون بين الأنظمة الوطنية عبر مختلِف البلدان

إن الاعتماد على الدول القومية كي تقوم بالوظائف الأساسية للحوكمة في الاقتصاد العالمي لا يعني أننا سنتخلى بالضرورة عن القواعد الدولية؛ فنظام بريتون وودز، بالرغم من كل شيء، كانت له قواعد واضحة، وإن كانت محدودة من حيث النطاق والعمق. إن العالم إذا صار لامركزيًّا وانفتحت الدول بعضها على بعض تمامًا، فلن يكون هذا في مصلحة أي شخص؛ فقد تؤثر قرارات أي دولة منفردة على رفاهية غيرها من الدول. ومع ذلك، لا يزال السعي إلى اقتصاد عالمي مفتوح — ربما ليس خاليًا من تكاليف المعاملات بالدرجة التي يتطلع إليها دعاة العولمة المفرطة، لكنه، بالرغم من ذلك، اقتصاد مفتوح — هدفًا جديرًا بالثناء. في الحقيقة، لا ينبغي لنا أن نسعى لإضعاف العولمة، وإنما لتأسيسها على أساس أكثر متانة.

ومركزية الدول القومية تعني أن من الضروري مراعاة التنوع المؤسسي عند صياغة القوانين. فما نحتاج إليه حقًّا هو وضع قواعد مرورية تسمح للمركبات المختلفة الأحجام والأشكال بالتحرك بمختلِف السرعات وشق طريقها بعضها بجانب بعض، وليس فرض نوع سيارة محدد أو حد سرعة قصوى موحد على الجميع. ينبغي أن نسعى لتحقيق أقصى قدر من العولمة التي تتوافق مع الاحتفاظ بمساحة تتيح التنوع في الترتيبات المؤسسية الوطنية. وبدلًا من أن نسأل: «أي نوع من الأنظمة المتعددة الأطراف سيعظم تدفق السلع ورءوس الأموال في جميع أنحاء العالم؟» ينبغي أن نسأل: «أي نوع من الأنظمة المتعددة الأطراف أفضل لتمكين الدول في جميع أنحاء العالم من اتباع قيَمها والسعي لتحقيق أهدافها التنموية وتحقيق الازدهار داخل إطار ترتيباتها الاجتماعية الخاصة؟» لكن هذا يستلزم تحولًا كبيرًا في عقلية من يتفاوضون في الميدان الدولي.

أحد أجزاء هذا التحول مثلًا أن نعتزم إعطاء حق «اختيار عدم القبول» أو بنود الانسحاب في القوانين الاقتصادية الدولية دورًا أكبر بكثير؛ إذ ينبغي أن يتضمن أي تضييق في قوانين التعامل الدولي بنودًا صريحة توفر مخرجًا قانونيًّا للدول المعترضة. هذه الترتيبات ستساعد على إضفاء الشرعية على القوانين، وستوفر للديمقراطيات حق التأكيد مجددًا على أولوياتها إذا كانت هذه الأولويات تتصادم مع الالتزامات المفروضة عليها تجاه الأسواق العالمية أو المؤسسات الاقتصادية الدولية. هذا المخرج القانوني لن يعتبر «استثناءً» أو انتهاكًا للقواعد، وإنما عنصرًا أصيلًا من عناصر أي ترتيبات اقتصادية دولية مستدامة.

وللحيلولة دون سوء استغلال هذا الحق، يمكن أن يجريَ التفاوض على بنود الانسحاب واختيار عدم القبول بشكل متعدد الأطراف ووضع ضمانات إجرائية محددة. وهذا من شأنه أن يميِّز حالات ممارسة حق الانسحاب من حالات الحمائية البحتة؛ وذلك لأن الدول التي ترغب في الانسحاب من التقيد بقواعد الانضباط الدولي لن يُسمح لها بذلك إلا بعد أن تستوفيَ الشروط الإجرائية التي جرى التفاوض بشأنها سابقًا والمنصوص عليها ضمن تلك القواعد. صحيح أن حالات الانسحاب هذه لا تخلو من المجازفة، لكنها جزء ضروري لصنع اقتصاد دولي مفتوح ينسجم مع قواعد الديمقراطية. وفي واقع الأمر، ستعمل هذه الضمانات الإجرائية — لكونها تدعو إلى الشفافية والمساءلة والاستناد إلى الأدلة عند اتخاذ القرارات — على تحسُّن نوعية النقاش الديمقراطي.

