ثعالب وقنافذ عالم المال
لا شك أن الاستنتاج الذي انتهينا إليه في نهاية الفصل السابق محير؛ إذ ألَا ينبغي لأي اقتصاد أن يتحسن أداؤه حينما تُتاح للأفراد والشركات حرية الإقراض والاقتراض عبر الحدود القومية؟ ولماذا قد لا يشكل الانفتاح المالي أية فائدة على الإطلاق؟
إن تدفقات رأس المال «يُمكن» أن تكون نعمة بالنسبة إلى الاقتصاد في ظل الظروف الصحيحة؛ ففي البلدان التي تملك وفرة في فرص الاستثمار وتعاني نقصًا في المدخرات يسمحون للشركات الخاصة بتنفيذ المشروعات التي لا تستطيع الدولة تنفيذها. وفي أي بلد، لا سيما حينما تقترن الدراية بالسوق وغيرها من المهارات بالتكنولوجيا، يكون الاستثمار الأجنبي المباشر الطويل الأجل مكونًا ضروريًّا للنمو الاقتصادي. لكن لماذا تسفر أنواع أخرى من التمويل الدولي عن نتائج عكسية؟
في إحدى النقاط التي أشرت إليها من قبلُ حينما كنت أناقش مكاسب التجارة، ذكرت أن التبادل المربح بين المشتري والبائع لا يكون مرغوبًا بالنسبة إلى المجتمع ككلٍّ إلا حينما تعوض الأسعار كامل التكاليف (الفرص البديلة) التي تجشمها المجتمع في عملية التبادل. ينطبق هذا المبدأ جيدًا على أسواق المال كذلك؛ فحينما أستثمر في ورقة أصدرها كيان في مكانٍ ما في الجانب الآخر من العالم — سند سداد دين أو صك أو مشتق مالي — فهل أكون مدركًا إدراكًا دقيقًا لحجم المخاطر التي ينطوي عليها ذلك؟ وهل يعوض المردود المنتظر عن هذه المخاطر؟ وحينما أقترضُ أموالًا، هل يعوض سعر الفائدة عن التكاليف التي يتجشمها آخرون، أو النفقات المالية اللازمة لإنقاذي حال عدم قدرتي على سداد خدمة ديني؟ وحينما أصمم سندًا ماليًّا على أحدث طراز، هل آخذُ في حسباني ما يمكن أن يُحدثه ذلك من تأثيرات على الحد الأدنى لأرباح شركتي على المدى الطويل (خلافًا لتأثيراته على مجموعة العناصر المكونة لأجري «أعني راتبي أنا»)؟ إذا لم تكن الإجابة عن هذه الأسئلة والعديد من الأسئلة الأخرى المماثلة نعم حاسمة، فسوف تفشل أسواق المال. مع الأسف، مثل هذه الإخفاقات تتكرر كثيرًا؛ ولهذا السبب أصبحنا معتادين للغاية على ما تسببه من أمراض للسوق المالية.
إن خبراء الاقتصاد ليسوا على دراية بهذه المشكلات. صحيح أن المؤلفات الاقتصادية مكتظة بتحليلات عن هذه الإخفاقات، التي تحمل أسماءً مثل: المعلومات غير المتناسقة، والمسئولية المحدودة، والخطر الأخلاقي، وتكاليف الوكالة، والتوازنات المتعددة، والمخاطر النظامية، وشلالات المعلومات وهلمَّ جرًّا. بالإضافة إلى أن كل واحدة من هذه الظواهر قُتلت بحثًا باستدلال رياضي معقد وبرسوم تجريبية توضيحية صعبة، مع ذلك يدرك معظم خبراء الاقتصاد الآن أن هذه المشكلات لم تعالَج بما فيه الكفاية في الاقتصاد العالمي؛ ففي الوقت الذي نجد فيه التمويل المحلي مدعومًا بمعايير عامة وتأمين على الودائع وقوانين إفلاس وعقود تُنفذها المحاكم، ووجود مقرض ملاذ أخير ومساندة مالية وتشكيلة واسعة النطاق من الوكالات التنظيمية والإشرافية، لا توجد أيٌّ من هذه الضمانات على المستوى العالمي. وهكذا تكون التنظيمات والمعايير على المستوى العالمي تدابير متفرقة وعديمة الجدوى ولا تزال كل أزمة عالمية تواجَه على حدة وتبعًا لطبيعتها.
واستنادًا إلى ما نعرفه نتساءل: لماذا تدار الأسواق العالمية إدارة بالغة السوء؟ تنبع المشكلة من وجود اتجاه بين الاقتصاديين وصُناع السياسة إلى التهوين من شأن عواقب هذه الإخفاقات في التطبيق العملي للسياسة، وكأنهم يحمون حالة التحرير المالي من التداعيات المشئومة لهذه الإخفاقات. فالواقع ليس أن الأسواق المالية لا تفشل، بل أننا نستطيع أن نواصل العمل كما لو كانت لا تفشل. ولكي نفهم إلامَ ينتهي هذا التشوه المهني على وجه التحديد، نحتاج إلى التعرف على الفروق بين الثعالب والقنافذ في غابة الاقتصاد.
