مصر .. الغياب الطويل ومحاولة البحث في الجذور

كتابات كثيرة حفلت بها الحياة الفكرية النقدية، وضعت بديهيات كثيرة موضع شك وتساؤل، وهذه هي سمة أساسية من سمات الصحوة، صحوة الفكر المواكب لنشاط مجتمعي، نشاط شامل العقل واليد في تحول جذري نحو حقبة حضارية جديدة صدق العزم بشأنها، بديهيات كثيرة تشكل مرتكز إطارنا الفكري، وحددت بالتالي سلوكنا، بل وتصوراتنا للعديد من ظواهر حياتنا، حكمت الفكر والسلوك، وإذا بها حين توضع على مائدة الحوار والتساؤل المنهجي، وتخضع للبحث العقلاني النقدي لا تصمد طويلًا على الرغم من صمودها في أذهان الناس قرونًا، وتكون الصدمة التي تصل إلى حد الذهول وعدم التصديق.

من هذه البديهيات — على سبيل المثال — التي تحولت إلى «حقائق فكرية» اجتماعية شغالة، أعني فاعلة في المجتمع، حاكمة للفكر والسلوك معًا قولنا على سبيل المثال، إن العرب بدأت مسيرة حياتهم الاجتماعية من البداوة، أو كما يُقال هم أعرق في البداوة وأبعد عن الصنائع، ونأخذ كلمة العرب باعتبارهم اسم جنس من التجانس دون اعتبار لاختلافات فرضها واقع جغرافي، ومن ثَمَّ تاريخي وثقافي، أو ما اصطلح على تسميته المحيط العقلي Noosphere وكأن اللغة بمعنى النطق، لا بمعنى الفكر، هي المعيار الأوحد المحدد لطبيعة المجتمعات وخصوصياتها وانتماءاتها الثقافية، ونأخذ البداوة على الإطلاق دون اعتبار لحركة التاريخ واتساع النطاق الثقافي الحضاري وكأنه نهر دافق ممتد من منبعه أو منابعه المتباينة حاملًا ماضيه مع حاضره الذي نعيشه الآن، كأن البداوة هي المبتدأ لكل مجتمع يحمل صفة العربي ثقافة راهنة، اقترضنا تجانسها المطلق وقطيعتها المطلقة مع ما سبق وكان مبتدأً حقيقيًّا، وأغفلنا جوهر التطور شكلًا ومسارًا ومحتوى وتفاعلًا ونقصًا وزيادة، على الرغم من تناقض هذا الرأي مع وقائع التاريخ الجغرافي الثقافي الحضاري لعديد من المجتمعات، ومن البديهيات أيضًا قولنا إن العرب لم يعرفوا نظام الدولة، وإن الدولة بدأت أول ما بدأت مع حدث سقيفة بني ساعدة وعهدها الذي هو أول دستور لدولة عرفها العرب في تاريخهم، وهكذا فقدنا الاتجاهات الأصلية الجغرافية، وفقدنا معها الموقع وتمايزه وتاريخه ونتاجه المادي والفكري، وكأن بلاد ما بين النهرين ووادي النيل لم تعرف النظام المركزي والدولة البيروقراطية، ويبدو وكأن إطارنا الفكري تحكمه مقوله غير صريحة تقول: إن تاريخنا لا يبدأ على أرضنا، وهي مقولة تهدم كل أسس العلم منهجًا ومبحثًا ونظريات، ومن ثَمَّ لن تهدينا، بل تزيدنا ضلالًا، وإذا ضللنا الطريق لن نعرف إلى أين نسير بل سنقنع بتهويمات تقتلع جذورنا من الواقع.

وكم من دراسات معاصرة تصحيحية ظهرت خلال العقود الأخيرة أثارت تساؤلات وشكوكًا بشأن جذور الحضارة الإنسانية ومسارها وغايتها: هل غايتها تجلي الروح الكلي المتجسد في عقل الإنسان الأبيض؟ وهل جذورها وبدايات الفكر الفلسفي بدأت فجأة ودون مقدمات بين الإغريق، أصحاب العقل العبقري المعجزة كما كان يوصف في السابق؟ وماذا عن إسهامات الحضارات الأخرى ومنها الحضارة المصرية القديمة؟ أطاح العديد من الدراسات النقدية المعاصرة بهذه «البدهيات» التي ترسَّخَت في الأذهان وأضحت شأن البديهيات الأخرى لبنة أساسية، بل محورًا لإطار فكري حاكم ننطلق منه وننظر إلى الأحداث على هَدْيِه وفي ضوئه، وإن خالفته الوقائع كذَّبنا الواقع وعُدنا إلى بديهيتنا إمامًا مطلقًا له الحاكمية.

