الفصل الثاني

صعود أول عولمة كبرى وانهيارها

كانت التجارة العالمية إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر تتوسع بوتيرة منتظمة تقدَّر بنسبة ١٪ سنويًّا، متجاوزةً الارتفاع في الدخول العالمية، لكن ليس بقدرٍ كبير. وأخذت التجارة العالمية — بدءًا من وقتٍ ما في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر — في النمو محرزة قفزات ووثبات، وبلغت نسبة نمو غير مسبوقة قاربت ٤٪ سنويًّا طوال القرن بأكمله.1 وبدأت تكاليف المعاملات التي تعرقل سبيل التجارة عبر المسافات الطويلة — بسبب صعوبات النقل والاتصال، أو القيود الحكومية أو المخاطر التي تهدد الحياة والممتلكات — تتناقص سريعًا؛ فزادت تدفقات رءوس الأموال وأضحت غالبية اقتصادات العالم متكاملة على الصعيد المالي أكثر من أي وقتٍ مضى. شهدت هذه الفترة كذلك تدفقات بشرية ضخمة بين القارات؛ إذ هاجرت الطبقة العاملة الأوروبية هجرة جماعية إلى الأمريكتين وغيرها من المناطق الأخرى في المستعمرات الجديدة. ولهذه الأسباب ينظر معظم المؤرخين الاقتصاديين إلى القرن الحافل السابق لعام ١٩١٤ باعتباره أول عصر يشهد العولمة. وهذا صحيح بالفعل؛ فوفقًا لمعايير كثيرة، يُلاحظ أن الاقتصاد العالمي لم يتجاوز مستويات العولمة التي بلغها في عام ١٩١٣ في مجالَي التجارة والتمويل إلا في الآونة الأخيرة. أما فيما يتعلق بحركة العمالة، فما زالت تلك الفترة هي الأثرى حتى الآن.

(١) التجارة والمؤسسات إبان القرن التاسع عشر

لكن ما الذي أدَّى إلى حلول عصر العولمة هذا؟ تعزو التفسيرات القياسية السببَ إلى حدوث ثلاثة تغييرات مهمة شهدتها هذه الفترة؛ أولًا: ظهور تقنيات جديدة تمثلت في السفن البخارية والسكك الحديدية والقنوات والتلغراف؛ الأمر الذي أحدث ثورة في مجال النقل والاتصالات على المستوى الدولي، وقلل تكاليف التجارة إلى حدٍّ بعيد بدءًا من السنوات الأولى للقرن التاسع عشر. ثانيًا: تغيُّر الرؤية الاقتصادية بعد أن بدأت أفكار الاقتصاديين الذين يشجعون اقتصاد السوق الحرة، مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو، تحظى أخيرًا بشيء من الجاذبية. دفع هذا حكومات أكبر اقتصادات العالم إلى تخفيف حدة القيود التي كانت تفرضها على التجارة في شكل ضرائب على الاستيراد (تعريفات جمركية) وقرارات صريحة بحظر الاستيراد. وأخيرًا، منذ سبعينيات القرن التاسع عشر وما بعدها، أدَّى اعتماد معيار الذهب على نطاق واسع إلى تمكين رأس المال من التحرك دوليًّا بعد زوال الخوف من التغيرات العشوائية في قيم العملات أو الاضطرابات المالية الأخرى.

لا يمكن أن تكون هذه هي نهاية القصة. فكما رأينا في الفصل السابق، لم تكن تكاليف المعاملات في الاقتصاد العالمي ناجمة عن النقل والتعريفات الجمركية وعدم استقرار العملات فحسب. والتفسيرات القياسية تغفل شيئين بالغَي الأهمية في القرن التاسع عشر. أتاح هذان الشيئان حدوث عولمة أكثر عمقًا مما كان يمكن تحقيقه في أي وقت مضى، وهما يعززان التدابير الداعمة للسوق التي شهدناها في وقتٍ سابق.

يتمثل أولهما في حدوث تقاربٍ في نُظم المعتقدات بين كبار صناع القرارات الاقتصادية في هذه الفترة؛ فقد ربطت الليبرالية الاقتصادية وقواعد معيار الذهب بين صناع السياسات في الدول المختلفة وقادتهم، للإجماع على ممارسات خفضت من تكاليف المعاملات في مجالَي التجارة والتمويل. وقد ظلت العولمة بأمان حيثما سادت هذه الرواية، كما حدث داخل بريطانيا وفيما بين أكبر بنوك العالم المركزية طوال تلك الفترة. أما حيثما غابت هذه الرواية أو تبددت بمرور الوقت — كما كانت الحال في السياسة التجارية في قارة أوروبا في الفترة التي تلت سبعينيات القرن التاسع عشر — تراجعت العولمة.

ويتمثل الثاني في ظهور الإمبريالية. كانت الإمبريالية، سواءٌ في شكلها الرسمي أو غير الرسمي، تشكل آلية لفرض قوانين داعمة للتجارة، كأنها نموذج من نماذج «إنفاذ الطرف الثالث»، تقوم حكومات الدول المتقدمة فيها بدور المنفذ. فقد استخدمت السياسات الإمبريالية القوتين السياسية والعسكرية للبلدان الكبرى من أجل إخضاع بقية دول العالم لنظامها حيثما أمكن ذلك؛ ومن ثَمَّ شكَّلت هذه السياسات للعولمة التي كانت تصطدم بطريق مسدود في المناطق الأقل شأنًا من الاقتصاد العالمي — مثل أمريكا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط — دعمًا مهمًّا، وتسنى استخدامها لجعل هذه المناطق آمنة لممارسة التجارة والتمويل الدوليَّين.

يعرض هذا الفصل كيف نشأت عولمة القرن التاسع عشر، وكيف أدت السياسات الداخلية إلى انحلالها. وسنبدأ رحلتنا بالسياسات التجارية ثم نتحوَّل لاحقًا إلى معيار الذهب.

(٢) انتصار التجارة الحرة (المحدود)

سادت معتقدات التجارة الحرة طوال القرن التاسع عشر بفضل جهود اقتصاديين، مثل ديفيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل، اللذين استندا إلى ما قدَّمه آدم سميث من رؤًى لتوضيح مدى الفائدة التي تعود بها التجارة غير المقيدة على جميع البلدان التي تَنتهجها. وكما سنرى في الفصل التالي، كانت هذه الأفكار أنيقة وقوية ويمكن عرضها بدقة منطقية. لكن تأثيرها كان متباينًا على الدول المختلفة وعبر الأزمنة المختلفة. وعلى الرغم من أننا ننظر إلى القرن التاسع عشر باعتباره عصرًا للتجارة الحرة، كان اقتصاد بريطانيا هو الاقتصاد الكبير الوحيد الذي طبق سياسات تجارة منفتحة لفترة ممتدة؛ فقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية إبان فترة الحرب الأهلية تعريفات باهظة على الواردات المصنعة وظلت هذه التعريفات كما هي طوال سنوات القرن. أما القوى الكبرى في قارة أوروبا فقد تحولت دون تردُّد إلى التجارة الحرة لفترة ليست بالطويلة خلال ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر.

كان عام ١٨٤٦ عامًا حاسمًا في تاريخ تعريفات القرن التاسع عشر؛ ففي هذا العام ألغت بريطانيا التعريفات الجمركية لعصر الحروب النابليونية على واردات الحبوب. كانت القوانين التي حملت اسم «قوانين الذُّرة» مصدرًا للصراعات السياسية في بريطانيا خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر؛ لأنها خلقت تضاربًا بين مصالح أبناء الريف ومصالح أبناء الحضر. كانت «الذرة» هنا تعني كافة أنواع الحبوب، وكانت التعريفات التي نتحدث عنها مفروضة على كافة واردات المواد الغذائية والحبوب. كان ملاك الأراضي يريدون ارتفاع التعريفات لأن ذلك يؤدِّي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية؛ ومن ثَمَّ زيادة دخولهم. وكان الصناع في الحضر — الذين تزايدت قوتهم مع انتشار آثار الثورة الصناعية في لندن ومانشستر وغيرهما من المدن — يريدون إلغاء التعريفات كي تنخفض تكاليف المعيشة. هذا الانخفاض — كما يؤكد كارل ماركس وآخرون غيره — من شأنه أن يتيح للرأسماليين أن يدفعوا لعُمالهم أجورًا أقل. أحدثَ هذا الجدل ثورة في بريطانيا على صعيدَي المجتمع والسياسة، مع اشتباك قوًى تؤيد «قوانين الذرة» وأخرى تعارضها، فيما بدا وقتها على أنه صراع ضارٍ حول ضرائب واردات بسيطة، بينما كان في حقيقة الأمر صراعًا على مَن سيحكم بريطانيا وسيثرى في السنوات التالية. تُعد مجلة «ذا إيكونوميست» الشهيرة من نواتج هذه الفترة؛ فقد أسسها مناهضو «قوانين الذرة» بهدف نشر أفكار التجارة الحرة وإكسابها شعبية، وهو الدور الذي لا تزال هذه المجلة تؤديه إلى يومنا هذا. في نهاية المطاف فاز في هذه الفترة الصناع الذين كانوا يزدادون قوة؛ فقد كانت الحجج العقلانية وقوى الثورة الصناعية في صفهم.

