بريتون وودز والجات ومنظمة التجارة العالمية
إن السياسة التجارية مثار للنزاع لأن لها تأثيرات مهمة على توزيع الدخل داخل أي بلد، ولأنها تؤدِّي إلى صدامات بين القيم والقوانين في الدول المختلفة. لكن أي هذين الأمرين ما كان ليشكل أي أهمية لو كان من الممكن أن تنفصل السياسة التجارية عن السياسات الوطنية وتظل ميدانًا للتكنوقراطية، التي تمثل حلم خبراء الاقتصاد المؤيدين للتجارة الحرة. لكن هذا ما كان يومًا حال عالمنا الذي نحيا فيه؛ ولا يُتوقع أن نجد أنفسنا في عالم كهذا في المستقبل القريب. وكما رأينا من قبل، من وجهة النظر المركنتلية كان يُنظر إلى السياسة التجارية والكفاءة السياسية باعتبارهما شيئًا واحدًا ووجهين للعملة نفسها. بل حتى في أوج ازدهار الليبرالية الاقتصادية خلال القرن التاسع عشر، ظل انفصال السياسة عن السياسة التجارية محدودًا، وسرعان ما عاودت الحمائية الظهور حينما انهارت أسعار السلع الزراعية. وشهدت السياسة التجارية مزيدًا من التسييس خلال السنوات التي فصلت بين الحربين العالميتين. وكان عجز الحكومات عن إزالة أسباب الشكاوى المحلية من جانب أصحاب الأعمال والعمال والفلاحين في ظل الاقتصاد المفتوح أحد العوامل التي أدَّت إلى حدوث «الكساد الكبير».
وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها، كان جون مينارد كينز وهاري ديكستر وايت يبحثان عن وسائل لبلوغ المستحيل؛ إذ كيف كان يمكن استعادة الاقتصاد العالمي المفتوح في عالم باتت السيادة فيه للسياسات المحلية؟ كان كينز، النبيل الإنجليزي، قد بلغ مكانته المرموقة لكونه أبرز خبراء الاقتصاد بين أبناء جيله، وكونه معلقًا فطنًا على السياسة ورجالها في عصره. وكان وايت مسئولًا رسميًّا في وزارة الخزانة الأمريكية يحظى بإعجاب كبير، واكتُشِف في وقت لاحق أنه كان قد سرَّب معلومات سرية عن الدولة الأمريكية للاتحاد السوفييتي قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها. كان كلا الرجلين عازمًا على تفادي أخطاء الفترة التي فصلت بين الحربين العالميتين. وفيما يعد انعكاسًا للتفوق الاقتصادي الأمريكي، كان وايت، بصفةٍ خاصة، متحمسًا لتحرير الاقتصاد العالمي من القيود والضوابط المفرطة التي كانت مفروضة عليه خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، والتي ازدادت حدَّةً خلال الحرب. لكن هذين الرجلين البارزين كانا واقعيَّين وأدركا أن قواعد التجارة الدولية (والأموال الدولية، التي سنأتي على ذكرها في الفصل القادم) لا بد أن تتغير؛ فما عاد من الممكن أن نفرض الانفتاح الاقتصادي، ثم نتوقع أن تُعدَّل السياسات المحلية بطريقةٍ أو بأخرى؛ هذا إن كان ذلك ممكنًا في يوم من الأيام.
أظهرت التجربة التاريخية أنه حينما تتصادم الاحتياجات المحلية مع متطلبات الاقتصاد العالمي، يكون النصر في النهاية حليف الاحتياجات المحلية. وقد أدرك كينز ووايت أن مِن الأفضل تقبُّل ذلك وتزويد النظام بصمامات أمان بدلًا من تجاهله والمجازفة بالبقاء عرضة للانهيار التام.