(١) الثعلب والقنفذ
ويمكنك أن تكتشف نوع عالِم الاقتصاد من طبيعة رد فعله عندما يواجه قضية تتعلق بالسياسية التي ينبغي اتباعها. من الطبيعي أن يلجأ الاقتصادي القنفذ إلى أن يطبق على أي مسألة يواجهها أبسط تحليل دراسي يعلمه: أن الأسواق تعظم الفعالية، وأنه كلما زاد تحرر الأسواق كان ذلك أفضل. وسيفسر قائلًا إنه في هذا العالم توجد تكلفة فعالية لكل ضريبة؛ وكل تقييد يُفرض على السلوك الفردي يقلل حجم الكعكة الاقتصادية. بالإضافة إلى أنه من الممكن الفصل بين مسألتَي العدالة والفعالية فصلًا دقيقًا بحيث لا تؤثر إحداهما على الأخرى. ومن المفترض أن السوق لا تخفق ما لم يثبت عكس ذلك، لكن إذا حدث وأخفقت، فيجب ألا تعالَج الإخفاقات إلا بأكثر العلاجات مباشرةً في استهدافها للإخفاق المعني. والناس عقلانيون وبعيدو النظر. ومنحنيات الطلب دائمًا تنخفض (ومنحنيات العرض ترتفع). والتفاعلات الجارية على صعيد كافة قطاعات الاقتصاد لا تدحض منطق التحليلات الجزئية. لقد أثبت آدم سميث وأتباعه اللاحقون أن الأسواق المحررة تعمل على أفضل نحو. وبصرف النظر عن مدى تعقيد أبحاث هؤلاء الاقتصاديين وامتلائها بالمفاجآت والتفاصيل الفنية، نجد أن تناولهم لقضايا ذلك الوقت يحركه منطق بسيط ويكاد يكون غير محسوب، مفاده: أن إزالة أي تدخل أو عائق حكومي يؤدي إلى تحسُّن الأداء الاقتصادي.
أما الاقتصاديون الثعالب فيحترمون ما تملكه السوق من قوًى احترامًا صحيًّا، إلا أنهم يميلون إلى رؤية جميع أنواع التعقيدات؛ مما يجعلهم يعتبرون الإجابات التي تقدمها كتب الاقتصاد إجابات ناقصة؛ ففي عالمهم الاقتصاد حافل بنقائص السوق، والفصل الدقيق بين العدالة والفعالية غير ممكن، والناس لا يتصرفون دائمًا بعقلانية، وتطبيق سياسة بديلة غير مرغوبة يمكن أن يأتيَ بنتائج إيجابية، والتعقيدات التي تنبثق من التفاعلات الجارية على صعيد كافة قطاعات الاقتصاد تجعل التحليلات التي تتعصب لفكرة واحدة موضع شك. وقد وضع أتباع آدم سميث بالفعل قائمة طويلة تحوي استثناءات للمبدأ القائل إن الأسواق المحررة تعزز الرفاهية الاجتماعية. علاوةً على أن التدخل الحكومي يمكن أن يحسِّن نتائج السوق في نواحٍ عديدة. إن الثعالب ينظرون إلى الاقتصاد على أنه «تحقيق أفضل ما يمكن تحقيقه في ظل عدم قدرتنا على الوصول إلى الوضع المثالي»، وهذا منظور يفتقر إلى النقاء بشدةٍ إذا ما قورن بسياسات القنافذ المثالية التي يعتبرونها السياسات الصحيحة دائمًا.
تنشأ بعض الاختلافات من رؤية كل فريق من الفريقين لمدى انتشار إخفاقات السوق؛ فالقنافذ أقل ميلًا إلى الاعتقاد بأن هذه الإخفاقات شائعة بالقدر الذي تصوره الثعالب. لكن الفرق الأهم بين هذين الفريقين يكمن في «استجابة» كلٍّ منهما لإخفاقات السوق.