وما إن أُلغيت «قوانين الذرة» في بريطانيا، التي كانت القوة الاقتصادية المسيطرة في تلك الفترة، حتى بدأت البلدان الأوروبية الأخرى تواجه ضغطًا كي تحذوَ حذوها. ونظر الكثيرون إلى هذا التغيير على أنه نجاح سياسي واقتصادي في بريطانيا. وأشار المعلقون الاقتصاديون في القارة بذهول إلى النمو الهائل في تجارة بريطانيا وإنتاجها منذ الإلغاء، مع أن الثورة الصناعية كانت في الحقيقة هي الأحق بأن يُعزى إليها الفضل الأكبر في ذلك. لكن نجاح بريطانيا الواضح لم يؤدِّ بالضرورة إلى تسهيل تحرير التجارة في بلدان أخرى؛ إذ كما قال الإمبراطور لويس نابليون بونابرت لريتشارد كوبدين، البرلماني البريطاني وأحد المبشِّرين بمعتقدات التجارة الحرة: «أنا مفتون ومعجب بفكرة تنفيذ عمل مماثل في بلادي، لكن من الصعب جدًّا إجراء إصلاحات في فرنسا؛ فنحن في فرنسا نصنع ثورات لا إصلاحات.»2 ومع ذلك، كانت هناك حيلة سياسية واحدة ظل القادة المقتنعون بمعتقدات التجارة الحرة يَلجَئُون إليها منذ ذلك الحين، ألا وهي: تقليل القيود التجارية مع أي دولة أخرى تفعل الشيء نفسه، ثم تقديم هذا التحرير لقوى المعارضة في بلدك على أنه «تنازل» ضروري لا بد من تقديمه من أجل دفع الطرف الآخر لفتح أسواقه.
نتجت عن ذلك معاهدة كوبدين-شوفالييه عام ١٨٦٠، التي ألزمت بريطانيا بتقليل التعريفات التي تفرضها على واردات المشروبات الروحية من فرنسا مقابل تقليل فرنسا ما تفرضه من تعريفات على واردات السلع المصنَّعة في بريطانيا. تلا هذا توقيع سلسلة من المعاهدات المماثلة بين دول أوروبية أخرى. كان الابتكار المهم في معاهدة كوبدين-شوفالييه يتمثل في بند «الدولة الأولى بالرعاية». نص هذا البند أن على كل طرف من الأطراف الموقِّعة على المعاهدة أن يمنح مستثمري الطرف الآخر تخفيضًا على التعريفات لا يقلُّ عن الذي يمنحه في ظروف مماثلة لمستثمري أيِّ دولة ثالثة. صارت هذه الشبكة من المعاهدات التجارية تشكِّل أداة مهمة لتخفيض التعريفات الجمركية في جميع أنحاء أوروبا خلال ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر. وبحلول منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر، كانت معظم أشكال حظر الاستيراد قد باتت شيئًا من الماضي، وشهدت معدلات التعريفات المفروضة على التصنيع انخفاضًا؛ فصارت دون نسبة ١٠٪ في بريطانيا وألمانيا وهولندا والسويد وسويسرا، وتراوحت بين ١٠ و١٥٪ في فرنسا وإيطاليا، بعد أن كانت تبلغ ضعف هذه الأرقام من قبل.3

لكن التجارة الحرة لم تنجح في كل مكان. ويُظهر لنا الصراع على «قوانين الذرة» فكرة أساسية سيتسنَّى لنا أكثر من مناسبة للعودة إليها؛ فنظرًا لما للسياسات التجارية من نتائج مهمة تتعلق بتوزيع الدخل، فهي تتورط في سجالات سياسية أوسع نطاقًا. وقد يستنكر الاقتصاديون اصطناعية — ومن ثَمَّ انعدام الجدوى — تكاليف المعاملات الناجمة عما تفرضه الحكومة من حواجز تعرقل التجارة، ولكن هذه الحجة لا تسود حال وجود مصالح سياسية قوية أو حجج اقتصادية أخرى تُناقضها الرأي. وإذا كنت تظن أن تلك الضغوط السياسية والحجج الاقتصادية دائمًا ما تنبع من المصلحة الذاتية الضيقة، أو المذاهب الرجعية المعوقة للحضارة والتقدم — إذ كثيرًا ما تعتبر قصة إلغاء «قوانين الذرة» انتصارًا للأفكار التقدمية والليبرالية على الأرستقراطية التقليدية والأنظمة الاستبدادية — فتأمل تجربة الولايات المتحدة.

على الرغم من أن البنية السياسية في الولايات المتحدة كانت تختلف عنها في بريطانيا خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، فقد كان لدى البلدَين أمر مشترك، ألا وهو: أن المجادلات حول التعريفات الجمركية كانت محورية بالنسبة إلى السياسة الوطنية، حتى إن أحد البرلمانيين من ولاية بنسلفانيا عبَّر عن ذلك في وقت لاحق ساخطًا: «الإنسان حيوان يصنع مناظرات حول التعريفات.»4 كانت السياسات التجارية تصب مباشرةً في أكثر الانقسامات السياسية والاجتماعية أهمية في البلاد بين الجنوب والشمال. كانت ولايات الجنوب المؤيدة للرِّق قائمة على اقتصادٍ يعتمد على تصدير التبغ والقطن. وكانت ولايات الشمال المناصرة لحق الإنسان في الحرية تعتمد على قاعدة صناعية ناشئة تقل في إنتاجيتها عن بريطانيا، وتواجه مشقة في منافسة الواردات الأرخص سعرًا. كانت ولايات الجنوب تعتمد على التجارة الدولية لما تنطوي عليه من رخاء. وكانت ولايات الشمال بحاجة إلى الحماية من منافسة الواردات، على الأقل إلى أن تتمكن من بلوغ المستوى الذي يؤهلها لمنافسة هذه الواردات.5

كانت الحرب الأهلية التي استمرت من عام ١٨٦١ إلى ١٨٦٦ صراعًا على مستقبل سياسة التجارة الأمريكية بقدر ما كانت صراعًا على مسألة العبودية؛ فقد رفع إبراهام لنكولن التعريفات الجمركية الأمريكية ما إن اندلعت الحرب، وشهدت حماية التجارة زيادة أخرى في أعقاب انتصار الشمال. بلغت التعريفات المفروضة على الواردات ٤٥٪ في المتوسط خلال العقد الذي تلا عام ١٨٦٦، ولم تتراجع إلى ما دون هذا المستوى كثيرًا حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. لقد كانت الولايات المتحدة دولة حمائية بكل المقاييس خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. وسواءٌ أكان ذلك على سبيل المصادفة أم لا — لا يزال الجدل دائرًا حول هذه المسألة — فهذه الفترة شهدت أيضًا لحاق الولايات المتحدة ببريطانيا وتفوُّقها عليها في مجال البراعة الصناعية.