(٢-٧) يجب عدم السماح للدول غير الديمقراطية بأن تتمتع بالحقوق والامتيازات في النظام الاقتصادي الدولي شأنها شأن الدول الديمقراطية

إن أهمية صُنع القرار على نحوٍ ديمقراطي كامنة في أساس البنيان الاقتصادي الدولي الذي رسمناه حتى الآن. علينا أن ندرك مركزية الدول القومية؛ نظرًا لأن الأنظمة الديمقراطية نادرًا ما تمتد خارج نطاق حدودها. وهذا يتطلب منا أن نتقبل الاختلافات بين الدول في المعايير والقوانين (ومن ثَمَّ التخلي عن هدف العولمة المفرطة)، باعتبار هذه الاختلافات نتاج خيارات جماعية تُتخذ بطريقة ديمقراطية. وهذا يضفي الشرعية على القواعد الدولية التي تقيد التصرفات السياسات المحلية، ما دامت تلك القواعد تخضع للتفاوض بين الحكومات الممثلة وتحتوي على بنود تتيح مخرجًا قانونيًّا للدول التي ترغب ذلك وتتيح النقاش الديمقراطي داخل كل دولة وتعززه.

لكن حينما تكون الدولة القومية غير ديمقراطية، ينهار هذا الترتيب؛ وذلك لأننا لا نرى في هذه الحالة أن الإجراءات المؤسسية للدولة تعكس تفضيلات مواطنيها. ولا نستطيع أيضًا أن نفترض أن القواعد الدولية يمكن أن تُطبق بالقوة الكافية بحيث تُحول الأنظمة الاستبدادية في الأساس إلى ديمقراطيات فاعلة؛ لذا، من الضروري أن تلعب الأنظمة غير الديمقراطية اللعبة وفقًا لقواعد مختلفة، وأقل تساهلًا.

خذ مثلًا حالة معايير العمل والبيئة. تقول الدول الفقيرة إنها لا تستطيع تحمُّل كلفة تطبيق المعايير الصارمة نفسها التي تطبقها الدول المتقدمة في هذه المجالات. وهذا صحيح؛ فالمعايير الصارمة المتعلقة بالانبعاثات واللوائح التي تحظر استخدام الأطفال قد تأتي بنتائج عكسية إذا ما أدت إلى تقلص فرص العمل المتاحة وزيادة الفقر. من حق بلد ديمقراطي مثل الهند أن يقول إن ممارساته تنسجم مع احتياجات سكانه. صحيح أن ديمقراطية الهند ليست مثالية بالطبع، لكن الديمقراطية المثالية لا وجود لها. علاوةً على أن الحريات المدنية التي تكفلها، وحكومتها المنتخبة انتخابًا حرًّا، وحمايتها حقوق الأقليات تحصنها ضد الادِّعاءات التي تزعم وجود استغلال أو إقصاء منهجي.3 فهذه الأمور توفر غطاءً يردُّ على اتهام الهند بأن معاييرها في مجالَي العمل والبيئة والمجالات الأخرى دون المستوى اللائق. في المقابل، لا تجتاز الدول غير الديمقراطية، كالصين، هذا الاختبار الشكلي نفسه. ولا يكون من السهل دحض التأكيد على أن حقوق العمال والبيئة تداس من أجل مصلحة فئة ضيقة في تلك الدول؛ ولذلك، تستحق صادرات الدول غير الديمقراطية قدرًا أكبر من التدقيق الدولي، لا سيما عندما تُسبب تداعيات مكلفة — توزيعية أو غير ذلك — في بلدان أخرى.

