الفصل التاسع

المعضلة الثلاثية السياسية للاقتصاد العالمي

في عام ١٩٩٠، كان اقتصاد الأرجنتين يشهد أسوأ حالة من الفوضى على الإطلاق. ظلت البلاد تعاني أزمة شبه دائمة منذ السبعينيات، وتنوء تحت عبء التضخم المفرط والديون الضخمة، وتقلصت دخول الأفراد بنسبة ٢٥٪ عن مستوياتها قبل عقد من الزمن، وتوقف الاستثمار الخاص تمامًا، واستمر ارتفاع الأسعار بمعدلات غير مسبوقة، حتى بالقياس إلى معايير الطلب المرتفع للأرجنتين. وفي مارس ١٩٩٠، وصل معدل التضخم إلى أكثر من ٢٠٠٠٠٪ (سنويًّا)؛ الأمر الذي أشاع الفوضى والاضطراب. كان سكان بوينس آيرس الذين سئموا حياتهم يكافحون من أجل العيش، ويلتمسون السلوى في النكات اللاذعة؛ فمع ارتفاع الأسعار لحظة بلحظة، صاروا يقولون لأنفسهم، على الأقل أصبح استقلال سيارة أجرة أرخص من ركوب الحافلة؛ ففي سيارة الأجرة ستدفع أجرة السائق في نهاية الرحلة لا في بدايتها!

(١) هل يمكنك أن تنقذ اقتصادًا بأن تربطه بالعولمة؟

اعتقد دومينجو كافالو أنه يعرف المشكلة الحقيقية؛ فلطالما ظلت حكومات الأرجنتين تغير قواعد اللعبة متى ارتأت ذلك. لكن الحرية الزائدة عن الحد التي تمتعت بها الحكومات أدت إلى فقدانٍ كاملٍ للثقة في واضعي السياسات في الأرجنتين؛ فكان رد فعل القطاع الخاص أن سحب الاستثمارات ونفر من العملة المحلية. ولكي تستعيد الحكومة مصداقيتها لدى المستثمرين المحليين والأجانب، كان من الضروري أن تلتزم بمجموعة واضحة من القواعد. وعلى وجه الخصوص، كانت هناك حاجة إلى انضباط نقدي صارم كي يمنع الحكومات من طبع النقود متى طاب لها ذلك.1

كان كافالو — الخبير الاقتصادي الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد — وزيرًا للخارجية في إدارة الرئيس كارلوس منعم، وقد تسنَّت له الفرصة كي ينفِّذ خطته حينما عهد إليه منعم بمسئولية وزارة الاقتصاد في فبراير عام ١٩٩١. كان محور استراتيجية كافالو يتمثل في «قانون قابلية تحويل العملة»، الذي ربط بموجب القانون عملة الأرجنتين بالدولار الأمريكي بسعر ١ بيزو لكل دولار، وحظر فرض أي قيود على المدفوعات الخارجية. نجح هذا القانون في إجبار بنك الأرجنتين المركزي على العمل وفقًا لقواعد معيار الذهب؛ فمنذ ذلك الحين وما بعده لم يعد يمكن زيادة المعروض من النقد المحلي وخفْض أسعار الفائدة إلا في حال كانت الدولارات تتدفق إلى الداخل في الاقتصاد. أما في حال كانت الدولارات تتدفق إلى الخارج، فيتعيَّن خفض المعروض من النقود ورفع أسعار الفائدة؛ وهكذا لم يعد هناك عبث بالسياسة النقدية.

يضاف إلى ذلك أن كافالو سارع بتطبيق الخصخصة، وإزالة القيود، وفتح اقتصاد الأرجنتين. كان يرى أن قواعد الاقتصاد المفتوح والتكامل العميق ستستطيع أن تعزز ثقة أصحاب الأعمال التجارية؛ لأنها ستَحُول دون حدوث التدخلات الاعتباطية التقديرية واختطاف السياسة من جانب أصحاب المصالح الخاصة. ومع تطبيق السياسة على نحوٍ آلي، لن يخشى المستثمرون تغيُّر القوانين إلى غير ما في مصلحتهم. بحلول بدايات التسعينيات، كان مسار الأرجنتين في مجالات تحرير التجارة والإصلاح الضريبي والخصخصة والإصلاح المالي؛ الأفضلَ بلا منازع في أمريكا اللاتينية.

تخيل كافالو أن العولمة لجام سيسيطر على الاقتصاد الأرجنتيني ومحرك سيدفعه قدمًا في الوقت نفسه؛ فالعولمة لا توفر فقط انضباطًا وطريقًا مختصرة نحو اكتساب الثقة في السياسات الاقتصادية، وإنما تتيح أيضًا إطلاق العنان للقوى الفاعلة كي تدفع عجلة الاقتصاد قدمًا. ومع خلو الطريق من عقبتَي عدم وجود الثقة وتكاليف المعاملات، سوف تتدفق رءوس الأموال الأجنبية إلى البلاد؛ مما سيسمح بارتفاع الاستثمار المحلي وانطلاق الاقتصاد في مسار التقدم. وستعمل الواردات القادمة من الخارج أيضًا على دفع المنتجين المحليين إلى اكتساب مزيد من القدرة التنافسية وتحقيق إنتاجية أكبر. أما التكامل العميق مع الاقتصاد العالمي فسيحل مشكلات الأرجنتين القصيرة الأجل والطويلة الأجل كذلك.

كان هذا تطبيقًا لإجماع واشنطن في أقوى صوره، وقد تبيَّن أنه مسار صائب فيما يتعلق بالمشكلات القصيرة الأجل، لكنه ليس كذلك فيما يتعلق بالمشكلات الطويلة الأجل؛ فقد حققت استراتيجية كافالو المعجزات على صعيد الالتزام بالانضباط مؤقتًا؛ إذ قضى قانون تحويل العملة على التضخم الجامح وأعاد استقرار الأسعار فعليًّا بين عشية وضحاها. وهذا ولَّد المصداقية والثقة — على الأقل لفترة من الوقت — وأدَّى إلى تدفق مبالغ كبيرة من رأس المال. شهدت الاستثمارات والصادرات والدخول ارتفاعًا سريعًا أيضًا. وكما ذكرنا من قبلُ في الفصل السادس، أصبحت الأرجنتين الطفل المدلَّل للمنظمات المتعددة الأطراف ولمؤيدي العولمة في منتصف التسعينيات، على الرغم من أن سياسات مثل قانون تحويل العملة لم تكن دون شك جزءًا من إجماع واشنطن. وأصبح كافالو محط إعجاب الوسط المالي الدولي.

لكن بحلول نهاية العقد، عاد الكابوس الأرجنتيني لينتقم. حدثت تطورات سلبية في الاقتصاد العالمي مهدت الطريق لحدوث انعكاس مفاجئ في آراء المستثمرين بشأن الأرجنتين؛ إذ وجهت الأزمة المالية الآسيوية ضربة موجعة للبلاد؛ لأنها سدت شهية مؤسسات الأموال الدولية عن الاستثمار في «الأسواق الناشئة»، لكن الضربة القاضية تمثَّلت في انخفاض قيمة العملة البرازيلية في أوائل عام ١٩٩٩. فقد قلص تخفيض العملة البرازيلية قيمتها بنسبة ٤٠٪ مقابل الدولار؛ ما أدَّى إلى انخفاضٍ حادٍّ فيما يطلبه المصدِّرون البرازيليون من أثمان دولارية مقابل صادراتهم في الأسواق الخارجية. ونظرًا لأن البرازيل هي المنافس العالمي الأول للأرجنتين؛ أدت ميزة التكلفة التي اكتسبتها البرازيل بانخفاض عملتها إلى جعْل البيزو الأرجنتيني يبدو مُقدرًا بأكثر من قيمته بكثير. وتضاعفت الشكوك إزاء قدرة الأرجنتين على خدمة ديونها الخارجية، وانهارت الثقة، وفي غضون وقت ليس بالقصير تراجعت الجدارة الائتمانية للأرجنتين إلى ما دون جدارة بعض البلدان الأفريقية.