سوف نعود لاحقًا إلى العلاقة بين السياسة التجارية والنمو الاقتصادي. لكن الأمر الذي يعنينا الآن بشأن تجربة الولايات المتحدة هو كونها تمثل حالة لا ريب أن التجارة الحرة فيها لم تكن تخدم قضية سياسية «تقدمية». عبَّر عن ذلك العالم الاقتصادي المرموق روبرت كيوهين حينما كتب: «إن اتباع منطق السوق يسفر عن نتائج مأساوية على المدى الطويل؛ فالأثر الاقتصادي للنمو دون تنويع أو تصنيع كان ضارًّا بما فيه الكفاية على الجنوب. لكن ما هو أخطر من ذلك بكثير تمثَّل في النتائج الاجتماعية والسياسية الناجمة عن جعْل القطن مَلكًا متوجًا للمحاصيل، وهو ما أسفر عن ترسخ العبودية وازدياد فرص اشتعال الحرب الأهلية.»6 وبصرف النظر عن العواقب الاقتصادية الأخرى، كانت التجارة الحرة في أمريكا القرن التاسع عشر ستمنح مزيدًا من الرسوخ والقوة للعبودية التي كانت تعد نظامًا اجتماعيًّا وسياسيًّا. ولا يسعنا سوى تخمين مقدار الضرر الذي كانت ستلحقه بتطور النظم السياسية للبلاد، لكن الصورة لم تكن جميلة على الأرجح.7

الدرس واضح: إن التجارة الحرة يمكن أن تكون قوة تقدُّمية أو رجعية تبعًا لمكانة البلد في الاقتصاد العالمي، ومدى تدخُّل السياسات التجارية في انقساماته الاجتماعية والسياسية. فقد كانت بريطانيا معقل القوة الصناعية في العالم في منتصف القرن التاسع عشر، وكانت سياسات التجارة الحرة فيها تُعلي مصالح التصنيع والطبقات المتوسطة. في المقابل، كانت الولايات المتحدة دولة متخلفة صناعيًّا وتحظى بميزة تكلفة في مجال أنشطة الزراعة القائمة على العبودية، وكانت سياسات التجارة الحرة فيها تُعلي المصالح الزراعية القمعية؛ ومن ثَمَّ لا تجلب التجارة الحرة معها «سياسةً جيدةً» دائمًا.

في غضون ذلك في القارة الأوروبية ما لبث أن ظهرت الشكوك وخيبات الأمل حيال فعالية التجارة الحرة. نشأ ذلك، كما هي العادة، عن حدوث ركود اقتصادي طويل الأمد بدأ منذ سبعينيات القرن التاسع عشر وألحق ضررًا بالغًا على نحوٍ استثنائي بالفلاحين؛ فقد أسفرت الثورة في مجال وسائل النقل إلى جانب خفض التعريفات عن تدفق واردات الحبوب من العالم الجديد؛ مما أدى إلى انخفاضٍ حادٍّ في أسعارها. وانطلقت استغاثات أصحاب النفوذ الزراعي في جميع أنحاء أوروبا طالبين الحماية، شاركهم في ذلك أيضًا رجال الصناعة الذين كانوا يواجهون الانهيار جراء منافسة المنتجين البريطانيين الأكثر تفوقًا (علاوةً على منافسة المصدرين الأمريكيين المتزايدة). في ألمانيا التي كان يحكمها بسمارك أسفر هذا عن «زواج الحديد والجاودار» الشهير، الذي وحَّد رجال الصناعة والزراعة، وتمخَّض عن ارتفاعٍ حادٍّ في التعريفات الجمركية منذ نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر وما بعدها. برَّر بسمارك، بحنكته السياسية المعهودة، هذه السياسة الجديدة بأن تذَمر من أن ألمانيا باتت مطرحًا تُلقي فيه دول أخرى بإنتاجها الزائد. وحذت فرنسا وقوًى أوروبية أخرى حذو ألمانيا في زيادة التعريفات الجمركية، واستمر الاتجاه العام نحو تضييق الخناق على التجارة حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وبحلول عام ١٩١٣ كان متوسط التعريفات الجمركية على الواردات في أوروبا من السلع الصناعية قد تضاعف وبلغ نحو ٢٠٪.8
كانت هذه الزيادة في الحماية في أوروبا خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر تنطوي على مفارقة من منظور الرواية الاقتصادية الليبرالية. فكما أشار المؤرخ الاقتصادي بول بيروك، لم تكن الزيادة السريعة من نصيب حجم الأنشطة التجارية فحسب بعد عام ١٨٩٠، بل طالت الدخول أيضًا، لا سيما في الدول التي أقامت حواجز أمام التجارة.9 وهذه التجربة، مثل تجربة الولايات المتحدة في أعقاب الحرب الأهلية، تُلقي مزيدًا من ظلال الشك على وجود علاقة مباشرة بين سياسات التجارة الحرة والنمو الاقتصادي. سنعود إلى هذا الموضوع لاحقًا في سياق نقاشنا لنموذج بريتون وودز وتأثيرات العولمة على الدول النامية في الوقت الراهن.
لم تقاوم أي دولة السقوط من منحدر الحمائية الزلق خلال العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى باستثناء بريطانيا، على الرغم من الضغوط التي كان يمارسها «التجار العادلون» الذين أرادوا الانتقام بالرد المماثل على التعريفات الجمركية المرتفعة التي فُرضت على الصادرات البريطانية في بقية دول أوروبا.10 لم يقف الأمر عند حد سيطرة أيديولوجية التجارة الحرة على الخطاب العام في بريطانيا، بل تحوَّل مصطلح «الحمائية» إلى تعبير للانتقاص من قدر معارضيك وخصومك. وقد زاد على ذلك أن وضع بريطانيا التجاري القوي في مجال التصنيع كان يجعل من فرض التعريفات الجمركية سياسة عقيمة ومبتذلة للغاية. وحينما سخر رئيس الوزراء البريطاني ويليام جلادستون من أولئك الذين كانوا يريدون الثأر من الدول المؤيدة للحماية الاقتصادية عن طريق السياسة التجارية، شن هجومه على الطرفين؛ إذ تساءل مستهجنًا: «ماذا تعني «التجارة العادلة» بحق السماء؟» ثم أردف ليجيب مستخدمًا حجة سيظل أنصار التجارة الحرة يرددونها باستمرار: «حسنًا أيها السادة، لا بد أن أقول إنها تحمل شبهًا مريبًا بصديقتنا القديمة «الحمائية».»11 ببساطةٍ كانت هذه هي الحمائية المعهودة تحاول أن تتخفى لتبدوَ أكثر جاذبية باتخاذ اسم جديد.
وأوضح جلادستون أن بريطانيا لن تستفيد كثيرًا من الانتقام بما أن وارداتها من السلع المصنعة أقل بكثير من صادراتها؛ ومن ثَمَّ لن يكون للتعريفات التي ستُفرض على قاعدة بهذا الصغر قوة عقابية كبيرة. وقال جلادستون إن الفائض التجاري الكبير لبريطانيا يجعل سياسة التجارة الحرة أفضل للبلاد. وقد يجفل أحد الاقتصاديين المعاصرين من حجة جلادستون المركنتلية التي تفترض أن البلاد لا تستفيد من التجارة إلا بقدر ما تحققه من فائض تجاري.12 لكن لا بأس. إن تفوُّق بريطانيا في مجال التصنيع ساعدها على تجنُّب الانزلاق إلى منحدر الحمائية.
وإذا كانت التجارة الحرة بين البلدان المتقدمة تعتمد على توازن صعب وهش بين أيديولوجية مشتركة وتضافر للمصالح السياسية في الداخل، فإنها كانت تُفرض في بقية دول العالم من الخارج في أغلب الأحوال؛ ففي آسيا كان الاستعمار الأوروبي يكفل حماية حقوق الأجانب، وإنفاذ العقود، والبت في النزاعات وفقًا لقوانين الدول الأوروبية، وفتح المجال أمام المصدرين والمستثمرين، ووفاء الديون، وتنفيذ استثمارات البنية التحتية، وتهدئة السكان المحليين، ووأْد الطموحات الوطنية الوليدة، وما إلى ذلك من الأنشطة المماثلة؛ الأمر الذي اختصر القائمة الطويلة لتكاليف المعاملات التي كانت ستعيق التجارة الدولية. تذكر مثلًا كيف حل الحكم البريطاني محل «شركة الهند الشرقية» حينما عجزت الشركة عن التعامل مع التمرد الداخلي، أو كيف جرى نقل سلطات شركة هدسونز باي الرقابية لسيادة دولة كندا. لقد جلبت الإمبراطورية البريطانية القانون والنظام للمجتمعات التي كانت تفتقر إليهما، ويقول نيال فيرجسون المؤرخ بجامعة هارفرد: «ما من منظمة على مر التاريخ فعلت أكثر مما فعلته الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين لتشجيع حرية انتقال السلع ورءوس الأموال والعمالة.»13
ولا يجب بالضرورة أن يؤيد المرء التصور المشرق الذي قدَّمه فيرجسون للإمبراطورية البريطانية كي يؤيد تأكيده على أن الإمبريالية كانت قوة هائلة التأثير بالنسبة إلى العولمة الاقتصادية؛ فقد اكتشفت دراسة إحصائية حديثة أن حجم التبادل التجاري بين بلدَين كانا ضمن الإمبراطورية نفسها كان يفوق حجمه مع البلدان الأخرى خارجها بمقدار الضعف، مع تثبيت عوامل كثيرة أخرى قدر المستطاع في هذا النوع من الدراسات الكمية. لكن ما السبب في ذلك؟ «السبب هو أن نموذج «الإمبراطورية» يزيد التبادل التجاري من خلال خفض تكاليف المعاملات ووضع سياسات تجارية تشجع التجارة داخل حدودها.» والنماذج الخاصة التي تضمَّنت قلة تكاليف المعاملات والتي يستطيع معدُّو هذه الدراسة قياسها انطوت على: استخدام لغة مشتركة، ووجود عملة موحدة، وضم المستعمرات المكتسبة حديثًا تحت لواء عملة النقد الموحدة، وتوفير تدابير تجارية تفضيلية.14
وسيكون من الخطأ الاعتقاد بأن هذه التأثيرات كانت مقصورة على الحالات التي تضمَّنت سلطات استعمارية تمارس حكمًا إمبرياليًّا مباشرًا؛ فقد كانت الإمبريالية توجد في شكلَيها الرسمي وغير الرسمي. وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة (التي دخلت اللعبة في نهاية الأمر) والقوى الأخرى لم يكن عليها دائمًا أن تمد نطاق حكمها المباشر كي تتمكَّن من إخضاع الأقاليم الأخرى لإرادتها، بل كان التهديد بالقوة العسكرية والضغط السياسي كافيًا لذلك في أغلب الأحوال. ويبيِّن جون جالاجر ورونالد روبنسون في مقالٍ كلاسيكي شهير بعنوان «إمبريالية التجارة الحرة» أن ثَمَّةَ تواصلًا كان قائمًا بين التأثيرات غير الرسمية والحكم الرسمي؛ إذ كان الأخير لا يُستخدم إلا كملجأ أخير حينما تكون الأوضاع بالغة الاضطراب والانفلات على نحوٍ لا يسمح بتحقيق التأثيرات المنشودة من خلال مجرد استخدام الحكام المحليين.15

