حكمة «بوذا»

عندما وصلت «إلهام» إلى المقر السري للشياطين اﻟ «١٣» في «بيروت» كانت في حالة يُرثى لها … ووجدت الشياطين جميعًا في انتظارها … ولم تكد تدخل حتى علت الدهشة وجوههم جميعًا … وبالطبع كان أكثرهم إحساسًا بالإشفاق والألم «أحمد» الذي أسرع يتلقَّاها بين ذراعَيه.

كان السؤال الذي انطلق من أفواههم جميعًا: ماذا حدث؟

وتقدَّمت السيدة «بديعة» المشرفة على المقر مسرعةً وقالت: دعوها الآن، إنها مصابة.

كان منظر «إلهام» حقًّا غريبًا … فقد كانت ملابسها ملوَّثةً بالطين … ويداها داميتان وشعرها مشعث، والماء يقطر من ملابسها كلها، وقد بدا على وجهها التوتُّر، ولكنها بعد أن نظرت إلى وجوه الأصدقاء حولها تحاملت على نفسها وابتسمت.

قالت «زبيدة»: حادث؟

ردَّت «إلهام»: هل أطمع أن تُأجِّلوا أسئلتكم حتى أُغيِّر ملابسي؟

وأخذتها السيدة «بديعة» من يدها كطفل صغير ودخلت بها الحمَّام … وجلس الشياطين يتناقشون … ويحاولون الإجابة على سؤال … ماذا حدث؟

وبعد ربع ساعة ظهرت «إلهام» مرةً أخرى، وقد تغيَّرت تمامًا؛ فبعد الحمَّام الساخن والملابس النظيفة بدت وكأنها لا صلة لها ﺑ «إلهام» التي دخلت المقر منذ قليل.

وأسرعت إليها السيدة «بديعة» بكوب من الشاي يتصاعد منه البخار، فرشفت رشفةً كبيرة، ثم قالت: أليست هناك تقارير من رقم «صفر»؟

قال «أحمد» وهو يجلس بجوارها: لا.

إلهام: ألم يحدث شيء غير عادي اليوم؟

زبيدة: مطلقًا.

إلهام: لقد حاول شخص اختطافي.

لم يستطِع «أحمد» منع ابتسامة طفت على شفتَيه وقال: لا بد أنه معجب بك جدًّا … فأنا شخصيًّا أُفكِّر في اختطافك.

إلهام: وحاول قتلي.

بو عمير: قتلك!

إلهام: بمسدس صامت ظلَّ مسدَّدًا إلى قلبي أكثر من ساعة.

قال «عثمان» معلِّقًا: وهل يُقتل الشياطين؟

إلهام: كان بيني وبين القتل ثوانٍ قليلة.

أحمد: ولكن كيف؟!

وروت «إلهام» للشياطين اﻟ «١٣» ما حدث لها … واستمعوا جميعًا إليها دون أن يُقاطعها أي واحد منهم بسؤال … ورغم أنهم جميعًا قد اجتازوا تجارِب ومغامرات ومواقف أعنف إلَّا أن خطف «إلهام» من قلب «بيروت» لم يكن حادثًا عاديًّا.

وانتهت «إلهام» من قصتها، وقدَّمت لها السيدة «بديعة» العشاء … فأخذت تلتهمه في استمتاع وشهيَّة رغم الآلام التي كانت تُحس بها في جسمها. وبينما كانت تمضغ قطعةً من اللحم سألت: والآن أيها الشياطين، لماذا أراد الرجل ذو الوجه الأصفر خطفي؟ وما هي الرسالة التي كان يُريد أن يُبلِّغها لكم؟ … لقد سألت نفسي هذا السؤال مئات المرات دون أن أصل إلى إجابة واحدة … مؤكَّدة … وإن كانت هناك عدة احتمالات.

ونظر إليها الشياطين وقد بدت على وجوههم اللهفة، فقالت «إلهام»: إن مقرَّنا السري قد اكتُشف، وإن قوةً معاديةً لا نعرفها تُريد أن تُصفِّي الشياطين اﻟ «١٣».

عثمان: تصفيهم!

إلهام: طبعًا … هذا احتمال.

مصباح: والاحتمال الثاني؟

إلهام: إن هذه القوة تُريد أن تتعامل معنا … بمعنى أن تُكلِّفنا بمهمَّة معيَّنة.

هدى: هذا مستحيل؛ فنحن لا نعمل إلَّا بتعليماتٍ من رقم «صفر»!

إلهام: احتمال ثالث … أن هناك سرًّا معيَّنًا نحن نعرفه، ويُريدون معرفته … ولْيكن هذا السر هو شخصية رقم «صفر».

رشيد: هذا رابع، أو سابع المستحيلات … فنحن لا نعرفه شخصيًّا.