قد يقول القنفذ إنه حينما تنهار الأسواق لا يكون الحل هو تقييدها أو انتظار مساعدة الحكومة، بل جعْلها تعمل على نحوٍ أفضل. والتعقيدات التي يخشاها الثعالب يجب علاجها علاجًا مباشرًا من خلال إزالة التشوهات التي تتسبب في نشوئها. فإذا كان الثعلب متخوفًا من فرط المخاطرة في البنوك، فالحل الصحيح هو خلق حوافز لكبح جماح السلوك المجازف. وإذا كانت زيادة الديون الحكومية تسفر عن الهشاشة المالية، فالحل الوحيد هو تعديل السياسة المالية التي تنتهجها الحكومة. لكل مشكلة علاجها الخاص، وما من سبب يدعو إلى تأجيل التحرير أو التخلي عنه كليًّا. يطلَق على هذا المبدأ «مبدأ توجيه السياسة»؛ أي توجيه التدخل السياسي إلى منبع المشكلة. وهو مبدأ رشيد إلى حدٍّ ما. لكن الاقتصادي القنفذ الذي يفترض أن كل التعقيدات الضمنية ينبغي — ويمكن — علاجها باستخدام أنسب الوسائل، يتحول هذا المبدأ على يديه مجددًا إلى أداة لتحرير كل ما يراه دون أن تساوره أية مخاوف من الآثار السلبية التي قد ينطوي عليها ذلك. ومع ذلك، يمكن التعامل مع تلك الآثار العكسية مباشرة وكلٍّ على حدة. في الواقع، هذا المبدأ يسمح لهؤلاء الاقتصاديين أن يتوقعوا أن يتكيف العالم وفقًا لما يقترحونه من توصيات، لا أن يكيفوا هم توصياتهم وفقًا لحال العالم.
لكن في الواقع، غالبًا ما تكون فكرتنا عن جذر أية مشكلةٍ مجردَ فكرة غامضة، وحتى حينما يتوافر لدينا حل جيد لها، قد تعترض الصعوبات الإدارية والسياسية سبيل علاجها مباشرة. ونظرًا لأن الضمانات اللازمة لا تُتخذ جميعها؛ تأتي محاولات التحرير بنتائج عكسية. كذلك تفعل توصيات القنافذ بإزالة القيود التجارية وبالتعامل مع أي عواقب توزيعية سلبية من خلال تدابير تعويضية. يتم التحرير ويسعد الاقتصادي بذلك، لكن في تلك الأثناء يتبيَّن أن التدابير التعويضية ليست بالسهولة التي تبدو عليها، ثم بحلول الوقت الذي تبدأ فيه الآثار العكسية (أو الأزمة المالية) في الظهور، يكون الاقتصادي منشغلًا بالدفاع عن التحرير في مكان آخر.
واللافت للنظر في مثل هذه الحجج هو مدى امتداد والتباس قائمة المتطلبات اللازمة للتحرير. يصف العديد من الاقتصاديين المتطلبات المؤسسية اللازمة لإجراء انفتاح ناجح في المجال المالي كما لو كانت تتلخص ببساطة في تنفيذ سياسةٍ ما أو إلغائها. ويقدمون توصياتهم بهذه البساطة: أصلِح الأنظمة، ورسِّخ سيادة القانون، واقضٍ على الفساد، وتخلَّص من فرط المخاطر المالية، ولا تنسَ إجراء الإصلاح السياسي. هل انتهيت؟ الآن استعد للانتعاش الاقتصادي الذي تخبئه لك العولمة المالية.
وتفترض قائمة طويلة من الإصلاحات من هذا النوع أن البلدان النامية لديها أدوات سحرية معينة تمكِّنها من أن تنجز اليوم التغييرات التي استغرق إنجازها قرونًا في الدول المتقدمة. ما هو أسوأ أنه حينما لاحت أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر، لم يكن لدى أكثر واضعي اللوائح التنظيمية حنكةً في العالم أيُّ علاج فعَّال لمسألة كيفية مراقبة فرط خوض المخاطر، أو لكيفية تحفيز مستويات كافية من الشفافية. لكن هذا لا يهم، ويمكننا أن نتأكد من أن قائمة المتطلبات ستزداد طولًا. وحينما تتورط الدول في أزمات في أسواقها المالية، دائمًا ما ستحتوى هذه القائمة على أمرٍ ما لم تنفذه هذه الدول على النحو الصحيح تمامًا، بحيث يمكن إرجاع وقوع الأزمة إليه. والأمر الجوهري الذي ينطوي عليه هذا النوع من الدفاع ويخدمه على أفضل نحو، أنه من غير الممكن أبدًا أن يكون القنفذ مخطئًا مهما كان حجم التدهور الذي تئول إليه الأمور في نهاية المطاف.
تسير وجهة نظر الثعلب بشأن التحرير المالي على نسق مماثل؛ ففي العالم المثالي، قد نستطيع أن نقلل إلى أقصى حدٍّ من التأثيرات السلبية غير المرغوبة لتحرير رأس المال من خلال الضوابط الصحيحة، ودون الحاجة إلى اللجوء إلى فرض قيود مباشرة على تدفقاته. لكننا لا نعيش في عالم مثالي، والحذر يستوجب منا ألا نترك الأسواق المالية تخرج عن نطاق السيطرة.
