مقدمة: حياة القارئ النَّهِم
إن أذكى إجابة سمعتها ردًّا على السؤال الذي يُطرَح على كثير من المؤلفين — وهو: «كم استغرقتَ في تأليف هذا الكتاب؟» — هي: «لقد استغرق مني حياتي بأكملها حتى هذه اللحظة.» نعم، إن الفعل المادي المتمثِّل في وضع الكلمات على الورق ربما يكون قد حدث في فترة زمنية محددة، لكنَّ روحَ الكتاب وجوهرَه هما نتاجُ عمرٍ كامل. وهذا هو الحال مع كتاب دونالين ميلر المميَّز الذي تُمسِكه بين يديك؛ إذ تضع دونالين في هذا الكتاب خلاصةَ تجربتها الحياتية مع القراءة من حيث كونها قارئة نَهِمة، وعضوةً في مجتمعات قراءة مختلفة، وشغوفة بالكتب والقراءة.
منذ اللحظة التي بدأت تتحدَّث فيها دونالين عن هذا الكتاب، تولَّدَ الحماس؛ فقد شاهدتُ ذلك البريق الذي لمع في عيون مَن حضروا ورشةَ العمل التي تحدَّثت فيها دونالين عن المبدأ الذي يقوم عليه هذا الكتاب، ورأيتُ بنفسي الصدى الذي أحدثَتْه تلك الفكرة لدى التربويين. إن فكرة الكيفية التي نقرأ بها عندما يكون لنا مطلق الحرية للقراءة، أمرٌ مهم وأساسيٌّ وجوهريٌّ لدرجةٍ تدفعنا إلى التساؤل: «لماذا لم يخطر ببال أحدٍ الكتابة عن هذه الفكرة من قبلُ؟» الإجابة عن هذا السؤال بسيطة، وتتلخَّص في أن هذا الكتاب هو نِتاج وجهة نظر دونالين المتفرِّدة. وقد رأينا ذلك للمرة الأولى في كتاب «الهامسون بالكتب»، من خلال منهجيتها فيما يتعلَّق بإثارة الشغف للقراءة وإشعال جذوته بين طلابها. عندما تحدَّثت دونالين عن منهجيتها، أومأَتْ رءوس المعلمين بالموافقة ولسانُ حالهم يقول: «حسنًا، بالطبع. هذا منطقيٌّ.» وسوف تومئ رءوسٌ أكثرُ بالموافقة عندما تبتعد بنا دونالين أكثر في رحلةِ تحويلِ الطلاب لا إلى قرَّاءٍ لمدى الحياة فحسب، بل إلى قرَّاءٍ نَهِمين أيضًا؛ وهم ليسوا القرَّاء الذين يقرءون لأنه يلزم عليهم ذلك من أجل واجبٍ أو تكليفٍ ما، وإنما مَن يختارون طواعيةً الانضمامَ إلى هذا المجتمع من القرَّاء. يصبح القرَّاء الجامحون جزءًا من مجتمع القرَّاء لأن القراءة لديهم تضاهي في أهميتها الطعامَ والنوم والتنفس، فتصير القراءة مجرد نشاط آخر يقومون به، ولا يفعلون ذلك طوعًا فقط، وإنما بحماسٍ أيضًا.
كيف تفعل دونالين ذلك؟ كيف تجعل فكرة أن القراءة الجامحة ينبغي أن تكون هدف كل فصل مدرسيٍّ تبدو وكأنها أمر حتمي؟ إنها تفعل ذلك باتِّباع أسلوب ثلاثي المحاور؛ أولًا: دونالين نفسها قارئة نَهِمة؛ سَلْ عنها أي شخص يعرفها ويعتبرها زميلة وصديقة. عندما تجلس لتبادل أطراف الحديث معها، دائمًا ما يُثار موضوع الكتب والقراءة والمؤلفين والأطفال، وإذا كنت تُتابعها (مع كولبي شارب) في دردشة «تايتل توك» الشهرية على موقع تويتر، فسيمكنك أن تشهد على عمق معرفتها بالكتب والقراءة؛ فهي سريعةٌ في الإشارة إلى عناوين الكتب وإلى المؤلفين، وسريعةٌ بالقدر نفسه في تدوينِ الكتب التي لا تعرفها، وإضافتِها إلى قائمة قراءاتها المستقبلية، أو الإرسالِ في طلب شرائها؛ لتتمكَّن من إضافتها إلى مجموعة كتبها. إن شغفها بالقراءة يحفِّز الآخرين — وأنا من بينهم — على قبول التحديات؛ مثل: تحدي قراءة كتاب يوميًّا، أو تحدي ثغرات القراءة (يمكنك القراءة عن هذين الموضوعين في الفصل الرابع من هذا الكتاب).