(١) نموذج بريتون وودز
أصبح النظام الذي وضعه كينز ووايت يُسمى بريتون وودز، نسبة إلى اسم بلدة في مدينة نيوهامشير التقى فيها كينز ووايت ومسئولون آخرون من أربعٍ وأربعين دولة في يوليو ١٩٤٤ في مؤتمرٍ لعمل مسودة للقواعد الجديدة. كانت اتفاقية بريتون وودز عملًا مذهلًا في الهندسة التأسيسية؛ ففي غضون نحو ثلاثة أسابيع، قدَّم كينز ووايت لاقتصاد العالم فلسفة اقتصادية جديدة وأنشآ منظمتين دوليتين جديدتين: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. كانت الاتفاقية التي عُقدت في بريتون وودز ستحكم اقتصاد العالم طوال العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وبعد فترة طويلة من حل النظام خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، سيظل مصطلح بريتون وودز تذكيرًا شجيًّا بما يمكن أن تحققه المداولات الجماعية على المستوى العالمي.
لا بد للسياسة الاقتصادية الدولية أن تخضع لأهداف السياسة المحلية — من تشغيل كامل ونمو اقتصادي وعدالة وضمان اجتماعي وبناء دولة الرفاهية — وليس العكس. وهكذا يكون الهدف هو تحقيق عولمة معتدلة، لا عولمة مفرطة.
كانت تعددية الأطراف تعني أن إنفاذ القواعد ونظم المعتقدات سيعملان من ذلك الحين وما بعده من خلال مؤسسات دولية — صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة المعروفة اختصارًا باسم «الجات» — لا من خلال سياسة القوة المجردة أو الحكم الإمبريالي. وكان هذا ابتكارًا في غاية الأهمية. وبالرغم مما كان لأمريكا من تأثير لا يُنكر، وهبت تعددية الأطراف هذه المؤسسات درجةً ما من الشرعية جعلتها مستقلة عن السلطة الأمريكية التي دعمتها في بادئ الأمر. لم يحدث قط أن صارت مستقلة بحقٍّ عن الولايات المتحدة وغيرها من القوى الاقتصادية الكبرى، لكنها أيضًا لم تكن امتدادًا كاملًا لهذه القوى. ولعبت دورًا مهمًّا في وضع القواعد وإنفاذها وفي تشريع الأدوار. لقد منحت تعددية الأطراف صوتًا للدول الأصغر والأضعف، وحمت مصالحها على نحوٍ غير مسبوق؛ ومن ثَمَّ انتهى الأمر بالأمريكيين، على عكس البريطانيين الذين سبقوهم، بأن صاروا يوجدون بنية تحتية مؤسسية للاقتصاد الدولي من شأنها أن تفوق سيطرتهم المطلقة قدرةً على الصمود.
كانت اتفاقية الجات تشكل التجسيد المؤسسي لتعددية الأطراف في مجال التجارة خلال الخمسين سنة اللاحقة لمؤتمر بريتون وودز. ولم تكن سوى جزء مما كان من المفترض أن يصبح منظمة أكثر طموحًا؛ هي منظمة التجارة العالمية. شملت المنظمة المقترحة اتفاقات بشأن استقرار أسعار السلع الأساسية ومكافحة الاحتكار الدولي وعدالة قوانين العمال، لكنها تعثرت في السياسة المحلية الأمريكية؛ فقد خشي الكونجرس من أن يزداد طغيانها على الأولويات الداخلية المحلية للبلاد. أما الجات فعلى الرغم من أنها لم تكن قد أُسست رسميًّا بوصفها منظمة مكتملة كصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، فقد أدارتها أمانة صغيرة الحجم في جنيف. وهذا سمح لها بأن تصبح فعليًّا المنتدى المتعدد الأطراف الذي يشرف على تحرير التجارة العالمية.
لكن ثَمَّةَ أمرًا وحيدًا شاب كلَّ هذا: أن سياسات الجات لم تهدف مباشرة لكل هذا القدر الوافر من العولمة؛ فكما رأينا، تتطلب العولمة تخفيضًا ملحوظًا في تكاليف المعاملات بين الدول في مجالَي التجارة والتمويل. وقد حدث هذا بالفعل في مناطق معينة؛ إذ كانت حرية التجارة في السلع المصنَّعة فيما بين الدول الصناعية تتزايد على نحوٍ ملموس ومطَّرد داخل إطار محدد من الضوابط المهمة (انظر أدناه). وواصلت تكاليف النقل انخفاضها. لكن صانعي السياسة لم يُبدوا طموحًا كافيًا في العمل على زيادة التحرر في إطار نظام بريتون وودز؛ إذ ظلت قطاعات كبيرة من تجارة العالم إما منفصلة تمامًا عن نطاق الاتفاقات المتعددة الأطراف، أو محمية باستثناءات سخية عن الاتفاقات القائمة. كان الهدف هو زيادة حرية التجارة في بعض المناطق، لا تحرير التجارة على الإطلاق.