لنعد إلى جيمس توبين، أحد أوائل المدافعين إبان مرحلة ما بعد بريتون وودز عن فرض ضوابط على حرية رأس المال داخل المنظومة الاقتصادية. تفكر توبين بعناية في الحل المثالي من وجهة نظر القنافذ قبل أن يقدم اقتراحه بفرض ضريبة على المعاملات النقدية الدولية، وكتب «دعونا نأخذ في اعتبارنا نموذج العالم الواحد المثالي.» ما الذي قد يتطلبه إنشاء سوق مالية عالمية موحدة وتكاملية كالسوق الموجودة في بلد مثل الولايات المتحدة على سبيل المثال؟
يتدفق رأس المال تدفقًا حرًّا داخل أنحاء الولايات المتحدة، وهذا ينتج فوائد اقتصادية جمة ظاهرة للعيان. يقول توبين موضحًا: «في وجود أسواق للسلع وللعمالة على امتداد الدولة يتدفق العمال والبضاعة بسلاسة إلى مناطق الطلب المرتفع، وهذا الحراك هو الحل الضروري لمشكلتَي الكساد الإقليمي والتقادم (أو بطلان الاستخدام) اللتين تحدثان لا محالة.» وفي ظل هذه الأوضاع، يكون تطبيق سياسات الاقتصاد الكلي على المستوى الإقليمي أمرًا زائدًا عن اللازم، ولا إمكانية لحدوثه. إن وجود عملة موحدة وأسواق مالية ورأسمالية قومية موحدة بالكامل وسياسة نقدية عامة؛ كل ذلك يمكن أن يضمن ألا تتمكن تحركات رءوس الأموال المضاربة — التي تستهدف الاستفادة من الفروق بين أسعار الفائدة أو التغيرات في أسعار الصرف — من ممارسة تأثير يؤدي إلى زعزعة الاستقرار.
كان كينز سيوافق على ذلك بالطبع؛ فهو أيضًا قد يفضل علاج الأسباب الجذرية لمشكلة تجاوزات المضاربة، التي يرى أنها متمثلة في نقاط ضعف بشرية وسلوكيات القطيع، علاوةً على ضعف تنظيمي وانقسام سياسي. لكن كينز كان ثعلبًا ذا حس قوي قادر على إدراك الحدود المادية الفعلية لما يمكن تحقيقه في العالم الواقعي؛ ولهذا رأى أن تقييد رأس المال جزء أصيل من أي نظام تمويل دولي يراد له الاستقرار.
(٢) فوائد غير مباشرة أم أضرار غير مباشرة؟
يتخذ أحدث جيل من الحجج المؤيدة لإزالة القيود المفروضة على حركة رأس المال مسارًا مختلفًا، مركِّزًا على الدور المحفز غير المباشر الذي تلعبه العولمة المالية. ولعل كتابات كين روجوف، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفرد الذي شغل منصب كبير خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، تشكِّل خير مثال يعبِّر عن هذا النهج الفكري.
وتنادي حجة روجوف بأمر محدد، هو أن العديد من البلدان النامية تستطيع أن تعتمد شكلًا أفضل من تنظيم الاقتصاد الكلي والتطوير المؤسسي، دون الإشارة إلى كيفية فعل ذلك. لكننا نستطيع بسهولة أن نجادل في الاتجاه النقيض، بأن نفترض أن العولمة المالية تُضعف (لا تُقوي) انضباط الاقتصاد الكلي وتُقوض (لا تُعزز) التطوير المؤسسي.
مِن الواضح أن توافر فرصة الحصول على تمويل دولي غالبًا ما يجعل الحكومات المسرفة تواجه عُجُوزًا أكبر ولمدة أطول مما لو كانت اعتمدت على الدائنين المحليين وحدهم. خذ مثلًا حالة تركيا التي مرت بأزمة مالية مؤلمة عام ٢٠٠١؛ فبعد أن أزالت القيود على تدفقات رأس المال أواخر الثمانينيات، وجدت الحكومة التركية مصدرًا سهلًا للتمويل الرخيص على الرغم من سوء إدارة الاقتصاد الكلي. كان الدين العام يتزايد بسرعة جنونية وظل معدل التضخم مرتفعًا. ومع ذلك، كانت البنوك التجارية المحلية تقترض في الخارج وتستخدم الأموال في شراء سندات حكومية، مستفيدةً من هامش الفائدة. وحينما حان موعد تدارُك الأمر في نهاية المطاف — وهو ما استبقه «توقُّف مفاجئ» في تدفقات رأس المال — شهد الاقتصاد أسوأ تراجع شهده منذ عقود. لولا العولمة المالية لاضطُرت تركيا إلى إعادة ترتيب بيتها المالي الخاص في وقت أسرع بكثير من ترتيبها إياه عام ٢٠٠١، ولقلَّت خسارة اقتصادها كثيرًا.
