مقدمة المؤلِّفة

لطالما آمنتُ بأن الهدف الأساسي والأهم لتعليم القراءة هو غرس حبِّ القراءة في النفوس.

ليندا جامبريل، «خلق ثقافات بالفصول المدرسية تعزِّز الحماس للقراءة»

في الفصل الأخير من كتابي الأول «الهامسون بالكتب: إحياء القارئ بداخل كل طفل» (ميلر، ٢٠٠٩)، عبَّرْتُ عن جزعي من فكرة أنه على الرغم من نجاحي في تشجيع طلابي على القراءة كثيرًا خلال عامنا الدراسيِّ معًا، فقد قلَّ مُعدَّل قراءة هؤلاء الطلاب أو توقَّفوا عنها كليةً عند انتقالهم إلى المرحلتين الإعدادية والثانوية. وقد ألقيتُ باللوم على مدارسِ المراحل الدراسية الأعلى ومعلِّمِيها، عندما فقَدَ طلابي السابقون حماسَهم للقراءة. كنت أعلم أنه مع تخصيصِ وقتٍ للقراءة في الفصل المدرسيِّ، وإتاحةِ الفرصة للطلاب لاختيار كتبهم بأنفسهم، ووجودِ معلِّمين يقرءون ويقترحون عليهم الكتبَ؛ كان الطلاب سيقرءون. وبَدَا جليًّا لي أنهم إنْ كانوا قد توقَّفوا عن القراءة، فإن السبب في ذلك يرجع إلى أن المُعلِّمين لم يوفِّروا بيئةَ الفصل المدرسيِّ التي تقدِّم لهم الدَّعم، وتوقَّعت من المعلمين تحمُّلَ مسئولية قراءة الطلاب.

أما الآن، فإنني أعتقد أنه على الرغم من أن المعلمين يمكن أن يوفروا لطلابهم ظروفًا تساعد على اكتساب عادات القراءة لمدى الحياة، فإنه يتعيَّن على الطلاب في النهاية تحمُّل مسئولية حياتهم كقرَّاء. وبتأمُّل ما اتَّبَعته من ممارساتٍ أوضحتُها في كتاب «الهامسون بالكتب»، أرى أن فصلنا المدرسيَّ القائم على فكرة وِرَش القراءة قد أسَّسَ ثقافةَ القراءة المستقلة، لكنْ يبدو أن بعض طلابي كانوا قرَّاءً تابعين لا مستقلين، فعندما تركوا فصلي المدرسيَّ لم يتطبَّع كثيرون منهم بعادات القراءة لمدى الحياة، التي كانوا يحتاجون إليها للاستمرار كقرَّاء دون دعم يوميٍّ. فإذا كان طلابي قرَّاءً مستقلين بحقٍّ، فلماذا ظلوا بحاجةٍ إلى معلم يوجِّه حياتهم كقرَّاءٍ؟

قالت لي طالبةٌ تُدعَى آشلي: «من المستحيل ألَّا نكون قرَّاءً في فصلك، يا أستاذة ميلر!» لو حدث ذلك منذ بضعة أعوام، لَكنتُ افتخرتُ بملاحظة آشلي، لكن ذلك ليس شعوري الآن؛ فأنا أريد أن يستمتع طلابي بالقراءة ويروها هادفةً عندما يكونون في فصلي، لكنني أريدهم أيضًا أن يفهموا سبب أهمية القراءة لحياتهم. الفصل المدرسيُّ القائم على فكرة ورشة القراءة يقدِّم دعمًا مؤقتًا، لكن في النهاية يجب أن يملك الطلابُ الكفاءةَ الذاتية والأدواتِ اللازمة لاستكمال مسيرتهم وحدهم. إن الهدف من تعليم القراءة ككلٍّ هو الاستقلالية، وإذا ظلَّ الطلاب معتمدين على معلميهم لإزالة كل العقبات التي تعيقهم عن القراءة، فلن يصيروا قرَّاءً مستقلين.

وعلى الرغم من أن الأداء في الاختباراتِ القياسية واختباراتِ الطلاقة واستخدامِ استراتيجيات الفهم، يكون أوضح إذا كان الطلاب قد أتقنوا عمليات القراءة الأساسية؛ فما من بيانات تخبرني إنْ كان طلابي قرَّاءً خارج إطار التعريف المدرسي للقرَّاء. يمكنني أن أثبت مستويات قراءة الطلاب، وهل كانوا قد أتقنوا معايير القراءة التي يلزم عليَّ تعليمها، وأتقنوا القدرة على القراءة على نحوٍ استراتيجي، لكن لا يمكنني إثبات إنْ كان طلابي سيكونون قرَّاءً جامحين في المستقبل أم لا. لا أحد يطلب مني إثبات ذلك.