ينبغي النظر أيضًا إلى القائمة الطويلة من القطاعات التي لم يكد التحرير يمسها؛ فقد أُبعد القطاع الزراعي عن إطار محادثات الجات وظل حافلًا بالحواجز الجمركية وغيرها، التي ظهر أكثرها قبحًا في شكل تقلُّب حصص الاستيراد بهدف الحفاظ على استقرار الأسعار المحلية عند مستويات أعلى بكثير من نظيرتها في الدول المصدِّرة. وبالمثل أفلتت معظم الخدمات (التأمين والأعمال المصرفية والبناء والمرافق وما شابه ذلك) من موجة التحرير. أما القطاعات المصنِّعة المحرَّرة، التي بدأت تواجه تهديدًا تنافسيًّا خطرًا من جانب المصدِّرِين الذين يملكون ميزة انخفاض التكلفة وارتفاع الإنتاجية، فسرعان ما تلقَّت الحماية بدلًا من أن تواجه مصيرها. وهكذا كانت صناعتا النسيج والملابس في الدول المتقدمة منذ عام ١٩٧٤ وما بعده تحظى بحماية ما سُميت «اتفاقية الألياف المتعددة»، التي شملت مجموعة من الحصص المتفق عليها التي تحدد حجم واردات المنسوجات من الدول النامية. وشهدت ثمانينيات القرن العشرين أيضًا انتشار ما أُطلق عليها «قيود التصدير الطوعية»، وهي تدابير يتعهد بموجبها مصدِّرو السيارات والصلب وبعض المنتجات الصناعية الأخرى اليابانيون (بالطبع) إبقاء صادراتهم محددة بحصص معينة.
في الوقت نفسه، كانت الدول النامية نفسها حرة تمامًا في أن تفعل بسياساتها التجارية ما طاب لها. ولم يكن مطلوبًا من هذه الدول، كما هو معتاد، أن تقدم «تنازلات» جمركية خلال محادثات الجات على الرغم من أنها استفادت من تخفيضات دول أخرى تعريفاتها الجمركية بموجب شرط «الدولة الأولى بالرعاية». بل ووَجدت في مختلِف بنود اتفاقية الجات ملاذًا أتاح لها اللجوء لفرض قوانين حظر على الواردات على نحوٍ دائم بالفعل.
حتى فيما يخص الدول الصناعية، حوت البنود ثغرات واسعة للغاية؛ إذ كانت أي شركة تجارية توكل مكتب محاماة جيدًا تستطيع أن تشتريَ لنفسها حماية من خلال بنود «مكافحة الإغراق» أو بنود الوقاية في اتفاقية الجات. كانت تدابير «مكافحة الإغراق» تحديدًا محط استنكار من وجهة نظر التجارة الحرة؛ فقد كان بمقدور الدولة المستورِدة أن تفرض رسومًا إذا رأت أن المصدِّر باع منتجاته «بأقل من القيمة العادية» وتسبَّب في «الإضرار» بالصناعة المنافسة داخل البلاد. وكان بمقدور السلطات المحلية أن تستغل مفهوم «بأقل من القيمة العادية» وتتلاعب به بسهولة. وكان من الممكن فرض التعريفات العقابية حتى لو كان السلوك المعاقب عليه ممارسة تجارية معتادة، كالبيع بأقل من كامل سعر التكلفة في فترات كساد الدورة الاقتصادية، أو إذا كان الطرف المخالف غير قادر على احتكار السوق الداخلية. لقد استُغلت هذه القوانين على نطاق واسع — وكما هو متوقع — من جانب الشركات المحلية للحصول على الحماية متى شاءت.
