الفصل الرابع

بريتون وودز والجات ومنظمة التجارة العالمية

التجارة في عالم مُسيَّس

إن السياسة التجارية مثار للنزاع لأن لها تأثيرات مهمة على توزيع الدخل داخل أي بلد، ولأنها تؤدِّي إلى صدامات بين القيم والقوانين في الدول المختلفة. لكن أي هذين الأمرين ما كان ليشكل أي أهمية لو كان من الممكن أن تنفصل السياسة التجارية عن السياسات الوطنية وتظل ميدانًا للتكنوقراطية، التي تمثل حلم خبراء الاقتصاد المؤيدين للتجارة الحرة. لكن هذا ما كان يومًا حال عالمنا الذي نحيا فيه؛ ولا يُتوقع أن نجد أنفسنا في عالم كهذا في المستقبل القريب. وكما رأينا من قبل، من وجهة النظر المركنتلية كان يُنظر إلى السياسة التجارية والكفاءة السياسية باعتبارهما شيئًا واحدًا ووجهين للعملة نفسها. بل حتى في أوج ازدهار الليبرالية الاقتصادية خلال القرن التاسع عشر، ظل انفصال السياسة عن السياسة التجارية محدودًا، وسرعان ما عاودت الحمائية الظهور حينما انهارت أسعار السلع الزراعية. وشهدت السياسة التجارية مزيدًا من التسييس خلال السنوات التي فصلت بين الحربين العالميتين. وكان عجز الحكومات عن إزالة أسباب الشكاوى المحلية من جانب أصحاب الأعمال والعمال والفلاحين في ظل الاقتصاد المفتوح أحد العوامل التي أدَّت إلى حدوث «الكساد الكبير».

وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها، كان جون مينارد كينز وهاري ديكستر وايت يبحثان عن وسائل لبلوغ المستحيل؛ إذ كيف كان يمكن استعادة الاقتصاد العالمي المفتوح في عالم باتت السيادة فيه للسياسات المحلية؟ كان كينز، النبيل الإنجليزي، قد بلغ مكانته المرموقة لكونه أبرز خبراء الاقتصاد بين أبناء جيله، وكونه معلقًا فطنًا على السياسة ورجالها في عصره. وكان وايت مسئولًا رسميًّا في وزارة الخزانة الأمريكية يحظى بإعجاب كبير، واكتُشِف في وقت لاحق أنه كان قد سرَّب معلومات سرية عن الدولة الأمريكية للاتحاد السوفييتي قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها. كان كلا الرجلين عازمًا على تفادي أخطاء الفترة التي فصلت بين الحربين العالميتين. وفيما يعد انعكاسًا للتفوق الاقتصادي الأمريكي، كان وايت، بصفةٍ خاصة، متحمسًا لتحرير الاقتصاد العالمي من القيود والضوابط المفرطة التي كانت مفروضة عليه خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، والتي ازدادت حدَّةً خلال الحرب. لكن هذين الرجلين البارزين كانا واقعيَّين وأدركا أن قواعد التجارة الدولية (والأموال الدولية، التي سنأتي على ذكرها في الفصل القادم) لا بد أن تتغير؛ فما عاد من الممكن أن نفرض الانفتاح الاقتصادي، ثم نتوقع أن تُعدَّل السياسات المحلية بطريقةٍ أو بأخرى؛ هذا إن كان ذلك ممكنًا في يوم من الأيام.

كان كينز قد كتب عملًا مميزًا في أوج اشتداد «الكساد الكبير» عام ١٩٣٣ يصرِّح فيه بأن رأيه في حرية التجارة تغير، وأنه اكتشف مؤخرًا أنه يفضل وجود درجةٍ ما من «الاكتفاء الذاتي الوطني». وقال كينز إنه كمعظم الإنجليز، كان مرتبطًا بمذهب حرية التجارة برابطةٍ تكاد تكون روحية؛ إذ يقول: «كنت أنظر إلى الانصراف المعتاد عن [حرية التجارة] على أنه حمق وعار.» لكنه حينما نظر فيما قاله خلال عشرينيات القرن العشرين دفاعًا عن حرية التجارة، لم يشعر بالقدر ذاته من الثقة فيما قال؛ فقد تغير توجُّهه، وبات يعتنق الرؤى الأكثر تشككًا إزاء التجارة، التي عبَّرت عنها الكثير من الكتابات خلال الثلاثينيات. إن الالتزام المطلق بحرية التجارة لم يكن منطقيًّا إلا حينما كانت المجتمعات خاضعة لحكم فئة ضيقة من الخبراء الفنيين، الذين كانوا مؤمنين بأن ثَمَّةَ نوعًا واحدًا فقط من الرأسمالية. وهذا ما عاد واقعيًّا، أو حتى مرغوبًا، في عالم باتت دوله تجرب تصورات أخرى للاقتصاد السياسي.1

أظهرت التجربة التاريخية أنه حينما تتصادم الاحتياجات المحلية مع متطلبات الاقتصاد العالمي، يكون النصر في النهاية حليف الاحتياجات المحلية. وقد أدرك كينز ووايت أن مِن الأفضل تقبُّل ذلك وتزويد النظام بصمامات أمان بدلًا من تجاهله والمجازفة بالبقاء عرضة للانهيار التام.

(١) نموذج بريتون وودز

أصبح النظام الذي وضعه كينز ووايت يُسمى بريتون وودز، نسبة إلى اسم بلدة في مدينة نيوهامشير التقى فيها كينز ووايت ومسئولون آخرون من أربعٍ وأربعين دولة في يوليو ١٩٤٤ في مؤتمرٍ لعمل مسودة للقواعد الجديدة. كانت اتفاقية بريتون وودز عملًا مذهلًا في الهندسة التأسيسية؛ ففي غضون نحو ثلاثة أسابيع، قدَّم كينز ووايت لاقتصاد العالم فلسفة اقتصادية جديدة وأنشآ منظمتين دوليتين جديدتين: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. كانت الاتفاقية التي عُقدت في بريتون وودز ستحكم اقتصاد العالم طوال العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وبعد فترة طويلة من حل النظام خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، سيظل مصطلح بريتون وودز تذكيرًا شجيًّا بما يمكن أن تحققه المداولات الجماعية على المستوى العالمي.

لم يكن كينز ووايت مدفوعَين بالكامل باعتبارات عالمية كوزموبوليتانية، بل كانت الدوافع السياسية لبلدَيهما تجول بخاطرَيهما إلى حدٍّ بعيد؛ إذ كان كينز يلمس تراجع بريطانيا الاقتصادي واعتمادها على الولايات المتحدة وبذل قصارى ما يستطيع لتغليب مصالح بريطانيا على تلك القيود. وقدَّم وايت قضية تجارة أمريكا واستثماراتها، وعمل على تعزيز سطوتها في المنظمتين الدوليتين الجديدتين. وعند مرحلة معينة، عيَّن وايت منفردًا حصص تصويت القوى القيادية (الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي والصين)، وعهد إلى أحد خبراء الاقتصاد العاملين لديه بأن يعمل طوال الليل كي يتوصل إلى حل الصياغة والتبرير الاقتصاديَّين اللذين من شأنهما أن يتمخَّضا عن هذه الحصص.2 لكن الاتفاقية التي انبثقت عن بريتون وودز تجاوزت المصالح القومية الضيقة وحققت أكثر بكثير من مجرد تعزيز الهيمنة الاقتصادية الأمريكية.
إن ما بعث الحيوية في النظام الجديد هو تلك التسوية الدقيقة التي تمثَّلت في السماح بقدرٍ كافٍ من التنظيم الدولي، والتقدم نحو تحرير التجارة من أجل ضمان نشاط التجارة العالمية، وفي الوقت نفسه منح الحكومات متسعًا رحبًا كي تلبيَ الحاجات الاجتماعية والاقتصادية على المستوى المحلي.3

لا بد للسياسة الاقتصادية الدولية أن تخضع لأهداف السياسة المحلية — من تشغيل كامل ونمو اقتصادي وعدالة وضمان اجتماعي وبناء دولة الرفاهية — وليس العكس. وهكذا يكون الهدف هو تحقيق عولمة معتدلة، لا عولمة مفرطة.