وهذا يجعل حجة تطوير الحوكمة أيضًا عرضة للشك؛ فالعولمة المالية تجبر الحكومات بالفعل على زيادة الالتزام بما تريده البنوك، لكن التمويل والأعمال المصرفية صناعة بين صناعات أخرى كثيرة، ولها مصالحها الخاصة. فلماذا ينبغي أن تتوافق متطلباتها دائمًا، أو حتى في معظم الأحيان، مع ما تحتاجه الدولة؟
خذ مثلًا ما يحدث في حالة التضارب العادي الذي يحدث في أي اقتصادٍ نامٍ: تفضِّل البنوك الأجنبية ارتفاع أسعار الفائدة وقيمة العملة، في حين يفضِّل المصدِّرون المحليون انخفاض أسعار الفائدة وقيمة العملة. أيُّ هاتين النتيجتين ينبغي أن تكون المؤسسات النقدية والمالية مستعدة لتقديمها؟ في أكثر الأحيان، تكون تفضيلات المصدِّرين هي الأكثر فائدة بالنسبة إلى الاقتصاد ككلٍّ؛ ومن ثَمَّ تزدهر الاقتصادات التي لا يملك التمويل سيطرة سياسية عليها.
وبالنظر إلى مستوًى أعم، غالبًا ما تفضِّل مصالح البنوك أقل قدر من القوانين بصرف النظر عما سيُحدثه ذلك من تأثيرات على بقية الاقتصاد؛ إذ يمكن أن يمارس تأثيرًا مفسدًا للغاية على السياسة وعلى المؤسسات حينما يترك لها الحبل على الغارب دون مساءلة من أحد. وقد حدث هذا بالفعل حينما وجهت الضربة القاضية لحجة «الفوائد غير المباشرة» أزمة انهيار الرهن العقاري العالي المخاطر، التي بيَّنت قدرة التمويل الفائقة على تقويض الحوكمة، بل وقدرته على فعل ذلك في أغنى الديمقراطيات في العالم وأكثرها قِدمًا. بعد وقوع هذه الأزمة، سيكون من الصعب للغاية القول بأن المصالح البنكية تُساهم في تطوير المؤسسات.
(٣) إغراءات الابتكار المالي
في أعقاب انفجار فقاعة الرهن العقاري العالي المخاطر، لم يكن على أحد أن يبذل أي جهد كي يفقد ثقته في التمويل. لكننا ينبغي ألا نظلم الاقتصاديين القنافذ؛ فبالنسبة إلى معظمنا، بدا حديثهم عن الابتكار المالي، الذي أدَّى فيما بعدُ إلى الأزمة، مقنعًا للغاية لدى سماعه في بادئ الأمر.
فقد أراد الجميع أن تُساهم أسواق الائتمان في تحقيق هدف امتلاك منزل؛ لذا بدأنا بإدخال منافسة حقيقية في مجال قروض الرهن العقاري، فسمحنا لمؤسسات غير بنكية أن تمنح قروض إسكان وتركناها تقدِّم قروضًا مبتكرة وبفائدة أقل؛ بحيث تكون في متناول كل الراغبين في امتلاك منزل، الذين لم تكن مؤسسات الإقراض التقليدية تقدِّم لهم الخدمة الكافية، ثم سمحنا لهذه القروض بأن تتجمع وتتشكل في حزمة من الأوراق المالية التي يمكن بيعها للمستثمرين؛ الأمر الذي كان من المفترض أن يقلل خطورة العملية برمتها. بعد ذلك قسَّمنا مسار المدفوعات المستحقة على هذه القروض الإسكانية إلى شرائح سندات متفاوتة الخطورة، وعوَّضنا ملاكها عن زيادة خطورة الشرائح بأسعار فائدة أعلى. ثم طالبنا وكالات التصنيف الائتماني بأن تُصادق على أن الأقل خطورة من بين هذه الأوراق المالية المدعومة برهن عقاري آمنة بما فيه الكفاية؛ بحيث يمكن أن تستثمر فيها صناديق معاشات التقاعد وشركات التأمين. ولطمأنة أي شخص لا يزال متخوفًا، ابتكرنا مشتقات سمحت للمستثمرين بشراء تأمين يؤمنهم من تعثر مصدري تلك الأوراق المالية في السداد.