كانت المعاهدات التجارية أداة رئيسية من أدوات التأثير غير الرسمي. وفي حال تبين أن السكان المحليين لا يكنُّون القدر الكافيَ من الإجلال لأفكار سميث وريكاردو، دائمًا ما يكون بمقدور الطائرات الحربية الموجودة على أهبة الاستعداد إقناعهم كما يجب. هكذا وقَّعت بريطانيا معاهدة مع تركيا العثمانية عام ١٨٣٨ ألزمت بموجبها البلاد بقصر رسوم الاستيراد على ٥٪ كحد أقصى، وبإلغاء الحظر على الاستيراد والاحتكار. وخاض البريطانيون أيضًا ما أُطلق عليها «حرب الأفيون» مع الصين في الفترة من عام ١٨٣٩ إلى ١٨٤٢ لفتح البلاد أمام واردات الأفيون وسلع أخرى كانت تُصدَّر من الإمبراطورية البريطانية. ووقَّع العميد البحري ماثيو بيري نيابة عن الولايات المتحدة معاهدة مع اليابان عام ١٨٥٤ لفتح البلاد أمام الملاحة والتجارة الخارجيتين. هذه المعاهدات وأخرى مثلها كانت تضع سقوفًا لرسوم الاستيراد (من جانبٍ واحد بالطبع)، وتحد قدرة البلدان الأقل قوة على انتهاج السياسات التجارية الخاصة بها على نحوٍ مستقل، وتمنح التجار الأجانب امتيازات قانونية، وتعزز إمكانية وصول الأجانب إلى الموانئ.

وهكذا، على الرغم من الازدهار الجلي في التجارة، لم تكن عولمة القرن التاسع عشر قائمة بدرجة كبيرة على التجارة الحرة كما يُروَّج لذلك دائمًا. صحيح أن السياسات الإمبراطورية — الرسمية أو غير الرسمية — كانت بادية التشجيع للتجارة، لكنها كانت تقوم على الممارسة المجرَّدة للسلطة من قِبل الدول المستعمِرة الكبرى، ولا تكاد تمثل «التجارة الحرة» بالمعنى الحقيقي للكلمة. وإذا نحَّينا نموذج بريطانيا جانبًا، فسنرى أن الليبرالية لم تحرز سوى انتصارات محدودة على صعيد سياسات التجارة الداخلية للاقتصادات الكبرى؛ فبعض البلدان (مثل الولايات المتحدة) لم تتبنَّ حقًّا سياسات التجارة الحرة قط، والبعض الآخر (مثل القوى الأوروبية الكبرى) عادت مجددًا إلى مستويات أعلى من الحمائية بعد بضعة عقود من الزمان. ونادرًا ما أثبتت السياسة الداخلية أنها تشجع على التجارة الحرة لفترات طويلة، إلا في الحالات التي كان التفوق الاقتصادي فيها يضمن حصانة نسبية من منافسة الواردات. وبفضل الثورة في مجال وسائل النقل وارتفاع الدخول انتشرت العولمة على نطاق واسع، ربما أكثر من أي وقت آخر مضى على مر التاريخ باستثناء العقود القليلة الأخيرة. لكن هذه العولمة ارتكزت على أعمدة تأسيسية متداعية وهشة، تمثلت في مجموعة من المتطلبات التي لم يكن من المرجح أن تتكرر.

(٣) معيار الذهب والعولمة المالية

إن ما سبق أن ذكرناه عن النظام التجاري إنما ينطبق بدرجة أكبر على النظام المالي والنقدي الذي حكم عولمة القرن التاسع عشر، وتمثَّل في معيار الذهب. كان هذا النظام الذي فُرض من خلال الممارسات الإمبريالية ضروريًّا أيضًا لتعزيز حرية تدفق رءوس الأموال. لكن لم تكن المعتقدات التي دعمت معيار الذهب وعززت حدوث عولمة مالية بين عامَي ١٨٧٠ و١٩١٤ لتنجوَ من الضربات المميتة التي وُجهت لها من «الكساد الكبير» والثورة التي أحدثها مينارد كينز في مجال الفكر الاقتصادي.

تأسس معيار الذهب على عدة قواعد بسيطة؛ فلكل عملة وطنية ما يكافئ قيمتها من الذهب، الأمر الذي ربطها بهذا المعدن برباط صارم. على سبيل المثال، كان يقال إن الجنيه الاسترليني البريطاني يساوي ١١٣ قمحة من الذهب الخالص، وأن الدولار الأمريكي يساوي ٢٣٫٢٢ قمحة.16 وكان البنك المركزي لكل دولة على استعداد لتحويل العملات الوطنية إلى ما يكافئها من ذهب؛ وهكذا، كانت أسعار الصرف فيما بين العملات ثابتة هي الأخرى ثباتًا مبرمًا؛ إذ كان جنيه بريطاني واحد يعادل: ١١٣ / ٢٣٫٢٢ أو ٤٫٨٧ دولارات أمريكية. وكانت الأموال تتدفق بحرية عبر البلدان، وتُصرف وفقًا لأسعار صرف ثابتة تُحدَّد تبعًا لمكافئها من الذهب.

كانت هذه القواعد تعني أن التغيرات في المخزون النقدي المحلي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالارتفاع أو الانخفاض في احتياطيات الذهب؛ فكان البلد الذي يسجل عجزًا في ميزان المدفوعات الخارجي يخسر ذهبًا لصالح شركائه التجاريين، ويشهد انخفاضًا في مخزونه النقدي. وهذه التدفقات من الذهب تؤدي بدورها إلى تصحيح الظروف الاقتصادية؛ وهو ما يطلِق عليه الاقتصاديون «آلية التعديل التلقائي»؛ إذ تؤدي قلة الأموال والائتمان في البلد الذي يشهد عجزًا إلى مزيج من ارتفاع في أسعار الفائدة وانخفاض في الأسعار المحلية. ويؤدِّي هذان الأمران بدورهما إلى تراجع الإنفاق وتحسين القدرة التنافسية التجارية؛ مما يتمخض عن استعادة ميزان المدفوعات الخارجية توازنه.

وطبقًا لقواعد معيار الذهب لم تكن الحكومات تملك أن تعبث بالسياسة النقدية كي تغير الظروف المحلية للائتمان؛ لأن المخزون النقدي المحلي كان يتحدد تبعًا لمخزون الذهب وتدفقات رءوس الأموال عبر الحدود القومية؛ ومن ثَمَّ، لم يكن لدى مسئولي البنوك المركزية الكثير ليفعلوه إلى جانب إصدار العملات المحلية أو سحبها تبعًا لتباين مستوى مخزون الذهب في خزاناتهم. كان لهذا النظام قواعد واضحة وعامة وحاسمة. وكان النظام المالي يحدُّ من تكاليف المعاملات عبر الحدود القومية. ولم يكن الممولون والمستثمرون مضطرين لمغالبة المفاجآت ولا التحكُّمات عند خوضهم صفقات خارج حدود الأوطان.