وهذا لا يعني أنه ينبغي إقامة الحواجز التجارية أو غيرها من الحواجز أمام الدول غير الديمقراطية في جميع الحالات. فمن المؤكد أنه ليست كل اللوائح في هذه الدول لها آثار سلبية على الصعيد المحلي؛ فبالرغم من كون الصين نظامًا استبداديًّا، فإن سجلها مثالي في مجال النمو الاقتصادي. وبما أن البلدان تمارس التجارة كي تعزز ازدهارها، فلن يكون تعميم السياسة الحمائية في مصلحة الدول المستوردة على أي حال. ومع ذلك، فإن فرض قواعد أكثر صرامةً على الأنظمة الاستبدادية أمر مشروع في بعض الحالات.

على سبيل المثال، من الممكن تسهيل فرض قيود على تجارة أي بلد غير ديمقراطي إذا كانت تجارته تسبب مشكلات في أحد البلدان المستوردة. وإذا كان هناك شرط يلزم دفع تعويضات للبلدان المصدرة لدى تنفيذ مستورد ما بند انسحاب، يمكن التخلي عن هذا الشرط إذا كان البلد المصدر غير ديمقراطي. وربما يكون من الضروري أن نعكس عبء الإثبات بحيث نحمِّله للبلد غير الديمقراطي في الحالات التي يسعى فيها نظام استبدادي إلى ممارسة حق عدم القبول، وذلك بأن نطالبه أن يثبت أن رغبته في عدم قبول اتفاقٍ ما ستخدم غرضًا تنمويًّا أو اجتماعيًّا حقيقيًّا، أو أي غرض محلي آخر.

ومبدأ التمييز ضد الأنظمة غير الديمقراطية موجود بالفعل في النظام التجاري المعاصر؛ فإعفاء الصادرات التي تدخل السوق الأمريكية من الرسوم الجمركية بموجب «قانون النمو والفرص في أفريقيا» لعام ٢٠٠٠ مشروط بكون الدولة المصدِّرة دولة ديمقراطية؛ ومن ثَمَّ، حينما يقمع أحد الأنظمة الأفريقية معارضيه السياسيين أو يبدو أنه يتلاعب بنتائج الانتخابات، يُرفع من قائمة البلدان الجديرة بالامتيازات التجارية.4

لا شك أن تعميم هذا المبدأ سيثير الجدل. ومن المحتمل أن يلقى معارضة من أصوليِّي التجارة، وبالطبع، من الأنظمة الاستبدادية. ومع ذلك، فهو مبدأ منطقي جدًّا، خاصة في سياق المجموعة الكاملة للمبادئ التي تناولناها هنا. فالديمقراطية، بالرغم من كل شيء، معيار عالمي، ويجب أن تكون ضمن المبادئ الأساسية في نظام التجارة الدولية، وتُقدَّم على عدم التمييز عند الضرورة.

(٣) ماذا عن «المشاعات العالمية»؟

هناك عدد من الاعتراضات التي يحتمل أن تلقاها المبادئ المذكورة هنا. وسوف أتناول الكثير من هذه الاعتراضات في الفصل التالي، لكنني بحاجة إلى أن أتناول أحد أهم هذه الاعتراضات الآن لأنه يستند إلى سوء فهم أساسي. يقول البعض إن القواعد التي ستحكم الاقتصاد المعولم لا يجوز تركها لتضعها دول قومية منفردة. ويمضي الاعتراض موضحًا أن نظامًا كهذا سيقلص التعاون الدولي بدرجة كبيرة؛ فحينما تسعى كل دولة إلى مصالحها الضيقة سينزلق اقتصاد العالم إلى سياسة حماية اقتصادية متفشية، وسيخسر الجميع في النهاية.