إلهام: إنني أقول لكم تصوُّرات … فمنذ اقتحم ذو الوجه الأصفر السيارة وأنا أُفكِّر.

باسم: إن السؤال الأول الذي يجب أن نطرحه هو … هل قصدوا أو قصد ذو الوجه الأصفر أن يخطفك أنت بالذات، أم أي واحد من الشياطين اﻟ «١٣»؟

إلهام: من الواضح يا «باسم» … أنه كان يُريد أي واحد أو واحدة فينا … فكل ما كان يُهمُّهم هو توصيل رسالة إلى الشياطين اﻟ «١٣».

فهد: هناك شيء واحد لم نُفكِّر فيه.

إلهام: ما هو؟

فهد: إنهم يتعاملون معنا لا بصفتنا الشياطين اﻟ «١٣»، ولكن بصفتنا أصحاب محل بيع وتصليح الآلات الكاتبة أو السيارات.

هزَّ الشياطين رءوسهم، وقالت «ريما»: ولكن عملنا هذا ليس فيه مجال للعنف أو استخدام المسدسات.

إلهام: إنه احتمال بعيد … بالمناسبة أين قيس؟

أحمد: لقد كان يعمل طول النهار في قسم السيارات، وقد خرج لدخول السينما لأن هناك فيلمًا يُهمُّه أن يراه، والليلة آخر فرصة.

وفجأةً قال «أحمد»: ما حدث ﻟ «إلهام» يعني شيئًا مُعيَّنًا … إننا مراقبون … وإن «قيس» معرَّض للخطر هو الآخر.

ونظر «أحمد» في ساعته … كانت قد اقتربت من منتصف الليل، فقفز واقفًا وقال: سأذهب مع «بو عمير» و«خالد» لانتظار «قيس» أمام دار السينما …

وأسرع الثلاثة خارجين، بينما قالت «إلهام»: سأقوم لإرسال تقرير إلى رقم «صفر» بما حدث، فلعله يجد تفسيرًا لهذا الحادث العجيب.

وقامت «إلهام» ولكنها شعرت أنها متعبة فقالت: سآوي إلى فراشي. أرجو أن تقوم «زبيدة» بإرسال التقرير.

وقامت «زبيدة» إلى غرفة اللاسلكي وأخذت تدق الرسالة.

من «ش. ك. س» إلى رقم صفر

تعرَّضت الليلة «إلهام» لمحاولة اختطاف. الرجل الذي حاول خطفها ملامحه تدل على أنه من جنوب شرق آسيا، أو الصين، أو اليابان. حدثت المحاولة داخل «بيروت» وانتهت بالفشل، عند مرتفع على طريق محاذٍ لنهر الكلب عند دير اللويزة.

ومضت «زبيدة» تسرد التفاصيل. وفي هذه الأثناء كان «أحمد» و«بو عمير» و«خالد» قد وصلوا إلى سينما «الكونكورد» الفخمة حيث يعرض الفيلم، وتوزَّعوا أمام دار السينما وقد وضع كلٌّ منهم يده في جيبه تحمل مسدسًا ضخمًا.

وحسب فكرة «أحمد» … كانوا يتوقَّعون أن يكونوا مراقبين … وهكذا اختاروا أماكن مظلمة. وكان مدخل السينما الذي يقع تحت مستوى الأرض ببضعة أمتار خاليًا؛ فقد كان الجو عاصفًا باردًا … حتى المحال الصغيرة التي تبيع مواد التسلية كانت قد أغلقت أبوابها. وأحسَّ «أحمد» بجو من الرهبة يُحيط بالمكان. لقد كان جوًّا مثاليًّا لخطف «قيس» أو حتى قتله ببندقية صامتة … أو خنجر مسموم … خاصةً هؤلاء الناس من جنوب شرق آسيا الذين يُجيدون استخدام السموم …

وأشار «أحمد» إلى «بو عمير» و«خالد» أنه سيتجوَّل بين السيارات الواقفة لعله يجد من ذوي الوجوه الصفر. ومضى «أحمد» تحت المطر والريحِ يبحث بين السيارات الواقفة، ثم عاد مكانه؛ فلم يكن هناك أحد يمكن الاشتباه فيه.

فُتحت أبواب السينما … وشدَّد الشياطين الثلاثة قبضاتهم على المسدسات، وأخذت عيونهم ترمق الخارجين بنظرات الصقور، وأخذ رُوَّاد السينما يخرجون إلى سياراتهم … فقد خرجوا من الدفء إلى الجو العاصف. وزاد ازدحام الخارجين حتى لم يعد الثلاثة في إمكانهم البحث عن «قيس» … وخُيِّل ﻟ «خالد» أنه رأى رجلًا من هذا النوع المغولي الأصفر يختفي بين الخارجين … وأسرع إليه ولكنه لم يجد أحدًا. وبدأ الزحام يخف شيئًا فشيئًا دون أن يظهر «قيس» … ثم انتهى خروج الروَّاد تمامًا … ولم يظهر «قيس».