في هذه الأثناء توترت علاقة كافالو بمنعم وترك منصبه عام ١٩٩٦. فيما بعد دعا الرئيس فرناندو دي لا روا، الذي خلف منعم، كافالو إلى العودة إلى الحكومة في مارس عام ٢٠٠١ في محاولة منه لتجديد الثقة. لكن جهود كافالو الجديدة ثبت فشلها؛ فحينما لم يسفر ما أجراه مبدئيًّا من ترقيعات في التجارة ونظام العملة إلا عن نتائج هزيلة للغاية، اضطُر إلى اللجوء إلى سياسات التقشف المالي، وإلى تخفيضات مالية حادة في اقتصاد سُرِّح خُمس عُماله من وظائفهم. وبدأ تنفيذ خطة لتخفيض العجز إلى «الصفر» في شهر يوليو عن طريق تخفيض الرواتب والمعاشات الحكومية بنسبة بلغت ١٣٪. فتحوَّلت حالة الذعر المالي من سيئ إلى أسوأ؛ إذ هرع المودعون المحليون إلى سحب أموالهم من البنوك خوفًا من تخفيض قيمة البيزو؛ ما دفع الحكومة إلى فرض حدٍّ لعمليات السحب النقدي.

أثار التقشف المالي وتقييد عمليات السحب من البنوك موجة احتجاجات عامة؛ فدعت النقابات إلى بدء إضراب عام في جميع أنحاء البلاد، وعمَّت أعمال الشغب المدن الكبرى، وشاع النهب والسلب. وفي تعاقُب سريع للأحداث، تقدم كافالو ودي لا روا باستقالتَيهما.2 وتحت وطأة حرمان الحكومة الأرجنتينية من مصادر التمويل، اضطُرت إلى تجميد الحسابات المصرفية المحلية، وتعثرت في سداد ديونها الخارجية، وأعادت فرض قيود على تدفقات رأس المال، وخفضت قيمة البيزو. تقلصت الدخول بنسبة ١٢٪ عام ٢٠٠٢، فيما يعد أسوأ انخفاض تشهده الأرجنتين منذ عقود. وانتهت تجربة العولمة المفرطة بالفشل الذريع.

أين كان الخطأ؟ الإجابة باختصار هي أن السياسة الداخلية أعاقت طريق العولمة المفرطة؛ فالتعديلات الاقتصادية المحلية المؤلمة التي تطلَّبها التكامل العميق لم تلقَ قبول الأوساط الانتخابية المحلية، وخرجت السياسة منتصرة في نهاية المطاف.

(٢) الصدام الحتمي بين السياسة والعولمة المفرطة

من منظورنا الحالي يبدو التفسير الاقتصادي لانهيار الأرجنتين الاقتصادي واضحًا لا لبس فيه. كان صُناع السياسة في الأرجنتين قد نجحوا في إزالة أحد القيود الملزمة — هو سوء الإدارة النقدية — لكنهم ما لبثوا أن وقعوا في مشكلة أخرى، هي أن العملة باتت غير قادرة على المنافسة. ولو كانت الحكومة تخلت عن قانون قابلية تحويل العملة أو أصلحته على نحوٍ يزيد مرونة سعر الصرف، منذ عام ١٩٩٦ مثلًا، لكان من الممكن تفادي أزمة الثقة التي اجتاحت البلاد في وقتٍ لاحق، لكن صُناع السياسة في الأرجنتين تشبَّثوا تشبُّثًا قويًّا بقانون قابلية تحويل العملة؛ فقدموه للجمهور على أنه ركن أساسي في استراتيجيتهم لتحقيق النمو؛ الأمر الذي أدَّى إلى استحالة تراجعهم عنه لتدارك الأمر فيما بعد. ولا شك أن النهج البراجماتي كان سيحقق مصلحة البلاد أكثر من التشدد الأيديولوجي والتعصب للرأي.

لكن تجربة الأرجنتين تحوي مغزًى سياسيًّا أكثر عمقًا، وهو جوهري بالنسبة إلى طبيعة العولمة؛ فقد اصطدمت البلاد بإحدى الحقائق الأساسية في الاقتصاد العالمي؛ وهي أن الديمقراطية القومية والعولمة لا تتفقان معًا؛ فالسياسة الديمقراطية تؤثر تأثيرًا بالغًا على أسواق المال، وتجعل تكامل أي دولة تكاملًا عميقًا مع الاقتصاد العالمي أمرًا مستحيلًا. تعلمت بريطانيا هذا الدرس عام ١٩٣١، حينما اضطُرت إلى نبذ معيار الذهب. وكان كينز قد ضَمَّن هذا الدرس في نظام بريتون وودز لكن الأرجنتين أغفلته.

لم يكن فشل القادة السياسيين في الأرجنتين راجعًا إلى ضعف الإرادة على الإطلاق، بل إلى ضعف القدرة، والدليل أن التزامهم بقانون التحويل وبالحفاظ على ثقة الأسواق المالية كان واضحًا دون شك. كان كافالو يدرك أنه لا يملك إلا أن يلعب اللعبة وفقًا لقواعد الأسواق المالية. وكانت الحكومة الأرجنتينية في ظل سياساته على استعداد لإلغاء جميع تعهداتها تقريبًا تجاه الدوائر المحلية — موظفي الحكومة والمتقاعدين وحكومات المقاطعات، ومودعي البنوك — كي لا تُقصر في سداد سنت واحد من التزاماتها للدائنين الأجانب.

لكن الذي حدَّد مصير الأرجنتين في نظر الأسواق المالية لم يكن ما كان كافالو ودي لا روا يفعلانه، وإنما ما كان الشعب الأرجنتيني على استعداد لأن يتقبله؛ فقد ازداد المستثمرون والدائنون تشككًا في أن الكونجرس الأرجنتيني والمقاطعات، والناس العاديون سوف يتقبلون سياسات التقشف التي فقدت مصداقيتها منذ زمن في البلدان الصناعية المتقدمة. وفي نهاية الأمر، تبيَّن أن الأسواق على حق. حينما تصطدم العولمة بالسياسة الداخلية، تراهن الأموال الذكية على انتصار السياسة.

من الواضح أن التكامل العميق لا يستطيع الحفاظ على استمراريته حتى حينما تلبِّي القيادة السياسية للبلاد كافة متطلباته وأهدافه. كانت العولمة في نظر كافالو ومنعم ودي لا روا لا تشكل قيدًا يجب التزامه طوعًا أو كرهًا، بل كانت غايتَهم العليا. لكنهم لم يستطيعوا منع الضغط السياسي الداخلي من إفشال استراتيجيتهم. والدرس المستفاد من هذه التجربة يجعل بلدانًا أخرى تنتبه إلى أمرٍ مهم؛ إذا كانت الجهود قد فشلت في إنجاح العولمة المفرطة في الأرجنتين، فهل يمكن أن تنجح العولمة أبدًا في أي مكان آخر؟3
في كتابه الذي يتغنى بمناقب العولمة «السيارة لكزس وشجرة الزيتون» قدَّم المؤلف توماس فريدمان وصفًا شهيرًا لكيفية إجبار «القطيع الإلكتروني» — أي الممولين والمضاربين الذين يستطيعون تحريك مليارات الدولارات عبر جميع أنحاء العالم في غمضة عين — جميع دول العالم على ارتداء «سترة قيد ذهبية». وشرح أن هذا الزيَّ المميز للعولمة خيطت فيه بغرز قوية قواعد ثابتة لتخضع لها جميع البلدان؛ هي التجارة الحرة، والأسواق الحرة لرأس المال والمشاريع التجارية الحرة، والحكومة الضئيلة النفوذ. وكتب: «إذا لم يكن مقاس هذه السترة يناسب بلدك في وقتٍ ما، فسرعان ما سيناسبه بعد ذلك.» وأردف مفسرًا: «لأنك حينما ترتديها يحدث أمران: ينمو اقتصادك، وتتقلص سياستك.» ونظرًا لأن العولمة (التي قصد بها فريدمان التكامل العميق) لا تسمح للدول بالخروج على القواعد المعمول بها، تتقلص السياسة الداخلية حتى يقتصر نطاقها على الاختيار بين الكوكاكولا والبيبسي. وتُستبعد جميع النكهات الأخرى، لا سيما المحلية.4

كان فريدمان مخطئًا في افتراضه أن قواعد التكامل العميق تؤدي إلى سرعة النمو الاقتصادي، وهذا أمر رأيناه بالفعل. وكان مخطئًا أيضًا في اعتباره «سترة القيد الذهبية» التي وصفها كحقيقة راسخة؛ فقليلة هي الدول التي كان إقبال قادتها على ارتداء هذه السترة الذهبية أكثر من إقبال قادة الأرجنتين (الذين ألقَوْا مفاتيح القيد على سبيل الاحتياط خشية أن يحرروا أنفسهم منه فيما بعد). وكما ظهر من انهيار التجربة الأرجنتينية، النصر يحالف السياسة الداخلية في النهاية في أي بلد ديمقراطي. والدول الوحيدة التي تُستثنى من ذلك هي الدول الصغيرة التي تشكل جزءًا من تكتل سياسي أكبر حجمًا كالاتحاد الأوروبي، وسوف نتناول حالة لاتفيا في الفصل التالي. فعندما تحين ساعة الحسم، تخلع الديمقراطية «سترة القيد الذهبية».

