بلدان فقيرة في عالم ثري
في أولى المحاضرات التي أُلقيها على طلبتي في قسم التنمية الاقتصادية بجامعة هارفرد، أواجههم بالمسألة العويصة التالية: هل تفضل أن تكون غنيًّا في بلد فقير، أم فقيرًا في بلد غني؟
في بادئ الأمر عادةً ما يدفع السؤال الطلبة إلى حركة عصبية فوق المقاعد ونظرات حائرة؛ لذا أوضح سؤالي، فأسألهم ألَّا يفكروا إلا في استهلاكهم الشخصي دون القلق بشأن رفاهية الآخرين في المجتمع الذي يختارونه. ثم أوضح لهم ما أعنيه بكلمتَي «غني» و«فقير»، فأخبرهم أن الشخص الغني هو الذي ينتمي إلى فئة العُشر الأعلى نصيبًا من الدخل في المجتمع، بينما الفقير هو الذي ينتمي إلى فئة العُشر الأدنى نصيبًا من الدخل فيه. وبالمثل، البلد الغني هو الذي يقع في العُشر الأعلى من قائمة ترتيب الدول على أساس معدل دخل الفرد، بينما البلد الفقير هو الذي يقع في العُشر الأدنى من تلك القائمة. ثم أقول: والآن كلٌّ منكم مستعد للإجابة عن هذا السؤال، فأيهما تختارون؟
هؤلاء طلبة دراسات عليا، وسبق لهم زيارة بلدان نامية؛ لذا فقد رأَوْا جميعًا السيارات الفخمة التي تسير بسرعة البرق والقيادة المترفة والمساكن الفاخرة التي يقطنونها هناك؛ لذا يكاد معظمهم لا يتردد إزاء اختياره أن يكون غنيًّا في بلد فقير.
لقد اختار الطلاب الإجابة الخاطئة لأنهم لا يدركون مدى ضآلة النسبة التي يشكلها من يقودون سيارات من طراز بي إم دبليو من فاحشي الثراء هؤلاء، والتي لا تكاد تتجاوز ٠٫٠١٪ من مجمل السكان. وإذا وسَّعنا نطاق الأرقام لتشمل كامل العُشر الأعلى دخلًا من سكان أي بلد فقير، فسنصل إلى مستويات دخل لا تشكِّل إلا كسورًا مما يكسبه معظم الفقراء في البلدان الغنية. من السهل الخطأ في إجابة سؤال كهذا. ذات مرة طرحت هذا السؤال بينما كان بين الجالسين أحد أبرز خبراء العالم في التنمية الاقتصادية، وأخطأ الإجابة هو الآخر!
حقيقة أن المرء الفقير في البلد الغني أفضل حالًا كثيرًا من الغني في بلد فقير تخبرنا أمرًا جوهريًّا عن الاقتصاد العالمي اليوم؛ أن تفاوتات الدخل (وكذلك الصحة وغيرها من مؤشرات الرفاهية) أكبر بكثير بين الدول منها داخل البلد الواحد، وأن البلد الذي يولد فيه المرء يحدِّد بدرجة كبيرة فرصه في الحياة.
بحلول منتصف القرن العشرين صار العالم مقسمًا إلى مجموعة صغيرة من البلدان الغنية وعدد كبير من البلدان الأخرى التي تعاني درجات متفاوتة من الفقر. شهدت العقود الستة اللاحقة نموًّا استثنائيًّا على نطاق عالمي. فمن بين حفنة من البلدان، معظمها في آسيا، تمكَّنت عدة بلدان فقيرة من سد الفجوة التي تفصلها عن البلدان المتقدمة على نحوٍ مطَّرد. لحسن الحظ، كانت البلدان الناجحة (لا سيما الصين) وطنًا لمئات الملايين من الفقراء؛ لذا كانت تقارير التنمية خلال العقود القليلة الأخيرة بالغة الروعة بحق. لم تتمكن بلدان أخرى من مواكبة هذا الأداء الناجح؛ ما أدَّى إلى اتساع الهوة بين الدول الغنية والفقيرة لتصل إلى أعماقٍ غير مسبوقة.
لماذا يشيع الفقر هكذا بين الكثيرين؟ وما الدور الذي لعبته العولمة في حدوث هذا «التفاوت الهائل»؟ وما الذي يمكن أن تفعله البلدان لمكافحة الفقر؟ هذه هي الأسئلة التي يتناولها هذا الفصل والفصل الذي يليه.