لا حاجة — على الأرجح — للقول إن أصدقاءنا إذا كانوا قرَّاءً جامحين، فإننا سنميل إلى أن نكون كذلك بدورنا. لقد شاهدت حديث دونالين للجماهير عن تأسيس مجتمعٍ للقرَّاء. دائمًا ما يزخر حديثُها بالاقتراحات عن الكتب والمؤلفين والسلاسل وما إلى ذلك، ودائمًا ما يكشف القرَّاءُ الجامحون الآخَرون الموجودون في المكان عن أنفسهم على الفور، فهم مَن يُومِئون برءوسهم، ويُدوِّنون عناوين الكتب عندما ينشغلون بذلك عن الإيماء برءوسهم تعبيرًا عن الموافقة على مؤلف أو عنوان كتابٍ ترشِّحه دونالين. يسري ذلك أيضًا على الفصول المدرسية؛ فالطلاب الذين يتَّصف مُعلِّموهم بنَهَم القراءة، تزداد احتمالات رؤيتهم لذلك النَّهم كشيء يطمحون إليه، وغالبًا ما يعملون على السَّير على نهج معلِّميهم؛ لذا فما من شيء يثير الدهشة في أن نكتشف أن الطلاب في فصول دونالين يقرءون عشرات من الكتب كلَّ عام، ويشاركون مشاركةً كاملةً في مجتمع القراءة الذي ينتمون إليه. وكما قالت كاتبة القصص القصيرة كاثرين مانسفيلد: «إن متعة القراءة ككلٍّ تتضاعف عندما يحيا المرء مع شخص آخَر يشاركه نفس الكتب.»
بالنسبة إلى دونالين، ليس كافيًا أن تكون قارئًا نَهِمًا؛ بل يجب على التربويين أن يكونوا قادرين على الإشارة إلى النواحي التربوية التي تقوم عليها أشكال تنظيم الفصل المدرسي وأنشطته؛ لذا فإنها تأخذنا إلى أُفق أبعد في هذا الكتاب، عن طريق تقديم أساس تربويٍّ لمنهجيتها في بثِّ الشغفِ بالقراءة وحبِّها في نفوس طلابها، وتدمج بين الأبحاث الحالية والسابقة التي توضح كفاءة ما تفعله في الفصل المدرسي. وهذه القاعدة البحثية ضرورية. ما سبب أهمية القراءة بصوت مرتفع؟ تستشهد دونالين بالبحث الموضَّح لذلك. كيف تنجح فكرة منح الطلاب حرية اختيار ما يقرءونه؟ تقدِّم دونالين البحث الذي يوضِّح أهمية ذلك. هل من الممكن تشجيع القراءة النَّهِمة الجامحة وتلبية متطلبات المنهج الدراسيِّ التي يجب تغطيتها في الوقت نفسه؟ تتناول دونالين ذلك أيضًا في هذا الكتاب. في لب الكتاب، يوجد ذلك البحث الذي يقوم عليه الموضوع المحوري بأكمله؛ أَلَا وهو استطلاع دونالين لآراء المئات من القرَّاء النَّهِمين، وطرحها الأسئلة عليهم بشأن الممارسات التي ساعدت في تكوين شخصياتهم كقرَّاء، وإبقائهم قرَّاءً نَشِطين.
هذا الكتاب ليس برنامجًا أو منهجًا نموذجيًّا تعليميًّا يلائم الجميع، بل باستخدام جُمَل عامة حول ما يفعله القرَّاء الجامحون، تُهيئ دونالين وضعًا بالفصل المدرسيِّ يُمكِّن المعلمين من تطوير نماذجهم وجداولهم وموادهم. وبالرغم من إدراجها نماذج ومقترحاتٍ من شأنها أن تلقَى ترحيبًا من التربويين، فإن هذه النماذج تُعدَّل بسهولة لتتلاءم مع الاحتياجات الفردية ومستويات الصفوف والفصول الأخرى؛ فالأبحاث متينة مُحْكمة، لكن التنفيذ مَرِنٌ. هل تُدرِّس لفصل من طلاب المرحلة الثانوية؟ فَلْتأخذ بمقترحات دونالين بشأن رعاية مكتبات الفصل المدرسيِّ، وتأسيس مجتمعات قراءة، ووضع خطط للقراءة، ثم عدِّل هذه المقترحات للقرَّاء الأكبر سنًّا. في فصول الصف الخامس، عدِّلْ أسلوب مشاركة الكتب وما يدور حولها من مناقشاتٍ لتلائم الطلاب الأصغر سنًّا. فمن اليسير تطبيق أفعال القرَّاء الجامحون التي تناقشها دونالين في هذا الكتاب على نطاقٍ كبير من الفصول أو الصفوف أو المراحل العمرية المختلفة.