أخيرًا، لم تكن سلطات الإنفاذ التي تملكها اتفاقية الجات سوى مزحة؛ فقد كان في استطاعة أي حكومة ترى أن أخرى أخلَّت بقوانين الاتفاقية أن تطالب هيئة مستشارين من الجات بالبت في الأمر. وإذا حكمت الهيئة للمدعي وأقرَّ تقريرها أعضاء الجات، يُلزم الطرف الجاني بأن يغير السياسة المضرة وإلا يحق للمدعي أن يحصل منه على تعويض. كان الشرط الوحيد أن يكون التصديق على تقرير اللجنة قرارًا جماعيًّا، بحيث يكون على كل عضو منفرد من أعضاء اتفاقية الجات، بما في ذلك الدولة التي رُئي أنها أخلت بالقوانين، أن يوقِّع عليه. وإذا كان الطرف المدعى عليه من ضمن لجنة المستشارين، يمكن الرهان بثقة على أنها لن تصدر حكمًا ضدَّه.
كانت الأمور على الشاكلة نفسها بدرجة كبيرة في العالم النامي؛ حيث كانت الجهود الوطنية موجهة نحو تشجيع التصنيع والنمو الاقتصادي. وفي غياب الضوابط الخارجية، امتلكت الدول النامية — سواءٌ النوع الانعزالي منها أو النوع المنفتح على العالم — حرية تطبيق مجموعة واسعة النطاق من السياسات الصناعية كي تصلح اقتصاداتها وتقلل من اعتمادها على الموارد والسلع الطبيعية؛ وبذلك صار كثير منها قادرًا على بلوغ نموٍّ مرتفع عن طريق إنتاج السلع الصناعية.
لم يكن هدف الجات قط زيادة حرية التجارة إلى الحد الأقصى، بل ممارسة أقصى قدر من التجارة التي تتوافق مع انتهاج كل دولة طريقتها الخاصة، وقد أثبت النظام نجاحه المذهل في هذا الصدد.
ومن هذا المنظور، بدأنا ندرك نقطة أساسية تتعلق بنظام بريتون وودز: أن ما كان «الأصوليون» ينظرون إليه أكثر فأكثر على أنه «انتقاص» من مبادئ حرية التجارة؛ كان في حقيقة الأمر طرقًا لصيانة النظام. فرسوم مكافحة الإغراق، واتفاقية الألياف المتعددة، وقيود التصدير الطوعية لم تكن تتماشى مع الليبرالية الاقتصادية. وهكذا ملامح أخرى كثيرة من ملامح اتفاقية الجات. واستبعاد الزراعة والخدمات كليًّا من المفاوضات التجارية، أو — ما هو أغرب من وجهة نظر التجارة الحرة — المبدأ السائد بأن تخفيض أي بلد ما يفرضه من حواجز استيراد يعتبر «امتيازًا» لشركائه التجاريين؛ لم يكونا منطقيين في ضوء المذهب الاقتصادي القياسي. لكن في الواقع، لم تصبح التجارة حرة (وتبقى كذلك) إلا حيثما لم تُثِرْ سوى القليل من التحدي للقوانين أو التفضيلات التوزيعية أو القيم المحلية. وكثير من التجارة التي مورست في السلع المصنَّعة فيما بين دول متقدمة ذات مستويات متماثلة من حيث الدخل لم تُثِرْ سوى قليلٍ من مسائل العدالة التوزيعية التي واجهناها في وقت سابق. ثَمَّةَ أنواع أخرى من التجارة — في مجال الزراعة، مثلا، أو مع البلدان النامية — كانت مختلفة لأنها صنعت مواجهات حادة جعلت الجماعات المحلية بعضها ضد بعض؛ فهددت جماعات المزارعين أو منتجي الملابس أو العمال ذوي المهارات المتدنية بخسائر حادة في دخولهم؛ لذا خضعت هذه الأنواع من التجارة لقيود صارمة. وفي إطار نظام الجات استقرت الأولويات بقوة في جدول أعمال السياسات المحلية، وهذا أسفر عن نجاح النظام وأسفر أيضًا عن خروجه الدائم على منطق التجارة الحرة.