عندما ندرِّس القراءة أو نُقيِّمها في فصولنا المدرسية، لا يمكننا غض الطرف عن الروابط العاطفية بين القرَّاء الجامحين والكتب والقراءة، أو عن السلوكيات الحياتية التي يتحلى بها هذا النوع من القرَّاء (أتجنَّب استخدام مصطلح «القرَّاء الحقيقيين»؛ لأنه يوحي بأن الطلاب الذين يقرءون ليسوا قرَّاءً «حقيقيين»). أيًّا كان الاسم الذي تطلقه عليهم — قرَّاء لمدى الحياة، قرَّاء حقيقيون، قرَّاء نَهِمون، قرَّاء جامحون (هذا المصطلح الذي أفضِّله) — يتشارك هؤلاء القرَّاءُ حبًّا متأصِّلًا للقراءة. ولسدِّ الفجوة بين التعريفِ المدرسي للقرَّاء وتعريفِ العالَم الواقعي لهم، علينا التفكير في هذه الخصائص المؤثرة. إن السبيل نحو اكتساب عاداتِ قراءةٍ تستمر لمدى الحياة؛ يعتمد على التطبُّع بنمط حياة قائم على القراءة، بالإضافة إلى التحلِّي بمهارات القراءة واستراتيجياتها. لكن هل نُعرِّف هذه العادات ونُمثِّلها ونعلِّمها في الفصل المدرسي؟ هل يمكننا كخبراء في تعليم مهارات القراءة والكتابة الاتفاقُ على ماهية عادات القراءة لمدى الحياة في المقام الأول؟ ولماذا هي مهمة إلى هذا الحد؟

إن الأطفال الذين يحبون القراءة ويرون أنفسهم قرَّاءً هم الأكثرُ نجاحًا في المدرسة، ولديهم أعظم الفرص في الحياة. وأهميةُ عادات القراءة لمدى الحياة موثَّقةٌ توثيقًا جيدًا؛ ففي تقرير التقييم القومي للتقدم الدراسيِّ لعام ١٩٩٦ (آلان، وكارلسون، وزيلناك، ٢٠٠٠)، يؤكِّد المقياس القومي الوحيد الذي لدينا في الولايات المتحدة والذي يقارن الأطفال في جميع الولايات (إلى أن يأتي اختبار المعايير الحكومية للأساس المشترك)، على أهمية عادات القراءة لمدى الحياة؛ إذ ورد فيه: «بعيدًا عن الجهود البحثية والإصلاحية في تعليم القراءة، يزداد الاهتمام بتطوير عاداتٍ وقدراتٍ ثقافية تستمر لمدى الحياة، ويعزِّزه دعْمُ الأسرة والبيئة المحيطة، ويزداد باستمرارٍ اتفاقُ التربويين وأولياء الأمور على أنَّ الطلابَ ينبغي ألَّا يكتسبوا قدرةً على فهم ما يقرءونه فحسب، وإنما أن يطوِّروا أيضًا توجُّهًا نحو التثقيف يؤدِّي إلى القراءة والتعلُّم لمدى الحياة» (صفحة ١٠٠). وعلى الرغم من الجهود الإصلاحية المكثفة لتحسين مهارات القراءة لدى الطلاب الأمريكيين، تكشف درجاتُ التقييم القومي للتقدُّم الدراسيِّ لعام ٢٠١٠ عن ضعف التطوُّر في هذا الشأن (جيورتس، ٢٠١٠). ما من أدلةٍ كثيرة على أننا نحقِّق الهدفَ الرامي إلى غرْسِ عادات القراءة لمدى الحياة في فصولنا المدرسية.

في الوقت الذي كنتُ أكتب فيه هذا الكتاب، تبنَّت كلُّ ولاية أمريكية تقريبًا المعايير الحكومية للأساس المشترك في إطار إصلاحٍ تعليميٍّ شاملٍ يَعِدُ بتحسينِ تحصيل الطلاب في القراءة، وضمانِ إعداد المدارس في جميع أنحاء الدولة لكل الطلاب للتعليم المتقدِّم وسوق العمل. بَيْدَ أن هذا العمل طُبِّق دون دراسة بحثية واحدة تُثبِت فعاليةَ هذه المعايير، فضلًا عن تجاهُله أو إنكاره بجرأةٍ عقودًا من البحث في مجال تنمية الطفل، وعلم النفس التعليمي، وتعليم القراءة. لم يتَّضح بعدُ إنْ كانت هذه المعايير ستُحسِّن أداء الطلاب في القراءة، لكننا لا نستطيع إغفال حقيقة واحدة؛ وهي أنه بغضِّ النظر عن المعايير التي نطبِّقها أو اختبارات القراءة التي نقدِّمها، فإن الأطفال الذين يقرءون بقدرٍ أكبر سيتفوَّقون دائمًا على الأطفال الذين لا يقرءون كثيرًا.

