قبل أن ينقضي الليل!

اندفع ستة من الشياطين في سيارتَين … «أحمد» و«بو عمير» و«عثمان» … «مصباح» و«باسم» و«خالد» … كل ثلاثة في سيارة. كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة والنصف صباحًا … وخلت الطرقات من المارَّة في تلك الليلة الباردة الممطرة، واندفعت السيارتان إلى سينما «كونكورد»، وعندما وصلتا إلى هناك كان واضحًا من أول نظرة أن سيارة «قيس» الجديدة قد اختفت … ولولا قصاصة الورق والمخدر وضياع المفاتيح لكانت سرقةً عاديةً تحدث كل يوم … ولكن تحت وقع الأحداث الغريبة التي جرت في تلك الليلة أدرك الشياطين الستة أنهم يُواجهون عدوًّا خفيًّا شديد البطش، استطاع في ساعات أن يُوقع باثنين من الشياطين، وأن يسرق سيارةً من أحدث السيارات وأكثرها سرعة.

كان المطر يهطل مدرارًا فوق «بيروت»، والرياح تعصف بجنون، ولكن «أحمد» قال: سنذهب فورًا إلى منطقة دير «اللويزة» التي انتهت عندها مغامرة خطف «إلهام»، لعلنا نجد الرجل هناك أو قريبًا من هناك.

وقفز الشياطين الستة … ومضت السيارتان تجريان تحت المطر الرهيب … وعلى الأرض الزلقة والعجلات تدور وتلف وتنحرف وتنزلق، وأجهزة الفرامل تعمل؛ كان «أحمد» يقود السيارة الأولى وخلفه «خالد» يقود السيارة الثانية. وبعد فترة غادرت السيارتان «بيروت» وأخذتا طريق الجبل. كان الطريق مقفرًا … والبيوت قد نامت … فبدا الجبل كأنه منطقة ميتة لم تطأها قدم إنسان من قبل.

كان «أحمد» و«خالد» كلاهما من أقدر السائقين في الشياطين اﻟ «١٣»، ولولا ذلك لسقطت السيارتان من فوق الجبل المرتفع، ولكنهما مضيا يُسرعان أحيانًا ويُهدِّئان السرعة أحيانًا أخرى، حتى وصلا إلى منطقة دير «اللويزة» … وأطلقت السيارتان أضواءهما على الأرض وأخذتا تدوران هنا وهناك … وقال «عثمان»: سأنزل للبحث.

أحمد: مستحيل!

عثمان: لقد أحضرت معي بطاريات قوية يمكن البحث على ضوئها.

أحمد: سننزل جميعًا إذن.

ونزل الشياطين الثلاثة … ونزل بعدهم الشياطين الثلاثة الأُخر … وبدأت أضواء البطاريات تلمع تحت المطر، متجهةً إلى الأرض المبتلَّة بحثًا عن أي أثر يمكن أن يهدي إلى الرجل ذي الوجه الأصفر، ولكن الأمطار الكاسحة كانت قد أخفت كل أثر للأقدام.

وفجأةً مد «عثمان» ضوء بطاريته إلى جانب الطريق وقال: هذا وشاح «إلهام».

واندفع الشياطين إلى الشجرة التي كانت «إلهام» تقف تحتها أثناء صراعها مع ذي الوجه الأصفر، وفعلًا كان وشاح «إلهام» ذا اللون الأزرق واقعًا على الأرض، وقد بلَّلته الأمطار تمامًا.

قال «أحمد»: إذا تخيلنا ما قالته «إلهام» عن معركتها مع الرجل، فالمفروض أن يكون قد وقع هنا.

وأشار «أحمد» إلى نقطة معيَّنة قريبة من الشجرة التي وصفتها «إلهام»، ثم أشار إلى المنحدر الذي وقع فيه الرجل … ثم صعد مرةً أخرى وسقط بعد ذلك في الوحل كما وصفت «إلهام».

واتجهت البطاريات كلها إلى المكان … ومرةً واحدةً اجتمعت عند نقطة معيَّنة، فمن تحت سورٍ من الأشجار والأعشاب برزت ساق رجل، وأسرع الشياطين إليه … وشيئًا فشيئًا اتضحت معالمه. كان الرجل ذو الوجه الأصفر مستلقيًا على ظهره، واقترب منه «عثمان» وانحنى عليه، ثم رفع رأسه وقال: إنه مصاب بعدة طلقات نارية صُوِّبت إليه من قريب!

أحمد: ميت؟!

عثمان: تمامًا!

وقام «بو عمير» بتفتيش الرجل، ولكن جيوبه كانت خالية. وفكَّر «أحمد» أن يكون في جيبه قصاصة ورق كالتي وُجدت في جيب «قيس»، وأُعيد تفتيش الرجل مرةً ثانية، ولكن لم يكن في جيوبه شيء على الإطلاق.