(١) العولمة والتفاوت الهائل
السبب المباشر في الفقر هو انخفاض الإنتاجية؛ فالفقراء فقراء لأن عملهم لا يمكِّنهم إلا من إنتاج القليل الذي لا يوفر لهم ما يكفي من الطعام والإيواء، ناهيك عن تلبية حاجاتهم الأخرى كالرعاية الصحية والتعليم. انخفاض الإنتاجية بدوره له أسباب متنوعة ومتعددة؛ فقد يكون ناتجًا عن عدم توافر الائتمان؛ الأمر الذي يمنع المنتجين من إقامة الاستثمارات التي كانت ستزيد إنتاجهم ومن ثَمَّ دخلهم. وقد يكون ناتجًا عن عدم الحصول على تكنولوجيات جديدة أفضل. وقد يكون راجعًا إلى نقص المهارات أو المعرفة أو فرص العمل. وربما ينتج عن صغر حجم السوق، الذي يخفض ربحية استخدام معدات وتكنولوجيات حديثة. أو ربما يكون راجعًا إلى الاستغلال الذي تمارسه النخب، عادةً بالتواطؤ مع الحكومة، وهذه النخب تعرقل أي تحسُّن في الأوضاع الاقتصادية من شأنه أن يهدد نفوذها. يمكن عزْو الأسباب الأساسية للفقر إلى واحد من هذه الأسباب أو أكثر.
إن العولمة تبشر بمنح الجميع حق الوصول إلى الأسواق، ورأس المال، والتكنولوجيا، وبتعزيز الحكم الرشيد. بعبارة أخرى: العولمة تملك القدرة على إزالة كافة أوجه القصور التي تسبب الفقر وتدعم بقاءه. وبهذا ينبغي أن تكون العولمة محركًا قويًّا يمكِّن المناطق المتخلفة في العالم من اللحاق بالمسيرة الاقتصادية. ومع ذلك شهد القرنان الأخيران للعولمة تفاوتًا اقتصاديًّا حادًّا على نطاق عالمي. كيف حدث ذلك؟
ظلت هذه المسألة تشغل الاقتصاديين وصناع السياسات زمنًا طويلًا جدًّا. والإجابات التي قدموها تُجمِع على سردَين متناقضين، يقول أحدهما إن المشكلة هي «نقص العولمة»، بينما يقول الآخر إن المشكلة هي «فرط العولمة». وقد لاقت كلٌّ من هاتين الروايتين تأييدًا على مدى فترات مختلفة من التاريخ، وتفاوتت جاذبيتهما في أجزاء مختلفة من العالم. لكن الجدال حول العولمة والتنمية دائمًا ما يعود في نهاية المطاف إلى المعضلة التي تجسدها هاتان الروايتان المتناقضتان: ما الذي ينبغي لنا أن نفعله إذا أردنا زيادة نمونا الاقتصادي، هل ننفتح على القوى المنبثقة من الاقتصاد العالمي، أم نحمي أنفسنا منها؟
للأسف، لم تساعد أيٌّ من هاتين الروايتين كثيرًا في تفسير السبب وراء تحسُّن أوضاع بعض البلدان أكثر من غيرها؛ ومن ثَمَّ لم تكن أيٌّ منها دليلًا جيدًا للتعرف على السياسة التي ينبغي اتباعها. إن الحقيقة تكمن في مكان صعب، في المنتصف. فالعولمة تعزز بالفعل إمكانية النمو الاقتصادي تعزيزًا كبيرًا، لكن أفضل الطرق للاستفادة منها لا تكون بإزالة تكاليف المعاملات، التي تَحُول دون الاندماج الكامل، إلى أقصى حدٍّ ممكن. وإنما قد تؤدي نسخة «خفيفة» من العولمة، على طراز نظام بريتون وودز، إلى نتائج أفضل. إليك استعارة كنت قد سمعتها ذات مرة من طالب من الصين (كما ينبغي للصيني أن يكون): أبقِ النوافذ مفتوحة، لكن لا تنسَ إغلاق سلك النافذة الذي يمنع دخول البعوض. بهذه الطريقة تحصل على الهواء النقي وفي الوقت نفسه تمنع دخول الحشرات.
(٢) تفاوت تأثير العولمة خلال القرن التاسع عشر
انتشرت الثورة الصناعية من إنجلترا إلى القارة الأوروبية إلى بعض الأراضي المستعمرة حديثًا (أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا)، لكنها لم تذهب أبعد من ذلك. وسرعان ما انقسم اقتصاد العالم إلى قلب صناعي ومحيط خارجي ينتج المواد الخام في أغلبه. لعبت العولمة في ذلك دورَي دكتور جيكل ومستر هايد معًا؛ فقد أتاحت انتشار تكنولوجيات جديدة في المناطق التي توافرت فيها المتطلبات اللازمة، لكنها أيضًا عمَّقت انقسامًا طويل الأجل بين القلب والمحيط وزادته وضوحًا.