كان أبرز ما أسهمت به أمريكا في النظام الاقتصادي الدولي لفترة ما بعد الحرب هو تعدُّدية الأطراف، وضع القواعد من خلال منظمات دولية، استنادًا إلى مبدأ أساسي هو: عدم التمييز. وهذا عَكَسَ إلى حدٍّ ما تفضيل أمريكا التقيد بالقانون على العلاقات المبنية على أغراض، فيما يُعد انعكاسًا خارجيًّا لدولة «الصفقة الجديدة» ذات الطابع التنظيمي، ورغبة الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت في مقاومة دعاة الانعزالية المحليين من خلال ربط أمريكا ومصالحها بمنظمات دولية.4 ما يضارع ذلك أهميةً أن جهود وايت لدعم تعددية الأطراف وعدم التمييز استهدفت التدابير التمييزية التي مارستها بريطانيا العظمى مع المستعمرات، والتي شكلت عقبة أمام التوسع التجاري الأمريكي. وكما هو متوقع، قاوم كينز تجريد بلاده من هذه التمييزات، لكن في نهاية الأمر ساد ما أرادته أمريكا.

كانت تعددية الأطراف تعني أن إنفاذ القواعد ونظم المعتقدات سيعملان من ذلك الحين وما بعده من خلال مؤسسات دولية — صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة المعروفة اختصارًا باسم «الجات» — لا من خلال سياسة القوة المجردة أو الحكم الإمبريالي. وكان هذا ابتكارًا في غاية الأهمية. وبالرغم مما كان لأمريكا من تأثير لا يُنكر، وهبت تعددية الأطراف هذه المؤسسات درجةً ما من الشرعية جعلتها مستقلة عن السلطة الأمريكية التي دعمتها في بادئ الأمر. لم يحدث قط أن صارت مستقلة بحقٍّ عن الولايات المتحدة وغيرها من القوى الاقتصادية الكبرى، لكنها أيضًا لم تكن امتدادًا كاملًا لهذه القوى. ولعبت دورًا مهمًّا في وضع القواعد وإنفاذها وفي تشريع الأدوار. لقد منحت تعددية الأطراف صوتًا للدول الأصغر والأضعف، وحمت مصالحها على نحوٍ غير مسبوق؛ ومن ثَمَّ انتهى الأمر بالأمريكيين، على عكس البريطانيين الذين سبقوهم، بأن صاروا يوجدون بنية تحتية مؤسسية للاقتصاد الدولي من شأنها أن تفوق سيطرتهم المطلقة قدرةً على الصمود.

كانت اتفاقية الجات تشكل التجسيد المؤسسي لتعددية الأطراف في مجال التجارة خلال الخمسين سنة اللاحقة لمؤتمر بريتون وودز. ولم تكن سوى جزء مما كان من المفترض أن يصبح منظمة أكثر طموحًا؛ هي منظمة التجارة العالمية. شملت المنظمة المقترحة اتفاقات بشأن استقرار أسعار السلع الأساسية ومكافحة الاحتكار الدولي وعدالة قوانين العمال، لكنها تعثرت في السياسة المحلية الأمريكية؛ فقد خشي الكونجرس من أن يزداد طغيانها على الأولويات الداخلية المحلية للبلاد. أما الجات فعلى الرغم من أنها لم تكن قد أُسست رسميًّا بوصفها منظمة مكتملة كصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، فقد أدارتها أمانة صغيرة الحجم في جنيف. وهذا سمح لها بأن تصبح فعليًّا المنتدى المتعدد الأطراف الذي يشرف على تحرير التجارة العالمية.

ويالَلنجاح المدوي الذي تحقق! فرغم بطء البداية، نجحت الجولات المتعاقبة من المحادثات التجارية المتعددة الأطراف (ثماني جولات بين عامَي ١٩٧٤ و١٩٩٥) في إلغاء قدر كبير من قوانين تقييد الاستيراد السارية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وتخفيض التعريفات الجمركية عن المعدلات المرتفعة التي بلغتها في فترة ما بعد الحرب.5 وكفل شرط «الدولة الأولى بالرعاية» استفادة كل الأطراف الموقِّعة على اتفاقية الجات من إرخاء القيود هذا، بصرف النظر عن مدى نشاطها في المشاركة في المحادثات. بطبيعة الحال ظلت السياسات التجارية الداخلية مثارًا للنزاع لكن دون أهمية بارزة في السياسة الداخلية. والأرقام خير من يخبرنا بالقصة؛ فقد نما حجم التجارة العالمية بمعدل سنوي بلغ نحو ٧٪ بين عامَي ١٩٤٨ و١٩٩٠، وهو معدل غير مسبوق في سرعته. توسع الإنتاج أيضًا بنسبةٍ لم يسبق لها مثيل في الدول الغنية والفقيرة على حدٍّ سواء؛ الأمر الذي كان سببًا للنمو التجاري السريع ونتيجة له أيضًا. ومن ناحية اتساع التطور الاقتصادي وعمقه، طغى نظام بريتون وودز على كل الفترات السابقة، بما فيها فترة معيار الذهب وعصر حرية التجارة إبَّان القرن التاسع عشر. ولو كان ثَمَّةَ عصر ذهبي شهدته العولمة، لكان ذاك.

لكن ثَمَّةَ أمرًا وحيدًا شاب كلَّ هذا: أن سياسات الجات لم تهدف مباشرة لكل هذا القدر الوافر من العولمة؛ فكما رأينا، تتطلب العولمة تخفيضًا ملحوظًا في تكاليف المعاملات بين الدول في مجالَي التجارة والتمويل. وقد حدث هذا بالفعل في مناطق معينة؛ إذ كانت حرية التجارة في السلع المصنَّعة فيما بين الدول الصناعية تتزايد على نحوٍ ملموس ومطَّرد داخل إطار محدد من الضوابط المهمة (انظر أدناه). وواصلت تكاليف النقل انخفاضها. لكن صانعي السياسة لم يُبدوا طموحًا كافيًا في العمل على زيادة التحرر في إطار نظام بريتون وودز؛ إذ ظلت قطاعات كبيرة من تجارة العالم إما منفصلة تمامًا عن نطاق الاتفاقات المتعددة الأطراف، أو محمية باستثناءات سخية عن الاتفاقات القائمة. كان الهدف هو زيادة حرية التجارة في بعض المناطق، لا تحرير التجارة على الإطلاق.

لكن ما دفع العولمة قدمًا هو بيئة النمو الاقتصادي والعدالة والأمن والاستقرار، التي ساعد نظام بريتون وودز على إيجادها؛ فقد مهَّد النمو واسع النطاق الطريق أمام العولمة لأنه ساعد على تفادي الجوانب السلبية لما تُحدثه التجارة من تأثيرات توزيعية. فتلاطم الأمواج يستحيل غيرَ ذي ضرر إذا ما جاءت موجة مدٍّ سريعة من الفرص الاقتصادية وساعدت على رفع كل القوارب. وهكذا كانت السياسات الوطنية تشجع العولمة في معظم الأحيان باعتبارها ناتجًا ثانويًّا عما يعم الجميع من نمو اقتصادي مصحوب بشيء من الانفتاح البسيط. إن نجاح بريتون وودز يشير إلى أن الاقتصادات الوطنية السليمة تعمل على زيادة حيوية الاقتصاد العالمي، حتى إذا وُجدت ضوابط تحد من حركة التجارة.6

ينبغي النظر أيضًا إلى القائمة الطويلة من القطاعات التي لم يكد التحرير يمسها؛ فقد أُبعد القطاع الزراعي عن إطار محادثات الجات وظل حافلًا بالحواجز الجمركية وغيرها، التي ظهر أكثرها قبحًا في شكل تقلُّب حصص الاستيراد بهدف الحفاظ على استقرار الأسعار المحلية عند مستويات أعلى بكثير من نظيرتها في الدول المصدِّرة. وبالمثل أفلتت معظم الخدمات (التأمين والأعمال المصرفية والبناء والمرافق وما شابه ذلك) من موجة التحرير. أما القطاعات المصنِّعة المحرَّرة، التي بدأت تواجه تهديدًا تنافسيًّا خطرًا من جانب المصدِّرِين الذين يملكون ميزة انخفاض التكلفة وارتفاع الإنتاجية، فسرعان ما تلقَّت الحماية بدلًا من أن تواجه مصيرها. وهكذا كانت صناعتا النسيج والملابس في الدول المتقدمة منذ عام ١٩٧٤ وما بعده تحظى بحماية ما سُميت «اتفاقية الألياف المتعددة»، التي شملت مجموعة من الحصص المتفق عليها التي تحدد حجم واردات المنسوجات من الدول النامية. وشهدت ثمانينيات القرن العشرين أيضًا انتشار ما أُطلق عليها «قيود التصدير الطوعية»، وهي تدابير يتعهد بموجبها مصدِّرو السيارات والصلب وبعض المنتجات الصناعية الأخرى اليابانيون (بالطبع) إبقاء صادراتهم محددة بحصص معينة.