(٢) نظام منظمة التجارة العالمية: السعي لإحداث التكامل العميق
بشَّر إنشاء منظمة التجارة العالمية عام ١٩٩٥ — بعد ما يقرب من ثماني سنوات من المفاوضات، وفيما يعتبر تتويجًا لما عُرف باسم «جولة أوروجواي» (آخر جولة محادثات في ظل اتفاقية الجات) — بظهور فهم مختلف تمامًا. ومع بداية العولمة المالية عام ١٩٩٠ تقريبًا، صارت منظمة التجارة العالمية تمثِّل السعي إلى إحداث شكل جديد من العولمة يعاكس أولويات بريتون وودز، هو شكل العولمة المفرطة. كانت الإدارة الاقتصادية المحلية في طريقها لأن تخضع للتجارة والتمويل الدوليَّين، وليس العكس. وأضحت العولمة الاقتصادية — أي الاندماج الدولي لأسواق السلع ورأس المال (لكن ليس العمالة) — غاية في حد ذاتها تطغى على جداول الأعمال المحلية.
لكن ماذا حدث جرَّاء هذا التحول؟ إلى حدٍّ ما، صارت اتفاقية الجات ضحية لنجاحها. أما النخب السياسية التجارية والمتخصصون فقد عزَوا الرخاء الذي عمَّ خلال فترة ما بعد الحرب إلى تحرير التجارة المتعدد الأطراف. وكانت منظمة التجارة العالمية تمثِّل رغبتهم في تنفيذ التحرير «على نحوٍ أفضل» عن طريق تنقيته من كثير من الشوائب والنواقص التي ناقشناها في الجزء السابق. طالبت الشركات المتعددة الجنسيات بقوانين عالمية أوسع نطاقًا من شأنها أن تيسِّر إجراء عملياتها الدولية. وسَعت الدول النامية لأن تكون محطات تصدير، وأصبحت أكثر استعدادًا للانصياع لهذه القوانين في سبيل سعيها لجذب الاستثمار الأجنبي.
وقد تضافر تحوُّل أيديولوجي هام مع هذه التغييرات؛ إذ كانت ثمانينيات القرن العشرين العقدَ الذي شهد ثورات رونالد ريجان ومارجريت تاتشر. كان اقتصاد السوق الحرة في صعود؛ مما أسفر عن ظهور نماذج مختلفة كالتي أُطلق عليها «إجماع واشنطن»، أو أصولية السوق أو الليبرالية الجديدة. وبصرف النظر عن التسمية، حشد نظام المعتقدات هذا تفاؤلًا مفرطًا إزاء ما يمكن أن تحققه الأسواق من تلقاء نفسها، وروج رؤية شديدة القتامة لقدرة الحكومات على العمل بطرق مرغوبة اجتماعيًّا. كانت الحكومات تقف في طريق الأسواق بدلًا من أن تعينها في عملها؛ ومن ثَمَّ كان لا بد من تخفيض حجم الحكومة. أدت هذه الرؤية إلى شيوع الرؤية المخلة في التبسيط الداعمة للتجارة الحرة — وهي الرؤية التي روجها أساتذة الاقتصاد بين الصحفيين — على حساب الرؤية الأكثر دقة. واعتبرت أي عقبات تعترض حرية التجارة مفاسد يجب التخلص منها، ومحاذير لعينة.
في المقابل، استشرفت منظمة التجارة العالمية إحراز خطوة واسعة على صعيد الطموحات المتعلقة بالعولمة الاقتصادية، وحدوث إعادة توازن مثيرة لما تضطلع به الدول القومية من مسئوليات محلية ودولية. وبمجرد اكتمال جولة أوروجواي للمفاوضات التجارية أسفرت عن اتفاق مثير للإعجاب، وأشمل بكثير من أي إنجاز آخر تحقق في إطار اتفاقية الجات؛ فقد تم ضم الزراعة وبعض الخدمات — وهما المجالان اللذان أفلتا من المفاوضات التجارية من قبل — بقوةٍ تحت لواء التحرير. وفي مجال الخدمات، طُلب من الدول أن تحدد المجالات المستعدة لفتحها، وتبايَن مدى التحرير عبر مختلِف البلدان والقطاعات مثل البنوك والاتصالات. وفي مجال الزراعة، بدأ إلغاء حصص الاستيراد تدريجيًّا لتحل محلها تعريفات جمركية ودعم حكومي. ومنذ ذلك الحين وما بعده احتل العمل على إلغاء الحصص الزراعية والتعريفات والدعم الحكومي مركز الصدارة. أيضًا كان نظام الحصص الذي فرضه «اتفاق الألياف المتعددة» — الذي كان يتحكم في تجارة المنسوجات والملابس — في طريقه إلى الإلغاء تدريجيًّا في غضون عقد من الزمن. وعلى الرغم من أن التحرير المبدئي في جميع هذه المجالات ظل محدودًا، كانت تلك خطوة مهمة قد أحرزت.