لقد أدى تركيزنا القومي الحماسيُّ على الأداء في الاختبارات القياسية — الذي غالبًا ما يكون على حساب تعليم القراءة ودَعْمها على نحوٍ هادف — إلى الإغفال عن التزاماتنا الحقيقية بشأن تثقيف الأطفال، التي تتمثَّل في تعزيز قدرتهم على عيش حياة مثقفة. فنحن نعلِّم المهارات التي يمكن قياسها في اختبارات الخيارات المتعددة، ونأمل سرًّا أن يدرك طلابنا في خِضمِّ ذلك أن القراءة عمل يستحق ما يُبذَل في سبيله من مجهود. نحن نعلِّم طلابنا خوض الاختبارات، لكن من الجليِّ أننا لا نحسِّن درجاتهم في هذه الاختبارات. في عام ٢٠٠٢، شكَّلت «هيئةُ الأكاديميات الوطنية» — وهي مجموعة رباعية خاصة غير هادفة للربح من المؤسسات المُعتمَدة من الكونجرس لتقديم الإرشاد في مجالات العلوم والتكنولوجيا والصحة والسياسة — هيئة مكوَّنة من خبراء قوميين في التعليم والقانون والاقتصاد والعلوم الاجتماعية؛ لتتبُّع تنفيذ خمسة عشر برنامجًا تشجيعيًّا قائمًا على الاختبارات وفعاليتها، مثل استحقاق الأجر. وبعد عشر سنوات، توصَّلَتْ هذه الهيئة إلى عددٍ قليل من مكاسب التعلُّم التي يحظى بها الطلاب نتيجةً لهذه البرامج (سباركس، ٢٠١١). إننا لا نُنشئ قرَّاءً مَرِنين مُتَّزنِين يُمكنهم الانتقال من عام دراسيٍّ إلى آخَر، ثم إلى سن البلوغ، حامِلين معهم سلوكيات القراءة وحبَّها، اللذين سيعودان عليهم بالنفع على مدار حياتهم.

كذلك تزداد فرص القرَّاء في النجاح في سوق العمل؛ فقد أجرى الباحث مارك تايلور؛ من جامعة أكسفورد، بحثًا على ١٧٢٠٠ شخصٍ من مواليد عام ١٩٧٠ بشأن أنشطتهم اللاصفِّيَّة في سن السادسة عشرة، ومِهَنهم في سن الثالثة والثلاثين، ووجد أن «قراءة الكتب هي النشاط الوحيد اللاصفي لذوي الستة عشر ربيعًا، الذي يرتبط بالحصول على وظيفة إدارية أو احترافية في مرحلة لاحقة في الحياة.» ارتبطت القراءة أيضًا بالتمتُّع بفرصٍ أعلى في الالتحاق بالجامعة. ولم يتوصل البحث إلى تمتُّع أيِّ نشاطٍ آخَر بنفس التأثير، بما في ذلك ممارسة الرياضة، أو حضور الحفلات الموسيقية، أو زيارة المتاحف، أو ممارسة الأنشطة العملية مثل الطهي والخياطة. ويقول تايلور متأملًا نتائجَ البحث الذي أجراه: «وفقًا لنتائجنا، ثمة شيء مميز بشأن القراءة من أجل المتعة؛ فالنواحي الإيجابية للقراءة من أجل المتعة ليست موجودةً في أي نشاط لا صَفِّيٍّ آخَر، بغضِّ النظر عن توقعاتنا.» عندما نضع في الاعتبار أن البالغين الذين يقرءون لديهم فرصًا أفضل في تحقيق النجاح المهني، فإن تشجيعَ عاداتِ القراءة الجامحة لدى طلابنا يبدو أمرًا محوريًّا لضمان استعدادهم للجامعة والحياة المهنية (جامعة أكسفورد، ٢٠١١).