ومع ذلك، لا تزال وجهة نظر فريدمان الرئيسية صحيحة؛ فهناك بالفعل توتر متأصل بين العولمة المفرطة والسياسات الديمقراطية. والعولمة المفرطة تتطلب بالفعل تقليص نفوذ السياسة الداخلية وانعزال التكنوقراط عن مطالب الفئات الشعبية. لكن فريدمان أخطأ حينما بالغ في تقدير الفوائد الاقتصادية للعولمة المفرطة وهوَّن من أهمية نفوذ السياسة؛ ومن ثَمَّ فقد بالغ في تقدير جدوى العولمة على المدى الطويل، فضلًا عن مرغوبية التكامل العميق.

(٣) حينما تصطدم العولمة المفرطة بالخيارات الديمقراطية

إننا نعتز بديمقراطيتنا وسيادتنا الوطنية، ومع ذلك نوقِّع الاتفاقيات التجارية الواحدة تلو الأخرى، ونعتبر حرية تدفقات رأس المال سُنة من سنن الحياة. هذا الموقف المتردد والمتناقض من الحتمي أن ينتهيَ إلى كارثة. وما حدث للأرجنتين في التسعينيات يعطينا مثالًا حيًّا ونموذجيًّا على صحة ذلك. لكن المرء ليس مضطرًا لأن يعيش في دولة نامية، تُدار إدارة سيئة وتعيث فيها تدفقات رءوس الأموال المضاربة، ليعانيَ من هذا الصراع كل يوم تقريبًا. إن الصدام بين العولمة والترتيبات الاجتماعية المحلية سمة أساسية من سمات الاقتصاد العالمي. وهذا يتبيَّن بالنظر في الأمثلة القليلة التالية على كيفية تعارض العولمة مع الديمقراطية القومية:

  • معايير العمل: في أي اقتصاد متقدم هناك لوائح وقوانين تفصيلية تغطي ممارسات التوظيف. تحدد هذه اللوائح من يُسمح لهم بالعمل، والحد الأدنى للأجور، والحد الأقصى لساعات العمل، وطبيعة ظروف العمل، وما يحق لصاحب العمل أن يطلب من العامل القيام به، ومدى سهولة فصل العامل من وظيفته. وتكفل هذه اللوائح للعامل حرية تشكيل نقابات لتمثِّل مصالحه وتضع القواعد التي يمكن بموجبها خوض مفاوضات جماعية بشأن الأجور والميزات التي يتمتع بها العامل.

    من منظور الليبرالية الكلاسيكية، معظم اللوائح المدرجة في العقود من اختيار المرء نفسه. فإذا كنت على استعداد لأن تعمل مدة ٧٠ ساعة في الأسبوع بأجر يقل عن الحد الأدنى للأجور في ظل ظروف عمل غير آمنة، وتعطي لرب العمل الحق في فصلك متى شاء، فلماذا ينبغي للدولة أن تمنعك من قبول شروط كهذه؟ وبالمثل، إذا كنت تعتقد أن حصول ابنتك ذات الأربعة عشر عامًا على وظيفة بدوام كامل في أحد المصانع فكرة جيدة، فلماذا ينبغي للحكومة أن تفرض عليك خلاف ذلك؟ وفقًا للمذهب الليبرالي الكلاسيكي، الفرد هو أفضل حَكَم في تحديد مصلحته الشخصية (ومصالح أفراد أسرته)، والعقود الاختيارية، التي تُبرم بحرية الطرفين، يجب أن تسفر عن استفادة كليهما.

    في الماضي، كان هذا المذهب يحكم أسواق العمل.5 لكن منذ الثلاثينيات، أقرَّت تشريعات الولايات المتحدة ومحاكمها أن ما يمكن أن يكون في مصلحة فرد عامل قد لا يكون في مصلحة العمال «ككلٍّ»؛ فعدم وجود لوائح تفرض المعايير المجتمعية للعمل اللائق قد يضطر الموظف المحتمل الذي لا يملك مجالًا للمساومة أو قدرة على المساوة لقبول شروط تخل بتلك المعايير. وقبول اتفاق كهذا، يعني أن هذا العامل يصعِّب على العمال الآخرين بلوغ معايير أعلى في العمل؛ ومن ثَمَّ يُحظر على أصحاب العمل تقديم عقود تحوي شروطًا مضرة حتى لو كان بعض العمال على استعداد لقبولها؛ إذ ينبغي القضاء على بعض أشكال المنافسة؛ فقد تكون أنت على استعداد لأن تعمل لمدة ٧٠ ساعة أسبوعيًّا وبأجر يقل عن الحد الأدنى للأجور، لكن رب العمل لا يحق له أن يستغل استعدادك للعمل في ظل هذه الظروف فيسرِّحني من العمل ليوظفك أنت.

    لاحظ كيف تؤثر التجارة الدولية في هذا الفهم؛ فبفضل التعهيد (أي الاستعانة بعمالة أرخص من الخارج)، يستطيع رب عملي الآن أن يفعل أشياء ما كان ليستطيع أن يفعلها من قبل. صحيح أن قوانين العمل المحلية تحظر عليه توظيفك مكاني وإجباري على العمل في ظل ظروف تخل بهذه القوانين، لكن هذه الأمور ما عادت ذات أهمية تُذكر؛ إذ يستطيع رب العمل الآن أن يُحل مكاني عاملًا في إندونيسيا أو جواتيمالا سيكون على استعدادٍ لأنْ يعمل عن طيب خاطر في الظروف نفسها دون المعيارية الحالية أو أسوأ منها. يرى خبراء الاقتصاد أن هذا ليس قانونيًّا فحسب، بل هو أيضًا أحد المكاسب التي تعود بها التجارة. إلا أن عواقب ذلك عليَّ وعلى وظيفتي لا تعتمد على جنسية العامل الذي يحط معايير العمل في بلدي بتنازله هذا. فلماذا تحميني اللوائح الوطنية من المنافسة التي تحط مستوى ممارسات التوظيف من جانب عامل من أبناء بلادي ولا توفر لي الحماية من منافسة العامل الأجنبي؟ لماذا ينبغي أن نسمح للأسواق الدولية بأن تفسد قوانين العمل المحلية بطريقة غير مباشرة بينما لا نسمح للأسواق المحلية بأن تفعل الشيء نفسه؟

    يزداد هذا التناقض وضوحًا بالنظر فيما إذا كان أفراد المجتمع سوف يتغاضَوْن عن السماح بتوظيف هؤلاء الإندونيسيين والجواتيماليين «في بلادهم» باعتبارهم عمالًا ضيوفًا ووفقًا لمعايير العمل نفسها التي يجدونها في أوطانهم الأصلية. سيعترض على هذه الممارسة حتى أكثر التجار تحررًا، وسيقولون: ينبغي أن تكون هناك مجموعة واحدة من معايير العمل داخل البلاد، وأن تُطبق على جميع العمال بصرف النظر عن جنسيتهم. لكن لماذا؟ لأن تعهيد الوظائف من خلال التجارة يُسفر عن العواقب نفسها — بالنسبة إلى الأطراف المعنية كافة — التي يُسفر عنها السماح لعمال مهاجرين بالعمل في ظل مجموعة أدنى من المعايير.

    ما قدر أهمية هذه القضايا على أرض الواقع؟ أقل مما يدعي كثير من أنصار العمال، لكن أكبر مما يريد أن يعترف به أنصار التجارة الحرة. إن ما يحدد مستويات الأجور في المقام الأول وقبل أي شيء هو إنتاجية العامل. والاختلافات في حساب الإنتاجية هي السبب في ٨٠ إلى ٩٠٪ من الاختلافات في الأجور في جميع أنحاء العالم. وهذا يقلل إلى حدٍّ كبير فُرص الاستعانة بعمال من الخارج للحط من مستوى ممارسات التوظيف في الدول المتقدمة. فإذا حدث أن هددني رب العمل بأن يُحل محلي موظفًا في الخارج يتقاضى نصف ما أتقاضاه من أجر، فإن هذا لا يشكل خطرًا كبيرًا بالنسبة إليَّ لأن العامل الأجنبي أيضًا لا ينتج إلا نصف ما أحققه من إنتاجية.