اشتركت أجزاء العالم التي أظهرت تقبُّلًا لقوى الثورة الصناعية في ميزتين: توافر رصيد كبير بما يكفي من العاملين المتعلمين والمهرة الذين استطاعوا أن يملَئوا المصانع الجديدة وأن يُشغِّلوها، واحتوائها على مؤسسات جيدة بما فيه الكفاية ونُظُم قانونية وقضائية فاعلة وسياسة مستقرة وقيود مفروضة على عمليات المصادرة من جانب الدولة؛ لتوليد حوافز لحفز الاستثمار الخاص وتوسع السوق. بهذه المتطلبات كان جزء كبير من قارة أوروبا مهيَّأً لاستيعاب تكنولوجيات الإنتاج الجديدة التي طُورت وطُبقت في بريطانيا. ها هي نقطة لصالح العولمة.
صحيح أن تقسيم العمل الذي شهدته الفترة التي سبقت عام ١٩١٤ أنتج ثروة في البلدان المصدِّرة للسلع الأساسية. لكن كما هي الحال في اقتصادات الدول الغنية بالنفط في يومنا هذا، تركَّزت هذه الثروة تركُّزًا كبيرًا ثم صارت تكبت التنمية المؤسسية والإنتاجية. كانت عواصم البلدان التي لم تكن قد نالت استقلالها بعدُ تتمتع بالاستقلال، أما في البلدان التي كانت قد نالت استقلالها، فكان هذا الاستقلال حكرًا على فئة ضيقة من النخب المحلية.
(٣) الاستثناء الياباني
إذنْ كانت الجغرافيا والثروات الطبيعية تحدِّد إلى حدٍّ كبير مصير الأمم الاقتصادي خلال أول عصر للعولمة. لكنَّ ثَمَّةَ استثناءً بارزًا لهذه القاعدة سيصبح فيما بعدُ مصدر إلهام لكل البلدان المعتمدة على تصدير السلع الأساسية، والراغبة في التخلص من هذه اللعنة. تمثل هذا الاستثناء في اليابان، الدولة غير الغربية الوحيدة التي اتجهت نحو التصنيع قبل عام ١٩١٤.
لكن السياسات العسكرية والتوسعية التي انتهجتها اليابان خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية شوَّهت هذه الإنجازات، إلا أن إنجازاتها على الصعيد الاقتصادي أظهرت أن ثَمَّةَ طريقًا بديلًا تستطيع أن تسلكه؛ فقد تسنَّى لها توجيه الاقتصاد بعيدًا عن تخصصه الطبيعي في المواد الخام. كان تحقيق النمو الاقتصادي ممكنًا — حتى وإن بدأ البلد على الجانب الخطأ من تقسيم العمل الدولي — من خلال الجمع بين جهود حكومة عازمة وطاقات قطاع خاص نشط. لم تكن العولمة على الإطلاق هي مفتاح النجاح، وإنما النوع الصحيح منها فحسب.
ستدرَك هذه الدروس ثانية خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.
(٤) «معجزة» شرق آسيا
فدفعت الحكومة اليابانية البنك إلى إعداد دراسة عن «المعجزة الآسيوية»، واتفقت كذلك على أن تموِّل الجزء الأكبر من نفقات إعدادها. لم تكن المعجزة المعنية في الدراسة تتناول تجربة اليابان وحدها، بل تتناول أيضًا تجارب سبعة اقتصادات أخرى في شرق آسيا وجنوب شرقها نمت بسرعة كبيرة منذ مطلع ستينيات القرن العشرين، وهي: كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة وماليزيا وتايلاند وإندونيسيا. استفادت كل هذه البلدان استفادة كبرى من الصادرات، ومن ثَمَّ من العولمة أيضًا. لكن لم تقترب أيٌّ منها — باستثناء المستعمرة البريطانية هونج كونج — من التحوُّل إلى اقتصادات أسواق حرة؛ فقد كانت الدولة تؤدي دورًا توجيهيًّا وتنسيقيًّا مهمًّا في جميع هذه البلدان.
صدر تقرير البنك الدولي في نهاية الأمر عام ١٩٩٣ تحت عنوان: «معجزة شرق آسيا: النمو الاقتصادي والسياسة العامة». أَعد هذا التقريرَ فريق كبير من الاقتصاديين والاستشاريين، وشمل ما يقرب من ٤٠٠ صفحة من النصوص والرسوم البيانية والتحليلات الإحصائية، إلى جانب أكثر من ٤٠ دراسة خلفية فرعية؛ لذلك فقد زعم أنه أكثر التحليلات موثوقية بين كل التحليلات التي أُجريت حول هذا الموضوع. لكن أهم ما في ذلك التقرير أنه أظهر عدم قدرة البنك الدولي على تقديم سرد محكَم يبيِّن كيف استطاعت الدول الآسيوية أن تنموَ بهذه السرعة الفائقة. كان تدخُّل الدولة كبيرًا جدًّا في تلك البلدان الآسيوية، ولولا ذلك لما تسنَّى لها أن تحظى بأي تأثير مفيد، لكن البنك الدولي لم يرغب في الإشارة إلى أن تدخُّل الدولة أمر مفيد، ونتيجةً لتركيزه البالغ على التمييز المطلق بين الأسواق وتدخُّل الدولة، لم يستطع البنك أن يرى كيف يمكن أن يعزز كلٌّ منهما الآخر؛ ولذلك انتهج التقرير نهجًا فصاميًّا وقدَّم حجة بالغة التناقض.