يستند هذا المنطق إلى تشبيه خاطئ يعتبر الاقتصاد العالمي مشاعًا عالميًّا. ولكي نرى كيف يمضي هذا التشبيه (أو بالأحرى يتعثر) خذ مثلًا تغير المناخ العالمي، باعتباره نموذجًا مثاليًّا للمشاعات العالمية. تشير أدلة وافرة ومتزايدة إلى أن السبب في الاحتباس الحراري تراكمات في الغلاف الجوي من غازات الدفيئة، لا سيما ثاني أكسيد الكربون والميثان. وما يجعل هذه المشكلة ليست قومية، بل عالمية وتتطلب تعاونًا على مستوًى عالمي هو أن هذه الغازات لا تتقيد بالحدود الإقليمية؛ فالعالم ليس له سوى منظومة مناخية واحدة لا تفرق من أين ينبعث الكربون. والأمر المهم بشأن الاحتباس الحراري يتمثل في الأثر التراكمي للكربون والغازات الأخرى في الغلاف الجوي، بصرف النظر عن مصدر انبعاث هذه الغازات. وإذا كنت تريد تفاديَ وقوع كارثة بيئية فأنت بحاجة إلى تعاون الجميع. قد يقول قائل إن جميع اقتصاداتنا في العالم متشابكة على هذا النحو نفسه، ولا شك أن هذا صحيح إلى حدٍّ كبير؛ فالاقتصاد العالمي المفتوح الصحي «سلعة عامة» ينتفع بها الجميع، شأنها شأن الغلاف الجوي الذي تقل فيه مستويات غازات الدفيئة.

لكن إلى هنا ينتهي التشابه؛ ففي حالة الاحترار العالمي للأرض، لن يشكل فرض قيود وطنية على انبعاثات الكربون داخل وطني أي فائدة، أو سيشكل فائدة لا تُذكر. هناك منظومة مناخ عالمية واحدة، وتصرفاتي الفردية لا تُحدث على أفضل تقدير سوى تأثير هيِّن على هذه المنظومة. وإذا لم يتوافر اهتمام عالمي موحد بهذه القضية، فستكون الاستراتيجية المثلى التي تلجأ إليها كل دولة هي أن تطلق الغازات دون قيد وتستفيد مجانًا من ضبط الدول الأخرى انبعاثاتها الكربونية. لكن علاج مشكلة تغير المناخ يتطلب أن ترتفع الدول القومية فوق مصالحها الضيقة وتتعاون كي تضع استراتيجيات مشتركة فيما بينها؛ ففي غياب التعاون والتنسيق الدوليين، ستُدمر المشاعات العالمية.

على النقيض من ذلك، يعتمد حجم الثروات الاقتصادية لكل دولة منفردة إلى حدٍّ كبير على ما يحدث داخلها لا خارجها. وإذا كانت سياسة الاقتصاد المفتوح مرغوبة؛ فذلك لأن الانفتاح يكون في مصلحة الدولة، لا لأنها ترغب في مساعدة غيرها من الدول. لعلك تذكر حجة هنري مارتن دفاعًا عن حرية التجارة حينما قال: إن شراء منسوجات قطنية هندية أرخص يشبه تمامًا تحقيق التقدم التكنولوجي داخل البلاد. وكما رأينا مرارًا وتكرارًا في هذا الكتاب، توجد أسباب مشروعة قد تدفع البلدان إلى عدم التمادي كثيرًا في التجارة الحرة. فتقييد التجارة الدولية أو التمويل الدولي قد يحمي التماسك الاجتماعي، أو يدرأ الأزمات، أو يعزز النمو المحلي. وفي هذه الحالات، يعود النفع على بقية دول العالم بوجهٍ عام. أما حينما لا تسفر الحواجز التجارية إلا عن تحويل الدخل من فئة إلى أخرى، مقابل تقليص الكعكة الاقتصادية الكلية، فإن الفئات المحلية، لا الخارجية، هي التي تتحمل العبء الأكبر لهذه التكاليف.5 وفي الاقتصاد العالمي، تطبق الدول سياسات «رشيدة» لأن من مصلحتها أن تفعل ذلك. والانفتاح مرهون بتحقيق المصلحة الذاتية، لا بإضفاء روح التعاون العالمي؛ ولهذا، يجب الدفاع عن قضية حرية التجارة وكسبها في الميدان السياسي المحلي.