وأحسَّ «أحمد» بالخطر فقفز سريعًا وخلفه «بو عمير» و«خالد»، واجتازوا باب الخروج إلى الداخل، وكان في انتظارهم مفاجأة … كان بعض موظفي السينما مجتمعين حول شخص لم يغادر كرسيه.

خفق قلب «أحمد» بشدة … إنه لم يرَ هذا الشخص؛ فقد كان مختفيًا خلف الموظفين الذين انحنوا عليه، ولكن «أحمد» كان متأكِّدًا أنه «قيس» … وقد كان «قيس». فلم يكد الشياطين الثلاثة يصلون إليه حتى وجدوه جالسًا وقد تدلَّى رأسه على صدره!

هل كان ميتًا؟ هذا هو السؤال الذي خطر برءوس الثلاثة في نفس الوقت … وقال «أحمد» للموظفين: ابتعدوا من فضلكم.

ثم مال على «قيس» ورفع رأسه بيده، ثم وضع رأسه على صدره. كان ما زال حيًّا … ولكن دقَّات قلبه بطيئة … ورفع «أحمد» «قيس» ووضعه على كتفه … وأسرع الثلاثة يُغادرون دار السينما بين دهشة الموظفين.

فتح «خالد» باب السيارة، ومدَّد «أحمد» زميله على الكرسي الخلفي، وجلس بجواره «خالد»، ثم أطلق للسيارة العنان عائدًا إلى المقر السري … وسرعان ما كان جميع الشياطين ملتفِّين حول زميلهم في غرفة الإسعاف الخاصة بالمقر … وسرعان ما كانت «زبيدة» تُخرج عقاقيرها وقالت وهي ترفع جفنه: إنه تحت تأثير مخدر قوي. وبدأت في سرعة ودقة تُخرج الحقن وتدفعها في ذراعه، وطلبت إعداد عدد من الفوَط الساخنة … ومضت الدقائق بطيئة، وتنفَّس «قيس». ما زال بطيئًا ومتقطِّعًا، وجسمه باردًا … ولكن بعد فترة بدأت الحرارة تدب فيه … وبدأ وجهه الشاحب يسترد لونه … وقالت «زبيدة»: سيكون على ما يرام … ولكن لن يستردَّ وعيه تمامًا إلَّا في الصباح.

وقام «أحمد» و«خالد» و«بو عمير» بخلع ثياب «قيس» … وألبسوه ثياب النوم، ثم نقلوه إلى حجرته ومدَّدوه على الفراش … وغطَّوه جيدًا، ثم خرجوا … وقال «خالد»: لقد نسينا إحضار السيارة التي ذهب بها «قيس» إلى السينما، وهي من السيارات الجديدة.

أحمد: لا بأس إذا كانت مقفلة … ابحث عن المفاتيح في ثياب «قيس».

وأسرع «خالد» بالبحث عن المفاتيح في ثياب «قيس»، ولكن لدهشته الشديدة وجد الملابس خالية، ليس من سلسلة المفاتيح فقط … ولكن من كل شيء … لا أوراق ولا نقود … ولكن الجيب العلوي كانت فيه قُصاصة واحدة من الورق … فتحها وألقى نظرةً عليها، ثم أسرع إلى الشياطين الذين كانوا يجلسون في الصالة.

قال «خالد»: جيوب «قيس» قد جُرِّدت من كل ما فيها … وترُكت فيها هذه الرسالة.

وقرأ «خالد» قُصاصة الورق: ننصحكم أن تنسَوا كل ما حدث لكم … وكل ما سيحدث لكم … فإن من الخير يأتي الخير … ومن الشر يأتي الشر، كما قال «بوذا» الحكيم.

وقال «خالد»: وفي نهاية هذه الجملة ختم ﻟ «بوذا» وهو جالس على عرش اللوتس.

ووضع «خالد» قصاصة الورق على أنفه، ثم قال: إنها رائحة شرقية بالتأكيد … رائحة بخور.

ومدَّ «خالد» يده بالقصاصة إلى أول الجالسين الذي نظر إليها، ثم أعطاها لمن يليه وهكذا حتى وصلت إلى آخر الجالسين … وكان «أحمد» الذي تأمَّلها بدقة ورفعها إلى أنفه مرارًا، ثم قال: شيء لا يُصدَّق، علاقتنا بهؤلاء الناس! … ما لنا نحن وحِكَم «بوذا»؟

وكما ارتسمت الدهشة على وجه «أحمد» ارتسمت على وجوه بقية الشياطين، وقال «أحمد»: سنخرج مرةً أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