إن تقرير التجربة الاقتصادية الآسيوية يخرج عن الصور النمطية ويقدم شيئًا لكل قارئ؛ فهو يشكل في حقيقة الأمر مرآة عاكسة لميول المطَّلعين عليه. فإذا كنت ممن يعتقدون أن إطلاق العنان للأسواق هو أفضل طريقة لتعزيز التنمية الاقتصادية، فستجد الكثير من الأدلة على ذلك. وإذا كنت ممن يعتقدون أن الأسواق بحاجة إلى قبضة الحكومة القوية المتحكمة، حسنًا، فهناك الكثير من الأدلة على صحة ذلك أيضًا. وماذا عن النظر إلى العولمة باعتبارها محركًا للنمو؟ دول شرق آسيا مثال نموذجي على ذلك. هل العولمة تحتاج إلى ترويض؟ الإجابة السابقة نفسها. لكن إذا نحيت جانبًا هذه الحجج المستهلكة وأدركت الفكرة الحقيقية التي تنبثق جلية واضحة من نجاح البلدان الآسيوية، فستجد أن الطريقة الناجحة تكمن في المزج بين الدولة والسوق. إن العولمة لن تكون قوة إيجابية هائلة إلا إذا تمكَّنتَ من استئناسها كي تعمل لمصلحتك لا ضدها.
خذ مثلًا اثنين من أكثر بلدان آسيا نجاحًا: كوريا الجنوبية وتايوان. في أواخر الخمسينيات لم يكن أيٌّ من هذين البلدين أفضل حالًا من بلدان جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. كانت كوريا الجنوبية غارقة في الاضطرابات السياسية، ولم تكن لديها أي صناعة حقيقية بعد أن هجرها كل ما كانت تملكه من صناعة لكوريا الشمالية الأكثر تقدمًا. كان الاقتصاد التايواني أيضًا يغلب عليه الطابع الزراعي؛ مما جعل السكر والأرز سلعتَيه التصديريتَين الرئيسيتَين. لكن التحوُّل الذي بدأ اقتصاد البلدين يشهده منذ مطلع الستينيات وضعهما على بداية طريق سيحوِّلهما فيما بعدُ إلى قوتين صناعيتين كبيرتين.
كانت الاستراتيجيات التي انتهجها البَلَدان مطابِقة لاستراتيجيات اليابان في نواحٍ عديدة؛ فقد احتاجا في المقام الأول إلى حكومة ينصبُّ كلُّ تركيزها على النمو الاقتصادي. وقد أتاح الإصلاح الزراعي المبدئي في كلا البلدين بعض المجال لحكومتَيهما كي تتحركا على نحوٍ مستقل لا يخضع للنخبة التي تملك الأراضي. كان كلاهما يتمتع أيضًا بدافع جغرافي سياسي شامل ومهيمن؛ فقد كانت كوريا الجنوبية بحاجة إلى أن تنموَ كي تتمكن من مواجهة أي تهديدات محتملة من كوريا الشمالية، أما تايوان فقد أرادت أن تُحبط أي تحدٍّ محتمل من جانب الشيوعيين بعد أن تخلت عن فكرة استعادة أراضي البر الصيني الرئيسي. في مناطق كثيرة من العالم، تكون العداوات الإقليمية مبررًا لبناء دولة قوية على حساب الاقتصاد؛ خذ مثلًا على ذلك منطقة الشرق الأوسط. لكن حكومتَي كوريا الجنوبية وتايوان أدركتا أن تحقيق أهدافهما السياسية والعسكرية يتطلب نموًّا اقتصاديًّا سريعًا أيضًا؛ ولذلك صار تطوير القدرات الصناعية وتأسيس قاعدة قوية من صادرات المصنوعات على وجه التحديد يشكِّلان الهدف الرئيسي للسياسات التي انتهجتها حكومتاهما.
وقد تحقق هذا الهدف من خلال إطلاق العنان لطاقات الأعمال التجارية الخاصة. وعلى الرغم من أن كلتا الحكومتين استثمرت بكثافة في المشاريع الحكومية العامة خلال حقبة الستينيات، كان هذا الاستثمار يهدف إلى تيسير أعمال القطاع الخاص — من خلال توفير مدخلات رخيصة الثمن على سبيل المثال — لا إلى أن يحل محله. أحد بنود الاستراتيجية المتبعة كان يدعو إلى إزالة العقبات التي تعوق الاستثمار الخاص، والتي عرقلت تقدُّم العديد من البلدان المنخفضة الدخل، شملت هذه العقبات: الضرائب الباهظة والروتين والفساد الإداري وعدم كفاية البنية التحتية وارتفاع معدل التضخم. كانت هذه التدابير تحسينات فيما بات يُعرف اليوم باسم «مناخ الاستثمار».