من الأمور الجوهرية في هذا الكتاب القصصُ المُستقاة من تجارب واقعية. لا تكتب دونالين فحسب عمَّا يجب فعله في الفصل المدرسي، وإنما تكمن أيضًا أصواتُ الطلاب في قلب ملاحظاتها. كلُّ الأفكار الرائعة في العالم لا تستحق الوقت والجهد المبذولين فيها لو افتقرَتْ إلى معرفةِ كيفيةِ تطبيقها في الفصل المدرسيِّ. تأخذنا دونالين في رحلة إلى داخل فصلها المدرسيِّ؛ حيث يضع الأطفال خططًا للقراءة في أثناء الإجازات، ويحدِّدون أهدافًا للفصل الدراسيِّ، ويقرءون ويسجِّلون ويفكِّرون في التقدُّم الذي يُحرِزونه، ويؤسِّسون مجتمع القراءة الخاص بهم الذي يمتد خارج حدود الفصل المدرسيِّ والمدرسة. وتأخذنا مهارات دونالين في ملاحظة الأطفال إلى جوهر القراءة الجامحة، وتتيح لنا رؤيةَ كيفية استجابة القرَّاء الجامحين. ويزخر كل فصل من فصول الكتاب بتعليقات من طلابها؛ ما يقدِّم للتربويين رؤيةً بشأن كيفية استجابة القرَّاء الجامحين للأنشطة والاستراتيجيات والتنظيم في فصلها المدرسيِّ. تؤكد أصوات القرَّاء هذه ما تناقشه دونالين؛ وهو أنه في حال توافُر الظروف الملائمة في الفصل المدرسيِّ، يمكن للتربويين مساعدة الطلاب على التطوُّر من مرحلة القراءة في وقت المدرسة إلى القراءة لمدى الحياة؛ أيِ التحوُّل إلى قرَّاء نَهِمين.
إذن في النهاية، يتمحور هذا الكتاب حول تكوين الروابط. فكِّرْ في لعبة توصيل النقاط التي أحببناها جميعًا في طفولتنا؛ فمع مواصلة تحريك الأقلام الرصاص أو الشمعية من نقطةٍ إلى نقطةٍ إلى أخرى وهكذا، كانت تظهر أمامنا صورة. وهذا هو الحال مع هذا الكتاب؛ فمع انتقالنا من فصل لآخر، يتجلى أسلوب تنشئة القرَّاء الجامحين. لعل الروابط التي نكوِّنها بين كتابٍ وآخَر، وقارئ وآخر، وكتاب وقارئ؛ هي أهم الروابط التي يمكن للتربويين تكوينها. ومساعدةُ الطلاب في الانتقال من كتاب لكتاب تالٍ — ولا سيما مساعدتهم في أن يصبحوا أكثر استقلاليةً خلال هذه العملية، عن طريق معرفة مِن أين يمكنهم العثور على المزيد من ترشيحات الكتب — تضمن زيادةَ قوائم القراءة المستقبلية وأكوام الكتب لدى الطلاب؛ أيْ تضمن وجود خطة في هذا الشأن. ومساعدةُ الطلاب في إقامة علاقات مع قرَّاء آخرين تضمن معرفةَ الطلاب أن مجتمع القرَّاء من الثوابت الأخرى في حياتهم كقرَّاء نَهِمين. وأخيرًا، فإن مساعدةَ القرَّاء على الارتباط بالكتب التي يقرءونها، والحرصَ على أن تكون الكتب مناسبةً من الناحية التنموية لهم، وأن تخاطب قلوب القرَّاء الجامحين، جميعها أمور تؤكد على أن الأهداف الحقيقية للقراءة تتضمن روابط شخصية، بمعنى أن الكتب يمكنها أن تلمس شيئًا داخلنا جميعًا، وتثير الضحك والدموع وغيرهما من الانفعالات الأخرى. وهذه الروابط جزء من جوهر القراءة النهمة.
تنبِّه دونالين القرَّاء إلى أن الكتب يمكنها أن تغيِّر وجهَ حياتنا. لكنْ لفعل ذلك، يجب قراءة هذه الكتب. ثمة حكمة بوذية قديمة تقول: «إذا لم تَنْمُ بذرةُ خسٍّ، فلا نلوم الخسَّ، وإنما نلوم أنفسنا لعدم رعايتنا البذرة كما ينبغي.» هذا إذن هو سر تنشئة القرَّاء. إن كتاب دونالين ميلر هو الأداة التي يحتاج إليها المعلمون للتنشئة الصحيحة للقرَّاء؛ إنه الأداة التي نحتاج إليها للتأكد من أن جميع قرَّائنا قرَّاء جامحون.
الأستاذ بجامعة سام هيوستن الحكومية
أكتوبر ٢٠١٣