يضاف إلى ذلك أن قواعد جديدة ظهرت في مجال براءات الاختراع وحقوق النشر والتأليف تفرض على الدول النامية توفيق قوانينها مع قوانين الدول الغنية، وأصبحت اللوائح المحلية للصحة والسلامة تخضع لتدقيق منظمة التجارة العالمية في حال عدم انسجامها مع نظيرتها من اللوائح الدولية، وبات من الممكن سحب شرعيتها حال افتقارها «التبرير العلمي» أو تطبيقها بطرق لا تُسفر عن أقل قدر ممكن من التأثير السلبي على التجارة. وُضعت قواعد أكثر صرامة تقيِّد استخدام الدعم الحكومي، وحُظرت القواعد الحكومية التي تفرض على الشركات استخدام مكونات محلية أو تقليل وارداتها عن صادراتها. ولأول مرة، تعيَّن على الدول النامية، باستثناء أكثرها فقرًا، أن تمتثل لقواعد تُقيد بعض المجالات المهمة للسياسة الصناعية تقييدًا صارمًا.
يتعين على الدول التي تخسر قضاياها أن تكف عن تطبيق السياسات المخالفة أو تقدم التعويض اللازم للجانب المتضرر. وهذا يسري على كل الدول سواءٌ الكبيرة القوية منها أو الصغيرة؛ فمنظمة التجارة العالمية هي الكيان الدولي الأوحد الذي نجح في أي وقت مضى في إجبار الولايات المتحدة على تغيير سياساتها، مثلما نجح في دفعها لذلك في المسائل المتعلقة بما تفرضه من ضرائب وما تطبقه من سياسات بيئية.
لكن بِمَ كانت تتعلق قضايا منظمة التجارة العالمية؟ في ظل السياسات التجارية لنظام الجات كانت غالبية القضايا تتعلق بالتعريفات الجمركية وحصص الاستيراد. لكن مع زوال حصص الاستيراد والتعريفات أضحت منظمة التجارة العالمية أداة لمكافحة كل أشكال تكاليف المعاملات التي تعوق سبيل التجارة الدولية، بما فيها الاختلاف بين الدول في الضوابط والمعايير. وفي إطار منظمة التجارة العالمية، بدأت النزاعات المتعلقة بالمسائل التجارية تطال الشئون الداخلية التي كانت من قبلُ محصنة ضد الضغط الخارجي؛ فبات بمقدور الشركاء التجاريين الاعتراض على النظم الضريبية وقواعد سلامة الأغذية واللوائح البيئية وسياسات الترويج الصناعي داخل أي دولة.
ثَمَّةَ أمثلة أخرى كثيرة توضح نطاق سلطة منظمة التجارة العالمية؛ فقد حكمت في إحدى الشكاوى التي عُرضت عليها مؤخرًا بأن المعايير الأمريكية لانبعاثات الوقود تشكِّل تمييزًا ضد البنزين المستورد. وحكمت بأن النظام الضريبي الياباني يخل بالقوانين؛ لأن الضريبة التي يفرضها على المشروب الرُّوحي القومي «الشوتشو» تقل عن تلك التي يفرضها على المشروبات المستوردة كالبراندي أو الفودكا أو الويسكي. وحكمت لصالح دعوى طعن على حظرٍ فرضه الاتحاد الأوروبي على المنتجات المعدَّلة وراثيًّا استنادًا إلى مسوغات تماثل تلك التي أُخذت في الاعتبار في قضية لحوم الأبقار المعالَجة بالهرمونات. وفي قضية شهيرة أخرى، رأت المنظمة أن الحظر الأمريكي على استيراد الروبيان الذي يجري اصطياده دون استخدام جهاز «إبعاد السلاحف البحرية» تمييز «تعسفي ولا مبرر له» ضد المصدِّرين الآسيويين، وحكمت بأن برامج تعزيز صناعة السيارات في الهند وإندونيسيا والصين، وأن قوانين براءات الاختراعات في مجال المستحضرات الصيدلانية والمنتجات الكيميائية في الهند، وأن الإعانات الائتمانية التي تقدم لصناعة الطائرات في البرازيل؛ تتعارض جميعها مع قواعد المنظمة. (أدت جميع هذه الأحكام إلى تعديل تلك السياسات باستثناء السياسات المتصلة بقضية لحوم الأبقار، التي لا تزال تنتظر الحل.)