إن الفشل في تخريج جيل يقدِّر القراءة له عواقب طويلة المدى على الجميع، فقد توصَّل تقرير «الهيئة القومية الأمريكية لمنح الفنون» لعام ٢٠٠٧، الصادر تحت عنوان «نقرأ أو لا نقرأ»؛ إلى أن «القراءة المنتظمة لا تعزِّز فقط إمكانيةَ النجاح الأكاديمي والاقتصادي للفرد — وهي الحقائق التي لا تدعو للدهشة البالغة — وإنما يبدو أنها تُحْيي أيضًا الحس الاجتماعي والوطني لدى المرء» (إينجار وبول، ٢٠٠٧). فالبالغون الذين يعتبرون أنفسهم قرَّاءً يُدْلُون بأصواتهم في الانتخابات، ويتطوَّعون في الأعمال الخيرية، ويدعمون الفنون على نحوٍ أكبر مقارَنةً بأقرانهم ممَّن لا يقرءون كثيرًا. من الواضح أن تنمية عادات القراءة التي تستمر لمدى الحياة ليست مهمةً للأفراد فحسب، وإنما للمجتمع بوجهٍ عامٍّ أيضًا؛ فعندما يقرأ عدد أكبر من الناس ستعمُّ الفائدة علينا جميعًا.

لكنَّ ثمة جدلًا مثارًا حول إنْ كان بإمكاننا تعليم الطلاب أن يكونوا قرَّاءً طوال حياتهم في المقام الأول أم لا. فيرى آلان جيكوبز؛ أستاذ متميز للعلوم الإنسانية في كلية بايلور، أنه لا يمكننا فعل ذلك، ويقول في كتابه «متعة القراءة في عصر الإلهاء» (٢٠١١): إن «الفكرة الراسخة لدى كثيرٍ من المعلمين حاليًّا، وهي أن الغرض من التعليم هو تعليم الطلاب حبَّ القراءة — أو على الأقل تقدير الكتب الكاملة والاستمتاع بها — إنما هي فكرة غريبة على تاريخ التعليم، بل ربما تكون غريبةً على تاريخ القراءة أيضًا» (ص١١٣). يقع بعض الأطفال في حب القراءة بينما لا يفعل بعضهم الآخَر؛ ويرى بعض التربويين أن مهمتنا كمعلمين هي ضمان تمتُّع طلابنا بالحد الأدنى — على الأقل — من المهارات الثقافية التي يحتاجون إليها للنجاح في المجتمع، لكن هذه الفلسفة ما هي إلا تهرُّب من المسئولية، فضلًا عن تقليصها فُرَصَ طلابنا فيما بعدُ في حياتهم.

إذا كان القرَّاء متميزين على المستوى الأكاديميِّ والمهنيِّ والاجتماعي، فإننا نُحِدُّ من فرص طلابنا عندما نقرِّر أننا نعجز عن تعليمهم عادات القراءة لمدى الحياة، أو أن الطلاب يعجزون عن تعلُّمها. وباعتقادنا أن بعض طلابنا فقط سيحبون الكتب والقراءة، فإننا نتجاهل مَن لن يحبوا الكتب والقراءة من تلقاء أنفسهم، ونتنكَّر لمسئوليتنا في تعليم طلابنا أن يصبحوا قرَّاءً يحققون ذواتهم. إننا نقلل من قدر طلابنا باعتقادنا أن القراءة موهبة، وأن سلوكياتِ القراءةِ الطويلة المدى لا يُمكن أن تُدرَّس. أنا لا أؤيد فكرة أن القراءة الجامحة ميزةٌ يُولَد بها الإنسان ولا يكتسبها، أو أن معلمي القراءة لا يتحمَّلون مسئوليةَ تنشئة قرَّاءٍ جامحين. وقد تناولتُ هذا الموضوع بالفعل في كتاب «الهامسون بالكتب».

حتى المدارس والفصول المدرسية التي تتبنَّى فكرةَ القراءة المستقلة لا ترى فيها عادةً سوى وسيلةٍ لتحسين نتائج الطلاب في الاختبارات، ونادرًا ما تُناقَش قيمة عادات القراءة لمدى الحياة للفرد أو المجتمع، أو تُعتَبَر أمرًا مهمًّا؛ إذ قلَّما تجري مناقشات مخططة وصريحة توجِّه الطلاب وتعلِّمهم كيف يطوِّرون حياةً قائمةً على القراءة. لكنني أعتقد أنه ينبغي إجراء هذه المناقشات، وأن غرس عادات القراءة لمدى الحياة يجب أن يكون هدفنا الرئيسي كمُعلِّمين للقراءة.