    لكن نسبة تأثير الإنتاجية على تفاوت الأجور هي ٨٠ إلى ٩٠٪ وليست ١٠٠٪. فالأنظمة السياسية والاجتماعية التي تضبط أسواق العمل تمارس بعض التأثير الحر على أجور الأيدي العاملة، وهذا تأثير منفصل تمامًا عن التأثيرات القوية للإنتاجية. وتعمل قوانين العمل، ومستويات العمل النقابي، وأيضًا — على نطاق أوسع — الحقوقُ السياسية التي يمارسها العمال؛ على تحديد شكل المساومات بين العمال وأرباب العمل، وتحديد كيفية توزيع القيمة الاقتصادية التي جنتها الشركات بين العمال وشركاتهم. تستطيع هذه الترتيبات تحريك مستويات الأجور للأعلى أو للأسفل في أي بلد بنسبة ٤٠٪ أو أكثر.6 وهذا هو النطاق الذي يمكن أن يلعب فيه التعهيد — أو التلويح باللجوء إليه — دورًا؛ فنقل فرص العمل إلى حيث يتمتع العمال بحقوق أقل — أو التلويح بذلك — قد يكون مفيدًا بالنسبة إلى أرباب الأعمال. ويمكن استخدامه، ضمن حدود، أداة لابتزاز تنازلات من العمال المحليين بشأن الأجور وممارسات التوظيف.

    ما من حلول سهلة لهذه المعضلات. وحرية صاحب العمل في اختيار مكان تنفيذ عمله قيمة تنافسية جديرة بالاهتمام بالتأكيد. قد تصطدم مصالح العمال الإندونيسيين أو الجواتيماليين مع مصالح العمال المحليين، لكننا لا يمكننا أن نتظاهر بأن التعهيد لا يضع أمام معايير العمل المحلية صعوبات كبيرة.

  • التنافس من حيث الضرائب المفروضة على الشركات: إن الحراك الدولي للشركات ورءوس الأموال يحدُّ أيضًا من قدرة أي دولة على اختيار الهيكل الضريبي الذي يعكس احتياجاتها وتفضيلاتها على النحو الأمثل؛ لأن هذا الحراك يفرض ضغطًا لتخفيض معدلات ضريبة الشركات ويحوِّل عبء الضريبة من على رأس المال الذي يتحرك على نطاق دولي، ليحمِّله للعمال الذين يتمتعون بقدر أقل بكثير من حرية الحركة.
    والمنطق هنا واضح وعادةً ما تُبرزه الحجج التي يسوقها من يدعون إلى تخفيض الضرائب المفروضة على الأعمال التجارية. وقد استحضره السناتور جون ماكين بوضوح في مناظرته مع باراك أوباما قُبيل انتخابات الرئاسة الأمريكية، حينما قارن معدل ضريبة الشركات في أمريكا البالغ ٣٥٪ بنظيره في أيرلندا البالغ ١١٪. قال ماكين: «إذا كنت رجل أعمال، وبمقدورك أن تحدد أي مكان في العالم …» فمن الواضح «أنك ستفضل البلد الذي يفرض معدل ضرائب ١١٪ على ذلك الذي يفرض ٣٥٪.»7 لكن ماكين ذكر معدلًا خاطئًا لضرائب أيرلندا؛ إذ يبلغ معدل ضريبة الشركات هناك ١٢٫٥٪، لا ١١٪، لكن لاحظ أنه تقبَّل (واحترم) القيد الذي تفرضه العولمة. لقد تمكَّن من تعزيز حجته الداعية إلى خفض ضرائب الشركات بأن شدَّد على حتميتها احترامًا لقواعد العولمة.
    شهدت جميع أنحاء العالم انخفاضًا ملحوظًا في ضرائب الشركات منذ مطلع الثمانينيات؛ فقد انخفض معدلها في الدول أعضاء «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، عدا الولايات المتحدة، من نحو ٥٠٪ عام ١٩٨١ إلى ٣٠٪ عام ٢٠٠٩. وفي الولايات المتحدة، انخفضت الضرائب القانونية على رأس المال من ٥٠٪ إلى ٣٩٪ خلال الفترة نفسها.8 وقد لعب التنافس بين الحكومات على الشركات العالمية — ما يطلِق عليه خبراء الاقتصاد «التنافس الضريبي الدولي» — التي تزداد حراكًا أكثر فأكثر؛ دورًا في هذا التحوُّل العالمي. والحجج التي قدَّمها ماكين وعدد لا يحصى غيره من السياسيين المحافظين الذين استغلوا العولمة لتحقيق أجنداتهم؛ تقدم أيضًا مزيدًا من الأدلة على الأداء التنافسي لهذا الدور.
    اكتشفت دراسة اقتصادية تفصيلية عن السياسات الضريبية التي تنتهجها «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» أنه حينما تخفض بلدان أخرى متوسط معدل الضرائب القانونية المفروضة على الشركات بنسبة ١٪، يفعل البلد الأم مثلها ويخفض معدل الضريبة بنسبة ٠٫٧٪. وهذا يعني أنك إما أن تَثبت على موقفك وتجازف بأن ترى شركاتك وهي تهجرك إلى أماكن أخرى ذات ضرائب أقل، أو تحذوَ حذو الآخرين. من المثير للاهتمام أن الدراسة نفسها وجدت أن التنافس الضريبي الدولي لا يحدث إلا بين البلدان التي أزالت القيود المفروضة على رأس المال؛ فحينما تكون مثل هذه القيود موجودة، لا تستطيع رءوس الأموال والأرباح أن تتحرك بنفس القدر من السهولة عبر الحدود القومية، ولا يكون هناك وجود للضغط الذي يعمل على تخفيض ضرائب رأس المال. يبدو أن إزالة ضوابط رأس المال تشكل العامل الرئيسي الذي يعمل على تخفيض معدلات ضريبة الشركات منذ الثمانينيات.9

    صارت المشكلة تسبب ما يكفي من الانزعاج لإدارات تحصيل الضرائب؛ ما جعل الجهود تبذل داخل الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أجل تحديد نماذج ما يطلَق عليه «التنافس الضريبي الضار» وإعادة تخفيض معدلات الضرائب. حتى الآن، لم تركز هذه الأنشطة إلا على الملاذات الضريبية في عدد من الدول الصغيرة التي تمتد من أندورا إلى فانواتو. لكن التحديَ الحقيقي هو الحفاظ على سلامة نظام ضريبة الشركات في كل دولة في عالم باتت فيه الشركات ورءوس الأموال حرة طليقة. ولا يزال هذا التحدي قائمًا.

  • معايير الصحة والسلامة: معظم الناس يقرون بالمبدأ الذي يذهب إلى أن الدول يجب أن تكون حرة في تحديد معاييرها الخاصة بالصحة والسلامة العامة. لكن ماذا يحدث عندما تختلف هذه المعايير من بلد إلى آخر، سواء عن قصد أو بسبب الاختلافات في تطبيقها؟ وكيف ينبغي التعامل مع السلع والخدمات عند انتقالها من بلد إلى آخر في ظل اختلاف معايير كل بلد؟

    لا تزال فلسفة تشريعات منظمة التجارة العالمية بشأن هذه المسألة قيد التطور. والمنظمة تسمح للدول بسن قوانين تتعلق بأسس الصحة والسلامة العامة قد تتعارض مع التزاماتها العامة في ظل قوانين التجارة. لكن هذه اللوائح يجب أن تُطبَّق بطريقة لا تنطوي على تمييز صريح ضد الواردات، ويجب ألا تحمل طابع الحمائية المقنَّعة. ويقر «اتفاق منظمة التجارة العالمية بشأن التدابير الصحية وتدابير الصحة النباتية» بحق الدول في اتخاذ تدابير تحمي حياة الإنسان أو الحيوان أو النبات أو صحتهم، لكن هذه التدابير يجب أن تتماشى مع المعايير الدولية أو أن تستند إلى «أسس علمية». على أرض الواقع، النزاعات المتعلقة بتلك المسائل مرهونة بتفسير مجموعة من القضاة في جنيف يقررون ما يمكن اعتباره معقولًا أو عمليًّا. ونتيجةً لعدم وجود خطوط واضحة ومحددة تفصل بين نطاقَي السيادة الوطنية والالتزامات الدولية، كثيرًا ما يبالغ القضاة في فرض أمور بالنيابة عن النظام التجاري.

