صلوات … وبخور

اجتمع الشياطين اﻟ «١٣» جميعًا على مائدة الإفطار … وكان «باسم» يتحدَّث طول الوقت يروي كل ما حدث، وقال مختتمًا حديثه: لقد رأينا أنا و«عثمان» أن ننسحب حتى نترك فرصةً لعصابة «كراولي» للبحث عن التمثال … وسيكون من السهل انتزاعه منهم بعد ذلك.

ردَّ «أحمد»: لقد أرسلتُ تقريرًا بالمذكرة التي تركتَها يا «باسم» إلى رقم «صفر»، وأرجو يا «إلهام» أن تُرسلي تقريرًا آخر بالحوادث الأخيرة.

قيس: هناك احتمال سيئ … ألَّا تعود العصابة إلى مقرِّها مرةً أخرى بعد اكتشاف ما جرى للحارس … وبهذا نفقد أثرها مرةً أخرى.

ابتسم «عثمان» قائلًا: أعتقد أنهم لن يعرفوا ما حدث له بالضبط … ولعلهم يتصوَّرون أن غصن شجرة وقع على رأسه. إن كُرَتي العزيزة لا تترك أثرًا!

أحمد: أُفضِّل على كل حال أن نضع خطةً للمراقبة نشترك فيها جميعًا. ستبقى «هدى» فقط للاتصال بها إذا استدعى الأمر بذلك. سيقف «قيس» في ورشة السيارات. سيقف «مصباح» في قسم الآلات الحاسبة … ويبقى منا عشرة … أربعة لمراقبة مقر العصابة … ثلاثة لمراقبة مقر الآسيويين … ثلاثة لمراقبة مغارة «جعيتا» … وستستمر المراقبة طول اليوم … وطول الليل …

باسم: بالمناسبة هل يُقر الشياطين اﻟ «١٣» بالاتفاق الذي اتفقتُه مع الآسيويين بأن نردَّ لهم التمثال إذا حصلنا عليه؟

أحمد: نأخذ الأصوات.

وارتفعت الأيدي جميعًا بالموافقة … وبعد الإفطار بدأت المجموعات تتقسَّم.

وقال «أحمد»: «إلهام» و«عثمان» وأنا لمراقبة المغارة … «باسم» و«بو عمير» و«رشيد» و«ريما» لمراقبة مقر العصابة … «فهد» و«زبيدة» و«خالد» لمراقبة مقر الآسيويين … لتأخذْ كل مجموعة تسليحًا كاملًا وأجهزة لا سلكي … تُلاحَظ تعليمات رقم «صفر» المشدَّدة … لا اشتباك بالنهار حتى لا نلفت لنا الأنظار. إذا كان لا بد من اشتباك فيجب العودة فورًا إلى المقر بعد الانتهاء منه. الأسرى يُتركون مكانهم بعد استجوابهم.

بعد فترة قصيرة كانت ثلاث سيارات تحمل الشياطين … كل مجموعة منهم إلى الجهة المتفق عليها. كان صباحًا غائمًا، وقد بدأت الريح تهب بشدة والسحب الكثيفة تتجمَّع في السماء، وقال «أحمد»: جو مناسب لنا؛ سوف تُمطر بعد قليل، ويقل عدد المتردِّدين على الجبل والمغارة.

انطلقت السيارات، وعندما وصلت إلى الجبل توزَّع الجميع في أماكنهم … وبدأت الاتصالات اللاسلكية بينهم … لا تحرُّكات مطلقًا في مقر العصابة … لا تحرُّكات مطلقًا عند مقر الآسيويين … لا شيء مريب حول مغارة «جعيتا». وبعد ساعات عادت الاتصالات اللاسلكية … لا شيء جديد، الصمت يرين على مقر العصابة، وعلى مقر الآسيويين … لا شيء عند مغارة «جعيتا».

وبدأ المطر يهطل كما توقَّع «أحمد» … وأظلمت السماء تمامًا … وبدا الجبل عاريًا موحشًا، وظل الشياطين في أماكنهم … ومرَّت الساعات … وفي كل اتصال كانت نفس المعلومات تتردَّد … لا شيء … لا شيء … لا شيء …

عندما أوشك مساء الشتاء المبكِّر على الهبوط، اتصل «بو عمير» ﺑ «أحمد» باللاسلكي قائلًا: أقترح أن نقتحم مقر العصابة. من غير المعقول أن ننتظر أكثر من هذا!