عمليًّا، كان لدى مسئولي البنوك المركزية بعض المجال للمناورة، وكانوا يحيدون عن «قواعد اللعبة» هذه متى دعت الحاجة إلى ذلك. وإن أردنا التفصيل، فإن البلد الذي يواجه عجزًا في الميزان التجاري يستطيع تأخير رفع أسعار الفائدة أو تحاشيَه ما دام هناك ما يعوِّض عن هذا العجز من تدفقات رءوس الأموال الخاصة التي تأتي من الخارج. لكن توافر تدفقات رءوس المال «الحافظة للتوازن» هذه كان يتوقف بالضرورة على مدى مصداقية التزام البنك المركزي بقيمة العملة نسبة إلى معيار الذهب. كانت الأسواق تفترض أن الحكومات تحمي مكافئ سعر العملة من الذهب مهما حدث. ويُعزى هذا الافتراض إلى أن هذا هو «نظام الاعتقاد» الذي كان سائدًا وحاكمًا لسلوك أي بنك مركزي في ذلك الوقت؛ إذ كان الحفاظ على معيار الذهب له أولوية مطلقة في تنفيذ السياسة النقدية لأن هذا النظام كان يمثِّل قاعدة للاستقرار النقدي، ولأن السياسة النقدية لم تكن ترمي إلى أي أهداف أخرى منافسة، مثل التشغيل الكامل أو النمو الاقتصادي. كانت الأفكار تلقى اهتمامًا في هذا المجال وغيره. لكن لم تكن مفاهيم مثل ذلك الذي يذهب إلى أن تطبيق سياستَين نقدية ومالية فاعلتَين من شأنه أن ييسِّر حركة عجلة الأعمال تيسيرًا منهجيًّا، أو أن تخفيض قيمة العملة قد يساعد على الحد من اختلالات التوازن التجاري؛ قد ظهرت بعد، أو كانت في أفضل الأحوال تُعد بدعة. ولم يكن هناك مفهوم موثوق على نطاق واسع أو واضح المعالم يوضح كيف يمكن أن تحفظ الحكومات التوازن في الطلب أو الإنتاج أو التشغيل.

على عكس واضعي السياسات التجارية، كان مسئولو البنوك المركزية بمعزل عما تُحدثه السياسات المحلية من شد وجذب، وكانوا يستطيعون ممارسة عملهم على نحوٍ مستقل. وقد أصاب باري أيكنجرين، أحد أكثر مؤرخي العولمة المالية حنكة، كبد الحقيقة حينما قال إن قدرة البنوك المركزية على الحفاظ على حرية تدفُّق رءوس الأموال وثبات أسعار الصرف في مواجهة الصدمات الاقتصادية «ترتكز على وجود حدود للضغط السياسي الذي يمكن أن يتحوَّل إلى عبء [عليها]؛ مما يدفعها إلى السعي إلى أهداف أخرى تتعارض مع حماية قابلية تحويل العملة إلى ما يكافئها من الذهب.»17 كانت البنوك المركزية للقوى الكبرى — بريطانيا وفرنسا وغيرهما — في حقيقة الأمر مملوكة للقطاع الخاص، ولم يكن لها وظيفة حكومية بخلاف إصدار العملة القانونية. أما الولايات المتحدة فظلت دون مؤسسة حكومية تعمل كبنك مركزي للبلاد حتى عام ١٩١٣، حينما تأسس «نظام الاحتياطي الفيدرالي» بموجب قانون الاحتياطي الفيدرالي. لقد كان مسئولو البنوك المركزية في دول عدة يعملون كأنهم أعضاء نادٍ، يتفوق انتماؤهم إلى زمرتهم من رجال المال على انتمائهم إلى إخوانهم في الوطن ممن لا ينتمون إلى الأوساط المالية.18 وكان معيار الذهب بحسب وصف أيكنجرين «نظام مالي أسسه المجتمع.»19
كانت العولمة المالية التي شهدها اقتصاد العالم في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى أمرًا استثنائيًّا بلا شك. وفي نصٍّ يكاد يتكرر في كل الكتب التي تناولت موضوع العولمة، يحرك اقتصادي القرن العشرين المرموق جون مينارد كينز شجون الحنين متذكرًا عام ١٩١٩، حينما كان قاطنو لندن يملكون حرية استثمار ثرواتهم في أي مكان في العالم دون عائق أو خشية من إمكانية حرمانهم من ثمار ذلك الاستثمار.20 في هذه الفترة كانت أسواق العالم المالية تعمل بأقل قدر من تكاليف المعاملات. وكانت معدلات الفائدة في لندن ونيويورك وكبرى المراكز المالية الأوروبية تتحرك معًا كما لو كانت مرتبطة بعضها ببعض كجزء من سوق واحدة. وكان رأس المال يتدفق بحرية وبكميات كبيرة من حيث كان متوافرًا بكثرة (من بريطانيا تحديدًا) إلى حيث كان نادرًا (إلى العالم الجديد تحديدًا). وعلى عكس حال التجارة الحرة، لم يحدث تراجع عن معيار الذهب وعن حرية تدفُّق رأس المال قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، بالرغم من النداءات الصاخبة التي كانت تطالب بنبذ معيار الذهب منذ حقبتَي السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر. ولم يتمكن العالم من بلوغ مستويات مرتفعة كهذه من العولمة المالية ثانيةً إلا في الآونة الأخيرة.
وقد واجه صمود هذا النظام اختبارًا صعبًا في سبعينيات القرن التاسع عشر، حينما أسفر النقص في مخزون الذهب عن ضيق ظروف الائتمان والتضخُّم في الأسعار في أوروبا والولايات المتحدة على حدٍّ سواء، وهذا بالضبط ما كان يستتبعه الالتزام بقواعد معيار الذهب. وقع الضرر الأكبر جراء ذلك على الفلاحين، الذين كان ارتفاع أسعار الفائدة في مواجهة انخفاض الأسعار بالنسبة إليهم يشكل ضربة ساحقة. وتعالت الاستغاثات المطالبة بالعودة إلى المعيار الثنائي المعدن، الذي من شأنه أن يسمح للحكومات بتحويل الفضة إلى عملة وزيادة المعروض من النقد. وبلغ التمرد ذروته في الولايات المتحدة، حيث ألقى مرشح الحزب الديمقراطي لمنصب الرئيس لثلاث دورات انتخابية، وليام جينينجز براين، خطبته الشهيرة عام ١٨٩٦ في «المؤتمر الوطني الديمقراطي» التي قال فيها: «لن تصلبوا الجنس البشري على صليب من ذهب.»21 وقفت البنوك المركزية صامدة وظل نظام معيار الذهب. في نهاية الأمر، ربما ما أنقذ معيار الذهب هو أن ذلك التضخم في الأسعار زال بمجرد أن أسفر العثور على مناجم الذهب في جنوب أفريقيا بعد عام ١٨٨٦ عن ارتفاعٍ في المعروض منه في الأسواق.

وكما علمنا من قبل، كانت العولمة المالية فيما بين القوى الاقتصادية الكبرى في ذلك الوقت نتاجًا لتشابه المعتقدات بين مجموعة مصرفيِّي البنوك المركزية المترابطين الذين كانوا يتخذون جميع القرارات المهمة. أما بالنسبة إلى البلدان الواقعة على هامش الاقتصاد العالمي في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا، فقد كانت محكومة بالمعتقدات التقليدية النقدية أيضًا، على الرغم من أن أكثر هذه البلدان لم يتحوَّل بالكامل إلى اعتماد معيار الذهب. لكن المشكلة الأكثر خطورة في التمويل العالمي تمثَّلت في كيفية ضمان سداد تلك الكيانات السيادية — والمقترضين فيها — ديونها في نهاية الأمر.