لكن توجد عدة عيوب تشوب هذه الصورة. أحدها أن الاقتصادات الكبيرة قد تكون قادرةً على التلاعب في أسعار وارداتها وصادراتها بطرق تجعلها تُحول مكاسب أكثر من التجارة إلى نفسها. خذ مثلًا تأثير منظمة «الأوبك» على أسعار النفط. ولا شك أن هذه السياسات تضر دولًا أخرى، ومن الضروري أن تخضع لضوابط دولية. لكن في الوقت الراهن لم تعد هذه الاعتبارات هي القاعدة وإنما الاستثناء؛ فالسياسات الاقتصادية الخارجية تتحدد بدرجة كبيرة على أساس اعتبارات محلية، كما يجب أن يكون. عيب آخر من عيوب هذه الصورة يتمثل في الآثار السلبية الكبيرة على الدول التي تسجل اختلالات خارجية كبيرة؛ قد تتمثل في عجز أو فائض تجاري. هذه الحالات أيضًا تحتاج إلى الرقابة الدولية. وسوف أتناول هذه المسألة في الفصل التالي عندما أنتقل إلى الفائض التجاري الذي تحققه الصين.

توفِّر المبادئ المذكورة سابقًا مجالًا واسعًا للتعاون الدولي في هذه المسائل وغيرها. لكنها تشير إلى وجود اختلاف كبير إذا ما قورنت بحالات التعاون في قضايا أخرى مثل تغير المناخ، ومستوى التعاون والتنسيق الدوليين اللازمين لإنجاح النظام العالمي. ففي حالة الاحترار العالمي، تدفع المصلحة الذاتية الدول إلى تجاهل المخاطر الناجمة عن تغير المناخ، وقد يحدث في حالات عرضية أن تطبق دولة ما سياسات مسئولة بيئيًّا حينما تكون كبيرة بدرجة لا تسمح لها بأن تتغافل عما تُحدثه هي من تأثير على تراكم غازات الدفيئة في الجو. أما في الاقتصاد العالمي، فتدفع المصلحة الذاتية الدول نحو الانفتاح، وفي بعض الحالات قد تشعر بعض الدول الكبرى التي تملك نفوذًا في السوق بإغراء تطبيق سياسة إفقار الجار.6 إن أي نظام عالمي سليم ينبغي أن يعتمد على التعاون الدولي في الحالة الأولى، ويعتمد على السياسات الرشيدة الموجهة نحو الاقتصاد المحلي في الحالة الثانية.

(٤) تطبيق المبادئ

ثَمَّةَ رواية شائعة لكنها مُضللة تشكل فهمنا الجمعي للعولمة. بحسب هذه الرواية، صارت اقتصادات العالم مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا لا انفصام له، بدرجة تجعلنا لا غنى لنا عن نوع جديد من الحوكمة والوعي العالمي الجديد؛ لكي نستطيع علاج الصعوبات التي نواجهها علاجًا ناجعًا. يقال لنا إن مصيرنا الاقتصادي واحد. ويناشدنا القادة المسئولون بأن نسموَ فوق مصالحنا الضيقة، وأن نضع حلولًا مشتركة للمشكلات المشتركة.

لا شك أن هذه الرواية تتسم بسمة المعقولية ومزية الوضوح الأخلاقي. لكنها تعرض القصة الرئيسية عرضًا خاطئًا. فما ينطبق مثلًا على تغير المناخ، أو حقوق الإنسان — وهما من «المشاعات العالمية» بحق — لا ينطبق على الاقتصاد الدولي. وكعب أخيل بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي ليس هو قلة التعاون الدولي، وإنما عدم إدراك كافة الآثار المترتبة على فكرة بسيطة تذهب إلى أن نطاق الأسواق العالمية يجب أن يتحدد تبعًا لنطاق حوكمتها (التي تكون في معظم الأحيان حوكمة قومية). إن الاقتصاد العالمي لن يعمل جيدًا مع بقاء الدول القومية في موقع القيادة إلا إذا وضعت قواعد تنسق تحركاتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