أثارت هذه الأحكام حنق دعاة مناهَضة العولمة وجعلت منظمة التجارة العالمية محط استنكار في العديد من الأوساط. لكن هل يفسد نظام التجارة الديمقراطية من خلال السماح للقضاة في جنيف بتجاهل التشريعات المحلية، كما يتهمه نقاده؟ أم أنه يساعد الدول على تحقيق نتائج أفضل من خلال منع الجماعات المؤيدة للحماية الاقتصادية من اختطاف العملية السياسية المحلية من أجل مصالحها الضيقة؟ الواقع أنَّ كلا الأمرين صحيح إلى حدٍّ ما؛ فأحكام هيئة الاستئناف ليست فجة على الإطلاق كما يدَّعي العديد من النقاد؛ فهي تقر بضرورة احترام الاختلافات الوطنية في القيم والمعايير. لكن من ناحية أخرى، يؤدي عدم وجود خط واضح وفاصل يحدد نهاية الامتيازات المحلية وبداية الالتزامات الخارجية إلى خلْق صدع كبير. في الواقع، يمكن أن نعزوَ الأزمة المتفاقمة لشرعية النظام التجاري إلى هذا الغموض والالتباس الجوهري.
لكن الصعوبات التي فرضتها منظمة التجارة العالمية اصطدمت بغضب جماهيري عارم في نوفمبر ١٩٩٩ خلال اجتماع المنظمة في سياتل فيما وُصفت بأنها «قمة الغاز المسيل للدموع الوزارية»؛ حيث قامت طائفة متنوعة من المتظاهرين — تراوحت من العمال والمدافعين عن حقوق المستهلكين إلى الطلاب واللاسلطويين — بأعمال تخريبية خارج مكان انعقاد المؤتمر الوزاري، بينما كان وزراء مالية الدول الأعضاء يحاولون، عبثًا، إطلاق أُولى جولات المفاوضات التجارية منذ جولة أوروجواي. كان انهيار المحادثات ناجمًا عن تعنُّت الحكومات بقدر ما كان ناجمًا عن المظاهرات. وكان لهذا الصراع محوران أساسيان؛ الأول: أن البُلدان النامية شعرت بأنها انخدعت بنتائج جولة أوروجواي فسعت لتدارك الأمر بأن حاولت منع انطلاق المفاوضات التي أرادتها الدول الغنية في مجالات أخرى كالاستثمار، والبيئة، ومعايير العمل، وسياسة المنافسة، والشفافية في المشتريات الحكومية. والمحور الثاني: أن الولايات المتحدة اشتبكت في صراع مع الاتحاد الأوروبي (واليابان) بشأن إلغاء الحواجز والدعم الحكومي في المجال الزراعي.
كانت هناك حالات سابقة للتكامل العميق اعتمدت على مؤسسات لا يمكن تصوُّرها اليوم. تذكَّر مثلًا كيف ازدهرت التجارة في ظل المركنتلية أو الإمبريالية في القرن التاسع عشر. حينئذٍ كانت القواعد التي تفرضها قوًى خارجية، كالشركة التجارية أو الدولة المستعمِرة، هي التي تُبقي تكاليف المعاملات تحت السيطرة. أما في الوقت الحاضر، فإن نظام تعددية الأطراف الذي يشكل جوهر منظمة التجارة العالمية هو ما يمكن أن يكافئ تلك القوى. هذا أفضل كثيرًا بالطبع، لكنه مع ذلك يثير أسئلة صعبة مثل: من أين تأتي قواعد منظمة التجارة العالمية؟ كيف لنا أن نضمن أنها مصمَّمة لإفادة جميع الدول لا قلة معدودة منها؟ ماذا يحدث حينما تريد أو تحتاج الدول المختلفة قوانين مختلفة؟ هل يستطيع «أي» نموذج للتكامل العميق أن يثبت قابليته للاستمرار في حالة ما إذا كانت السياسة الديمقراطية لا تزال تُنظَّم على أسس وطنية؟
(٣) التجارة والأجور في العالم الواقعي
لا يغير علماء الاقتصاد آراءهم كثيرًا، ناهيك عن أنهم لا يحبون فعل ذلك. لكن كينز كان استثناءً، كعادته في العديد من الأمور.