    ففي عام ١٩٩٠ على سبيل المثال، قضت لجنة من الجات بعدم شرعية حظرٍ فرضته تايلاند على السجائر المستوردة. كانت تايلاند قد فرضت ذلك الحظر باعتباره جزءًا من حملة للحد من التدخين، لكنها ظلت تسمح ببيع السجائر المحلية. بررت الحكومة التايلاندية ذلك بأن السجائر المستوردة إدمانية أكثر من المحلية وأكثر تمتعًا بإقبال الشباب والنساء عليها نتيجةً لتأثير إعلاناتها الناجحة. لكن لجنة الجات لم تكترث لهذا التبرير، ورأت أن الحكومة التايلاندية كانت تستطيع أن تحقق غاياتها بشأن الصحة العامة من خلال انتهاج سياسات بديلة كي لا تتسبب في الإخلال بمبادئ التجارة. وقد كان بمقدور الحكومة أن تفرض قيودًا على إعلانات السجائر، أو شروط وضع العلامات التجارية، أو شروط بيان محتويات المنتج، وهي كلها أمور كان من الممكن تطبيقها على نحوٍ غير تمييزي.

    ولا شك في أن لجنة الجات كانت على حق بشأن تأثير الحظر التايلاندي على التجارة، لكن قرارات أعضاء اللجنة صادرت حق الحكومة في تحديد ما هو مجدٍ وعملي. يشير إلى ذلك أستاذا القانون مايكل تريبلكوك وروبرت هاوز بقولهما: «لقد تجاهلت اللجنة ببساطةٍ احتمالية أن التدابير البديلة قد تنطوي على زيادة تكاليف الرقابة والامتثال، أو أنها قد تكون غير صالحة لأن تُنفذ بنجاح في بلد نامٍ.»10
    وتثير حالة لحوم الأبقار المعالَجة بالهرمونات التي أشرنا إليها سابقًا في الفصل الرابع مسائل معقدة. في هذه الحالة، لم يكن الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على لحوم الأبقار — بسبب حقنها بأنواع معينة من هرمونات النمو — حظرًا تمييزيًّا؛ لأنه فُرض على لحوم الأبقار المستوردة والمحلية على حدٍّ سواء. وكان من الواضح أيضًا عدم وجود أي دوافع حمائية وراء هذا الحظر الذي دعت إليه جماعات ضغط تهتم بحقوق المستهلك ومصالحه في أوروبا لقلقها من أي تهديد محتمل لصحته. ومع ذلك، كان حكم منظمة التجارة العالمية وهيئة الاستئناف ضد هذا الحظر، بحجة أنه ينتهك شرطًا في اتفاق «التدابير الصحية وتدابير الصحة النباتية» يقضي بوجوب استناد السياسات إلى «أدلة علمية». في الواقع، لم يكن هناك سوى قدر ضئيل من الأدلة الإيجابية حتى ذلك الوقت على أن هرمونات النمو تشكِّل تهديدًا لصحة الإنسان. لكن الاتحاد الأوروبي كان يطبق مبدأً أعمَّ لا تشمله قوانين منظمة التجارة العالمية، هو «مبدأ الوقاية»، الذي يتيح مزيدًا من الحرص في حالة عدم توافر الأدلة العلمية الدامغة.11

    هذا المبدأ الوقائي يعكس عبء الإثبات؛ فبدلًا من أن يكون السؤال هو: «هل من دليل معقول على أن هرمونات النمو أو الكائنات المعدَّلة وراثيًّا لها آثار ضارة؟» سيتعين على صُناع السياسات أن يسألوا: «هل نحن على يقين حقيقي بأنها لا ضرر منها؟» في العديد من المجالات التي تشهد تغيرًا مستمرًّا في المعرفة العلمية، يمكن أن تكون الإجابة على كلا السؤالين بكلمة: لا. فالمبدأ الوقائي ضروري في الحالات التي يكون فيها الضرر كبيرًا ولا سبيل لعلاجه. قالت المفوضية الأوروبية (دون جدوى) إنه لا يمكن وضع السياسة في هذا الصدد على أساس العلم وحده؛ إذ يجب أن تلعب السياسة التي تدعم تفضيلات المجتمع المتعلقة بشأن المخاطرة دورًا حاسمًا في هذا الأمر. لقد أقرَّ قضاة منظمة التجارة العالمية بحق أي دولة في تطبيق معاييرها الخاصة في مجال المخاطرة، لكنهم حكموا بأن حرص الاتحاد الأوروبي على المبدأ الوقائي لا يبرر التخليَ عن معيار الاستناد إلى «الأدلة العلمية». لم تحرص اتفاقية «التدابير الصحية وتدابير الصحة النباتية» على مجرد أخذ الأدلة العلمية في الاعتبار، بل فرضت أيضًا استخدام معيار دولي بشأن «كيفية» التعامل مع الأدلة العلمية.

    إذا كان الاتحاد الأوروبي، بآلياته السياسية المتطورة، لم يستطع إقناع منظمة التجارة العالمية بأنها ينبغي أن تتيح له فسحة لتحديد معاييره الخاصة، فما بالنا بالصعوبات التي تواجهها الدول النامية. فبالنسبة إلى الدول الفقيرة — أكثر من البلدان الغنية — تنطوي القواعد على معيار واحد.

    في نهاية المطاف، المسألة تتعلق بما إذا كانت الديمقراطية يُسمح لها حقًّا بتحديد قواعدها الخاصة، وارتكاب أخطائها أيضًا. إن حظر الاتحاد الأوروبي لحومَ الأبقار (وحظره في حالة مماثلة عام ٢٠٠٦، في مجال التكنولوجيا الحيوية) لم يمارس تمييزًا ضد الواردات؛ الأمر الذي يجعل القواعد الدولية الرامية إلى تعزيز التجارة أكثر إثارةً للحيرة. أعتقد أن القواعد الدولية يمكن (وينبغي) أن تطلب بعض الضمانات الإجرائية (مثل الشفافية، والتمثيل النيابي الواسع النطاق، والمساهمة العلمية) للإجراءات التنظيمية المحلية التي تتماشى مع الممارسات الديمقراطية. فالمشكلة تنشأ حينما تعارض المحاكم الدولية إجراءات محلية تتعلق بمسائل «موضوعية» (في حالة لحوم البقر مثلًا، كيفية الموازنة بين الفوائد الاقتصادية والمخاطر الصحية غير المؤكدة). وفي هذا المثال، طغت قواعد التجارة بوضوح على ديمقراطية اتخاذ القرار داخل الاتحاد الأوروبي.