في الوقت نفسه، كانت الدول النامية نفسها حرة تمامًا في أن تفعل بسياساتها التجارية ما طاب لها. ولم يكن مطلوبًا من هذه الدول، كما هو معتاد، أن تقدم «تنازلات» جمركية خلال محادثات الجات على الرغم من أنها استفادت من تخفيضات دول أخرى تعريفاتها الجمركية بموجب شرط «الدولة الأولى بالرعاية». بل ووَجدت في مختلِف بنود اتفاقية الجات ملاذًا أتاح لها اللجوء لفرض قوانين حظر على الواردات على نحوٍ دائم بالفعل.

حتى فيما يخص الدول الصناعية، حوت البنود ثغرات واسعة للغاية؛ إذ كانت أي شركة تجارية توكل مكتب محاماة جيدًا تستطيع أن تشتريَ لنفسها حماية من خلال بنود «مكافحة الإغراق» أو بنود الوقاية في اتفاقية الجات. كانت تدابير «مكافحة الإغراق» تحديدًا محط استنكار من وجهة نظر التجارة الحرة؛ فقد كان بمقدور الدولة المستورِدة أن تفرض رسومًا إذا رأت أن المصدِّر باع منتجاته «بأقل من القيمة العادية» وتسبَّب في «الإضرار» بالصناعة المنافسة داخل البلاد. وكان بمقدور السلطات المحلية أن تستغل مفهوم «بأقل من القيمة العادية» وتتلاعب به بسهولة. وكان من الممكن فرض التعريفات العقابية حتى لو كان السلوك المعاقب عليه ممارسة تجارية معتادة، كالبيع بأقل من كامل سعر التكلفة في فترات كساد الدورة الاقتصادية، أو إذا كان الطرف المخالف غير قادر على احتكار السوق الداخلية. لقد استُغلت هذه القوانين على نطاق واسع — وكما هو متوقع — من جانب الشركات المحلية للحصول على الحماية متى شاءت.

أخيرًا، لم تكن سلطات الإنفاذ التي تملكها اتفاقية الجات سوى مزحة؛ فقد كان في استطاعة أي حكومة ترى أن أخرى أخلَّت بقوانين الاتفاقية أن تطالب هيئة مستشارين من الجات بالبت في الأمر. وإذا حكمت الهيئة للمدعي وأقرَّ تقريرها أعضاء الجات، يُلزم الطرف الجاني بأن يغير السياسة المضرة وإلا يحق للمدعي أن يحصل منه على تعويض. كان الشرط الوحيد أن يكون التصديق على تقرير اللجنة قرارًا جماعيًّا، بحيث يكون على كل عضو منفرد من أعضاء اتفاقية الجات، بما في ذلك الدولة التي رُئي أنها أخلت بالقوانين، أن يوقِّع عليه. وإذا كان الطرف المدعى عليه من ضمن لجنة المستشارين، يمكن الرهان بثقة على أنها لن تصدر حكمًا ضدَّه.

وهكذا تركت قوانين الجات قطاعات كاملة من تجارة العالم دون تغطية، وكانت ضعيفة حيثما وُجدت، وغير قابلة للإنفاذ على نحوٍ واضح. تسببت هذه السمات في إضعاف كفاءة المنظومة، وجعلت لاحقتها منظمة التجارة العالمية، التي تولَّت زمام الأمور عام ١٩٩٥، أكثر جاذبية بكثير في نظر التجارة الحرة. لكن انتقاد عدم تحقيق نظام الجات الكثير على صعيد التجارة الحرة سيكون حكمًا من منظور غير صحيح؛ فربما لم يكن المقصود بنظام الجات «تقليل الشراكات الاقتصادية بين الدول»، وهي الغاية التي أظهر كينز تأييدًا لها في فترة ما بين الحربين العالميتين. لكنها بالتأكيد صُممت كي تتيح لكل دولة تمارس التجارة مجالًا لتحقيق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية وهي محررة نسبيًّا من القيود الخارجية، حتى لو كان ذلك يجري داخل إطار فضفاض من التعاون الدولي. ومتى هددت التجارة الصفقات التوزيعية داخل البلاد كان مصيرها أن تُنحَّى جانبًا. أطلق جون راجي، أبرز محللي عصر بريتون وودز، على هذه الآلية «تسوية الليبرالية الضمنية». كتب راجي يقول: «على عكس القومية الاقتصادية في فترة الثلاثينيات، سيكون النظام ذا طابع متعدد الأطراف، وعلى عكس ليبرالية معيار الذهب والتجارة الحرة، ستكون تعدديته قائمة على التدخلية المحلية.»7
كان مجال المناورة الكبير الذي وفَّرته هذه القوانين التجارية يسمح للدول المتقدمة بأن تبنيَ ما يلائمها من أشكال الرأسمالية حول مقاربات واضحة المعالم، تجمع بين الحكم وأسواق العمالة والأنظمة الضريبية وعلاقات الحكومة بالشركات وتدابير بناء دولة الرفاهية؛ فكان أن ظهرت، بحسب التعبير الذي صكه عالمَا السياسة بيتر هول وديفيد سوسكيس، «تنويعات الرأسمالية»؛8 إذ كانت الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا أو السويد كلها اقتصادات قائمة على السوق، لكن كانت المؤسسات التي شكلت أساسًا لأسواقها مختلفة إلى حدٍّ بعيد، وتحمل سمات قومية جليَّة؛ ففي قارة أوروبا وحدها كان هناك ثلاثة أنواع مختلفة من الرأسمالية على الأقل: النموذج الألماني لاقتصاد السوق الاجتماعي، ودول الرفاهية الاسكندنافية، والنظام الفرنسي القائم على «التخطيط التأشيري» وكثرة القوانين. مضت اليابان أيضًا في طريقها وبَنَتْ قطاعًا تصديريًّا ذا تنافسية ضخمة، إلى جانب اقتصاد تقليدي منظم ومحمي. ظلت الولايات المتحدة النموذج الأصلي الرئيسي لاقتصاد السوق الليبرالي، على الرغم من أن ليبراليتها الاقتصادية لم تكن لديها الطموح الذي كانت ستكتسبه في ثمانينيات القرن العشرين.

كانت الأمور على الشاكلة نفسها بدرجة كبيرة في العالم النامي؛ حيث كانت الجهود الوطنية موجهة نحو تشجيع التصنيع والنمو الاقتصادي. وفي غياب الضوابط الخارجية، امتلكت الدول النامية — سواءٌ النوع الانعزالي منها أو النوع المنفتح على العالم — حرية تطبيق مجموعة واسعة النطاق من السياسات الصناعية كي تصلح اقتصاداتها وتقلل من اعتمادها على الموارد والسلع الطبيعية؛ وبذلك صار كثير منها قادرًا على بلوغ نموٍّ مرتفع عن طريق إنتاج السلع الصناعية.