ولهذا يطالع البعض في تردُّد مثل هذه الدراسات ويستشعر معها ما يشبه الصدمة، إذ تتكشَّف لنا أسطورة كبرى ومؤامرة حكمت التاريخ واستبدَّت بفكر الإنسانية، وهي جزء من سياسة عالمية امتدت قرونًا، وإذا كانت الحقيقة هي الطريق والمنطلق إلى الحرية فإن التزييف هو الطريق إلى العبودية، أو الاستعباد والظلال، وإذا كانت الإنسانية عاشت قرونًا أسيرة أوهام، إلا أن المعاناة الحقة، والآثار الجنائية، إنما وقعت على كاهل مَن سلبناهم الحقيقة وزيَّفْنا تاريخهم، فهؤلاء هم الضحية.

والتزييف لا يبدأ دائمًا من تأويل على نحو يخلق أفقًا زائفًا لنشاط الإنسان بل إنه قد يبدأ بابتداع النص فيكون كذبة في مبدئه، وضلالًا في مسيرته، وسلبًا لأفق الفعالية الصحيحة، ويضيع الطريق من صاحبه وقد تلقن أسطورة تضخمت وترسخت مع التاريخ.

وإذا كانت الحضارة الخصبة الولودة المتجددة هي ثمرة حوار بين الإنسان/المجتمع، وبين الواقع/البيئة حاضرًا وتاريخًا، فإن مثل هذا الحوار لا يقوم على كذبة، وإلا فإنه لن يكون منتجًا أبدًا، ومن ثَمَّ يظلُّ المجتمع عقيمًا، وإنما شرط خصوبة الحوار هو الصدق، صدق الرؤية أعني التزام الحقيقة على هدْيٍ عقلاني نقدي مع الإنسان في تاريخه وحاضره وعلاقاته ومنظوره المستقبلي، ولعلَّ في هذا مؤشرًا لجوهر أزمة وعينا بالتاريخ، ومن ثَمَّ أزمة الانتماء.

(١) تزييف الوعي

إن مصر/أفريقيا، ومصر/العرب، ومصر/المتوسط في غيبة أو مغيبة عن حقيقة تاريخها بعد أن حجبته أقنعة مصطنعة وأساطير لبست ثوب الحقائق وباتت مرجعًا يستشهد به، روايات غير محققة أحاطت بها هالة ذات قدسية حينًا، أو أكاديمية حينًا آخَر، وظلت محور صراع بين شعوب المنطقة؛ ولم نسأل أنفسنا عن جوهر هذا الصراع وحقيقته ومبتدأه وفعاليته في التاريخ، وطبيعة القوى المادية والروحية أو الثقافية المحركة للبشر أو ما نسميه دينامية أحداث التاريخ.

اصطلحت قوى عديدة على مناهضة تاريخ مصر/أفريقيا وإدانته وإن لم تتوافق زمنًا فقد اتفقت رأيًا ورؤية منذ سقوط الحضارة المصرية على أيدي الفرس إلى الغزو الأوروبي، فهي حينًا حضارة وثنية ملعونة، وحينًا آخَر حضارة مجهولة المنشأ والفاعل، أو أقامها أناس بيض أسطوريون اختفوا من الوجود، من أين جاءوا، وإلى أين رحلوا؟ لا أحد يعلم، وتُشكل هذه الرؤية في جميع الأحوال، وعلى تباينها، أسطورة فاعلة، أو «حقيقة» اجتماعية شغالة، بل ومقدمة أكاديمية ومنطلقًا للفكر والسلوك.