وهذه هي مشكلة التمويل الدولي الأزلية ومصدر الوبال عليه. فحينما يمتنع أحد المقترضين داخل أرض الوطن عن السداد، يستطيع المقرِض المغبون أن يتوجَّه إلى المحكمة ويحصل على حكم بالحجز على ما يملكه المقترِض من أصول، ثم ينتظر أن تنفذ السلطات المحلية الحكم. أما حينما يكون الممتنع عن السداد أحد المقترضين الذين ينتمون إلى دولة أجنبية، فلا يكون أمام المقرِض الكثير من الخيارات؛ فليس هناك محكمة دولية لإصدار حكم ضد المقترِض، وكذلك ليست هناك شرطة دولية لإنفاذ ذلك الحكم. وواقع الحال أن ما يقع على المقترِض جراء عدم السداد لا يتجاوز احتمال تلوث سمعته الائتمانية والتكلفة التي قد تترتب على شطبه من أسواق الائتمان الدولية فترة من الوقت.22 وبالرغم من الخسارة التي تقع على سمعة المقترض، يبيِّن التاريخ أن المتأخرين عن السداد يتمكَّنون في نهاية الأمر من دخول الأسواق المالية الدولية مجددًا. وهذا يترتب عليه تأثيرات عدة. أول هذه التأثيرات، أن المقترض قد لا يتخلف عن سداد التزاماته في حال «عجزه» عن السداد فحسب، بل قد يتخلف أيضًا لمجرد أنه «غير راغب» في سداد هذه الالتزامات، وهو حد يسهُل اجتيازه للغاية. والثاني، أن توقُّع حدوث ذلك لن يجعل أي بنك أو حامل سندات حصيف وبعيد النظر على استعدادٍ لإجراء الكثير من عمليات الإقراض على المستوى الدولي، أو قد يفعل ذلك بشرط المطالبة بأقساط سداد مرتفعة. أو على العكس، سيكون هناك دورات من الانتعاش والركود جراء عمليات الإقراض غير الحصيفة التي تنتهي إلى التخلف عن السداد. إن أسواق التمويل الدولي لا يمكن أن تنتعش ما لم توجد آليات موثوقة لفرض سداد الديون.
وكما هي الحال بالنسبة إلى الاتفاقيات التجارية، ساعد وجود القوارب المسلحة والحكم الإمبريالي كوسائل على إنفاذ عقود الدَّين؛ فالرأسمالي البريطاني الذي استثمر أمواله في إنشاء سكك الحديد الهندية كان على علم بأن «الراج البريطاني» موجود هناك ليضمن سلامة استثماره هذا، وقد عقَّب أحد المسئولين البريطانيين على ذلك قائلًا: «طالما ضمنا للمستثمر نسبة ٥٪ على الإيرادات في الهند، ليس من المهم بالنسبة إليه أن يكون مصير الأموال التي وضعها هناك أن تُلقى في نهر «هوجلي» أو تُحوَّل إلى قوالب بناء وملاط.»23 وحينما تعثرت الإمبراطورية العثمانية عن سداد التزاماتها عام ١٨٧٥ لدائنين كان معظمهم بريطانيين وفرنسيين، أقنع الأوروبيون السلطان العثماني المستضعَف بأن يسمح لهم بأن يؤسسوا وكالة خارج حدود دولته الإقليمية لجمع عائدات الضرائب العثمانية. فأصبحت «إدارة الدَّين العام العثماني» (التي بدأت العمل عام ١٨٨١) تمارس نظامًا بيروقراطيًّا واسع النطاق داخل الدولة العثمانية الغرض الأول منه سداد مستحقات الدائنين الأجانب. وفي مصر، حينما هددت حركة التمرد الوطني المصالح المالية البريطانية عام ١٨٨٢، غزا البريطانيون البلاد من أجل «استعادة الاستقرار السياسي» وضمان استمرار سداد الديون الخارجية. في ذلك الوقت، كان رئيس الوزراء البريطاني ويليام جلادستون يستثمر نصيبًا كبيرًا من ثروته في صكوك الدين المصري، وفي هذه الحالة تحديدًا بدا الارتباط بين العولمة المالية والقوة العسكرية واضح المعالم.24 وانتهى الأمر بأن حكمت بريطانيا مصر حكمًا مباشرًا، على الرغم من أن أهدافها المبدئية لم تكن ترقى إلى ذلك على الإطلاق.
وتاريخ الولايات المتحدة نفسها متباين فيما يتعلق بالوفاء بالديون؛ فرغم تعثُّر كثير من الولايات في سداد ديونها على مدى القرن التاسع عشر، إلا أنه من قبيل المفارقة أن صار الأمريكيون في نهاية الأمر هم المسئولين عن إنفاذ سداد الديون في نصف الكرة الأرضية الغربي؛ فقد أوضح الرئيس ثيودور روزفلت عام ١٩٠٤ (فيما أطلق عليه «نتيجة روزفلت الحتمية» المبنية على عقيدة مونرو) أن الولايات المتحدة ستضمن سداد بلدان أمريكا اللاتينية ديونها الدولية. وبيَّن أنه بإرساله سفنًا حربية إلى «سانتا دومينجو» عام ١٩٠٥، وبالاستيلاء على عائدات الرسوم الجمركية، يهدف في الحقيقة إلى حماية المصالح التجارية هناك بعد أن تعثرت جمهورية الدومينيكان في سداد ديونها، وهو التصرف الذي أشار إلى عزمه على حماية مصالح الدائنين الأجانب؛ ما أسفر عن ارتفاعٍ حادٍّ في أسعار السندات السيادية لبلدان أمريكا اللاتينية.25 لكن المسألة، قبل ظهور السفن الحربية للولايات المتحدة، لم تكن تتعلق بما إذا كانت الديون ستُجمَع أم لا، بل بما إذا كان الأوروبيون أو الأمريكيون هم الذين سيضطلعون بهذه المهمة. لكن مع استباق روزفلت الأوروبيين بهذا التصرف، قصد ألا يدع مجالًا للشك في أن هذه المنطقة خاضعة للنفوذ الأمريكي.

ومثلما حدث في حالة التجارة الحرة، أدَّى اجتماع مزيج خاص من السياسات المحلية ونظم المعتقدات وإنفاذ الطرف الثالث إلى ظهور معيار الذهب وحدوث العولمة المالية. وحينما ضعفت هذه القوى، بعد أن بدأت السياسات الجماهيرية تؤكد قوتها، ضعف التمويل الدولي كذلك. ويمثل انهيار معيار الذهب في نهاية الأمر خلال حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين نافذة كاشفة عن هشاشة هذا المزيج.

(٤) زوال معيار الذهب

أذنت الحرب العالمية الأولى ببدء عهد من الضوابط الحكومية الكثيفة على تداوُل العملة الأجنبية، تبعه عدم استقرار خلال عشرينيات القرن العشرين. وتوقفت جميع الحكومات بما فيها الحكومة البريطانية عن الالتزام بقابلية تحويل العملة إلى ذهب خلال فترة الحرب، وفرضت قيودًا تمنع حرية إبدال العملة المحلية بعملات أجنبية (رقابة على الصرف). وبعد أن وضعت الحرب أوزارها شهدت عدة دول أوروبية (ألمانيا والنمسا وبولندا والمجر) تضخمًا مفرطًا خلال السنوات الأولى من عشرينيات القرن العشرين. كان هذا وقتًا عصيبًا بالنسبة إلى حركة تداول العملات الأجنبية، لا سيما مع تكرار التذبذب الحاد في أسعار صرف العملات. ورأى المسئولون أن العودة إلى معيار الذهب أمر حتمي في وقتٍ ما خلال العشرينيات؛ من أجل إعادة التمويل الدولي إلى حالته الطبيعية. لكن ظلت الأسئلة تُطرح حول توقيت القيام بذلك، وحول ما إذا كان ينبغي لهذه العودة أن تكون وفقًا لمعادلة فترة ما قبل الحرب (جنيه استرليني = ٤٫٨٧ دولارات أمريكية)، أم وفقًا لسعر صرف أقل. كانت حجة تخفيض قيمة الجنيه الاسترليني واضحة، لكن الحقيقة المؤكدة التي لم تدرَك إلا لاحقًا: أن نجم الاقتصاد البريطاني قد أفل؛ الأمر الذي كان يفرض حاجة إلى تخفيض قيمة الجنيه للتأقلم مع هذا الأمر.