لم يكن هدف الجات قط زيادة حرية التجارة إلى الحد الأقصى، بل ممارسة أقصى قدر من التجارة التي تتوافق مع انتهاج كل دولة طريقتها الخاصة، وقد أثبت النظام نجاحه المذهل في هذا الصدد.

ومن هذا المنظور، بدأنا ندرك نقطة أساسية تتعلق بنظام بريتون وودز: أن ما كان «الأصوليون» ينظرون إليه أكثر فأكثر على أنه «انتقاص» من مبادئ حرية التجارة؛ كان في حقيقة الأمر طرقًا لصيانة النظام. فرسوم مكافحة الإغراق، واتفاقية الألياف المتعددة، وقيود التصدير الطوعية لم تكن تتماشى مع الليبرالية الاقتصادية. وهكذا ملامح أخرى كثيرة من ملامح اتفاقية الجات. واستبعاد الزراعة والخدمات كليًّا من المفاوضات التجارية، أو — ما هو أغرب من وجهة نظر التجارة الحرة — المبدأ السائد بأن تخفيض أي بلد ما يفرضه من حواجز استيراد يعتبر «امتيازًا» لشركائه التجاريين؛ لم يكونا منطقيين في ضوء المذهب الاقتصادي القياسي. لكن في الواقع، لم تصبح التجارة حرة (وتبقى كذلك) إلا حيثما لم تُثِرْ سوى القليل من التحدي للقوانين أو التفضيلات التوزيعية أو القيم المحلية. وكثير من التجارة التي مورست في السلع المصنَّعة فيما بين دول متقدمة ذات مستويات متماثلة من حيث الدخل لم تُثِرْ سوى قليلٍ من مسائل العدالة التوزيعية التي واجهناها في وقت سابق. ثَمَّةَ أنواع أخرى من التجارة — في مجال الزراعة، مثلا، أو مع البلدان النامية — كانت مختلفة لأنها صنعت مواجهات حادة جعلت الجماعات المحلية بعضها ضد بعض؛ فهددت جماعات المزارعين أو منتجي الملابس أو العمال ذوي المهارات المتدنية بخسائر حادة في دخولهم؛ لذا خضعت هذه الأنواع من التجارة لقيود صارمة. وفي إطار نظام الجات استقرت الأولويات بقوة في جدول أعمال السياسات المحلية، وهذا أسفر عن نجاح النظام وأسفر أيضًا عن خروجه الدائم على منطق التجارة الحرة.

(٢) نظام منظمة التجارة العالمية: السعي لإحداث التكامل العميق

بشَّر إنشاء منظمة التجارة العالمية عام ١٩٩٥ — بعد ما يقرب من ثماني سنوات من المفاوضات، وفيما يعتبر تتويجًا لما عُرف باسم «جولة أوروجواي» (آخر جولة محادثات في ظل اتفاقية الجات) — بظهور فهم مختلف تمامًا. ومع بداية العولمة المالية عام ١٩٩٠ تقريبًا، صارت منظمة التجارة العالمية تمثِّل السعي إلى إحداث شكل جديد من العولمة يعاكس أولويات بريتون وودز، هو شكل العولمة المفرطة. كانت الإدارة الاقتصادية المحلية في طريقها لأن تخضع للتجارة والتمويل الدوليَّين، وليس العكس. وأضحت العولمة الاقتصادية — أي الاندماج الدولي لأسواق السلع ورأس المال (لكن ليس العمالة) — غاية في حد ذاتها تطغى على جداول الأعمال المحلية.

وكان فحوى النقاشات السياسية يعكس هذا التغير أكثر فأكثر؛ فمنذ ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها، حينما كان المرء يرغب في الحديث عن قضيةٍ ما سواء بالتأييد أو بالاعتراض، لم يكن ثَمَّةَ ما هو أفضل من أن يزخرف قضيته بكلمات مثل «هذا ما تحتاجه القدرة التنافسية الدولية لبلادنا.» فصارت العولمة ضرورة حتمية، وهو ما تطلب من جميع الدول السعي إلى استراتيجية مشتركة لتخفيض الضرائب المفروضة على الشركات، وإحكام السياسات الضريبية، ورفع القيود، وتقليص نفوذ النقابات.9

لكن ماذا حدث جرَّاء هذا التحول؟ إلى حدٍّ ما، صارت اتفاقية الجات ضحية لنجاحها. أما النخب السياسية التجارية والمتخصصون فقد عزَوا الرخاء الذي عمَّ خلال فترة ما بعد الحرب إلى تحرير التجارة المتعدد الأطراف. وكانت منظمة التجارة العالمية تمثِّل رغبتهم في تنفيذ التحرير «على نحوٍ أفضل» عن طريق تنقيته من كثير من الشوائب والنواقص التي ناقشناها في الجزء السابق. طالبت الشركات المتعددة الجنسيات بقوانين عالمية أوسع نطاقًا من شأنها أن تيسِّر إجراء عملياتها الدولية. وسَعت الدول النامية لأن تكون محطات تصدير، وأصبحت أكثر استعدادًا للانصياع لهذه القوانين في سبيل سعيها لجذب الاستثمار الأجنبي.

وقد تضافر تحوُّل أيديولوجي هام مع هذه التغييرات؛ إذ كانت ثمانينيات القرن العشرين العقدَ الذي شهد ثورات رونالد ريجان ومارجريت تاتشر. كان اقتصاد السوق الحرة في صعود؛ مما أسفر عن ظهور نماذج مختلفة كالتي أُطلق عليها «إجماع واشنطن»، أو أصولية السوق أو الليبرالية الجديدة. وبصرف النظر عن التسمية، حشد نظام المعتقدات هذا تفاؤلًا مفرطًا إزاء ما يمكن أن تحققه الأسواق من تلقاء نفسها، وروج رؤية شديدة القتامة لقدرة الحكومات على العمل بطرق مرغوبة اجتماعيًّا. كانت الحكومات تقف في طريق الأسواق بدلًا من أن تعينها في عملها؛ ومن ثَمَّ كان لا بد من تخفيض حجم الحكومة. أدت هذه الرؤية إلى شيوع الرؤية المخلة في التبسيط الداعمة للتجارة الحرة — وهي الرؤية التي روجها أساتذة الاقتصاد بين الصحفيين — على حساب الرؤية الأكثر دقة. واعتبرت أي عقبات تعترض حرية التجارة مفاسد يجب التخلص منها، ومحاذير لعينة.

في المقابل، استشرفت منظمة التجارة العالمية إحراز خطوة واسعة على صعيد الطموحات المتعلقة بالعولمة الاقتصادية، وحدوث إعادة توازن مثيرة لما تضطلع به الدول القومية من مسئوليات محلية ودولية. وبمجرد اكتمال جولة أوروجواي للمفاوضات التجارية أسفرت عن اتفاق مثير للإعجاب، وأشمل بكثير من أي إنجاز آخر تحقق في إطار اتفاقية الجات؛ فقد تم ضم الزراعة وبعض الخدمات — وهما المجالان اللذان أفلتا من المفاوضات التجارية من قبل — بقوةٍ تحت لواء التحرير. وفي مجال الخدمات، طُلب من الدول أن تحدد المجالات المستعدة لفتحها، وتبايَن مدى التحرير عبر مختلِف البلدان والقطاعات مثل البنوك والاتصالات. وفي مجال الزراعة، بدأ إلغاء حصص الاستيراد تدريجيًّا لتحل محلها تعريفات جمركية ودعم حكومي. ومنذ ذلك الحين وما بعده احتل العمل على إلغاء الحصص الزراعية والتعريفات والدعم الحكومي مركز الصدارة. أيضًا كان نظام الحصص الذي فرضه «اتفاق الألياف المتعددة» — الذي كان يتحكم في تجارة المنسوجات والملابس — في طريقه إلى الإلغاء تدريجيًّا في غضون عقد من الزمن. وعلى الرغم من أن التحرير المبدئي في جميع هذه المجالات ظل محدودًا، كانت تلك خطوة مهمة قد أحرزت.