ردَّ «أحمد»: انتظر هبوط الظلام وتمسَّك بالصبر.

كان «أحمد» و«عثمان» و«إلهام» يضعون سيارتهم في مكان يُشرف من فوق الجبل على مدخل المغارة … وطوال النهار لم يصل إلَّا عدد قليل جدًّا من الزوَّار، ثم غادروها أمام البرد والمطر، ولم يعد هناك أحد.

قال «أحمد»: سأذهب للحديث مع حُرَّاس المغارة؛ لعلني أسمع شيئًا عن «كراولي».

وغادر «أحمد» مكانه ونزل … وسار في الطريق الطويل المؤدِّي إلى المغارة تحت المطر الغزير، وعندما وصل لم يجد إلَّا حارسًا واحدًا احتمى خلف كشك خشبي وجلس يُدخِّن في صمت … وبعد أن حيَّاه «أحمد» قال: هل أنت في الحراسة منذ فترة طويلة؟

ردَّ الرجل: منذ أسبوع. لماذا تسأل؟

تردَّد «أحمد» لحظات، ثم قال: يقولون إن أحد السوَّاح الأمريكان قد غرق في المغارة.

مطَّ الحارس شفتَيه وقال: من قال لك هذا الكلام الفارغ؟! لم يغرق أحد أبدًا في مغارة «جعيتا»!

أحمد: هذا ما سمعته.

الحارس: لا يمكن … وإلَّا قامت الدنيا ولم تقعد … ما اسم هذا الرجل؟

أحمد: «كراولي».

الحارس: لا «كراولي» ولا غيره غرق هنا.

أحمد: إنه رجل ضخم الجسم يُشبه الغوريلا.

كان «أحمد» يُريد أن يجد مجالًا للمناقشة حتى على أساس معلومات غير صحيحة … وقد أصاب الهدف بأسرع ممَّا يتوقع؛ فقد قال الحارس: إنني أذكره … لقد حضر إلى هنا بعد أن كادت المغارة تغلق أبوابها؛ فلم يكن هناك زُوَّار بسبب العواصف والأمطار، وطلب أن يزور المغارة.

دقَّ قلب «أحمد» سريعًا وقال: وهل سمحتم له؟

ابتسم الحارس قائلًا: لقد دفع بقشيشًا سخيًّا … فسمحنا له بالزيارة.

قال «أحمد»: أرجوك يا سيدي أن تتذكَّره، هل كانت معه حقيبة سوداء؟

قال الحارس: لا … إنني أذكره جيدًا … لقد كان يحمل لفةً من البلاستيك منتفخةً كأنها بالونة.

ازداد اهتمام «أحمد» وقال: وهل خرج بها؟

قال الحارس: لا أدري … لقد ذهبت إلى البوفيه القريب لأنه تأخَّر في الداخل، وخرج دون أن أراه.

أحمد: ألا أستطيع دخول المغارة الآن؟

الحارس: لقد انتهت مواعيد الزيارة … تعالَ غدًا.

شكر «أحمد» الحارس وأسرع عائدًا إلى «إلهام» و«عثمان». كان الظلام هبط تمامًا … وازدادت العاصفة حِدَّة … والمطر انهمارًا … ووجد «أحمد» أن «إلهام» و«عثمان» قد دخلا السيارة وأغلقا عليهما الأبواب والنوافذ.

دخل «أحمد» السيارة فأحسَّ بالدفء الذي يبعثه جهاز التكييف وقال: أول خبر له قيمة عن التمثال.

سألت «إلهام» بلهفة: ما هو؟

أحمد: «كراولي» دخل المغارة ومعه لفة من البلاستيك.

إلهام: بلاستيك! هذا يعني شيئًا واحدًا … أنه وضع التمثال في الماء.

أحمد: لست متأكِّدًا، ولكن هذا من الاحتمال الأكبر.