نحكي عن غزوات القوى الخارجية لمصر مع تعاقب الزمن والعهود، ونصوغ الرؤية صياغة محايدة تخفي كل نوازع الحركة ودوافعها ومظاهرها والتناقض أو الصراع بين صفوف قوى المجتمع سواء داخل مصر أو الزاحفة إليها، لماذا سقطت الحضارة المصرية؟ لا نجد إجابة تكشف لنا الأسباب وتاريخيتها وعوامل تحللها، ما هو دور القوى الغازية على تعددها وتعاقبها وتعارضها وحقيقة الصراعات بينها وبين مصر الحضارة، مصر القوة التاريخية الجغرافية العسكرية الاقتصادية، أي الحاكمة للمنطقة؟ نتحدث عن هذه القوى، وكأنها وافدة زائرة، وفدوا ضيوفًا على أرض مباحة أو مستباحة لهم أن يدخلوها آمنين، ونقول على سبيل المثال: دخول الفرس أو الرومان أو غيرهم أو فتحهم مصر، ولكن لماذا؟ وماذا حدث؟ ما هي الأطماع والصراعات والتناقضات؟ ما هي الآثار السلبية على مصر وإلى أي مدى امتد تأثيرها وتفاقمت؟ وهل حقًّا شعب مصر سمته وخصوصيته الترحيب بالوافدين الغزاة؟ أعني الاستكانة والاستسلام كما يُشاع؟ أم كيف صاغت أحداث التاريخ وأقنعة الأيديولوجيا والظروف الاجتماعية؟ أعني كيف صاغت عمليات التزييف الروحي، والنهب المادي، والواقع الاستبدادي المأساوي استجابات الإنسان المصري؟ وما هو مدلول الحشود الوافدة الغازية؟ مدلولها الثقافي والجنسي؟ أعني إلى أي مدى أثرت جحافل الغزاة الذين استوطنوا في الثقافة السائدة التي اغتذى عليها الإنسان المصري؟ وكيف أثرت في التركيب الجنسي للإنسان المصري؟ وكيف انعكس هذا التزييف في حقيقة الانتماء للتاريخ والوعي بالتاريخ ووحدة التاريخ والمواطنة بحيث كان حصاد السنين ما نراه اليوم؟

(٢) السقوط والعزل العنصري

إنني أزعم أن مصر واجهت محاولات خصاء ثقافي على أيدي الغزاة جميعًا في تعاقبهم وصراعاتهم للاستئثار بالفريسة، وأزعم أن مصر عاشت في معزل عنصري «أبارتهيد» منذ تاريخ سقوط الحضارة المصرية إلى تاريخ انبعاث حركة النهضة الحديثة، أو عودة الروح المصرية على أيدي رفاعة الطهطاوي، أول مَن تحدَّثَ عن مصر الحضارة وطالبَ بوحدة تاريخها، وأحمد عرابي أول مَن أطلق صيحة الفلاح المصري مطالبًا بحق المشاركة في صنع القرار، وليس محمد علي كما هو شائع رسميًّا والذي كان مناسبة لا سببًا، وحين أقول مصر فأنا أعني مصر الزراعة اقتصادًا وجغرافية وثقافة، مصر الفلَّاح والأرض السوداء، التي عانت من سيطرة الأجنبي الغازي وسطوته وعدائه لثقافتها إلى حدِّ القتل وفرض عليها العزلة.