لم نكن لنقترح مجموعة أفضل من هذه الترتيبات لو كنا أردنا تسليط الضوء على فوائد الابتكار المالي؛ فبفضلها امتلك ملايين من الأسر الفقيرة والمهمشة منازل، وحقق المستثمرون إيرادات مرتفعة، وامتلأت جيوب الوسطاء والسماسرة بالرسوم والعمولات. لعل كل ذلك كان يجري مثل الحلم — وحتى وقت وقوع الأزمة اعتقد كثير من الممولين والاقتصاديين وواضعو السياسات أن ما يحدث ليس سوى حلم. كانت الرواية التي ارتكنوا إليها جميعًا مقبولة وتسير على النحو التالي: يستطيع الابتكار المالي أن يسمح للناس بالحصول على قروض بطرق لم تُتَحْ لهم من قبلُ من خلال تجميع المخاطر وتمريرها إلى من هم أقدر على تحمُّلها ومواجهتها، وإذا حدث أن ارتكب بعض الأشخاص أو المؤسسات أخطاءً وتورطوا أكثر من اللازم في هذه العملية بما يفوق طاقتهم، فسيدفعون ثمن أخطائهم. والأسواق المالية ستراقب أوضاعها وتضبطها. من ذا الذي يمكن أن يختلف مع كل هذا؟
يرجع الفضل في وجود عصر الاستقرار المالي هذا إلى توفيقٍ لم يكن سهلًا بين الشارع و«وول ستريت» — بين الواقع والقطاعات المالية — عقب قرون ممتدة من التجريب؛ إذ اتخذت معادلة «الشيء مقابل الشيء» شكلًا بسيطًا: الالتزام باللوائح التنظيمية في التبادلات مقابل حرية العمل. أخضعت الحكومات البنوك التجارية لجرعة مكثفة من اللوائح التنظيمية الاحترازية مقابل توفير التأمين على الودائع العامة وقيامها بمهمة مقرض الملاذ الأخير. وكانت أسواق الأسهم تتحمل الالتزام بمتطلبات واسعة النطاق فيما يتعلق بالإفصاح والشفافية قبل أن يُسمح لها بالتطور.
لكن تخفيف جرعة القيود خلال الثمانينيات قلَب المعادلة وقادنا إلى أرض جديدة مجهولة. رأى المدافعون عن التحرير أن الرقابة والتقييد يعوقان الابتكار المالي، وأن الهيئات الحكومية على أية حال لن تتمكن من اللحاق بالتغيرات التكنولوجية، وأن الحل هو التنظيم الذاتي. فظهرت أدوات مالية جديدة عديدة، ذات اختصارات أسماء غريبة وملامح مخاطرة، لم يكن لأكثر لاعبي السوق دراية بها.
والآن بعد مرور أزمة ٢٠٠٨ المالية، بات من السهل تحديد الأسباب المباشرة وراء وقوعها، وهي: مقرضو الرهن العقاري (ومقترضوه) الذين افترضوا أن أسعار المنازل ستواصل الارتفاع، وفقاعة الإسكان التي تضخمت بسبب حدوث تخمة في الادِّخار العالمي وإحجام الاحتياطي الفيدرالي بقيادة رئيسه آلان جرينسبان عن تفريغ هذه الفقاعة، والمؤسسات المالية التي أدمنت الإفراط في الرفع المالي، ووكالات التصنيف الائتماني التي نامت عن أداء وظيفتها، وبالطبع صناع السياسة الذين لم يتخذوا التصرف اللازم معًا حينما بدأت أُولى بوادر الأزمة تلوح في الأفق. لولا هذه الإخفاقات التنظيمية لما شكَّلت تخمة التمويل العالمي أي خطر؛ فبالرغم من كل شيء، فإن انخفاض أسعار الفائدة أمر «طيب» ما دام يؤدي إلى زيادة الاستثمار. ولولا الدمج العالمي بين ميزانيات البنوك لما صارت عواقب قلة التنظيم مدمرة على هذا النحو، ولظلت إخفاقات أي بنك داخل النطاق المحلي وتسنَّى احتواء آثارها.
ثَمَّةَ مشكلة أكثر عمقًا سينبغي علاجها على المدى الطويل: أن إزالة القيود والسعي إلى العولمة المفرطة أدَّى إلى حدوث هوة ضخمة بين نطاق الأسواق المالية ونطاق حوكمتها؛ فعلى المستوى المحلي، تكوَّنت مستودعات ضخمة من المخاطر النظامية التي لا تطالها رقابة أو لوائح تنظيمية. أما على المستوى العالمي فقد كانت النتيجة تدفقات رأس مال صارت متقلبة ومتباينة ومعرضة للأزمات، تكثر حينما تكاد الحاجة إليها تنعدم، ولا يظهر لها أثر حينما يشكِّل وجودها أية فائدة. ويُجمِع كل المراقبين تقريبًا على أن المنظومة التنظيمية برمتها بحاجة إلى إعادة النظر على الصعيدَين المحلي والدولي.
لكن فكرة أننا نستطيع إقامة نظام مثالي للتنظيم العالمي في مجال التدفقات المالية الدولية؛ تعتبر في حد ذاتها خرافة. فأي ثعلب يدرك أن الأسواق والقوانين قاصرة لا محالة؛ لذا لا بد أن تتحسب أي أنظمة نبتكرها لهاتين الفئتين من نقاط الضعف. والتوصل إلى التوازن الصحيح سيتطلب كثيرًا من الممارسة والتجريب. ربما من الصعب قول «شكرًا، لكني لا أرغب في ذلك» لدعوات التحرير والابتكار المالي، لكن في عالمٍ قوانينُه قاصرة والسيادة فيه موزعة، سيظل ذلك هو الخيار الآمن الوحيد في أغلب الأحيان.