  • الاستيلاء التنظيمي: توجد آلاف من «معاهدات الاستثمار الثنائية» ومئات من الاتفاقيات التجارية الثنائية أو الإقليمية السارية حاليًّا. وتستخدمها الحكومات لتعزيز الروابط التجارية والاستثمارية بطرق تتجاوز ما تسمح به منظمة التجارة العالمية وغيرها من الكيانات المتعددة الأطراف. ومن أهدافها الرئيسية توفير مستوًى أعلى من الأمان للمستثمرين الأجانب من خلال الاضطلاع بالتزامات خارجية أقوى.
    عادةً ما تسمح معاهدات الاستثمار الثنائية واتفاقيات التجارة الإقليمية للمستثمرين الأجانب بمقاضاة حكومة البلد الذي يستضيف استثماراتهم في محكمة دولية لطلب التعويض في حال تسبَّب تغيير اللوائح المحلية في تأثيرات تضر بأرباحهم. والسبب هو أن تغيير القواعد التنظيمية الحكومية يرقى إلى منزلة مصادرة الممتلكات (لأنه يقلل الفوائد التي مُنحت في البداية للمستثمرين بموجب معاهدات الاستثمار الثنائية أو الاتفاقيات التجارية الإقليمية) وهذا أمر يستلزم التعويض. هذا الأمر مماثل لنهج «الاستيلاء التنظيمي» في الولايات المتحدة الذي لم يلقَ هناك قبولًا قط باعتباره ممارسة قانونية. تشمل هذه المعاهدات بوجه عام استثناءً يسمح للحكومات باتباع سياسات تراعي الصالح العام، لكن نظرًا لأن هذه القضايا تبت فيها محاكم دولية؛ يمكن تطبيق معايير مختلفة؛ ومن ثَمَّ يمكن أن ينتهيَ الأمر بحصول المستثمرين الأجانب على حقوق لا يحصل عليها المستثمرون المحليون.12
    أشهر هذه الحالات حدثت بموجب «اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية» أو النافتا لعام ١٩٩٢، لا سيما في مجال التنظيم البيئي؛ فقد ربح المستثمرون الأجانب قضايا تعويضات ضد الحكومتين الكندية والمكسيكية في عدة حالات. في عام ١٩٩٧، طعنت شركة أمريكية على رفض أحد المجالس البلدية المكسيكية منحَها رخصةً لبناء مستودع نُفايات سامة وحصلت على تعويض قدره ١٥٫٦ مليون دولار أمريكي. في العام نفسه، طعنت شركة أمريكية أخرى للكيماويات على حظرٍ فرضته كندا على إحدى المواد التي تضاف إلى البنزين، وحصلت على مبلغ تسوية قدره ١٣ مليون دولار أمريكي.13
    ولعل أكثر القضايا التي تثير القلق حتى اليوم هي تلك التي تضمَّنت دعوى قضائية رفعتها ثلاث شركات تعدين إيطالية ضد حكومة جنوب أفريقيا عام ٢٠٠٧. والتهمة التي وجَّهتها الشركات للحكومة أن برنامج جنوب أفريقيا للعمل الإيجابي، الذي سُمي «التمكين الاقتصادي الأسود»، ينتهك الحقوق المكفولة لها بموجب معاهدات الاستثمار الثنائية القائمة. يهدف البرنامج إلى تنقية تاريخ جنوب أفريقيا الذي طالما شابه التمييز العنصري، وهو جزء لا يتجزأ من التحوُّل الديمقراطي للبلاد. وهو لا يطلب سوى أن تُغيِّر شركات التعدين ممارساتها التوظيفية وتبيع حصة قليلة لشركاء من السود. طلبت الشركات الإيطالية ٣٥٠ مليون دولار أمريكي عوضًا عما أكدت أنه مصادرة لعملياتها في جنوب أفريقيا.14 إذا ربحت الشركات هذه الدعوى، فستكون قد حققت نتيجةً ليس في متناول أي مستثمر محلي أن يحققها.
  • السياسات الصناعية في الدول النامية: لعل أهم القيود الخارجية التي تواجهها الدول النامية نتيجةً للعولمة المفرطة هي القيود المفروضة على السياسات الصناعية، التي تصعِّب على بلدان في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأماكن أخرى محاكاة استراتيجيات التنمية التي طبَّقتها بلدان شرق آسيا وأحدثت تأثيرًا طيبًا.
    على عكس اتفاقية الجات، التي تركت للدول الفقيرة حرية مطلقة لاستخدام أي سياسات صناعية، تفرض منظمة التجارة العالمية قيودًا عدة؛ فدعم الصادرات بات الآن غير قانوني بالنسبة إلى كل الدول عدا أكثر الدول فقرًا؛ الأمر الذي يَحرم الدول النامية من فائدة «مناطق معالجة الصادرات» على غرار تلك التي أقامتها موريشيوس والصين والعديد من دول جنوب شرق آسيا.15 والسياسات التي تُلزم الشركات باستخدام مزيد من المدخلات المحلية (ما يطلَق عليها «شروط المحتوى المحلي») غير قانونية هي الأخرى، على الرغم من أنها ساعدت الصين والهند على أن تتطوَّرا وتبلغا المستوى العالمي في توريد قطع غيار السيارات. والآن بات على قوانين براءات الاختراع وحقوق الطبع والنشر أن تلتزم بالحد الأدنى للمعايير الدولية؛ بحيث تستبعد شكل التقليد الصناعي الذي لعب في الماضي دورًا حاسمًا في الاستراتيجيات الصناعية لكوريا الجنوبية وتايوان خلال الستينيات والسبعينيات (بالإضافة إلى كثير من البلدان الغنية اليوم في فترات سابقة).16 وفي كثير من الأحيان تفرض على الدول غير الأعضاء في منظمة التجارة العالمية مطالب أكثر تقييدًا باعتبار ذلك جزءًا من مفاوضات انضمامها إلى المنظمة.
    و«اتفاق منظمة التجارة العالمية بشأن حقوق الملكية الفكرية»، المعروف اختصارًا باسم «التريبس»، جدير بالذكر في هذا الصدد؛ فهذا الاتفاق يوهن إلى حدٍّ كبير قدرة الدول النامية على إجراء هندسة عكسية للتقنيات المتقدمة المستخدمة في الدول الغنية أو نسخها. ويشير خبير الاقتصاد والسياسة التكنولوجية الكولومبي ريتشارد نيلسون إلى أن نسخ التكنولوجيا الأجنبية طالما كان أحد أهم الدوافع المحركة لِلِحاق الدول النامية بركب التطور الاقتصادي.17 أثار اتفاق «التريبس» قلقًا كبيرًا لأنه يقيِّد الحصول على الأدوية الأساسية؛ الأمر الذي يؤثر سلبًا على الصحة العامة. لكن لا تزال آثاره الضارة على القدرات التكنولوجية في الدول النامية لا تحظى باهتمام مماثل، على الرغم من أنها قد تكون على القدر نفسه من الأهمية.
    وعادةً ما تعمل الاتفاقيات التجارية الإقليمية أو الثنائية على مدِّ نطاق القيود الخارجية إلى ما يتجاوز نطاق قيود منظمة التجارة العالمية؛ فهذه الاتفاقيات في الواقع وسيلة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أجل «تصدير نهجَيهما التنظيميَّين» إلى الدول النامية.18 وهي تشمل تدابير سبق أن حاولت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تطبيقها في منظمة التجارة العالمية أو غيرها من المحافل المتعددة الأطراف لكنهما فشلا في ذلك؛ ففي اتفاقيات التجارة الحرة التي تعقدها أمريكا مع بلدان نامية، تمارس ضغطًا قويًّا لفرض قيود على حرية حكومات هذه البلدان في إدارة تدفقات رأس المال وصياغة اللوائح التي تنظم براءات الاختراع. وعلى الرغم من أن صندوق النقد الدولي يمارس الآن مزيدًا من ضبط النفس، لا تزال البرامج التي يقدمها لبلدان نامية منفردة تحوي كثيرًا من الشروط التفصيلية التي تُفرض على السياسات التجارية والصناعية.19

    لكن الدول النامية لم تعدم تمامًا فرصة اتباع استراتيجيات صناعية تعزز إقامة صناعات جديدة؛ فالحكومات التي تتحلى بالعزيمة تستطيع الالتفاف على هذه القيود، لكن حكومات قليلة في بلدان العالم النامي هي التي لا تسأل نفسها باستمرار عما إذا كانت هذه السياسة المقترحة أو تلك قانونية من وجهة نظر منظمة التجارة العالمية.

(٤) المعضلة الثلاثية

كيف يمكننا أن نتعامل مع التوتر القائم بين الديمقراطية القومية والأسواق العالمية؟ أمامنا خيارات ثلاثة: يمكننا أن «نقيِّد الديمقراطية» كي نقلل تكاليف المعاملات الدولية، ولا نعير اهتمامًا بالضربة الاقتصادية والاجتماعية التي قد يوجهها لنا الاقتصاد العالمي بعض الأحيان. أو يمكننا أن «نقيِّد العولمة»، على أمل أن نبنيَ شرعية ديمقراطية في الداخل. أو يمكننا أن «نُعولم الديمقراطية»، على حساب السيادة الوطنية. هذه قائمة خيارات لإعادة بناء الاقتصاد العالمي.

وهي تجسد المعضلة الثلاثية السياسية المتأصلة في الاقتصاد العالمي؛ فنحن لا نستطيع أن نحصل على العولمة المفرطة والديمقراطية وتقرير المصير الوطني جميعها معًا. وإنما نستطيع على الأكثر أن نحصل على اثنين من هذه الأمور الثلاثة. فإذا كنا نريد العولمة المفرطة والديمقراطية، فنحن بحاجة لأن نتخلى عن هدف الدولة القومية، وإذا تعيَّن علينا أن نحافظ على الدولة القومية ونحتاج العولمة المفرطة حاجة ماسة، فلا بد أن ننسى شيئًا اسمه الديمقراطية، وإذا كنا نريد الجمع بين الديمقراطية والدولة القومية، فلنقُل وداعًا للعولمة العميقة. يوضح الشكل أدناه هذه الخيارات الثلاثة.