ركب الشياطين الستة السيارتَين، وعاودوا طريقهم إلى «بيروت». كانت الريح قد خفَّت حدتها قليلًا … وتوقَّف المطر إلَّا رذاذًا خفيفًا كان يتساقط في نعومة … وأخذت السيارتان تشقان طريقهما في بطء عائدتَين … فلم يعد هناك سبب للإسراع … وقد كان هذا سببًا في إنقاذ حياتهم، فعند أحد المنحنيات صاح «عثمان» فجأة: قف!

ومدَّ «عثمان» قدمه فوق قدم «أحمد» فضغط الفرامل … وفي نفس الوقت مدَّ يده فجذب فرامل اليد … حدث كل ذلك في ثانية واحدة، وأثار دهشة «أحمد» و«بو عمير»؛ فقد توقَّفت السيارة فجأةً على الأرض الزلقة ودارت حول نفسها، ثم اندفعت إلى حافَّة الجبل، ولحسن الحظ مرةً أخرى ارتطمت بشجرة ووقفت.

وتوقَّفت السيارة الثانية عندما شاهد «خالد» السيارة الأولى وهي تقف وتنزلق … وصاح «أحمد»: ماذا حدث يا «عثمان»؟ كدنا نسقط في الهاوية.

قال «عثمان» وهو يفتح باب السيارة: اتبعني!

ونزل «أحمد» وتبعه «بو عمير» … وعلى ضوء مصباح «عثمان»، شاهد الثلاثة سلكًا رفيعًا ممتدًّا بعرض الطريق، وقال «عثمان»: هذا السلك متصل بشحنة ديناميت. لقد كنت أنظر إلى الأرض بإمعان ونحن نسير، ولا أدري ما الذي جعلني أفعل هذا … ربما الحاسة السادسة التي يتحدَّثون عنها، وفجأةً وقعت عيناي على هذا السلك.

أخرج «أحمد» مسدسه مسرعًا وقال: سنختبئ فورًا خلف السيارة. إذا كانوا قد وضعوا هذا السلك لنسفنا … فلا بد أنهم قريبون منا جدًّا.

وأسرع «عثمان» يُبلِّغ «مصباح» و«باسم» و«خالد» الذين كانوا يجلسون في السيارة الواقفة في انتظار ما يفعل الثلاثة.

•••

في تلك الأثناء كانت أحداث أخرى خطيرة تقع في مقر الشياطين السري، لم يكن مستيقظًا سوى «فهد» و«زبيدة» و«رشيد» … كانت «زبيدة» مشغولةُ ﺑ «قيس»، وكان «فهد» و«رشيد» يجلسان في صالة المقر السري يتحدَّثان في انتظار عودة الشياطين الستة، بينما قامت «هدى» و«ريما» للنوم.

وخُيِّل ﻟ «فهد» أنه يسمع صوتًا في الدور الأول للمقر السري، وكان الدور الأول مكوَّنًا من جزءَين؛ جزء يُستخدم لبيع وإصلاح الآلات الكاتبة، والثاني لبيع وتصليح السيارات، وكان للجزء الثاني طابق تحت الأرض يستخدم كجراج للسيارات التي تحت الإصلاح.

أرهف «فهد» سمعه، ثم قال ﻟ «رشيد»: هل تسمع شيئًا؟ ردَّ «رشيد»: لا أسمع سوى صوت المطر والرياح.

فهد: أنصت جيدًا.

وأنصت الاثنان لحظات، ثم قال «رشيد»: ربما … أو يُخيَّل لي أنني أسمع صوتًا في الطابق الأول.

فهد: تعالَ نرَ!

وفتح الاثنان باب السلَّم الذي يُوصل بين الدور الثاني والدور الأول، ثم نزلا السلَّم الصغير … ولكنهما لم يستمرَّا في النزول … لقد وضح الصوت الآن، إنه ليس في الطابق الأول، ولكن في الطابق الذي تحت الأرض حيث الجراج. وأشار «فهد» ﻟ «رشيد» أن يُخفِّف من وقع خطواته، وتسلَّلا معًا على السلَّم إلى الدور الأول.

كانت صالة عرض السيارات في الدور الأول مظلمةً لا يُضيئها إلَّا ضوء خفيف … بدت فيه السيارات كالوحوش الرابضة، ولم يكن هناك أثر لإنسان … وسار «فهد» و«رشيد» محاذرَين حتى وصلا إلى السلَّم الحديدي الذي يصل إلى الدور تحت الأرض، وربض «فهد» على طرف السلَّم، ووضع أذنه عند السلَّم وأخذ يستمع … ثم أشار إلى «رشيد» بما يعني أن هناك أشخاصًا أسفل … ولم يكن معهما أسلحة، ولم يكن هناك وقت لإحضارها.