يضاف إلى ذلك أن قواعد جديدة ظهرت في مجال براءات الاختراع وحقوق النشر والتأليف تفرض على الدول النامية توفيق قوانينها مع قوانين الدول الغنية، وأصبحت اللوائح المحلية للصحة والسلامة تخضع لتدقيق منظمة التجارة العالمية في حال عدم انسجامها مع نظيرتها من اللوائح الدولية، وبات من الممكن سحب شرعيتها حال افتقارها «التبرير العلمي» أو تطبيقها بطرق لا تُسفر عن أقل قدر ممكن من التأثير السلبي على التجارة. وُضعت قواعد أكثر صرامة تقيِّد استخدام الدعم الحكومي، وحُظرت القواعد الحكومية التي تفرض على الشركات استخدام مكونات محلية أو تقليل وارداتها عن صادراتها. ولأول مرة، تعيَّن على الدول النامية، باستثناء أكثرها فقرًا، أن تمتثل لقواعد تُقيد بعض المجالات المهمة للسياسة الصناعية تقييدًا صارمًا.

وربما يكون الإنجاز البارز الذي أسفرت عنه جولة أوروجواي، والميزة الجليَّة التي اتسمت بها منظمة التجارة العالمية، هو استحداث نهج جديد لتسوية النزاعات؛ فقد أُنشئت محكمة استئناف جديدة يمكن أن تلجأ إليها البلدان التي تَصدر ضدها قرارات من هيئة المستشارين. لكن قرار هيئة الاستئناف — سواءٌ كان في مصلحة المدعي أو مصلحة المدعى عليه — يصبح نهائيًّا ونافذًا ما لم يُعترض عليه اعتراضًا جماعيًّا من جانب كل عضو في المنظمة. وبينما كان التهرب من أي حكم قضائي يَصدر عن النظام التجاري في ظل الجات أمرًا في غاية السهولة، فإنه بات من المستحيلات في ظل منظمة التجارة العالمية. لكن كما أظهرت الممارسة فيما بعد، كان من الممكن أن تكون العملية طويلة الأمد ومفتوحة لأساليب المماطلة. مع ذلك لا سبيل للتهوين من شأن أهمية نظام تسوية المنازعات الجديد؛ لأنه يأخذ تعددية الأطراف إلى آفاق جديدة. وهذا ما يؤكده أستاذَا القانون روبرت هاوز وسوزان إيسرمان بقولهما:
لا مكان آخر يُبت فيه في النزاعات الدولية من قِبل قضاة نشأ بقوة أكبر أو تطور بسرعة أكبر. وتُعد أحكام تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية إجباريةً وملزمة كما هي الحال في أي محكمة محلية — لكن خلافًا لما يحدث في معظم الهيئات الدولية — حيث لا خيار أمام الدول الأعضاء سوى الامتثال لها والقبول بما يترتب على الحكم الذي تُصدره المنظمة من تبعات.10

يتعين على الدول التي تخسر قضاياها أن تكف عن تطبيق السياسات المخالفة أو تقدم التعويض اللازم للجانب المتضرر. وهذا يسري على كل الدول سواءٌ الكبيرة القوية منها أو الصغيرة؛ فمنظمة التجارة العالمية هي الكيان الدولي الأوحد الذي نجح في أي وقت مضى في إجبار الولايات المتحدة على تغيير سياساتها، مثلما نجح في دفعها لذلك في المسائل المتعلقة بما تفرضه من ضرائب وما تطبقه من سياسات بيئية.

لكن بِمَ كانت تتعلق قضايا منظمة التجارة العالمية؟ في ظل السياسات التجارية لنظام الجات كانت غالبية القضايا تتعلق بالتعريفات الجمركية وحصص الاستيراد. لكن مع زوال حصص الاستيراد والتعريفات أضحت منظمة التجارة العالمية أداة لمكافحة كل أشكال تكاليف المعاملات التي تعوق سبيل التجارة الدولية، بما فيها الاختلاف بين الدول في الضوابط والمعايير. وفي إطار منظمة التجارة العالمية، بدأت النزاعات المتعلقة بالمسائل التجارية تطال الشئون الداخلية التي كانت من قبلُ محصنة ضد الضغط الخارجي؛ فبات بمقدور الشركاء التجاريين الاعتراض على النظم الضريبية وقواعد سلامة الأغذية واللوائح البيئية وسياسات الترويج الصناعي داخل أي دولة.

كانت القضية التي طُرحت أمام منظمة التجارة العالمية بشأن الحظر الأوروبي على لحوم الأبقار المعالَجة بالهرمونات؛ إحدى أكثر النزاعات حدَّة، وهي تشكل خير مثال يوضح تزايد معايير الانضباط في التجارة الدولية؛ فقد كانت توجيهات الاتحاد الأوروبي التي دخلت حيز التنفيذ عام ١٩٨٩ — عقب سنوات من الضغوط المكثفة من جانب جماعات المستهلكين — قد فرضت حظرًا صارمًا على صادرات لحوم الأبقار الأمريكية إلى أوروبا؛ فسعت الولايات المتحدة إلى طلب الدعم من المؤسسات الدولية في منع هذا الإجراء الأوروبي، لكنَّ أيًّا منها لم تكن على استعداد لذلك أو قادرة عليه. لجأت الولايات المتحدة أولًا إلى المنظمة العالمية لصحة الحيوان التي رفضت النظر في مسألة الهرمونات. ثم تمكَّن الأوروبيون بسهولةٍ من عرقلة سير شكوى أخرى تقدمت بها الولايات المتحدة لنظام الجات — كان ذلك قبل ظهور منظمة التجارة العالمية إلى النور — وكذلك تبيَّن أن «هيئة الدستور الغذائي» (وهي سلاح مشترك لمنظمتَي الأغذية والزراعة والصحة العالمية التابعتين للأمم المتحدة) هي الأخرى لا تملك سلطة حيال هذا الأمر؛ فقد خسرت الولايات المتحدة عام ١٩٩١ اقتراعًا هناك بشأن وضع معيار عالمي يقر سلامة أربعة من الهرمونات التي تُستخدم في إنتاج لحوم الأبقار. لكن التغيُّر الأهم هو ذلك الذي تمخضت عنه المفاوضات بشأن الاتفاق على تطبيق التدابير الصحية وتدابير الصحة النباتية كجزء من منظمة التجارة العالمية؛ وهكذا وُضعت أخيرًا مجموعة من القواعد العالمية وأُسس محفل دولي ذو سلطة كفيلة بأن تتحكم في اللوائح الداخلية في كل دولة. كان أحد أفضل قرارات هيئة استئناف منظمة التجارة العالمية أنها حكمت عام ١٩٩٨ بأن الحظر الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي على استيراد لحوم الأبقار المعالَجة بالهرمونات يخل بقوانين التجارة الدولية لأنه لا يستند إلى تقييم علمي للمخاطر المترتبة على استخدامها.11 برزت التداعيات السياسية لهذا الحكم على الفور. ولا تزال القضية مثار اهتمام بين مناهضي منظمة التجارة العالمية؛ بسبب عدم تأييدها الواضح للنهج الاحترازي الذي ينتهجه الاتحاد الأوروبي إزاء سلامة المواد الغذائية. لم يمتثل الاتحاد الأوروبي حتى الآن لحكم منظمة التجارة العالمية؛ ما يجعله عرضة لما يمكن أن تتخذه الولايات المتحدة من تدابير ثأرية.