لماذا غيَّر كروجمان موقفه عام ٢٠٠٨؟ لقد ذكر تغيرَين طرآ منذ منتصف التسعينيات شعر أنهما قد كثَّفا دور التجارة كقوة وراء توسيع فجوة التفاوت بين أفراد المجتمع. أولًا: أن واردات الولايات المتحدة من الدول النامية قد تضاعفت منذ التسعينيات بالنسبة إلى حجم الاقتصاد الأمريكي. ثانيًا: أن الأجور في الدول النامية التي بات المنتجون الأمريكيون ينافسونها أصبحت أقل بكثير من الأجور في الدول النامية المصدِّرة في العقود السابقة. بعبارة أخرى: الصين هي السبب في إحداث هذا الفارق؛ فقد اخترقت حصة كبيرة من السوق الأمريكية بينما لم تشكل الأجور الصينية سوى جزء يسير من نظيرتها في الولايات المتحدة (ذكر كروجمان أن النسبة بينهما ٣٪). تشير هاتان الحقيقتان إلى أن التجارة تمارس بالفعل ضغطًا هائلًا يدفع إلى تخفيض الأجور في الولايات المتحدة، ويضاف إلى ذلك التأثير الذي يُحدثه التغير التكنولوجي، لا سيما على أقل العمال نصيبًا في توزيع الدخل.
تذكِّرنا حجة بلايندر بالنقطة التي أشرت إليها سابقًا بشأن إعادة التوزيع الذي يمثل الجانب السلبي لمكاسب التجارة؛ فالثورة الصناعية الجديدة التي يتحدث عنها بلايندر تبشِّر بتحقيق فوائد اقتصادية ضخمة؛ نتيجة لأن قطاعات أكبر فأكبر من الاقتصاد سيعاد تنظيمها تماشيًا مع مبدأ الميزة النسبية. والنتيجة الحتمية لعملية إعادة الهيكلة هذه هي انعدام شعور العمال بالأمن الاقتصادي؛ إذ سيجد الكثيرون أن أجورهم انخفضت انخفاضًا دائمًا. لكننا نكرر مرة أخرى: لا ربح بلا ألم. وهذه الضغوط لن يجريَ تضخيمها إلا من قِبل النُّخب التي يصفها سَمرز بأنها شركات لا ولاء لها، أي عديمة الجنسية وحرة، والتي ستكون في وضع يمكِّنها من مساومة العمال على تخفيض الأجور والمعايير مقابل أن يستمروا في عملهم كما اعتادوا داخل أرض الوطن. لكن تحقيق نمو اقتصادي واسع النطاق يساعد على تقليل حدة هذه التوترات، إلا أن هذا الهدف يتطلب استراتيجيات تصمَّم محليًّا إلى جانب توافر المتسع اللازم للمناورة المحلية، كما كانت الحال في ظل اتفاقية بريتون وودز. ويشير بلايندر إلى أننا لا يمكننا أن نسلِّم بأن الفوائد الاقتصادية المنتظَرة من هذه الموجة الجديدة للعولمة سوف تعود على أكثر الناس وليس قلة منهم.
الحقيقة هي أننا لا نملك الاستراتيجيات المحلية والعالمية اللازمة لمواجهة اضطرابات العولمة؛ ونتيجة لذلك، فإننا نواجه الخطر المتمثل في أن تفُوق التكاليف الاجتماعية للتجارة المكاسب الاقتصادية الضيقة؛ مما يؤدي إلى إثارة رد فعل أكثر سوءًا وعنفًا إزاء العولمة.