كانت السياسات التدخلية التي طبَّقتها الحكومة على القدر نفسه من الأهمية، ومن بينها الحوافز الحكومية التي صُممت بحيث تحفز الاستثمارات في الصناعات الحديثة؛ فقد جعلت كلتا الحكومتين من هذه الصناعات «قطاعات ذات أولوية» وأمدت الشركات بدعم سخي. في كوريا الجنوبية غالبًا ما أخذ هذا الدعم شكل قروض مدعومة يقدمها القطاع المصرفي. أما في تايوان فقد أخذ شكل حوافز ضريبية للاستثمارات في القطاعات التي يراد تنميتها. وغالبًا ما لعب المسئولون في كلا البلدين دور القابلة للصناعات الجديدة؛ فقد كانوا ينسقون بين استثمارات الشركات الخاصة، ويوفرون المدخلات، ويمارسون لَيَّ الذراع متى دعت الحاجة إلى ذلك، ويقدمون الإغراءات عند اللزوم. وعلى الرغم من أن البلدين أزالا بعض أفظع القيود المفروضة على الواردات، لم يعرضا صناعاتهما الناشئة للكثير من منافسة الواردات حتى وقت متأخر من ثمانينيات القرن العشرين. كانت السوق المحلية تحظى بالحماية كي تتمكَّن الصناعات «الوليدة» من تحقيق أرباح كافية. ثبطت كوريا الجنوبية أيضًا دخول الشركات المتعددة الجنسيات إلى البلاد؛ ما أتاح أقصى مجال ممكن للشركات المحلية كي تُقبِل على المعرفة التكنولوجية.
يمكننا أن نلاحظ كيف قدمت استراتيجية النمو هذه شيئًا يرضي جميع الأذواق؛ فخبير الاقتصاد الكلي يستطيع أن ينتهيَ إلى أن استقرار الاقتصاد الكلي من خلال تخفيض معدلات التضخم هو الحل الأمثل. والخبير الاقتصادي المتخصص في العمالة يستطيع الإشارة إلى أهمية تمتُّع قوة العمل بتعليم جيد نسبيًّا. والخبير الاقتصادي المتخصص في التجارة سينبه إلى أن تكاليف الحماية باهظة، لكنه سيجد السلوان في أن ما ينجم عن ذلك من تأثيرات مثبطة للتجارة يحبطها الدعم الحكومي المقدَّم للصادرات الذي يدفع في الاتجاه المضاد لهذه التأثيرات. وخبير الاقتصاد السياسي سيؤكد على دور الدولة القوية و«استقلالها» عن النخب. والبنك الدولي سيؤكد على الدور القيادي الذي لعبته الاستثمارات الخاصة والصادرات. والاقتصادي التدخلي سيؤكد على أهمية قوة قبضة الدولة لتوجيه الاستثمارات الخاصة.
لكن هؤلاء جميعًا لن يلاحظوا الصورة الكبيرة، التي تبيِّن أن النمو الاقتصادي يتطلب حكومة براجماتية مستعدة لفعل كل ما يلزم لتنشيط القطاع الخاص. وهذا يتطلب استخدام الأسواق والعولمة استخدامًا استراتيجيًّا لتنويع الاقتصاد المحلي والتحرر من الاعتماد على الموارد الطبيعية. والأدوات والوسائل الخاصة اللازمة لتحقيق ذلك قد تختلف، وتعتمد بدرجة كبيرة على السياق الذي ستُستخدم فيه، أما وصفات النجاح المحددة فلا تُناسب كل الحالات، لكن الرؤية الواسعة خلف هذه الوصفات هي ما تنبغي محاكاتها.
وقد أُحسنَ استخدام هذه الدروس في أكثر النجاحات التنموية إذهالًا في العالم.
(٥) دولة تسير على إيقاعها الخاص: الصين والعولمة
إن تجربة الصين تقدِّم أدلة دامغة على أن العولمة يمكن أن تكون نعمة كبيرة بالنسبة إلى الدول الفقيرة. لكنها تقدِّم كذلك أقوى حجة ضد الإيمان السائد بالعولمة — وما يتضمنه من تأكيد على أهمية العولمة المالية والتكامل العميق من خلال منظمة التجارة العالمية. فقد تبيَّن أن قدرة الصين على حماية نفسها من الاقتصاد العالمي كانت حاسمة وضرورية بالنسبة إلى جهودها التي كانت ترمي إلى بناء قاعدة صناعية، والتي ستزداد قوة وفعالية من خلال الأسواق العالمية.