ربض «رشيد» بجوار السلَّم وخلع «فهد» حذاءه بسرعة … ثم نزل بضع سلالم، ونظر إلى أسفل. كان هناك ثلاثة أشخاص يسيرون كالأشباح داخل الجراج … ودُهش «فهد» كيف دخلوا … إن باب الجراج مغلق بقفل معقَّد التركيب لا يمكن فتحه إلَّا بمفتاحه … معنى هذا أنهم ليسوا لصوصًا عاديين جاءوا لسرقة سيارة … إنهم أخطر من ذلك بكثير … وأشار «فهد» ﻟ «رشيد» أن ينزل معه. وخلع «رشيد» حذاءه هو الآخر، ونزل الاثنان …

كان الرجال الثلاثة قصار القامة كالأقزام … ولكن كان من الواضع أنهم أقوياء. وكان الثلاثة منهمكين في دفع إحدى السيارات لإبعادها جانبًا أو إخراجها من الباب المفتوح.

واقترب «فهد» وخلفه «رشيد» دون أن يراهما الرجال الثلاثة … فقد كانوا مشغولين تمامًا بما يفعلون … واقترب «فهد» حتى أصبح على بعد مترَين فقط من أحد الرجال، ثم قفز قفزتَين … الأولى رفعته فوق السيارة التي كان الرجال الثلاثة يدفعونها … والثانية كانت فوق الرجل، وسقطا معًا على الأرض.

وتنبَّه الرجلان الآخران … كانا يقفان متجاورَين … وقفز «رشيد» في الهواء، وبقدمه اليمنى أصاب أحد الرجلَين في بطنه … ووقف أحد الرجلَين قبل الآخر مادًّا يده بمسدس … طار على الفور من يده بضربة ثالثة من قدم «رشيد»، الذي هوى بيده على وجه الرجل في لكمة داوية … سقط على أثرها فوق رفرف إحدى السيارات وأحدث دويًّا.

وعندما التفت «رشيد» إلى الرجل الثاني سمع الجميع صوتًا عند باب الجراج يقول بصوت مرتفع: لا يتحرَّك أحد من مكانه!

وعلى ضوء الشارع ظهر رجل يحمل مدفعًا … وبدأ الرجال الثلاثة يتحرَّكون في اتجاه نفس السيارة التي كانوا يُحاولون إزاحتها من الطريق … ووقف «فهد» و«رشيد» ساكنَين وهما يُفكِّران فيما يُريده الرجال الثلاثة … وفي نفس الوقت كانا متأكِّدَين أن «زبيدة» قد سمعت ما يدور في الجراج … وأنها لا بد على مقربة تستعد للتدخُّل.

كانت هناك خمس سيارات واقفة في صف واحد … وكان الرجال الثلاثة يُزيحون السيارة الأولى بصعوبة … فقد كان الجراج مزدحمًا بالسيارات … منها سيارات الشياطين … ومنها سيارات بعض الزبائن … وفكَّر «فهد» و«رشيد» معًا فيما يفعله الرجال الثلاثة. كان واضحًا أنهم يُريدون أخذ سيارة من السيارات الخمس … ولكن أي سيارة؟ ولماذا؟ إذا كانوا يُريدون سرقة سيارة؛ فقد كان في إمكانهم أن يسرقوا السيارة الأولى، وهي سيارة حديثة من طراز «جاجوار» الغالية الثمن … إذن من المؤكَّد أنهم يُريدون سرقة سيارة معيَّنة … أي سيارة يا تُرى؟

استطاع الرجال بعد جهد إبعاد السيارة الأولى … ثم بدءوا في تحريك السيارة الثانية، وكان الرجل ذو المدفع الرشَّاش قد دخل الجراج … وفي هذه اللحظة حدث شيئان في نفس الوقت … أُضيئت أنوار الجراج كلها … وسقط المدفع الرشاش من يد الرجل … ولدهشة «فهد» و«رشيد» أسرع الرجال الأربعة خارجين من الجراج دون أن يُبدوا مقاومة … ثم أغلقوا باب الجراج خلفهم بسرعة هائلة.

وسمع «فهد» و«رشيد» صوت أقدام تجري على السلَّم مسرعة … ووصلت «زبيدة» وقالت: هل أنتما بخير؟ ثم اندفعت إلى باب الجراج ومعها «رشيد» و«فهد»، ولكن الباب كان قد أُغلق بالمفتاح من الخارج … وسمعوا صوت محرِّك سيارة يدور، ثم انطلقت السيارة مبتعدة. وقف الشياطين الثلاثة صامتين، ثم قالت «زبيدة»: أطلقتُ رصاصةً صامتةً حتى لا ألفت الأنظار. إننا لا نستطيع إيجاد مقر جديد أفضل من هذا … وتدخُّل الشرطة قد يُفسد كل شيء.

قال «فهد»: إنني لا أدري ماذا يُريد هؤلاء الناس … حاولوا خطف «إلهام» وخدَّروا «قيس» … ولا ندري ماذا حدث لبقيَّة الشياطين في الجبل … هل يكون كل هذا من أجل سرقة سيارة؟! هذا غير معقول!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