جميع الغزاة في تعاقبهم ناصبوا الثقافة المصرية العداء القاتل، وجميع الغزاة ابتداء من الفُرس عمدوا إلى تدمير ثروات مصر المادية والروحية ونهبها، إنهم لم يستنزفوا خيراتها الاقتصادية فحسب، بل عاثوا في أرضها فسادًا، ودمروا بيوت الثقافة ومؤسساتها فيها، نهبوا الكتب، ودمروا المعابد، وأخرسوا الكهنة، لم تكن معابد مصر المنتشرة في ربوعها مجرد أماكن عبادة، يؤمها المصلون لأداء طقوس ثم ينفضوا، بل كانت في المحل الأول المطبخ الثقافي، أو ترسانة الثقافة، للتثقيف، وصناعة الثقافة، وهي خزانة الوعي الثقافي الاجتماعي تصوغ رؤية المجتمع وإطاره الفكري، ولهذا كانت مستهدفة دائمًا من الغزاة لتدميرها رغبةً منهم في تدمير منابع الثقافة المصرية وإحكام السيطرة، ولم يكُن الكهنة في مجموعهم مجرد رجال دين يلقون مواعظ للتخويف والترويع، بل كانوا بدرجاتهم وفئاتهم المختلفة رجال علم: علم دنيا وعلم دين وصناعة معرفة، وقد كانت المعرفة بجميع أشكالها قدسية الطابع، إلهية الطبيعة حسب عقيدتهم، والعارف العالم رجل قدسي لما حظي به من علم ومعرفة، ولهذا كتبوا علومهم للخاصة بلغة مقدَّسة هي الهيروغليفية، وحَريٌّ أن نأتي هنا بشهادة مؤرخ قديم غير مصري هو ديودور الصقلي وقد عاش في الإسكندرية في القرن الأول قبل الميلاد ويُدلي بشهادته فيقول «إن الفرس بقيادة قمبيز أشعلوا النيران في كل معابد مصر، وحملوا معهم كل الكنوز إلى آسيا، واقتادوا قسرًا عمالًا مصريين لبناء القصور الشهيرة وبعض المدن في ميديا»١ وهذا ما فعله كلُّ الغزاة ابتداءً من الفرس، انقضوا في تعاقب على الفريسة ينهشون كنوزها ويدمرون ثقافتها ويستنزفون خيراتها، وكان الحدث الأكبر الذي قطع الحبل السُّرِّي الواصل بين ثقافة المجتمع باعتبارها مؤسسة وبين أبناء المجتمع حين أصدر كل من الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس في القرن الرابع الميلادي ومن بعده جوستنيان في القرن السادس الميلادي مرسومًا بإغلاق المعابد المصرية وتحريم تعاليمها، وتجريم العبادة أو تلقي العلم فيها، أي تسريح المؤمنين والقضاء على النظام الثقافي الاجتماعي، وكان هذان القراران المحاولة الرسمية السافرة لإلغاء الذاتية الثقافية المصرية لتبقى مجرَّدةً من كل مقومات البقاء والتطور في استقلال ومن الفعالية الاجتماعية المميزة، إن الغزوات والحروب، حتى وإن تخفَّت وراء أقنعة أيديولوجية تتحدث عن نقل حضارة، أو إبلاغ رسالة وتحقيق مدنية، إنما تهدف أولًا وقبل كل شيء إلى الهيمنة على عقول المجتمع الضحية، وقطع موارد الإمداد الثقافي، واستئصال منابع الذاتية الثقافية المعبرة عن وحدة المجتمع وتضامنه وانتمائه، وهذا هو عين ما استهدفته جميع الغزوات المتعاقبة بقوة السيف والسلطان حينًا، وقوة التحريم والإدانة حينًا آخَر ليبقى المجتمع أعزلَ في حالة خواء، إنه قتل الروح وبقاء الجسد يدر على الغازي عطاءً ماديًّا وقد تحلَّلَت عوامل الترابط والتضافر المجتمعي وسقطت أسباب الوعي التاريخي الاجتماعي، وأسباب الوجود المستقل والتفرُّد في الفكر والثقافة والقدرة على الفعل والتفاعل، ويتحول المجتمع إلى تجمع بشري راكد عاطل من العطاء، مفكك الأواصر، بغير هدف مجتمعي مشترك يسعى إليه، وبغير حافز قوي إلى التغيير، وهكذا نعيش فُرادَى يضُمُّنا مكان بغير زمان، وننتمي إلى تاريخ لم تجرِ أحداثُه على أرضنا، وهل يستطيع مجتمع أن يتلاحم وتقوى أواصره ويسعى إلى تغيير واقعه نحو هدف واحد وموحَّد بدون ثقافة مجتمعية وليدة جهده ونشاطه ومعاناته؟ أليس هذا هو عين السقوط الحضاري؟ إن الحضارة هي التصدي على الصعيد الاجتماعي في تلاحم لعوامل التحدي والفناء من أجل البقاء وتغيير المجتمع في اتجاه القدرة على التجديد.

(٣) واقع ولا تاريخ

تتراوح حركة المجتمع ما بين حافز إلى التغيير، تغيير الواقع ومواجهة تحدياته ضد كل أسباب التحلُّل وفقدان الذاتية، وما بين نكوص أو رِدَّة إلى أصول، وهذه الرِّدَّة هي ميكانيزم أو آلية دفاعية عن الذات بسبب تعذُّر أو تعثُّر المواجهة وفقدان أدواتها، وتكون الكارثة أشد حال فقدان الوعي العقلاني النقدي بالأصول والعيش في جمود، والشعب المصري في حالة الأبارتهيد أو العزلة والفردية والخصاء الثقافي لتاريخه وتجريده من مقومات الفعل والعطاء والانتماء، وهي حالة فرضها عليه جميع الغزاة، عاش محرومًا من الأمرين معًا، عاطلًا من إمكانات التغيير والمواجهة، وعاطلًا من الوعي بالتاريخ وبالتضامن الاجتماعي الذي يشكِّل ملاذًا ووقاءً، إلى حين، وقت الضعف أو يكون عند الصحوة ركيزة للوعي النقدي العقلاني لتحويل الماضي إلى قوة دفع جمعي، وهكذا عاش قرونًا مأساة لا مثيل لها من حيث بؤس الواقع وبؤس الوعي التاريخي.