لقد طلبت من سوزان كيلي الانضمام إليَّ في كتابة هذا الكتاب؛ فقد عملت سوزي في تعليم القراءة على مدار ثلاثين عامًا، وتضيف خبراتُها وممارستها التعليمية المدروسة وشغفها الدائم بالتعليم صوتًا مهمًّا وضروريًّا لهذه المناقشة. وبالنسبة إلى كل معلم يعتقد أن التغيير لم يَعُدْ ممكنًا، ويَعُدُّ الأيامَ التي تفصِله عن التقاعُد عن العمل لأنه يرى أن التدريس قد تغيَّرَ تغيُّرًا جذريًّا؛ تُعَدُّ سوزي دليلًا حيًّا على أن المعلمين المُحنَّكين يتطوَّرون باستمرارٍ في فهمهم للأطفال والتعليم.

أريد أنا وسوزي أن يحب طلابنا القراءة، ونفكِّر باستمرارٍ في الكيفية التي تقود من خلالها منهجيتُنا التعليمية وإدارتُنا للفصول المدرسية وتقييماتُنا؛ الطلابَ نحو تبنِّي عادات القراءة لمدى الحياة، والتحلِّي بالكفاءة الذاتية كقرَّاء. كيف نقيِّم هذا الدور؟ كيف نثبت لأحد الإداريين أو أولياء الأمور، أو حتى لأنفسنا، أننا نشجِّع سلوكيات القراءة لمدى الحياة لدى طلابنا؟ كيف نُعِدُّ فصلًا مدرسيًّا يوفِّر ظروفًا مثالية لتطوُّر هذه العادات؟

لقد بدأنا بسؤالنا الأساسي؛ وهو: «ما هي عادات الأشخاص الذين يُداوِمون على القراءة طوال حياتهم على أية حال؟» وتوصَّلنا إلى بعض الأفكار عن طريق دراسة سلوكيات القراءة لدينا ولدى طلابنا. وللتأكُّد من صحة معتقداتنا بشأن عادات القراءة لدى الأشخاص المُداوِمين على القراءة لمدى الحياة، أجرينا استطلاعًا لأكثر من ثمانمائة قارئٍ بالغٍ باستخدام استقصاء القارئ النَّهِم (الاستبيانُ مُدرَجٌ في الملحق «د»). ومثلما حلَّلَ الباحثون والمعلمون المتأمِّلون فهم القراءة، سعينا لتحليل عادات القراءة المستمرة لمدى الحياة لدى القرَّاء.

مَن أجابوا على استطلاعِ رأْيِ القارئ النَّهِم الذي أجريناه؛ قدَّموا تعريفًا عمليًّا للقارئ من خلال عادات قراءتهم اليومية وأفكارهم عن القراءة. ومن خلال هذه الإجابات، حددتُ أنا وسوزي خمسَ خصائص عامة يتشارك فيها الأشخاص المواظبون على القراءة لمدى الحياة. ووجَّهتنا هذه القائمة من العادات نحوَ مزيدٍ من التساؤل والممارسة المتأملة والبحث العمليِّ في فصولنا على مدار العامين التاليين. ومن خلال إلقاءِ نظرةٍ ناقدة على ممارساتنا التعليمية، حددتُ أنا وسوزي المكونات التعليمية الموجودة في فصولنا التي تدعم الطلابَ في تطويرهم هذه السمات، وحدَّدْنا الكيفيةَ التي يمكن من خلالها تحسين ممارساتنا، وأَعَدْنا التفكيرَ في كل جانب من جوانب منهجيتنا التعليمية، بدءًا من إعداد الدروس، ومرورًا باستراتيجيات إدارة الفصل المدرسي، ووصولًا إلى التقييمات البنائية؛ بهدف تعزيز سمات القارئ النَّهِم لدى طلابنا. لقد تحدَّثنا وتجادلنا (ليس كثيرًا في الواقع) ورسمنا مخططاتٍ كبيرة على سبوراتنا، واستمعنا إلى طلابنا، وجرَّبنا أساليبَ في فصولنا المدرسية مرارًا وتكرارًا.

يقدِّم هذا الكتاب نتائجَ تلك الجهود، ويعرض رحلتَنا الهادفة لإعادة مَرْكَزة تعليم القراءة حول عادات القرَّاء المُداوِمِين عليها لمدى الحياة وتوجُّهاتهم. ونذكر في هذا الكتاب كلَّ أداة ابتكرناها، بالإضافة إلى استجابات طلابنا، وتأمُّلاتنا حول الكيفية التي شكَّلَتْ بها اكتشافاتُنا ممارساتِنا. يركِّز كلُّ فصل من هذا الكتاب على خصيصة واحدة من خصائص القرَّاء المداومين على القراءة لمدى الحياة.