وبالرغم من كل ما أبداه وينستون تشرشل لاحقًا من حنكة سياسية خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أنه لم يكن يملك عقلية متميزة في المجال الاقتصادي، أو يعير الاقتصاد قدرًا كبيرًا من الاهتمام؛ لذا كان من سوء الطالع أن يصبح وزيرًا للخزانة عام ١٩٢٤، قُبيل عودة بريطانيا لمعيار الذهب. وقد اعترف دون تردد بأنه لم يكن يملك الخبرة اللازمة حينما كان يتشاور مع مرءوسيه في وزارة الخزانة. وقال ساخرًا: لو كانوا «جنودًا أو جنرالات، لفهمت ما يتحدثون عنه. بدا الأمر لي كما لو كانوا يتحدثون جميعًا اللغة الفارسية.»26

ارتفعت الأسعار في بريطانيا خلال فترة الحرب بأكثر من ثلاثة أضعاف، وبالرغم من الانكماش الاقتصادي الحاد (الذي قاربت نسبته ٥٠٪) في أعقاب الحرب، فقد ظلت أعلى من الأسعار في الولايات المتحدة. علاوةً على أن بريطانيا راكمت ديونًا كبيرة مقارنةً بالولايات المتحدة التي باتت تتربَّع فوق نصيب وافر من احتياطي الذهب في العالم. ووجدت الحكومة البريطانية نفسها مدفوعة للإبقاء على ارتفاع أسعار الفائدة كي تَحُول دون هروب رءوس الأموال إلى خارج البلاد، وظل معدل البطالة مرتفعًا عند نسبة ١٠٪. وصارت قيمة الجنيه السوقية خلال معظم هذه الفترة أقل بكثير من قيمته التي كانت تعادل ٤٫٨٧ دولارات أمريكية قبل الحرب. كان كينز أبرز من اعتقدوا أن العودة إلى سعر صرف العملة في فترة ما قبل الحرب ستشكل كارثة؛ لأنها ستجعل الاقتصاد البريطاني مثقلًا بعبء عملة مبالغ في تقدير قيمتها، وبمواجهة مشكلة خطرة على صعيد قدرته التنافسية بالنظر إلى المستوى الذي بلغته الأسعار في بريطانيا. حظي هذا الرأي بتأييد رجال الصناعة البريطانيين وقطب الصحافة اللورد بيفر بروك.

لكن تشرشل لم يأخذ برأيهم، وأخذ برأي الخبراء الماليين و«بنك إنجلترا»؛ الأمر الذي ندم عليه أشد الندم فيما بعد؛ فقد أقنعه مجلس إدارة البنك ومحافظه مونتجيو نورمان أن العودة إلى معيار الذهب بأي معادلة أخرى غير معادلة ما قبل الحرب سيقوض الهدف المنشود. وأكَّدوا أن مصداقية النظام متوقفة على ثبات معادلة أسعار الصرف؛ لأنك إذا غيرتها مرة فستظن الأسواق أن تكرار ذلك يمكن أن يحدث ثانية. لم تكن المسألة اقتصادية فحسب، بل أخلاقية أيضًا؛ إذ كانت العودة وفقًا للمعادلة القديمة بالنسبة إلى الأصوليين «التزامًا أخلاقيًّا من جانب الدولة البريطانية تجاه عملائها في جميع أنحاء العالم الذين أودعوا مدخراتهم وأصولهم وثقتهم في بريطانيا وعملتها.»27 وإذا صارت العمالة والصناعة البريطانيتان غير تنافسيتَين، فببساطةٍ شديدة لا مناص من مواجهة فترة انكماشٍ في الأجور والأسعار. لم تكن هذه أول ولا آخر مرة في التاريخ يصف المصرفيون دواءً مرًّا ليتجرعه آخرون. وفي هذه الحالة، كما في الكثير من الحالات غيرها، استفادوا أيضًا من أن ما كان يُنظر إليه باعتباره «سياسات اقتصادية رشيدة» كان حليفًا لهم.

وبالرغم من استمرار انكماش الأسعار، لم يتحسن وضع الاقتصاد البريطاني مطلقًا مع العودة وفقًا للمعادلة القديمة. وظلت الأجور والأسعار مرتفعة للغاية بالنسبة إلى الاقتصاد البريطاني بدرجةٍ لا تمكِّنه من استعادة قدرته التنافسية الخارجية وتعديل اختلال التوازن التجاري، ولحق ضرر بالغ بالصناعات الموجَّهة نحو التصدير مثل الفحم والصلب، وبناء السفن والمنسوجات، وارتفع معدل البطالة في نهاية المطاف إلى ٢٠٪، واستشرت الاضطرابات العمالية والإضرابات. وعلى الرغم من أن الاقتصاد كان لا يزال في حالة يُرثى لها، اضطُر «بنك إنجلترا» للإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة للحيلولة دون تدفُّق كميات هائلة من الذهب للخارج — فيما يُعد منافسةً حقيقيةً مع دول مثل فرنسا، التي عادت إلى معيار الذهب عام ١٩٢٦ وفقًا لمعادلة كانت أكثر قدرة على المنافسة. أما الولايات المتحدة فلم تساعد بالكثير، على الرغم من الدعم المالي الذي قدمته للجنيه الاسترليني في وقتٍ سابق. فعندما رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك سعر الفائدة في مطلع عام ١٩٢٨ لوقف ما اعتبره إفراطًا في المضاربة في وول ستريت، وضع بذلك مزيدًا من عبء الضغط على الدول التي تعاني عجزًا في ميزان المدفوعات الخارجية مثل بريطانيا؛ فقد وضع ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة تلك الدول أمام أحد خيارين: إما أن تحذوَ حذوَ أمريكا وترفع أسعار الفائدة فيها، أو أن تعانيَ مزيدًا من نزيف الذهب ورأس المال. وأخيرًا، في سبتمبر عام ١٩٣١، نبذت بريطانيا مرة أخرى معيار الذهب. وبمجرد إلغاء هذا المعيار، باتت الأيام الباقية لهذا لنظام معدودة؛ فقد ألغى فرانكلين روزفلت معيار الذهب في الولايات المتحدة عام ١٩٣٣ كي يتمكن من تحقيق التوسع النقدي، تلته في ذلك فرنسا وما كانت تُسمى «دول تكتل الذهب» عام ١٩٣٦.

لقد حدث أن وقع معيار الذهب تحت ضغط من قبلُ خلال زمن السلم، لا سيما إبَّان فترة الانكماش التي نجمت عن نقص الذهب خلال سبعينيات القرن التاسع عشر. لكن ما الاختلافات في هذه المرة؟ أولًا: تغيرات في الاقتصاد، ثم في السياسة، ثم في الاقتصاد مرة أخرى.

لنبدأ بالجولة الأولى من تغيرات الاقتصاد. كان النموذج الذي تقدمه كتب علم الاقتصاد عن التكيف في ظل معيار الذهب يفترض وجود أسواق عمالة مرنة الأجور تتسم بالاستقلالية واللامركزية. فإذا صارت الصناعات المحلية غير تنافسية على المستوى العالمي، انخفضت الأجور والتكاليف الأخرى مما يساعد هذه الصناعات على استعادة حصة من السوق، كما أن انخفاض أجور العمالة من شأنه أن يحد من البطالة. بالطبع لم يحدث قط أن كان هذا بالضبط هو الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد، لكنه صار شيئًا أقرب إلى الخيال بمرور الوقت وانتظام العمالة في تنظيمات ونقابات عمالية أثبتت قوتها. وقد ازدادت عضوية النقابات ازديادًا كبيرًا خلال العقدين اللذين سبقا عشرينيات القرن العشرين، وصارت اضطرابات عمال الصناعة في ازدياد، بالغة أوجَها فيما سُمي «الإضراب العام» في عام ١٩٢٦؛ فأصبحت قدرة العمال على إبقاء الأجور على حالها تدل على أن أي انكماش نقدي مستدام ناجم عن تدفق الذهب إلى خارج البلاد (أو التهديد بذلك) — كما حدث في حالة بريطانيا — لن يُسفر إلا عن بطالة مستدامة. لم تتضح التأثيرات الكاملة لهذه السياسة الاقتصادية إلا بعد أن نشر كينز كتابه الرائع عام ١٩٣٥-١٩٣٦ «النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود» الذي أوضح فيه أسباب فشل معيار الذهب في العمل بسلاسة في الاقتصادات المعاصرة.

ثم يأتي دور السياسة. بصرف النظر عن حدْس مسئولي البنوك المركزية وسادتهم السياسيين خلال حقبة الثلاثينيات، أدركوا أنه ما عاد باستطاعتهم البقاء بمعزل عن العواقب السياسية للركود الاقتصادي وارتفاع معدل البطالة؛ فالعمال لم ينضموا إلى نقابات فحسب، بل صار لهم حق في التصويت أيضًا. لقد تضاعف عدد من يحق لهم التصويت في بريطانيا أربعة أضعاف خلال العقد الذي تلا الحرب العالمية الأولى،28 وبات من المؤكد أن الصحف والقنوات الإذاعية في طريقها لأن تصبح «وسائل إعلام جماهيرية»؛ إذ بلغ مجموع ما تحققه الصحف القومية البريطانية اليومية من توزيع ١٠ ملايين نسخة بحلول ثلاثينيات القرن العشرين.29 وصارت السياسة الاقتصادية تخضع لقواعد الديمقراطية. دخلت السجال أيضًا حركة اشتراكية متنامية. كل هذا صار يشير إلى أن أي حكومة منتخبة ديمقراطيًّا إذا ما خُيرت بين معاناة العواقب الاقتصادية لاستشراء البطالة بين الجماهير أو نبذ معيار الذهب، فستختار الخيار الثانيَ في نهاية الأمر. كانت الديمقراطية تتنافى مع منح معيار الذهب أولوية مطلقة.