سيتعين على بنيتنا المالية الدولية أن تستوعب بلدانًا ترغب في تشديد القيود على التمويل إلى جانب البلدان التي تتخذ من الابتكار المالي مواقف أكثر تساهلًا. وهذا يعني إتاحة المجال — لصناع السياسة في الداخل — لفرض قيود على رأس المال ورسوم على المعاملات المالية، بالإضافة إلى تحسين معايير التنظيم الدولية، التي صُممت لمعاقبة الإفراط في الاستدانة، وأمور أخرى. إننا لا نستطيع العودة إلى نظام بريتون وودز، لكننا نستطيع أن نتعلم من تلك التجربة؛ فهذه التسوية التي بثت النشاط في الاقتصاد العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية لا بد من أن يعاد تشكيلها بحيث تلائم العالم الذي تغير كثيرًا منذ ذلك الحين.
(٤) إنهم الاقتصاديون، أيها الغبي!
إذا سألت الشعبويين لماذا تُرك الحبل على الغارب لصناعة التمويل وسُمح لها بأن تعيث فسادًا على هذا النحو، فستسمع منهم على الأرجح كلامًا عن السلطة السياسية. وسيقولون إن صناعة التمويل صارت تمارس نفوذًا قويًّا في الولايات المتحدة، إلى حد أنها حوَّلت البلاد إلى «جمهورية موز» يدين فيها رجال السياسة بالفضل لمصالح وول ستريت. وقد انضمت فئة غير متوقعة من الحلفاء إلى هؤلاء الشعبويين في أعقاب أزمة الرهون العقارية: إنها فئة الاقتصاديين التقليديين. فقد شن سايمون جونسون، وهو اقتصادي محنك مشهود له بالدراية والكفاءة، أشد هجمة على تغوُّل التمويل في مقال شديد اللهجة نُشر في مجلة «ذي أتلانتك» في عددها الصادر في مايو ٢٠٠٩. وما أضاف لكلام جونسون مزيدًا من المصداقية أنه كان كبير خبراء صندوق النقد الدولي قُبيل الأزمة.
ألقى جونسون باللائمة في وقوع الأزمة على تكرار نمط المحسوبية الآسيوي والروسي في الولايات المتحدة؛ فقد أصبح وول ستريت بالغ القوة بدرجة جعلته يحصل على ما طاب له من واشنطن: قوانين متساهلة، وتشجيع الناس على امتلاك منازل باهظة المستوى دون حكمة، وتخفيض أسعار الفائدة، وهشاشة العلاقة المالية بين الولايات المتحدة والصين؛ أي إن صناعة التمويل شجعت كل ما تسبب في التعجيل بوقوع الأزمة. يقول جونسون: ربما لا تملك البنوك بنادق وأسلحة، لكنها تملك وسائل أخرى على القدر نفسه من الفعالية، متمثلة في: التبرعات التي تقدِّمها للحملات الانتخابية، وتطبيقها سياسة الباب الدوار بين وول ستريت وواشنطن، وقدرتها على تعزيز نظام معتقدي من شأنه أن يدعم مصالحها. كتب جونسون: «لقد ظل جيل كامل من صُناع السياسات أسرى وول ستريت.»
إن الإشادة بجونسون واجبة لأنه كان أمينًا وصادقًا بشأن تحوُّله. وقد صار يمارس دوره الجديد كأحد أقوى الأصوات الحصيفة التي تبيِّن مخاطر الإفراط في النشاط المالي. لكن في الوقت نفسه، يعتبر جونسون في حد ذاته سببًا قويًّا للاعتقاد بأن حجة مقاله المنشور في «ذي أتلانتك» كانت قاصرة؛ إذ ما من شك في أن البنوك صارت قوية سياسيًّا في الولايات المتحدة، لكن قيام صُناع السياسة بأداء التزاماتهم تطلَّب حصولهم على مساعدة هائلة من الاقتصاديين. كان حديث الاقتصاديين يوفر غطاءً من العقلانية لتحرير القطاع المالي، وأقنع الساسة بأن ما هو في مصلحة وول ستريت في مصلحة «الشارع» أيضًا. خارج الولايات المتحدة، أطلق الاقتصاديون حملة «عالمية» للتحرير المالي، كما رأينا من قبل. والاشتراكيون الفرنسيون لم يتبنَّوْا إلغاء القيود على القطاع المالي بسبب تأثير وول ستريت عليهم، وإنما لأن مسئوليهم التكنوقراط لم يكن أمامهم خيار آخر. في الواقع لقد لاقت جهود صندوق النقد الدولي لتحرير تدفقات رأس المال تأييد أفضل العقول في مجال الاقتصاد.