عثمان: وماذا نفعل الآن؟

أحمد: لو كان في استطاعتنا إقناع الحارس لدخول المغارة وحدنا لكانت فرصتنا أكبر في البحث.

ابتسمت «إلهام» قائلة: دعوا هذا لي … إنني لبنانية مثله … ولعلني أستطيع إقناعه.

أحمد: سنأتي معك.

إلهام: بشرط أن تقفا بعيدًا.

ونزل الثلاثة يُواجهون الريح والمطر مرةً أخرى … واجتازوا الممر الطويل إلى المغارة … وكانت في انتظارهم مفاجأة … سيارة تقف قرب المغارة … وقال «أحمد»: لم تكن هذه السيارة موجودةً عندما كنت هناك.

عثمان: لقد مرقت دون أن نراها عندما لجأنا للجلوس داخل سيارتنا.

وأسرع الثلاثة إلى مكان الحارس … وكانت مفاجأة تالية … وجدوا الحارس ملقًى على الأرض خلف الكشك، ولم يكن يظهر منه سوى أطراف قدمَيه.

نظر «أحمد» إلى المغارة وقال: إنها مضاءة … إنهم في الداخل!

أحمد: حذار … سأتقدَّم معك، وعلى «إلهام» أن تحمينا، واخلعا الأحذية.

ونزع الثلاثة أحذيتهم؛ فقد كان أقل صوت يُحدث صدًى قويًّا داخل المغارة … وتسلَّل الثلاثة داخلين … ونزلوا السلالم التي تهبط نحو مترَين إلى أسفل … وبدت المغارة العظيمة التي لا مثيل لها مضاءة … والأضواء تنعكس على مئاتٍ من التكوينات الصخرية والملحية الملوَّنة فتبدو كأشباح ماردة تُطلق الشرر من عيونها.

كان الثلاثة يسيرون محاذرين بجوار الحائط … وأشار لهم «أحمد» أن يُنصتوا … ثم قال هامسًا: صوت مجاذيف.

واستمع الثلاثة، وكان صوت المجاذيف تضرب المياه داخل المغارة واضحًا. كان هناك قوارب كثيرة … فقفز الثلاثة إلى قارب منها … وقال «أحمد»: كما تعرفان فإن مجرى المياه في المغارة يتلوَّى كالثعبان، ومن الممكن أن نفاجئهم في أي لحظة؛ لهذا سننبطح في القارب وسأكتفي بالتجذيف وأنا جالس.

وبدأ القارب يشق طريقه هادئًا وسط قناة الماء … وفجأةً سمع الثلاثة أصواتًا تتحدَّث. كانت المغارة تُضخِّم الأصوات بشدة … حتى تتشوَّه الكلمات وتبدو غير واضحة … ولكن «أحمد» كان متأكِّدًا أن القارب الآخر قريب جدًّا فهمس: استعدَّا! … وفعلًا ظهر القارب الآخر فجأةً من أحد المنحنيات الكثيرة في المغارة … وشاهد «أحمد» ثلاثة رجال قد بدت على وجوههم علامات الشر ونفاد الصبر … وكان كلٌّ منهم يلوم الآخر. وأدرك «أحمد» أنهم لم يعثروا على التمثال.

كانت اللحظات التالية حاسمة … فقد وقف «عثمان»، وأطلق كرته الجهنمية فأصاب واحدًا من الثلاثة بضربة مباشرة سقط على إثرها في الماء … فانعطف «أحمد» بالقارب فجأةً واختفى عن عيون الرجلَين الباقيَين. وارتفعت صيحات الغضب منهما … ودوَّت رصاصة ضاعفت المغارةُ صوتها عشرات المرات حتى بدت كأنها قنبلة ضخمة … ولكن «أحمد» كان قد انحرف بالقارب وقبع في مكانه … ثم همس: ستصعد «إلهام» فوق هذا الجانب وتختفي خلف إحدى الصخور.