عام ١٩٧٨ كان الطابع الريفي يغلب على الاقتصاد الصيني. كانت المشكلة الرئيسية التي واجهها دنج تتمثل في كيفية تحفيز المزارعين في بيئة لا يزال التخطيط المركزي هو الذي يحدد الأسعار والكميات فيها. كانت الدولة تحدد جميع الأسعار وتطالب الفلاحين بتسليم الحكومة كميات مفروضة من الحبوب وفقًا لما تقتضيه الخطة. وكان يجري تنظيم المزارعين في «كوميونات» ويحظر عليهم بيع أيٍّ من منتجاتهم في الأسواق الخاصة. وكانت المواد الغذائية التي تصادرها الدولة على هذا النحو من الريف يجري توزيعها في حصص مقننة على العاملين في المناطق الحضرية؛ وبذلك ضمن النظام إطعام العمال من دون تحميل أي تكاليف على ميزانية الحكومة. وعيب ذلك أن المزارعين لم يكن لديهم حافز يشجعهم على زيادة الإنتاج أو زيادة كفاءة استخدام الأرض الزراعية.
كانت هناك أيضًا مشكلة توفير نظام ما يشبه حقوق الملكية بينما لا تزال الدولة المالك المطلق لجميع الممتلكات. كانت الخصخصة هي الحل التقليدي للتعامل مع هذه المشكلة، لكنها كانت تتعارض بشدة مع أيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني. ومرة أخرى، قُدم ابتكار جديد للخروج من هذه الأزمة؛ إذ تبيَّن أن تشجيع إقامة «مشاريع المدن والقرى» وسيلة بالغة البراعة لتحفيز الاستثمار المحلي الخاص. لم تكن هذه المشروعات ملكًا لكيانات خاصة فقط أو لحكومة مركزية فقط، وإنما ملكًا لحكومات محلية (مدن أو قرًى). صارت هذه المشاريع تُنتج فعليًّا سلسلة كاملة من المنتجات، كل شيء، من السلع الاستهلاكية إلى السلع الرأسمالية، وكانت بمنزلة القاطرة التي قادت النمو الاقتصادي الصيني من منتصف الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات.
إن الاستراتيجية التي نفذتها الصين لفتح اقتصادها على العالم حادت هي الأخرى عما تقتضيه النظرية التقليدية السائدة؛ فالقائمة المعيارية للتوصيات التي تقدَّم للبُلدان الراغبة في تحقيق هذا الهدف تشمل ما يلي: إزالة القيود المفروضة على كميات الواردات، وتخفيض التعريفات الجمركية وكيفية توزيعها، وجعل العملة قابلة للتحويل لتيسير المعاملات التجارية. ومن ثَمَّ، إذا حاولنا أن نقيِّم السياسات التي طبقتها الصين في الواقع قياسًا على الإرشادات السابقة فيُفترض أن نجد بلدًا قد تدهور بشدة، لكن ما حدث أن الصين تحوَّلت إلى منافس جبار في الأسواق العالمية. باختصار، لقد انفتحت الصين على نحوٍ تدريجي بالغ البطء، ولم تُجرِ أي إصلاحات مهمة إلا بعد تحقق النمو (في الصادرات وفي الدخول عمومًا) بعقد أو أكثر على الأقل. صحيح أن الاحتكارات الحكومية جرى تفكيكها في وقتٍ مبكر نسبيًّا (بدءًا من أواخر السبعينيات)، لكن منظومة معقدة وشديدة التقييد حلت محلها وشملت رسومًا وحواجز غير جمركية، وأُذونًا لاستيراد السلع، ولم تُخفف هذه القيود حتى السنوات الأولى من التسعينيات.
لقد صمَّت القيادة الصينية آذانها عن المشورة التقليدية حينما أرادت فتح اقتصادها؛ لأن إزالة الحواجز أمام التجارة كان من شأنها أن تدفع كثيرًا من الشركات المملوكة للدولة إلى أن تغلق أبوابها، دون أن يعود ذلك بفائدة ملموسة تُؤدي إلى حفز الاستثمارات الجديدة في الأنشطة الصناعية، وكان التشغيل والنمو الاقتصادي سيواجهان صعوبات، وهو أمر يهدد الاستقرار الاجتماعي؛ فقرر الصينيون تجربة آليات بديلة لا تتسبب في توليد ضغط هائل على الكيانات الصناعية القائمة. واعتمدوا على «المناطق الاقتصادية الخاصة» لإنتاج الصادرات وجذب الاستثمار الأجنبي. كانت المشاريع العاملة في هذه المناطق تعمل وفقًا لقواعد تختلف عن تلك المطبَّقة في بقية أنحاء البلاد؛ إذ كانت تحظى ببنية تحتية أفضل وتستطيع استيراد مدخلات إنتاج معفاة من الرسوم الجمركية. أوجدت هذه المناطق الاقتصادية الخاصة حوافز للاستثمارات المتوجهة نحو التصدير من دون أن تسحب البساط من تحت الشركات التي تملكها الدولة.