ثَمَّةَ أمثلة أخرى كثيرة توضح نطاق سلطة منظمة التجارة العالمية؛ فقد حكمت في إحدى الشكاوى التي عُرضت عليها مؤخرًا بأن المعايير الأمريكية لانبعاثات الوقود تشكِّل تمييزًا ضد البنزين المستورد. وحكمت بأن النظام الضريبي الياباني يخل بالقوانين؛ لأن الضريبة التي يفرضها على المشروب الرُّوحي القومي «الشوتشو» تقل عن تلك التي يفرضها على المشروبات المستوردة كالبراندي أو الفودكا أو الويسكي. وحكمت لصالح دعوى طعن على حظرٍ فرضه الاتحاد الأوروبي على المنتجات المعدَّلة وراثيًّا استنادًا إلى مسوغات تماثل تلك التي أُخذت في الاعتبار في قضية لحوم الأبقار المعالَجة بالهرمونات. وفي قضية شهيرة أخرى، رأت المنظمة أن الحظر الأمريكي على استيراد الروبيان الذي يجري اصطياده دون استخدام جهاز «إبعاد السلاحف البحرية» تمييز «تعسفي ولا مبرر له» ضد المصدِّرين الآسيويين، وحكمت بأن برامج تعزيز صناعة السيارات في الهند وإندونيسيا والصين، وأن قوانين براءات الاختراعات في مجال المستحضرات الصيدلانية والمنتجات الكيميائية في الهند، وأن الإعانات الائتمانية التي تقدم لصناعة الطائرات في البرازيل؛ تتعارض جميعها مع قواعد المنظمة. (أدت جميع هذه الأحكام إلى تعديل تلك السياسات باستثناء السياسات المتصلة بقضية لحوم الأبقار، التي لا تزال تنتظر الحل.)

أثارت هذه الأحكام حنق دعاة مناهَضة العولمة وجعلت منظمة التجارة العالمية محط استنكار في العديد من الأوساط. لكن هل يفسد نظام التجارة الديمقراطية من خلال السماح للقضاة في جنيف بتجاهل التشريعات المحلية، كما يتهمه نقاده؟ أم أنه يساعد الدول على تحقيق نتائج أفضل من خلال منع الجماعات المؤيدة للحماية الاقتصادية من اختطاف العملية السياسية المحلية من أجل مصالحها الضيقة؟ الواقع أنَّ كلا الأمرين صحيح إلى حدٍّ ما؛ فأحكام هيئة الاستئناف ليست فجة على الإطلاق كما يدَّعي العديد من النقاد؛ فهي تقر بضرورة احترام الاختلافات الوطنية في القيم والمعايير. لكن من ناحية أخرى، يؤدي عدم وجود خط واضح وفاصل يحدد نهاية الامتيازات المحلية وبداية الالتزامات الخارجية إلى خلْق صدع كبير. في الواقع، يمكن أن نعزوَ الأزمة المتفاقمة لشرعية النظام التجاري إلى هذا الغموض والالتباس الجوهري.

لكن الصعوبات التي فرضتها منظمة التجارة العالمية اصطدمت بغضب جماهيري عارم في نوفمبر ١٩٩٩ خلال اجتماع المنظمة في سياتل فيما وُصفت بأنها «قمة الغاز المسيل للدموع الوزارية»؛ حيث قامت طائفة متنوعة من المتظاهرين — تراوحت من العمال والمدافعين عن حقوق المستهلكين إلى الطلاب واللاسلطويين — بأعمال تخريبية خارج مكان انعقاد المؤتمر الوزاري، بينما كان وزراء مالية الدول الأعضاء يحاولون، عبثًا، إطلاق أُولى جولات المفاوضات التجارية منذ جولة أوروجواي. كان انهيار المحادثات ناجمًا عن تعنُّت الحكومات بقدر ما كان ناجمًا عن المظاهرات. وكان لهذا الصراع محوران أساسيان؛ الأول: أن البُلدان النامية شعرت بأنها انخدعت بنتائج جولة أوروجواي فسعت لتدارك الأمر بأن حاولت منع انطلاق المفاوضات التي أرادتها الدول الغنية في مجالات أخرى كالاستثمار، والبيئة، ومعايير العمل، وسياسة المنافسة، والشفافية في المشتريات الحكومية. والمحور الثاني: أن الولايات المتحدة اشتبكت في صراع مع الاتحاد الأوروبي (واليابان) بشأن إلغاء الحواجز والدعم الحكومي في المجال الزراعي.

بعد مرور سنتين، كان وزراء التجارة أفضل حظًّا حينما التقَوْا في «الدوحة» بدولة قطر، إحدى دول منطقة الشرق الأوسط؛ فقد تمكَّنوا من إطلاق جولة محادثات جديدة أُطلق عليها «دورة التنمية». لم تكن «الدوحة» بيئة مواتية لاحتمال اندلاع أية تظاهرات، يضاف إلى ذلك أن ثَمَّةَ تطورًا تسويقيًّا مهمًّا أدَّى إلى حفز النهج الجديد؛ فقد كان لعددٍ من الدول النامية التي تُحسب ضمن أكبر مصدِّري المنتجات الزراعية — كالبرازيل والأرجنتين وتايلاند — مصالح كبرى من وراء تحرير القطاع الزراعي. وهذا مكَّن المدير العام لمنظمة التجارة العالمية في ذلك الوقت، مايك مور، من الترويج؛ لأن تركيز جولة المحادثات على الزراعة يُعد تركيزًا على احتياجات البلدان النامية، وساعد أيضًا على عزل الاتحاد الأوروبي. وقد كتب مور عن ذلك في وقت لاحق، مفصحًا على ما يبدو عن أكثر مما كان ينوي الإفصاح عنه، حينما أكد: «إن تحويل الزراعة إلى قضية تتعلق بالتنمية جعلنا نجمع أفريقيا ومعظم آسيا وأمريكا اللاتينية معًا داخل إطار أجندة مشتركة.»12 ولم تستطع أوروبا الإفلات من أن تبدوَ بموقف المعارض لقضية التنمية والدول النامية بعد تصريحٍ لها بدا منه أنها تعتبر مصالحها أولوية محورية. سعد الأمريكيون بذلك سعادة غامرة؛ فقد بات لديهم بذلك سلاح ينتصرون به على الأوروبيين في قضية الدعم الزراعي، ولم يكونوا وقتئذٍ يدركون تمامًا كم كانت الأجندة الزراعية ستعود مجددًا لتصبح شغلهم الشاغل.
وكما أثبتت الأحداث اللاحقة، كان افتتاح المحادثات نصرًا باهظ الثمن؛ فقد تعثرت المحادثات عدة مرات منذ عام ٢٠٠١ ولم تختتم إلى الآن. وبمرور الوقت، بات واضحًا أن تحرير الزراعة نعمة بالنسبة إلى الدول النامية ونقمة عليها في الوقت نفسه. شدَّدت الدراسات الأكاديمية على ما كان ينبغي أن يكون واضحًا منذ البداية، وهو أن إلغاء الدعم الحكومي في أوروبا سيؤدي — في واقع الأمر — إلى الإضرار بالدول النامية التي تستورد الغذاء كمصر وإثيوبيا؛ لأنه سيرفع الأسعار التي يتعين على هذه الدول أن تدفعها. لكن كان القطن أحد الأمثلة القليلة على المكاسب الواضحة التي تعود على فقراء العالم؛ فارتفاع الأسعار العالمية لمحصول غير غذائي كالقطن يعود بالنفع على زارعيه في غرب أفريقيا دون أن يؤديَ ذلك إلى إلحاق ضرر بالفقراء في مناطق أخرى من العالم؛ ولهذا أصبح القطن المثال النموذجي بالنسبة إلى المنظمات غير الحكومية وغيرها من المدافعين عن الدول النامية. لكن التحرير الزراعي الجدي كان مؤلمًا للغاية في الدول الغنية، وكانت المكاسب الملموسة للآخرين هزيلة للغاية، ومجالاتها محدودة بدرجة لا تشجع على التوصُّل إلى اتفاق.13 وقد انهارت آخر جهود جادة لاختتام هذه المحادثات في صيف عام ٢٠٠٨ حينما رفضت الولايات المتحدة أن تقبل طلب الهند والصين وضْع آلية وقائية خاصة من شأنها أن تحميَ الفلاحين الفقراء من تبعات الازدياد المفاجئ في الواردات الزراعية.14
هذه التوترات متأصلة في الضغط العدواني لإحداث العولمة المفرطة التي حلَّت محل اتفاقية بريتون وودز، وحطمت ما ذهب إليه راجي بشأن «تسوية الليبرالية الضمنية». فمسئولو التجارة وخبراؤها لا يُلقون بالًا للأهداف الاقتصادية والاجتماعية الأخرى حينما يصبح السعي إلى العولمة هدفًا مستقلًّا. ويبيِّن زميلي في جامعة هارفرد، روبرت لورنس، تمييزًا مفيدًا بين الشكلين «الضحل» و«العميق» للتكامل العالمي.15 في التكامل الضحل، كذلك الذي في حالة بريتون وودز، لا يتطلب النظام التجاري سوى تقليل السياسة المحلية نسبيًّا. أما في التكامل العميق، فيختفي الفرق بين السياسة المحلية والسياسة التجارية، ويمكن أن يُفسَّر أي استخدام اجتهادي للضوابط المحلية على أنه عائق أمام التجارة الدولية، أو فرض تكاليف معاملات عليها؛ وبذلك تصبح القوانين العالمية المعمول بها والقوانين المحلية سواءً.