ودون مناقشة قفزت «إلهام» واختفت خلف صخرة وبيدها مسدس، ومرةً أخرى ظهر القارب وبه الرجلان … وانبطح «أحمد» و«عثمان» في قاع القارب … وانهمر سيل من الطلقات … وأخرجت «إلهام» يدها من خلف الصخرة … وأطلقت رصاصة … وهوى أحد الرجلَين … وفي اللحظة التالية كان «أحمد» يقفز من قاربه إلى القارب الآخر، بينما الرجل يُطلق مسدسه على «إلهام» … وبلكمة واحدة نزلت كالمطرقة على وجه الرجل توقَّف إطلاق الرصاص … ومال الرجل ومال القارب معه وسقط هو و«أحمد» في الماء المثلج، واشتبكا في صراع مميت … كلٌّ منهما يُحاول إغراق الآخر … ولم يُضيِّع «عثمان» وقتًا … أمسك بالمجذاف واقترب منهما … وعندما ظهر رأس الرجل على سطح الماء ضربه ضربةً واحدةً وانتهى الصراع.

أسرع «عثمان» لينتشل «أحمد» من الماء البارد، ثم جنح جانبًا، وركبت «إلهام» وقال «أحمد»: انتهت المهمة السهلة … والآن أين التمثال؟

إلهام: حسب ما قاله الحارس فالتمثال غارق في المياه، والمياه عميقة، ونحتاج لأن نغطس.

أحمد: مستحيل … إننا سنحتاج لأيام طويلة لمسح قاع المغارة … و«كراولي» لا يمكن أن يضع التمثال في قاع الماء … بحيث يحتاج إلى غطَّاسين لإخراجه.

كان «أحمد» ينفض ثيابه؛ فقد أحسَّ بالماء البارد يتسلَّل إلى عظامه ويكاد يُصيبه بالشلل، ولكن فكرة العثور على التمثال كانت تُنسيه كل شيء.

عثمان: هل قال الحارس إن اللفة كانت منفوخةً كالكرة؟

أحمد: نعم قال هذا بالضبط.

عثمان: إذن فإن المسألة سهلة … «كراولي» يربط التمثال في حبل، وفي طرف الحبل بالونة، ويُلقي التمثال في الماء خلف صخرة … بحيث يصل التمثال إلى القاع … وتبقى البالونة عائمة.

أحمد: ولكن أي شخص يمكن أن يرى البالونة ويسحب التمثال.

عثمان: هناك حل آخر … ألَّا تكون البالونة بارزةً فوق الماء تمامًا … بل تكون غاطسةً بمسافة عشرة أو عشرين سنتيمترًا، وفي مكان مظلم.

أحمد: إنك رائع! سنبحث بجوار الصخور.

وأخذ الثلاثة يدورون بالقارب وأيديهم في الماء. ومرَّت ساعة قبل أن تصيح «إلهام»: البالونة!

وأخرجت يدها من الماء وبها بالونة، وأخذت تسحب الحبل … وفي نهايته كانت لفة من البلاستيك السميك … سرعان ما فكَّها «أحمد» … وظهر تمثال «بوذا» وسقطت عليه الأضواء فبدا كأنه شمس صغيرة مضاءة في المغارة.

•••

بعد ساعة واحدة من هذه الأحداث كان الشياطين اﻟ «١٣» يقتحمون مقر العصابة، حيث عثروا على «سوفانا» وزميله مقيَّدَين … فأخذاهما وأسرعا إلى مقر الآسيويين، وهناك كان ثمة مشهد من أروع المشاهد التي رآها الشياطين في مغامراتهم كلها … فلم يكد الكاهن «تاكانا» يرى التمثال حتى خرَّ ساجدًا على ركبتَيه … وتبعه الآسيويون الخمسة الذين لفُّوا حول العالم لاستعادة معبودهم … وأشعل «تاكانا» كميةً ضخمةً من البخور … وارتفعت حول الدخان الزكي الرائحة أصوات الستة خاشعةً في صلاة حارَّة للإله الذي عاد.

وانسحب الشياطين … ولم ينسَوا أن يمرُّوا بالسيارة المعطَّلة، فيستبدلوا عجلتها المثقوبة ويعودوا بها إلى المقر السري. بينما كانت «زبيدة» تُرسل التقرير الأخير عن هذه المغامرة، كان بقية الشياطين منهمكين في تناول عشائهم والحديث عن تمثال «بوذا» ومدينة الصمت التي جاء منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