(٥) لماذا أخطأ الاقتصاديون الفهم
ثَمَّةَ شكوى عامة من خبراء الاقتصاد تقول إن لديهم نموذجًا اقتصاديًّا واحدًا وعامًّا يعتمد على افتراضات ضيقة وغير واقعية. هذه الشكوى لم تحدد مصدر المشكلة الحقيقي. فكما رأينا، كان كينز وتوبين، وغيرهما من الاقتصاديين الذين فضَّلوا تقييد التمويل العالمي، يفكرون في نماذج مختلفة كل الاختلاف عن نماذج أنصار التمويل النشط. وحينما يغيِّر اقتصادي مثل سايمون جونسون نموذج الاقتصاد الذي يقترحه، فذلك لا يقلل من شأنه كخبير اقتصادي. إن التدريب المهني الضروري لأي اقتصادي يتطلب اكتسابه إلمامًا بمخزون كامل من النماذج المتنوعة، التي يسفر كلٌّ منها عن نتائج مختلفة. وخبراء الاقتصاد يدركون ما يتسم به العالم من تعقيد؛ ولهذا السبب تكون لديهم نماذج عديدة يمكن تطبيقها. والشعار الحقيقي للاقتصادي هو: «قل لي افتراضاتك، أقُل لك كيف ستعمل الأسواق.»
كيف إذنْ يقدِّم الاقتصاديون التوصيات بالسياسة التي ينبغي اتباعها؟ تعتمد «حرفية» الاقتصاد التطبيقي على بلوغ التوازن الصحيح بين الواقعية والسلاسة، وذلك من خلال: انتقاء الافتراضات على نحوٍ لا يُسفر إلا عن أقل ضرر ممكن للواقع الأصلي، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بالقدرة على قول شيء ذي أهمية عن النتائج المرتبة على اتباع كل سياسة من السياسات المختلفة. إن النماذج تأتي بالفائدة حينما تطبَّق على نحوٍ يتسم بالتروِّي وفي سياقها المناسب. والاقتصاديون خلال ممارستهم هذه الحرفة يخطئون مرارًا. أما الاقتصاديون القنافذ تحديدًا فقد وقعوا في فخ التركيز الزائد عن حده على نموذج واحد على حساب بقية النماذج. ونتيجةً لإبدائهم ثقة مفرطة وتهوينهم من مخاطر التشخيص الخاطئ (لم يفكروا «ماذا لو كان النموذج الذي لدينا ليس النموذج الصحيح؟») كثيرًا ما ضلوا الطريق السليم هم ومن تبعهم من السياسيين.
هناك أسباب اجتماعية وجيهة تبرر اتباع علم الاقتصاد الأكاديمي الموضة والبدع المستحدثة؛ فبطبيعة الحال غالبًا ما تغمر النماذج والأفكار الجديدة كليات الاقتصاد وتدفع البحث الأكاديمي في اتجاهٍ ما ثُم في غيره. لكن «علم» السياسة الاقتصادية ليس كالفيزياء؛ حيث يحل كل جيل جديد من الأفكار محل الجيل الذي سبقه، وإنما ما يحدث في أحسن الأحوال أننا نتعلم كيفية التعامل مع تعقيدات الواقع على نحوٍ أفضل قليلًا مع كل موجة جديدة من البحث.
فالفكر الجديد الذي اكتسبناه بعد عقد السبعينيات، والذي أرسى نهج إزالة القيود المفروضة على التمويل، لم يقلل من أهمية الأفكار المتبصرة لكينز وتوبين. وثورة «التوقعات المنطقية» التي انطلقت من أن الأفراد لا يخطئون التنبؤ مرارًا بشأن مسار الاقتصاد في المستقبل؛ جعلتنا ننظر بمزيد من التقدير إلى الدور الذي يلعبه السلوك التوقُّعي التطلُّعي من جانب الشركات والعمال والمستهلكين في تشكيل النتائج الاقتصادية. و«فرضية كفاءة السوق»، المبنية على الافتراض المزدوج بعقلانية التوقُّع «مع» سلاسة الأسواق، بيَّنت لنا النفع الذي يمكن أن تقدمه الأسواق المالية في غياب تكاليف المعاملات. هذه الأفكار ساهمت مساهمات فعالة في علم الاقتصاد وفي السياسة الاقتصادية. لكنها لم تقلب تمامًا كل ما تعلمناه من قبل، بل منحتنا فقط مزيدًا من الأدوات التي تمكِّننا من توقع العواقب الاقتصادية في مختلِف الظروف.
والاقتصادي الأكاديمي الأمين ينبغي أن يكون رد فعله حال سؤاله عن تأثيرات عمله على السياسة هو الصمت لحظة ثم الرد بقوله: «هذا يتوقف على أمور كثيرة أخرى.» فهذه هي الإجابة المناسبة. ربما تكون هذه الإجابة مخيبة للآمال بالنسبة إلى طالب أو صحفي، لكنها مع ذلك هي الإجابة الصحيحة. وحينما يخطئ الاقتصاديون التمييز بين البدع الأكاديمية المستحدثة والأمر الواقع، يؤدي ذلك إلى ضرر بالغ؛ فحينما أصبحت النماذج البالغة التبسيط التي اقترحها القنافذ أساسًا لواقع واحد بالغ الكبر، أصبح العالم يسعى إلى الحماية.