لماذا هذه المقايضات الصارمة؟ تخيل عالَمًا ذا اقتصاد معولم تمامًا لم يعد فيه وجود لجميع تكاليف المعاملات، ولم تعد الحدود القومية تَحُول دون تبادل السلع أو الخدمات أو رءوس الأموال. هل تستطيع الدول القومية أن توجَد في عالم كهذا؟ لا يُمكن إلا إذا كانت تحصر جلَّ تركيزها على العولمة الاقتصادية وعلى أن تصبح جذابة للمستثمرين والتجار الدوليين. أما اللوائح والسياسات الضريبية المحلية فستكون حينئذٍ إما متماشية مع المعايير الدولية، أو منظمة بحيث لا تسبب سوى أقل قدر من تعطيل التكامل الاقتصادي الدولي. وستقتصر الخدمات التي تقدمها الحكومات على تلك التي تعزز حسن سير الأسواق الدولية.

fig1
شكل ٩-١: اختر اثنين فقط من ثلاثة، أيَّ اثنين.

يمكننا أن نتصور عالمًا من هذا النوع، الذي كان يدور بخلد توماس فريدمان عندما صك مصطلح «سترة القيد الذهبية». في هذا العالم، تسعى الحكومات إلى سياسات ترى أنها سوف تُكسبها ثقة السوق وتجذب لها التجارة وتدفقات رأس المال، وتشمل هذه السياسات: رفع أسعار الفائدة وخفض الائتمان، وتقليص دور الحكومة، وتخفيض الضرائب، وزيادة مرونة أسواق العمل، وإزالة القيود والخصخصة، والانفتاح بوجه عام. إن «سترة القيد الذهبية» تثير ذكرى عصر معيار الذهب، قبل الحرب العالمية، الذي لم يكن مثقلًا بالالتزامات الاقتصادية والاجتماعية المحلية، حينما كانت الحكومات القومية حرة في اتباع الأجندة التي تركز حصرًا على فرض قواعد نقدية صارمة.

كانت القيود الخارجية أكثر وضوحًا في ظل المركنتلية والإمبريالية. صحيح أننا لا نستطيع أن نتحدث عن وجود لدول قومية بحقٍّ قبل القرن التاسع عشر، لكن النظام الاقتصادي العالمي التزم خطوطًا صارمة للزي التقييدي الذهبي. كانت قواعد اللعبة — فتح الحدود، وحماية حقوق التجار والمستثمرين الأجانب — تُفرض من قِبل الشركات التجارية المعتمدة أو القوى الإمبريالية. ولم يكن ثَمَّةَ إمكانية للتملص منها والالتفاف عليها.

ربما نكون اليوم بعيدين كل البعد عن معيار الذهب الكلاسيكي أو الشركات التجارية المعتمدة، لكن مطالب العولمة المفرطة تستلزم حشدًا مماثلًا من السياسات الداخلية. والأعراض التي نراها الآن مماثلة: انعزال كيانات صنع السياسات الاقتصادية (البنوك المركزية والسلطات المالية، والمشرعين، وما إلى ذلك)، واختفاء (أو خصخصة) التأمين الاجتماعي، والضغط لتخفيض ضرائب الشركات، وتآكل العقد الاجتماعي بين قطاع الأعمال والعمال، والتغاضي عن الأهداف الإنمائية المحلية لصالح الحفاظ على ثقة السوق. وحينما تكون متطلبات الاقتصاد العالمي هي التي تُملي قواعد اللعبة، فلا بد أن يصبح اتصال الفئات المحلية بصنع السياسة الاقتصادية القومية، وسيطرتهم عليها، مقيدًا حتمًا؛ فأنت لا تستطيع أن تحصل على عولمة مع دولة قومية إلا إذا قيَّدت الديمقراطية.

إذنْ، هل يجب علينا أن نتخلى عن الديمقراطية إذا أردنا أن نسعى إلى اقتصاد عالمي كامل العولمة؟ في الواقع ثَمَّةَ مخرج لهذا الأمر؛ يمكننا أن نتنازل عن الدولة القومية لا السياسة الديمقراطية، وهذا يعني خيار «الحوكمة العالمية». في هذه الحالة، ستضبط مؤسسات عالمية قوية، ذات نفوذ في مجالَي التنظيم ووضع المعايير، نطاق سلطتَيها القانونية والسياسية على نطاق الأسواق، وتزيل تكاليف المعاملات المرتبطة بالحدود القومية. وإذا تسنَّى منحها القدر الكافي من قابلية المساءلة والشرعية بالإضافة إلى ذلك، فلن تتقلص السياسة — ولن تكون هناك حاجة إلى ذلك بالأساس — بل ستنتقل فحسب إلى المستوى العالمي.

وإذا أخذنا هذه الفكرة إلى نهايتها المنطقية، يمكننا أن نتصور شكلًا من أشكال الفيدرالية العالمية، نموذج الولايات المتحدة مثلًا وقد توسع على نطاق عالمي. فداخل الولايات المتحدة هناك دستور قومي، وحكومة فيدرالية، وقضاء فيدرالي، وعدد كبير من الهيئات التنظيمية في كافة أرجاء البلاد تضمن أن تكون الأسواق قومية بحقٍّ بالرغم من وجود العديد من الاختلافات في الممارسات التنظيمية والضريبية فيما بين الولايات منفردة. أو يمكننا أن نتصور أشكالًا بديلة للحكم العالمي، ليست طموحة على شاكلة الفيدرالية العالمية التي تتمحور حول آليات جديدة للتمثيل وقابلية المساءلة. إن اتخاذ أي خطوة هامة في اتجاه نموذج الحوكمة العالمية، أيًّا كان شكله، سيستتبع بالضرورة انتقاص السيادة «القومية» انتقاصًا كبيرًا. لن تختفيَ الحكومات القومية، لكن صلاحياتها ستُقيَّد تقييدًا شديدًا من جانب هيئات فوق قومية لوضع القواعد والإنفاذ تستمد سلطتها (وتُقيد) من شرعية ديمقراطية. والاتحاد الأوروبي مثال إقليمي على ذلك.

قد يبدو هذا كعشم إبليس في الجنة، وربما يكون ذلك بالفعل؛ فالتجربة التاريخية للولايات المتحدة تُظهر مدى صعوبة إنشاء اتحاد سياسي والحفاظ عليه في مواجهة اختلافات كبيرة في مكوناته. والطريقة المتعثرة التي تطورت بها المؤسسات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي، والشكاوى المستمرة من قصورها الديمقراطي، تبيِّن أيضًا الصعوبات التي تنطوي عليها هذه التجربة، على الرغم من أن الاتحاد يضم مجموعة من الدول متماثلة من حيث مستويات الدخل والمسارات التاريخية. إن هدف الفيدرالية الحقيقية العالمية النطاق لن يتحقق قبل مائة عام على أفضل تقدير.

لا يمكن إنكار جاذبية نموذج الحوكمة العالمية، مهما كانت درجة طموحه. حينما أقدِّم لطلابي هذه المعضلة الثلاثية وأسألهم أن يختاروا أحد الخيارات، يفوز هذا الخيار فوزًا مؤزرًا. فإذا كنا نستطيع جنْي فوائد العولمة والديمقراطية في آنٍ واحد، فمن ذا الذي يكترث لزوال وظيفة الساسة القوميين وبقائهم بلا عمل؟ نعم، هناك صعوبات عملية تشوب الجمع بين الحوكمة العالمية والديمقراطية، لكن لعلها مبالَغ فيها أيضًا. ويذهب كثير من المنظِّرين السياسيين وعلماء القانون إلى أن الحوكمة العالمية الديمقراطية يمكن أن تنموَ خارج إطار ما هو قائم حاليًّا من شبكات دولية من صُناع السياسة، ما دامت تجري السيطرة على هذه الشبكات بآليات جديدة لقابلية المساءلة، سنأتي على ذكر نوعها في الفصل التالي.