لقد توصَّلنا إلى أن القرَّاء الجامحين:
  • (١)

    «يخصصون وقتًا للقراءة»: يقضي القرَّاء الجامحون وقتًا طويلًا في القراءة على الرغم من حياتهم المليئة بالمشاغل. في الفصل الأول، سنعرض أساليبَ لزيادة وقت القراءة لدى الطلاب داخل المدرسة وخارجها، وسنقدِّم اقتراحاتٍ للعمل مع الطلاب الذين لا يقضون وقتًا طويلًا في القراءة.

  • (٢)

    «يختارون ما يقرءونه بأنفسهم»: يتمتَّع القرَّاء الجامحون بالثقة عند اختيار كتبٍ للقراءة، ولديهم من الخبرة والمهارات ما يكفي للنجاح في اختيار الكتب التي تُشبِع اهتماماتهم واحتياجاتهم وقدراتهم في القراءة. وفي الفصل الثاني، نوضِّح كيفيةَ بناء هذه الثقة والخبرة المرتبطتين بالقراءة لدى الطلاب، ونعلِّمهم كيف يختارون كتبهم بأنفسهم. ونظرًا لأن إتاحة الكتب عنصرٌ أساسي في تقديم الخيارات للطلاب في إطار مواد القراءة المناسبة، فإننا نقدِّم أيضًا نصائحَ حول تأسيس مكتبةٍ بالفصل المدرسي ورعايتها، واستخدامها للتشجيع على مزيدٍ من القراءة.

  • (٣)

    «يتشاركون الكتب والقراءة مع قرَّاء آخرين»: يستمتع القرَّاء بالحديث عن الكتب بقدرِ حبِّهم للقراءة. تقدِّم مجتمعاتُ القراءة مجموعةَ أقران من القرَّاء الآخرين الذين يتحدوننا ويدعموننا. وفي الفصل الثالث، نشرح أهمية مجتمعات القراءة للقرَّاء، ونقدِّم مقترحاتٍ لخلْقِ ثقافةِ قراءةٍ إيجابية والحفاظ عليها في الفصل المدرسيِّ.

  • (٤)

    «يضعون خططًا للقراءة»: يخطط القرَّاء الجامحون لما سيقرءونه بعد الكتاب الذي يقرءونه حاليًّا. إننا نترقَّب الكتب الجديدة لمؤلِّفينا المفضَّلين أو الجزء التالي من سلاسل الكتب التي نُحبها، ونعرف ما نخطِّط لقراءته فيما بعدُ، ولماذا نرغب في قراءته. وفي الفصل الرابع، نشرح كيفية تعليم الأطفال وضْعَ خططِ قراءاتهم بأنفسهم، ونقدِّم مقترحاتٍ لزيادة معرفة المعلم بأدب الطفل.

  • (٥)

    «يُظهِرون تفضيلاتهم لألوان أدبية ومؤلِّفين وموضوعات»: على الرغم من اتفاقنا على أن الأطفال يحتاجون إلى التوسُّعِ في القراءة وتجربةِ مجموعةٍ واسعةِ النطاق من النصوص كجزءٍ من تعليم القراءة والكتابة، ندرك في الوقت نفسه أن القرَّاء الجامحين يعبِّرون عادةً عن تفضيلاتٍ قويةٍ فيما يتعلق بالنصوص التي يختارون قراءتها. في الفصل الخامس، نكشف عن كيفية التصديقِ على تفضيلات الطلاب في القراءة، وتحدِّيهم لتوسيع آفاقِ قراءتهم، ومساعدةِ الطلاب الذين يبدو عليهم أنهم يعانون المللَ من القراءة، أو يحتاجون إلى مزيدٍ من التحدِّي.

على مدار صفحات الكتاب، نستعرض كلمات طلابنا والقرَّاء الجامحين الذين أجرينا عليهم الاستبيان؛ ممَّا يُمدُّنا برؤية كاشفة للخبرات والمهارات التي تدعم حياتَهم القِرائية.

إننا نؤمن بأن تعليم طلابنا ليكونوا قرَّاءً جامحين ليس أمرًا ممكنًا فحسب، وإنما هو أيضًا مسئوليةٌ أخلاقية على كاهلِ كلِّ معلمِ قراءةٍ قارِئٍ على مدار حياته. إن طلابنا يحتاجون إلى ذلك، ويحتاج إليه مجتمعنا، وتؤمن قلوبنا كمعلمين بأهميته.