ولم يكن ذلك ناتجًا عن عمليات طبيعية أو عمليات يوجهها السوق، بل عن حملة حفزتها الحكومة الصينية. صحيح أن انخفاض تكاليف الأيدي العاملة ساهم في حفز صادرات الصين، لكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد. وفي مجالات مثل مجال الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية وقطع غيار السيارات حققت الصين مكاسب إنتاجية هائلة، لاحقة بركب دول ذات مستوياتِ دخْل أعلى من مستوياتها بكثير. ما هو أكثر من ذلك أن الصين واصلت ابتعادها أكثر فأكثر عن كونها مجرد مكان لتجميع المكونات؛ إذ أصبح إنتاجها رأسي التكامل أكثر فأكثر وانتقلت سلسلة التوريد من البلدان الغنية إلى الصين حيث يجري تجميع مكونات التصنيع.
لعب المستثمرون الأجانب أيضًا دورًا رئيسيًّا في تطور الصناعات الصينية. كانت شركاتهم الأعلى إنتاجية بين الشركات، وكانوا مصدر التكنولوجيا، وأنتجوا الجزء الأكبر من الصادرات. ينبغي أيضًا عزْو قدر كبير من الفضل إلى «المناطق الاقتصادية الخاصة»؛ حيث كان هؤلاء المنتجون الأجانب يستطيعون العمل في ظل البنية التحتية الجيدة والحد الأدنى من المتاعب. لكن إذا كانت الصين رحبت بالشركات الأجنبية، فقد فعلت ذلك دائمًا بهدف تعزيز القدرات المحلية.
كان كثير من السياسات التي طبَّقتها الصين في وقت مبكر سيتعارض مع قوانين منظمة التجارة العالمية التي تحظر دعم الصادرات وتمنع التمييز لمصلحة الشركات المحلية — هذا لو كانت الصين عضوًا في المنظمة. لم يكن صناع السياسة الصينيون مكبَّلين بأية قيود خارجية في تطبيقهم السياسات التجارية والصناعية، وكانوا يستطيعون التصرف بحرية لتشجيع التصنيع. بحلول وقت انضمام الصين إلى المنظمة عام ٢٠٠١، كانت قد أنشأت بالفعل قاعدة صناعية قوية، لم يعد الجانب الأكبر منها في حاجة إلى الحماية أو الرعاية. وخفضت الصين تعريفاتها الجمركية بقدر كبير استعدادًا للانضمام إلى المنظمة، من مستوياتها المرتفعة في مطلع التسعينيات (في المتوسط حوالي ٤٠٪) إلى أقل من ١٠٪ عام ٢٠٠١. وتراجعت تدريجيًّا عن كثير من السياسات الصناعية الأخرى أيضًا.
خلاصة القول أن صُناع السياسة الصينيين حافظوا على حيزهم للمناورة واستغلوه ببراعة؛ فقد منحوا الأسواق والحوافز الخاصة دورًا أكبر بكثير، لكنهم فعلوا ذلك بطرق كُيفت مع واقعهم الاقتصادي المحلي وراعت القيود السياسية والأيديولوجية. فكتاب القواعد الدولي لم يكن يتناسب مع احتياجاتهم؛ لذا كان من الضروري أن تتخذ إصلاحاتهم خصائص غير تقليدية؛ فقاوموا الالتزام بالقواعد الدولية، ولم يخضعوا لها إلا بمجرد أن صار اقتصادهم قويًّا بما فيه الكفاية. ولولا ذلك لوجدوا صعوبة بالغة في تنويع اقتصادهم والخروج من حلقة الزراعة وغيرها من المنتجات التقليدية الأخرى. لقد لعبت الصين (كما لعبت كوريا الجنوبية وتايوان من قبل) لعبة العولمة بقواعد بريتون وودز لا قواعد التكامل العميق التي وُضعت بعد عام ١٩٩٠.
(٦) ضرورة التنويع
تتمثل كينونة المرء فيما ينتجه. هذا هو مصير الدول المحتوم. إذا تخصصتَ في السلع الأساسية والمواد الخام، فستعلق في المحيط الخارجي للاقتصاد العالمي. وستظل رهينة لتقلبات الأسعار العالمية وتعاني تحت سيطرة مجموعة صغيرة من النخب المحلية. وإذا استطعتَ أن تشق طريقك في مجال المصنوعات وغيرها من المنتجات التجارية الحديثة، فقد تمهد طريقًا يقودك إلى الاقتراب من دول العالم الغنية. وإذا اكتسبت قدرة أكبر على الصمود أمام تقلبات الأسواق العالمية، فستصبح لديك، بدلًا من المؤسسات القمعية التي تحتاجها النخب كي تختبئ وراءها، مؤسسات أخرى نيابية ذات قاعدة عريضة تحتاجها الطبقة الوسطى المتنامية.