أنا من المتشككين بشأن خيار الحوكمة العالمية، لكن هذا التشكك في أغلبه قائم على أساس موضوعي لا عملي؛ فالعالم ببساطة يتسم بقدرٍ كبير من التنوع بدرجة لا تدع مجالًا لأن تنحشر الدول داخل إطار قواعد مشتركة موحدة، حتى لو كانت هذه القواعد بشكل أو بآخر ناتجة عن عملية ديمقراطية. إن فكرة وجود معايير وقوانين عالمية ليست غير عملية فحسب، بل غير مرغوبة أيضًا. والقيد الذي تفرضه علينا شرعية الديمقراطية يضمن عمليًّا ألا تُسفر الحوكمة العالمية إلا عن أدنى حدٍّ من الانسجام والتماثل، في شكل نظام ذي قوانين ضعيفة وغير فاعلة؛ حينئذٍ نواجه التهديد الكبير المتمثل في تراجع الحوكمة تراجعًا حادًّا في كل مكان، والمتمثل في الوقت نفسه في تخلي الحكومات القومية عن مسئولياتها دون أن يكون هناك من يضطلع بها ليعوض عن هذا التقصير. لكننا سنتناول هذا الموضوع بمزيد من التفصيل في الفصل التالي.

لم يبقَ أمامنا سوى خيار التضحية بالعولمة المفرطة، وهو ما فعله نظام بريتون وودز؛ الأمر الذي جعلني أطلق عليه: تسوية بريتون وودز. فنظام بريتون وودز-الجات أتاح لكل بلد أن يرقص على إيقاعه الخاص إذا أزال عددًا من القيود الحدودية التي يفرضها على التجارة، وتعامل إجمالًا مع جميع شركائه التجاريين معاملةً سواءً. كان النظام يسمح للبلدان بالإبقاء على القيود التي تفرضها على تدفقات رءوس الأموال (بل ويشجعها على ذلك)؛ لأن مهندسي النظام الاقتصادي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانوا يعتقدون أن تحرير تدفقات رأس المال لا يتوافق مع هدف الاستقرار الاقتصادي المحلي. أما سياسات البلدان النامية فقد تُركت خارج نطاق الانضباط الدولي.

ظلت هذه القوانين المتساهلة حتى الثمانينيات تترك مجالًا للبلدان يتيح لها اتباع مساراتها التنموية الخاصة التي قد تكون متباينة. اختارت أوروبا الغربية أن تتكامل إقليميًّا وأن تقيم دولة رفاهية مترامية الأطراف. ولحقت اليابان — كما رأينا من قبل — بالغرب، مستخدمة نسختها الخاصة والمميزة للنهج الرأسمالي، التي اتسمت بتأسيس قاعدة تصدير نشطة قوية مع وجود قدر كبير من القصور في مجالَي الخدمات والزراعة. أما الصين فقد حققت طفرات نمو هائلة بمجرد أن أدركت أهمية المبادرة الخاصة، على الرغم من أنها تجاهلت كل القواعد الأخرى التي حواها دليل إرشادات التنمية. وحقق كثير من بقية دول شرق آسيا معجزة اقتصادية من خلال الاعتماد على سياسات صناعية حظرتها منظمة التجارة العالمية منذ ذلك الحين. وحققت عشرات البلدان في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا معدلات نمو اقتصادي غير مسبوقة حتى أواخر السبعينيات، من خلال سياسات إحلال الصناعات المحلية محل الواردات التي عزلت اقتصاداتها عن الاقتصاد العالمي. وكما رأينا، تخلت أغلب البلدان عن تسوية بريتون وودز في الثمانينيات بعد أن تسارعت وتيرة تحرير تدفقات رءوس الأموال وبدأت نطاقات الاتفاقات التجارية تتجاوز الحدود القومية.

لقد عَلِق الاقتصاد العالمي منذ ذلك الحين في منطقة غير مريحة انحصر فيها بين أبعاد المعضلة الثلاثية. لم نواجه الخيارات الصعبة التي أملتها المعضلة الثلاثية مواجهةً مباشرة، لكننا اضطُررنا إلى أن نقبل صراحة بالحاجة إلى تخفيض سقف الآمال التي نعلقها على العولمة الاقتصادية إذا كنا نريد أن تظل الدولة القومية المقام الرئيسي للسياسة الديمقراطية. ليس لدينا أي خيار سوى أن نرضى بنسخة «رقيقة» وسطحية من العولمة، وأن نعيد اختراع تسوية بريتون وودز بما يتناسب مع عصر مختلف عن عصرها الأصلي.

فنحن لا نستطيع ببساطةٍ أن نبعث جملة النُّهُج الاقتصادية للخمسينيات والستينيات. بل يتعين علينا أن نتحلى بالابتكار والإبداع، والاستعداد للتجربة. وفي الجزء الأخير من الكتاب، سوف أطرح بعض الأفكار تبيِّن كيفية المُضي قدمًا. لكن الترتيب التجاري الأول يدرك أبعاد المشهد العام على نحوٍ صحيح. ونوع التجريب السياسي الذي نحتاجه لن يتأتَّى لنا إلا إذا غيَّرنا رؤيتنا.

(٥) العولمة الذكية «يمكنها» تعزيز الديمقراطية القومية

إن كل قضية من القضايا التي ناقشتها سابقًا تجسد مفاضلة بين إزالة تكاليف المعاملات في الاقتصاد الدولي، والحفاظ على الاختلافات المحلية؛ فكلما زاد التركيز على التكامل الاقتصادي العميق، قلَّت مساحة الاختلافات القومية في الترتيبات الاجتماعية والاقتصادية، وصغر مجال ديمقراطية اتخاذ القرارات على الصعيد القومي.

ثَمَّةَ أشكال أكثر تحفظًا من العولمة لا تتبنَّى بالضرورة الافتراضات المتأصلة في التكامل العميق؛ فنظام بريتون وودز حينما وضع قيودًا على العولمة، سمح بازدهار الاقتصاد العالمي والديمقراطيات القومية معًا دون التضحية بأحدهما. وبمجرد أن نتقبل فرض قيود على العولمة، يمكننا في الواقع أن نخطوَ خطوة نحو الأمام. لنا أن نتصور قوانين عالمية «تعزز» فعليًّا عمل الديمقراطيات القومية.

في الواقع، لا يوجد تناقض طبيعي في وجود نظام عالمي قائم على القوانين مع ديمقراطية قومية. والديمقراطية لا تبلغ الكمال أبدًا في الممارسة العملية. وقد أكَّد أساتذة علم السياسة في جامعة برينستون روبرت كيوهين، وستيفن ماسيدو، وأندرو مورافيكسيك، أن القوانين الخارجية الجيدة الصياغة قد تعزز جودة الممارسات الديمقراطية وشرعيتها أيضًا. وقد كتب هؤلاء الأساتذة أن الديمقراطيات لا تهدف إلى مجرد تعظيم المشاركة الشعبية. وحتى عندما تشكِّل القوانين الخارجية قيدًا على المشاركة على الصعيد القومي، فإنها قد توفر منافع ديمقراطية تعويضية مثل تحسين مستوى التداول وتقضي على الشقاق والتشيع، وتضمن تمثيل الأقليات. ويمكن تعزيز الممارسات الديمقراطية من خلال ضمانات إجرائية تَحُول دون سيطرة جماعات المصالح عليها وتضمن استخدام الأدلة الاقتصادية والعلمية المناسبة باعتبارها جزءًا من المداولات. يضاف إلى ذلك أن الاتفاق على التزامات دولية ملزمة عملٌ «سيادي»، وتقييده سيكون شبيهًا بمنع الكونجرس من تفويض بعض صلاحياته التشريعية لوكالات تنظيمية مستقلة.20
صحيح أن الالتزامات الدولية قد تعزز الديمقراطية القومية، لكنها لا تفعل ذلك بالضرورة؛ فأجندة العولمة المفرطة — وتركيزها على الحد من تكاليف المعاملات في الاقتصاد الدولي — تصطدم بالديمقراطية، لا لسبب سوى أنها لا تسعى لتحسين أداء الديمقراطية، بل لتهيئة المناخ للمصالح التجارية والمالية التي تسعى للوصول إلى الأسواق بتكلفة منخفضة. والأمر لا يتطلب منا إلا أن نعتنق رؤية تقدِّم احتياجات الشركات المتعددة الجنسيات والبنوك الكبيرة وبيوت الاستثمار على الأهداف الاجتماعية والاقتصادية الأخرى؛21 ومن ثَمَّ، فإن هذه الأجندة تخدم الاحتياجات التجارية في المقام الأول.

تَبْقى لنا حرية اختيار كيفية التغلب على هذا العيب. وبإمكاننا إما عولمة الحكم الديمقراطي إلى جانب الأسواق، وإما إعادة النظر في اتفاقات التجارة والاستثمار كي نوسع مساحة ديمقراطية اتخاذ القرارات على الصعيد القومي. وسأناقش كل واحدة من هاتين الاستراتيجيتين في الفصلين التاليين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