(١) تنظيم الكتاب

يركِّز كل فصل من فصول الكتاب على إحدى العادات الخمس للقراءة لمدى الحياة. وعلى الرغم من أن القرَّاء النَّهِمين، الذين أُجرِي عليهم الاستبيان، أظهروا مجموعةً كبيرة من سلوكيات القراءة؛ فقد اخترتُ أنا وسوزي خمسَ عادات يتبنَّاها معظم القرَّاء، وأمكن تطبيقها كذلك بنجاحٍ في الفصول المدرسية. وسيجد القارئ في كل فصل ما يلي:
  • «المناقشات الجماعية»: هذه المناقشات تشير إلى الدروس البسيطة التي علَّمْناها لطلابنا وتركِّز على جوانب عادات القراءة الجامحة. ويتضمَّن كلُّ درسٍ من هذه الدروس: عرضًا نموذجيًّا، ومناقَشةً بالفصل المدرسي، وممارَسةً للطلاب، وتأمُّلًا.

  • «نقاط نقاشية»: إن التحاوُر هو عِماد ورشة عمل القراءة والكتابة؛ لأن المشاورات تقدِّم دعمًا فرديًّا، وتأسيسًا للعلاقات، وفرصًا للتقييم. وتتناول كلُّ نقطةِ تشاوُرٍ المخاوفَ الشائعة التي تُلاحَظ في فصول وِرَش العمل، وتقدِّم للطلاب نماذجَ وأدواتِ تقييمٍ للتشاوُر بشأن عادات القراءة الجامحة.

  • «تتبُّع حياة القراءة»: يسجِّل الطلابُ عاداتِ القراءة الخاصة بهم على مدار العام الدراسي باستخدام دفتر ملاحظات القارئ. وفي هذا القسم من الكتاب، سنتناول مكونات دفتر ملاحظات القارئ التي تعزِّز عادات القراءة النَّهِمة، مع وَصْف الكيفية التي تجعل بها كلُّ أداةٍ من الأدوات الطلابَ يتحملون المسئولية عن قراءتهم، وتقدِّم أفكارًا وفرصًا للتخطيط لكلٍّ من القرَّاء والمعلمين.

وبين كل فصلٍ والفصل الذي يليه توجد مقالات حول موضوعات مهمة تتعلَّق بالقراءة النَّهِمة في الفصل المدرسيِّ. تُلقِي هذه المقالات نظرةً أكثر عمقًا على بعض جوانب إدارة الفصل المدرسيِّ لورشة القراءة، أو تتناول موضوعاتٍ محددةً بمزيدٍ من التفصيل.

كذلك تتضمَّن الملاحقُ الموجودة في نهاية الكتاب نسخًا فارغةً من كل النماذج المذكورة في هذا الكتاب، بالإضافة إلى قائمةٍ بالكتب المفضَّلة لدى طلابي. لقد وضعتُ هذه النماذج والقائمة أيضًا على الرابط: www.slideshare.net/donalynm.

(٢) عناصر غير قابلة للنقاش في الفصل المدرسيِّ

أعتمدُ أنا وسوزي على بعض العناصر غير القابلة للنقاش في الفصل المدرسيِّ، التي تعتمد على إطارٍ من مقومات وِرَش العمل الأساسية التي توجد كلَّ يوم على مدار العام المدرسيِّ، ونتحقَّق من كل جانب من جوانب مخططنا التعليمي وفقًا لهذه القِيَم الأساسية، المتمثِّلة في إعداد الدروس، والتقييم، والموارد، وإدارة الفصل المدرسيِّ. وقد سبق أن ناقشتُ كلَّ عنصرٍ من هذه العناصر التأسيسية في كتاب «الهامسون بالكتب: إحياء القارئ الكامن داخل كل طفل»، ولا أنوي تناوُلَ هذه المفاهيم مجددًا بالتفصيل هنا، لكن تظل هذه المقوماتُ العناصرَ الحيوية لوِرَش القراءة (والكتابة) في الفصول المدرسية. والعناصرُ غيرُ القابلة للنقاش في فصولنا المدرسية هي:
  • «الوقت المخصَّص للقراءة»: يحتاج الطلاب إلى وقت للقراءة والكتابة. يقضي طلابنا قدرًا كبيرًا من الوقت في القراءة داخل الفصل؛ نحو ثلث كل حصة مدرسية. في أثناء هذا الوقت اليومي المخصَّص للقراءة المستقلة، نُجرِي أنا وسوزي محادثاتٍ مع عديدٍ من الطلاب حول قراءاتهم، ونجتمع مع مجموعات صغيرة من الطلاب الذين يحتاجون إلى مزيدٍ من التعليم والدعم، ونشجِّع الطلابَ على القراءة في المنزل، ونعفيهم من الواجب المدرسي والتمرينات غير المثمِرة أو نُقلِّلها؛ لمَنْحِهم وقتًا لمزيدٍ من القراءة.