ثم حلت الجولة الثانية من تغيرات الاقتصاد، التي وجهت الضربة القاضية؛ فبمجرد أن تتشكك أسواق المال في مصداقية التزام الحكومة بتثبيت معادلة تحويل النقود إلى ما يكافئها من ذهب، تتحوَّل إلى قوة لهدم الاستقرار؛ فتصبح الحكومات فريسة سهلة لهجمات المضاربة. ويبيع المستثمرون العملة المحلية ويشترون الأجنبية ويُخرجون رءوس أموالهم إلى خارج البلاد بمجرد أن يتناهى إلى أسماعهم أدنى تلميح حول مشكلة في الأفق. في المقابل، لو توافر الالتزام بمعادلة التحويل، لكان باستطاعتهم أن يتراجعوا عن معاملاتهم ولن يخسروا شيئًا. لكن إذا انخفضت قيمة العملة، فستكون أمامهم الفرصة لكسب أطنان من النقود حينما يشترون العملة المحلية مجددًا بسعر أرخص بكثير عند إعادة رءوس أموالهم إلى البلاد مرة أخرى. وهذه حالة مألوفة تحدث مع ثبات أسعار الصرف؛ فأسواق المال في هذه الحالة تنظر إلى الأمر من منطلق «إما أن أفوز أنا أو تخسر أنت.» وخلال عملية بيع العملة المحلية، يمارس المضاربون بالطبع ضغطًا على قيمة العملة وينتهي الأمر بتسريع انهيار معادلة التحويل. وتتمكن توقعاتهم من تحقيق نفسها بسهولة.

لقد بين المصير الذي آلت إليه بريطانيا في الفترة التي فصلت بين الحربين العالميتين أن القواعد النقدية والمالية المتشددة كقواعد معيار الذهب لا تتماشى مع الاقتصاد المعاصر أو أسلوب الحكم الحديث. ورواية معيار الذهب التي تُصور نظامًا ماليًّا عالميًّا يعمل بسلاسة وينظم نفسه ذاتيًّا ما عادت مقنعة لأحد في مواجهة الواقع السياسي الجديد الذي خلقته الديمقراطية، وهذا هو الدرس الذي سيتم تعلُّمه مجددًا في تسعينيات القرن العشرين.

(٥) الحمائية في فترة ما بين الحربين العالميتين

أثبتت السياسات المحلية أنها قوة مؤثرة على صعيد الجبهة التجارية أيضًا خلال ثلاثينيات القرن العشرين؛ فقد شهد التعاون الدولي التجاري في ذلك العقد فشلًا ذريعًا؛ فوضى تطورت مسفرة عن «الكساد الكبير». كانت الولايات المتحدة من بين أشد من اعتدَوْا على حرية التجارة، وزاد تفاقم الحمائية بفرضها أعلى تعريفات جمركية في تاريخها عام ١٩٣٠. فقد كانت «تعريفة سموت-هاولي» المعيبة استجابة للانخفاض في أسعار السلع والتراجع الاقتصادي، وكان الهدف من ورائها أن تنال كل صناعة لها صوت في الكونجرس الاحتماء بجدران عالية من الحماية. ومنذ ذلك الحين صارت هذه التعريفة مرادفًا للحماية الحكومية المتفاقمة والمدمرة. كان لدى الدول الأوروبية أسباب اقتصادية مشابهة دفعتها إلى اللجوء إلى فرض حواجز أمام التجارة، وجاء تصرف الولايات المتحدة ليكون مشجعًا لها على اتباع النهج نفسه ومبررًا لذلك. حتى بريطانيا ركبت هذه الموجة بأن فرضت تعريفة نسبتها ١٠٪ على مجموعة واسعة النطاق من الواردات.30 لكن ما تسبَّب في ضرر بالغ على نحوٍ استثنائي كان انتشار الحدود الكمية (أو حصص الاستيراد) التي لم يجرِ الالتزام بها بدرجة كبيرة حبًّا في الاستفادة من رسوم الاستيراد الأكثر ضمانة. وما لبث أن جاء هتلر إلى سدة الحكم عام ١٩٣٣ واستخدم السياسات التجارية استخدامًا استراتيجيًّا بحيث يستخلص أكبر قدر ممكن من الفائدة من جيران ألمانيا في جنوب شرقي أوروبا.31 امتدت موجة الحمائية أيضًا إلى البلدان النامية كالهند وبلدان أمريكا اللاتينية؛ حيث كانت البحرية البريطانية بالغة الضعف والانشغال بأمور أخرى بدرجة لا تسمح لها بفرض حرية التجارة في بلدان هامش الاقتصاد العالمي، وانخفض حجم التجارة العالمية في الفترة بين عامَي ١٩٢٩ و١٩٣٧ إلى نصف ما كان عليه من قبل.32
كانت الكارثة الاقتصادية التي باتت تُسمى «الكساد الكبير» السبب المباشر لردة الفعل الحمائية؛ فمع تعثُّر الفلاحين في سداد قروضهم، وإغلاق عدد من الشركات، وبلوغ البطالة معدلات غير مسبوقة، كان الْتِماس الحماية من منافسة الواردات الخارجية ردَّ فعلٍ طبيعيًّا، ولو أنه تبيَّن في نهاية المطاف أنه ضربة قاضية وجَّهتها جميع الدول الحمائية لنفسها. لكنَّ للحمائية جذورًا أعمق تكمن في الدور المتغير الذي تلعبه الحكومة في المجتمع؛ فالمجتمع النشط المتمتع بالتمكين السياسي — نتيجةً لدعم التصنيع والتحوُّل إلى الديمقراطية واندلاع الحرب العالمية الأولى — يحتاج إلى حماية اقتصادية أكبر من جانب الحكومة في مواجهة الأزمة القصوى. مع ذلك لم توفر الحكومة مظلة وافية من شبكات الأمان والضمان الاجتماعي كي تتلافى ضرر المنافسة الدولية وتذود عن الطبقة العاملة من عواقب التجارة. حتى الدول التي ظلت مستمرة في الالتزام بمعيار الذهب فترة أطول (مثل فرنسا وسويسرا) — ومن ثَمَّ لم تملك ما يكفي من الحرية لتحفيز اقتصادها — كانت بصفةٍ خاصة ميالة إلى فرض حواجز أمام التجارة.33 أما نظم المعتقدات والعادات التي كانت تحكم التعاون الدولي الذي أفاد العالم في ظل أحوال اقتصادية صحية بالقدر المعقول، فقد تهدَّمت تحت وطأة التأثير المزدوج لتغيُّر الظروف الاقتصادية وازدياد أعداد المساهمين في الاقتصاد الذين باتت الحكومات ملزَمة بأن تكون مسئولة عنهم وخاضعة لمساءلتهم.
كان اقتصاد العالم قد نما بحيث تجاوز حجمه النظام الاقتصادي «الليبرالي» الكلاسيكي، ومع ذلك لم يكن بعدُ ثَمَّةَ بديل مقبول متاح. ويعلِّق على ذلك عالم السياسة بجامعة هارفرد جيفري فريدن قائلًا: «لقد أكَّد مؤيدو النظام الكلاسيكي أن منح الأولوية للعلاقات الاقتصادية الدولية يتطلب التقليل من شأن شواغل أخرى مثل الإصلاح الاجتماعي وبناء الأمة وتمكين الحقوق الوطنية.» وبمجرد أن تقوَّضت حجتهم انفتحت بوابات الهويس؛ ففضَّل الشيوعيون الإصلاح الاجتماعي على الاقتصاد العالمي وعزلوا أنفسهم عن الأسواق الدولية، وفضَّل الفاشستيون بناء الأمة؛ مما أسفر عن ظهور موجة من القومية الاقتصادية في أوروبا والدول النامية.34

وكي نتلافى الكوارث الاقتصادية والسياسية المماثلة، ينبغي أن يسعى أي نظام اقتصادي عالمي مستقبلي إلى مزيد من التوازن بين متطلبات الاقتصاد الدولي ومتطلبات فئات المجتمع المحلية. واستهداف هذه المواءمة سيتطلب بدوره أن نفهم على نحوٍ أفضل كيف تُحدث التجارة الحرة اضطرابات اجتماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