كانت هناك حالات سابقة للتكامل العميق اعتمدت على مؤسسات لا يمكن تصوُّرها اليوم. تذكَّر مثلًا كيف ازدهرت التجارة في ظل المركنتلية أو الإمبريالية في القرن التاسع عشر. حينئذٍ كانت القواعد التي تفرضها قوًى خارجية، كالشركة التجارية أو الدولة المستعمِرة، هي التي تُبقي تكاليف المعاملات تحت السيطرة. أما في الوقت الحاضر، فإن نظام تعددية الأطراف الذي يشكل جوهر منظمة التجارة العالمية هو ما يمكن أن يكافئ تلك القوى. هذا أفضل كثيرًا بالطبع، لكنه مع ذلك يثير أسئلة صعبة مثل: من أين تأتي قواعد منظمة التجارة العالمية؟ كيف لنا أن نضمن أنها مصمَّمة لإفادة جميع الدول لا قلة معدودة منها؟ ماذا يحدث حينما تريد أو تحتاج الدول المختلفة قوانين مختلفة؟ هل يستطيع «أي» نموذج للتكامل العميق أن يثبت قابليته للاستمرار في حالة ما إذا كانت السياسة الديمقراطية لا تزال تُنظَّم على أسس وطنية؟

(٣) التجارة والأجور في العالم الواقعي

لا يغير علماء الاقتصاد آراءهم كثيرًا، ناهيك عن أنهم لا يحبون فعل ذلك. لكن كينز كان استثناءً، كعادته في العديد من الأمور.

ويقال إنه حينما اتهمه أحد الصحفيين بالتناقض رد عليه قائلًا: «حينما تتغير الحقائق، أغير رأيي. ماذا تفعل أنت يا سيدي؟» رأينا كيف انقلب موقف كينز في ثلاثينيات القرن العشرين من التجارة الحرة. وكذلك بول كروجمان، الذي لا يميل كثيرًا إلى الاعتراف بالخطأ كمعظم الاقتصاديين المعاصرين، بدأ عام ٢٠٠٨ خطابًا له حول التجارة بعبارة مذهلة: «ما في هذه الورقة يعبر عن ضمير يشعر بالذنب.»16 حدث هذا قبل عدة أشهر من حصوله على جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية؛ الأمر الذي منح كلماته تلك فيما بعدُ انتشارًا أوسع.
ما الذي كان كروجمان يشعر بالذنب حياله؟ لقد غيَّر رأيه بشأن تأثيرات العولمة على تفاوت الدخل، وخشي من أن يكون عدم اكتراثه السابق لهذا الأمر قد ساهم في إهمال التوترات المهمة التي تولدها التجارة. كان كروجمان في طليعة موجة من أجرَوُا الدراسات الأكاديمية خلال تسعينيات القرن العشرين، التي قللت أهمية تأثير العولمة على توزيع الدخل محليًّا. صحيح أن الزيادة في تفاوت الدخل في الولايات المتحدة لم يكن من الممكن إنكارها، لكن الأدلة في ذلك الوقت أشارت إلى أن ثَمَّةَ عوامل أخرى هي التي حفزت ذلك؛ فقد اعتقد معظم علماء الاقتصاد أن الجانيَ الحقيقيَّ يتمثل في «التغير التكنولوجي المتحيز لذوي المهارات»؛ أي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي زادت الطلب على العمال المتعلمين البارعين وخفضت الطلب على العمال الأقل تعليمًا؛ وبهذا تكون الفجوات بين الدخول ناجمة عن التطور التكنولوجي، لا عن زيادة العولمة.17 لكن تحوُّل موقف كروجمان أظهر أن التأثيرات السلبية التي تُحدثها العولمة على العدالة المحلية لا يمكن تجاهلها بسهولة.

لماذا غيَّر كروجمان موقفه عام ٢٠٠٨؟ لقد ذكر تغيرَين طرآ منذ منتصف التسعينيات شعر أنهما قد كثَّفا دور التجارة كقوة وراء توسيع فجوة التفاوت بين أفراد المجتمع. أولًا: أن واردات الولايات المتحدة من الدول النامية قد تضاعفت منذ التسعينيات بالنسبة إلى حجم الاقتصاد الأمريكي. ثانيًا: أن الأجور في الدول النامية التي بات المنتجون الأمريكيون ينافسونها أصبحت أقل بكثير من الأجور في الدول النامية المصدِّرة في العقود السابقة. بعبارة أخرى: الصين هي السبب في إحداث هذا الفارق؛ فقد اخترقت حصة كبيرة من السوق الأمريكية بينما لم تشكل الأجور الصينية سوى جزء يسير من نظيرتها في الولايات المتحدة (ذكر كروجمان أن النسبة بينهما ٣٪). تشير هاتان الحقيقتان إلى أن التجارة تمارس بالفعل ضغطًا هائلًا يدفع إلى تخفيض الأجور في الولايات المتحدة، ويضاف إلى ذلك التأثير الذي يُحدثه التغير التكنولوجي، لا سيما على أقل العمال نصيبًا في توزيع الدخل.