  • «الاختيار»: يحتاج الطلابُ إلى أن يختاروا بأنفسهم ما يقرءونه ويكتبونه من موضوعاتٍ. يختار الطلاب كل الكتب التي سيقرءونها قراءة مستقلة، ونتوقَّع منهم أنا وسوزي القراءةَ على نحوٍ موسَّع؛ أيْ اختيار كتب تنتمي إلى مجموعةٍ متنوِّعةٍ من الألوان والأنماط الأدبية؛ مثل: الأدب القصصي وغير القصصي، والشعر، والروايات المصوَّرة. ومن جانبنا، ندعم طلابنا ونتحداهم عن طريق الإرشاد في القراءة، فنوجِّههم إلى الكتب التي تتماشى مع اهتماماتهم وقدراتهم في القراءة.

  • «الإعراب عن الآراء»: يحتاج الطلاب إلى فرصةٍ للاستجابة بطرق طبيعية للكتبِ التي يقرءونها والنصوصِ التي يكتبونها. فنمنح أنا وسوزي طلابَنا فرصًا يومية للإعراب عن رأيهم فيما يقرءونه، فيتبادل الطلاب ترشيحات الكتب، ويكتبون آراءهم، وينشرون مراجعات نقدية عن الكتب بناءً على قراءاتهم المستقلة، ويتحدثون عن الكتب يوميًّا مع أقرانهم ومعنا من خلال المشاوراتِ ومناقشاتِ الفصل المدرسيِّ.

  • «الانتماء إلى مجتمع»: يحتاج الطلاب إلى الشعور بأنهم جزءٌ من مجتمع من القرَّاء والكتَّاب. يكتسب الطلاب ثقةً وكفاءةً ذاتيةً كقرَّاء عن طريق علاقاتهم مع القرَّاء الآخرين في مجتمعات القراءة، التي تتضمَّن كلًّا من أقرانهم ومُعلِّميهم. وسواء أكان مستوى قراءات الطلاب أدنى من مستوى صفِّهم الدراسيِّ، أم كانوا يسعون إلى تحقيق أهداف الصف، أم كان مستوى قراءاتهم يفوق المتوقَّع في صفهم؛ فكلُّهم يشاركون مشاركةً كاملة في الأنشطة والمناقشات التي تقدِّر مَواطِن القوة ووجهات النظر الفردية. أنا وسوزي نقرأ بنَهَمٍ، ونتشارك حبَّنا للقراءة كلَّ يومٍ مع طلابنا؛ فنحن القارئتان القدوتان لفصولنا المدرسية، ونقدِّم للطلاب نموذجًا للحياة القائمة على القراءة.

  • «التنظيم»: تقوم ورشة العمل على نظامٍ من الطقوس والإجراءات المنتظمة التي تدعم الطلاب والمعلم. تتَّبِع ورشةُ القراءة نظامًا روتينيًّا متَّسِقًا للدروس، يتضمَّن أنشطةَ قراءةٍ للفصل بأكمله، وللمجموعات الصغيرة، وأنشطةً للقراءة المستقلة، ووقتًا للمشاركة والتفكير. هذا فضلًا عن أن المحادثات المنتظمة، وردود الأفعال على القراءة، وسجلات دفاتر ملاحظات القارئ؛ تجعل الطلاب مسئولين عن قراءاتهم، وتقدِّم معلوماتٍ حول التقدُّم الذي يُحرِزونه فيما يتعلَّق بتحقيق أهداف القراءة الشخصية والأكاديمية الخاصة بهم.

على الرغم من أن هذه المبادئ التأسيسية لوِرَش العمل تقدِّم الدعمَ لطلابنا من أجل اكتساب عاداتِ قراءةٍ تستمر لمدى الحياة، أُدرِك أنا وسوزي أن الطلاب بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التوجيه المباشر فيما يتعلَّق بسلوكيات القراءة لمدى الحياة، والتفكير على نحو أعمق في التقدُّم الذي يُحرِزونه في اكتساب هذه العادات؛ فحتى أفضلُ مجتمعات القراءة في الفصول المدرسية ما هي إلا أماكن مؤقتة لحياة طلابنا. وفي الوقت القصير الذي يقضونه معنا، لا بد أن نعلِّمهم بوضوح كيف يصبحون قرَّاءً نَهِمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