والعولمة تزيد هذه المعضلة وضوحًا لأنها تسهل سقوط الدول في فخ السلع الأساسية؛ فتقسيم العمل على النطاق الدولي لا يتيح لك إلا إنتاج القليل جدًّا بجانب السلع الأساسية، في حال اخترت أن تكون السلع الأساسية تخصصك. ويمكنك دائمًا أن تستورد الأشياء الأخرى من الدول الغنية. في الوقت نفسه، تؤدِّي العولمة إلى زيادة ثمار اللجوء إلى استراتيجية أخرى زيادةً كبيرة، كما ظهر بوضوح في حالات اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والصين؛ فالحكومة التي تضع نصب أعينها التنويع الاقتصادي والتي تستطيع تنشيط قطاعها الخاص تستطيع أن تحفز معدلات نموها، وهذا أمر كان سيعتبر مستحيلًا في عالم يخلو من العولمة.
نظريًّا، ينبغي أن تساعد الأسواق الجيدة الأداء — سواء المحلية أو العالمية — الدول على أن ترتقيَ السلم وتنتقل من تخصص السلع الأساسية إلى صناعات جديدة من دون دفعة من جانب الحكومة. ويعتقد كثير من خبراء الاقتصاد أن المساعدة التي يحتاجها الانتقال لا تزيد على مجرد ضمان أن تؤديَ الأسواق مهمتها. لكن عمليًّا، هناك كثير من الأمور التي يمكن أن تتم على نحوٍ خاطئ؛ فتعلم تكنولوجيات جديدة والاستثمار في منتجات جديدة عملية صعبة تنطوي على كثير من العقبات حينما لا تكون الدولة مهيَّأة لذلك بالفعل.
يحظى بثمار العولمة مَن يستثمرون في القدرات الاجتماعية المحلية. وتتطلب هذه الاستثمارات بدورها درجةً ما من الدعم للشركات المحلية، تتمثل في فرض تعريفات للحماية الاقتصادية وتقديم دعم وتخفيض قيمة العملة وتقديم تمويل رخيص، وغيرها من أنواع المساعدات الحكومية الأخرى التي تزيد فوائد اقتحام سبل تجارية جديدة من دون أن تغلق الاقتصاد أمام العالم الخارجي. فإذا كانت بقية دول العالم لا توجد فرص عمل عالية الإنتاجية لعمالك، فلا خيار أمامك سوى أن تخلق أنت تلك الفرص لنفسك. لكن نموذج عولمة التكامل العميق يغفل هذه الضرورة. ونتيجةً لفرض القيود باسم السعي نحو زيادة تحرير التجارة بات مجال السياسات الصناعية بحاجة إلى إعادة هيكلة الاقتصادات الوطنية وتنويعها، وهذا يطوع العولمة بحيث تكون قوة إيجابية من أجل التنمية.
قد يبدو بالغ التناقض أن يتطلب جنْي مكاسب العولمة زيادة تكاليف المعاملات الدولية لا تخفيضها، لكن هذا التناقض ظاهري أكثر منه حقيقي؛ فعالم الاقتصاد المعقد يستلزم سياسات ثعلبية ماكرة، وهذا لا ينطوي على تناقض يزيد على تناقض فتح النافذة مع غلق سلك الحماية من البعوض، أما العالم المثالي فيخلو من البعوض؛ ومن ثَمَّ لا تكون هناك حاجة إلى إغلاق السلك.
لماذا لم تتبع بلدان أكثر خطى بلدان شرق آسيا؟ لماذا تبيَّن أنه من الصعب للغاية تقليد استراتيجياتها؟ لماذا لا تزال عشرات البلدان في أفريقيا وأماكن أخرى مطحونة تحت رحى الفقر، وعاجزة عن الانتقال إلى الصناعات الحديثة والخدمات؟ للأسف، كثير من هذه البلدان يملك حكومات لا ترغب في تحقيق تنمية حقيقية؛ فمن غير المعقول أن تسمح هذه الحكومات بإجراء تغييرات اقتصادية تهدد استمرار سيطرة قبضتها على السلطة.
لكن السياسة ليست سوى جزء من إجابة الأسئلة السابقة؛ إذ لا يمكن أن نتفهَّم خيبات الأمل التي أصابت بقية دول العالم من دون أن نبرز دور خبراء الاقتصاد فيها؛ فقد كانوا هم الذين روَّجوا الروايات التي تفسر أسباب النجاح أو الفشل التنموي، وهذه الروايات شكلت التوجهات السياسية في أجزاء كثيرة من العالم. لقد كان خبراءُ الاقتصاد الحكامَ المطلقين الذين يحددون كيف ستتشكل هذه الروايات، وأيها سيبقى، وكيف ستنتشر. وكما سنرى في الفصل المقبل، لم يكونوا دائمًا على حق.