هذه الاستنتاجات مثار جدل بين علماء الاقتصاد، حتى كروجمان نفسه كان مضطرًا إلى الاعتراف بأنها لا تشكِّل دليلًا كاملًا. والنظر بمزيد من التفصيل إلى الاتجاهات في مجالَي التوزيع والتجارة يكشف عن بعض الألغاز؛ فقد توقف ازدياد تفاوت الأجور، من خلال بعض التدابير، في الولايات المتحدة (أو انخفض حتى منذ أواخر التسعينيات)، على الرغم من تسارع وتيرة التعهيد الخارجي.18 وكثير من صادرات الصين توجد في قطاعات متطورة تكنولوجيًّا وكثيفة المهارة كمجال أجهزة الكمبيوتر، ولا تشكل تهديدًا محددًا لأجور العمال محدودي المهارة. وهناك طرق عملت من خلالها صادرات الصين على تحسين الأوضاع من خلال تخفيض تكلفة معيشة الأسر الفقيرة؛ فالصين تصدِّر في الغالب سلعًا تشكل حصة كبيرة مما تستهلكه الأسر الفقيرة.19 ولهذه الأسباب، لا يزال كثير من علماء الاقتصاد يعتقدون أن العولمة ليست مسئولة إلا عن جزء بسيط — نسبة ١٠–١٥٪ على الأكثر — من ازدياد تفاوت الدخول في الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن العشرين.20
حتى إذا كانت العواقب على صعيد المجال الاقتصادي صغيرة، فهي مع ذلك تشكل مصدر قلق للعامل الفرد الذي يُسرَّح من عمله بسبب الواردات ويُضطر إلى العمل في وظيفة أخرى براتب أقل بكثير. خذ مثلًا عاملة تشغل ماكينة صنع الأحذية في الولايات المتحدة، حيث تضاعفت تقريبًا منافسة الواردات التي تواجهها هذا العاملة بين عامَي ١٩٨٣ و٢٠٠٢.21 من غير المتصوَّر ألا يكون لهذا التغير تأثير جوهري على أجرها. في الواقع، يشير أحد التقديرات إلى أن التجارة أسفرت عن انخفاضٍ نسبته ١١٪ في معدل إيراد العاملة خلال هذه الفترة. وثَمَّةَ تأثيرات مماثلة على مهن أخرى في مجالَي النسيج وصناعة الملابس.22
لم يكن كروجمان عالم الاقتصاد البارز الوحيد الذي غيَّر موقفه؛ فهناك أيضًا لاري سَمرز أحد أقوى المدافعين عن حرية التجارة حتى وقت قريب، الذي كتب — قبل انضمامه إلى إدارة الرئيس أوباما وشغْله منصب مدير «المجلس الاقتصادي الوطني» — عدة مقالات رائعة أعرب فيها عن قلقه من أن العولمة ليست في مصلحة العاملين.23 وقال إن معارضة العولمة تعكس «إدراكًا متزايدًا من جانب العاملين بأن ما هو في مصلحة الاقتصاد العالمي وأبطال أعماله [ليس] بالضرورة في مصلحتهم.» وأقر بأن هناك «أسبابًا مقنعة» تبرر رؤيته هذه؛ فازدياد التكامل العالمي «يشكِّل مزيدًا من الضغوط التنافسية على اقتصاد الفرد، والعمالُ من المرجح أن يتحملوا وطأة هذا الضغط على نحوٍ متفاوت.» وقد تحدث كالشعبويين حينما اشتكى من «كبرى الشركات التي لا ولاء لها إلا لنجاح الاقتصاد العالمي ولازدهارها، وليس لمصالح الدولة التي تتخذها مقرًّا.» فهذه الشركات لا تشارك إلا بنصيب ضئيل في «نوعية القوة العاملة والبنية التحتية في بلادها، وبمقدورها أن تستغل تهديد العاملين بالنقل كوسيلة لانتزاع تنازلات منهم.» وأضاف:
على الرغم من أن العولمة تزيد عدم المساواة وانعدام الأمن، فإنها دائمًا وغالبًا ما تُستخدم على نحوٍ مشروع كحجة يُحتج بها ضد جدوى فرض الضرائب التصاعدية، وتقديم الدعم للنقابات العمالية، وفرض التنظيم الصارم، وزيادة إنتاج السلع العامة، وغير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تخفف من حدة ما تُحدثه العولمة من تأثيرات سلبية.24
إن المسائل التي تزداد وضوحًا على الصعيد الدولي — كالاستعانة بعمالة خارجية — تمتد أيضًا إلى الخدمات التي كانت تقليديًّا سلعًا محلية بحتة؛ الأمر الذي يجعل جزءًا أكبر بكثير من الاقتصاد المحلي عرضة للمنافسة الدولية. في مقال أثار الكثير من النقاش، حذَّر آلان بليندر، الأستاذ بجامعة برينستون والنائب السابق لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، من «التأثير الهدام» لما أطلق عليها «الثورة الصناعية المقبلة»؛25 فبفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أضحت الوظائف التي كانت تُعتبر من قبلُ «آمنة» — كبعض وظائف الخدمات الطبية والتعليمية والمالية على سبيل المثال — تزداد الآن انتقالًا إلى الخارج إلى بُلدان أخرى حيث يمكن تنفيذ الخدمات بأسعار أقل. «وهكذا فإن مواجهة التنافس الأجنبي، الذي يشكل الآن مصدر تخوف بالنسبة إلى أقلية من العمال في الدول الغنية، ستصبح مصدر تخوف هائل لمن هم أكثر بكثير.»26 ويشير تقدير بلايندر إلى أن عدد الوظائف التي يُحتمل وجودها في قطاع الخدمات القابلة للتعهيد الخارجي يعادل عدد وظائف التصنيع في الوقت الحالي مرتين إلى ثلاثة. ولحرصه على التوضيح، يشير إلى أن المشكلة هنا ليست البطالة؛ فالعمال المسرَّحون من عملهم يعثرون في نهاية المطاف على وظائف أخرى، تمامًا كما حدث من قبلُ في الثورات الصناعية السابقة. لكن المشكلة هي جسامة ما يواجهه العمال المتضررون من تسريح من وظائفهم وخسائر في دخولهم.

تذكِّرنا حجة بلايندر بالنقطة التي أشرت إليها سابقًا بشأن إعادة التوزيع الذي يمثل الجانب السلبي لمكاسب التجارة؛ فالثورة الصناعية الجديدة التي يتحدث عنها بلايندر تبشِّر بتحقيق فوائد اقتصادية ضخمة؛ نتيجة لأن قطاعات أكبر فأكبر من الاقتصاد سيعاد تنظيمها تماشيًا مع مبدأ الميزة النسبية. والنتيجة الحتمية لعملية إعادة الهيكلة هذه هي انعدام شعور العمال بالأمن الاقتصادي؛ إذ سيجد الكثيرون أن أجورهم انخفضت انخفاضًا دائمًا. لكننا نكرر مرة أخرى: لا ربح بلا ألم. وهذه الضغوط لن يجريَ تضخيمها إلا من قِبل النُّخب التي يصفها سَمرز بأنها شركات لا ولاء لها، أي عديمة الجنسية وحرة، والتي ستكون في وضع يمكِّنها من مساومة العمال على تخفيض الأجور والمعايير مقابل أن يستمروا في عملهم كما اعتادوا داخل أرض الوطن. لكن تحقيق نمو اقتصادي واسع النطاق يساعد على تقليل حدة هذه التوترات، إلا أن هذا الهدف يتطلب استراتيجيات تصمَّم محليًّا إلى جانب توافر المتسع اللازم للمناورة المحلية، كما كانت الحال في ظل اتفاقية بريتون وودز. ويشير بلايندر إلى أننا لا يمكننا أن نسلِّم بأن الفوائد الاقتصادية المنتظَرة من هذه الموجة الجديدة للعولمة سوف تعود على أكثر الناس وليس قلة منهم.

لكنَّ أيًّا من هذه الحجج لا تضعف قضية تحرير التجارة بالنسبة إلى المتعصبين لحرية التجارة. خذ مثلًا جاجديش باجواتي أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا وأحد أبرز المدافعين عن حرية التجارة. يقول باجواتي إن كروجمان وسَمرز وبلايندر وغيرهم من المتشككين في فوائد حرية التجارة يبالغون في تقدير ما ينجم عن التجارة من انعدام مساواةٍ وتسريحٍ من العمل في حالة البلدان المنخفضة الدخل. لكن الأهم من ذلك أنه يعتقد أن هؤلاء المؤلفين يستنبطون الدروس السياسية الخاطئة؛ فإذا كانت التجارة تؤدي إلى تدهور أوضاع بعض الناس وتفاقم عدم المساواة، فإن الاستجابة الصحيحة لذلك لا بد أن تتمثل في تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي وتقديم الدعم اللازم لإعانة الناس على التكيف. ويجب ألا تُحل المشكلات التي تولدها التجارة بالحمائية، بل بتطبيق سياسات محلية لتعوض الخاسرين.27 مبدئيًّا هذا أمر طيب. لكن هؤلاء الخاسرين لهم كل الحق في أن يسألوا عما سيحدث في حال لم يتم الوفاء بوعود التعويض والدعم للمساعدة على التكيف، كما حدث مرارًا في العقود الأخيرة.28 إن طمأنة العمال من خلال إبلاغهم بأنهم كانوا سيصبحون أفضل حالًا لو كانوا حصلوا على التعويض المناسب؛ وسيلة غريبة لتبرئة ساحة التجارة الحرة والترويج لها.

الحقيقة هي أننا لا نملك الاستراتيجيات المحلية والعالمية اللازمة لمواجهة اضطرابات العولمة؛ ونتيجة لذلك، فإننا نواجه الخطر المتمثل في أن تفُوق التكاليف الاجتماعية للتجارة المكاسب الاقتصادية الضيقة؛ مما يؤدي إلى إثارة رد فعل أكثر سوءًا وعنفًا إزاء العولمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