نحن لم نصنع تاريخًا على مدى أكثر من ألفَيْ عام، والوجود الإنساني جوهره تاريخ، وهو تاريخ وعي اجتماعي له مردوده العرفاني، وهو فعل أبناء المجتمع الأصليين ونشاطهم وإنتاجهم باعتبارهم شركاء متضامنين لا شركاء موصيين، وبدون ذلك يبدو التاريخ مجرَّد امتداد، طالما افتقر إلى الفعل الواعي، أو الفعل والوعي معًا باعتبارهما وجهين للوجود المجتمعي.

والتاريخ صناعة أو إنتاج الذات الاجتماعية لنفسها في إطار التحديات من أجل البقاء والوعي بالذات، وهو الخلق الموضوعي للذات الاجتماعية، وإذا غاب الوعي، غاب الفعل الهادف، وركد التاريخ أو انمحى، ولكن المصري عاش في حالة آنية متصلة، همه الخلاص الفردي هربًا أو تملقًا أو كدحًا، فكل الغزاة حلُّوا عليه سادة استوطنوا الأرض وعاشوا بغير انتماء إلى التاريخ أو الفعل الاجتماعي الجهيض أو إلى العقل المصري الأسير، وإن اعتادوا على مدى تعاقب موجاتهم طوال آلاف السنين أن ينزح المهزوم منهم إلى داخل الصفوف، ولكن ماذا أثمر التسلُّط الأجنبي؟ وما هي الآثار الثقافية على المجتمع بفعل غزواتٍ وعمليات استيطان واسعة لجماعات بشرية غريبة أو مغتربة.

إن الذاتية الإنسانية بفضل التاريخ — أي بفضل الفعل الحر — تغدو أكثر ثراءً معرفيًّا، ومن ثَمَّ ارتقاءً حضاريًّا يستوعب الماضي ونشاط الحاضر ورؤى المستقبل، ويفسر لنا هذا حالة فقرنا، الفقر الفكري والتاريخي والوعي البائس، وهو ما نسمِّيه إيجازًا التخلُّف وتعطُّل إرادة التغيير، وحين يدخل الماضي مجال الوعي العقلاني النقدي، فإنه يحرِّك فينا نوازع الفعل والتغيير وإنتاج الوجود ومواجهة التحديات، لأن الماضي بدون وعي به هو الغريزة وحياة الآنية والفناء في اللحظة الراهنة، ونفي للهدف والأمل والتطلُّعات على الصعيد المجتمعي، ولهذا نقول إنه مع سقوط الحضارة المصرية لم يعُد الوجود المجتمعي للإنسان المصري بمثابة مشروع حُر يستمد حريته من العمل الإنساني والخبرة الحياتية المجمعة، بل أضحت الحرية حرية فرد في الطاعة والانصياع، ولم يعُد التاريخ تاريخ فعالية، أو فعل الإنسان/المجتمع، بل أسقط الفعل ولم يبقَ غير الحيلة أو التحايل على المستوى الفردي، أو التوحُّد مع السلطان، وهذا هو جذر الفهلوة.

(٤) الاهتراء الثقافي

المجتمع المصري طُمست صورته المشتركة أو الجماعية إثر سقوط حضارته وإهدار ثقافته التي هي حصاد وعيه المعرفي في التاريخ، لم يعُد بالإمكان أن يدرك الإنسان المصري كمجتمع نفس الأشياء وفق ذات الإطار الموحد باعتبارها واقعًا مشتركًا، إذ بات الواقع فرديًّا، ومع اختفاء إحساسنا بواقع مشترك، وبقضية مشتركة قومية فقدنا أداتنا الوسيطة المشتركة، وفقدنا الحافز المشترك، والهم المشترك للتعبير وتواصل الخبرات، تشرذم المجتمع إلى تجمع سكني، ومع تمزق الشمول المجتمعي، ومع فقدان الخبرة الفردية لخصوصيتها الكلية، أي العامة المشتركة تحللت الثقافة إلا من أساطير، وتفكُّك التضامن الاجتماعي أو ساد مناخ الاهتراء الثقافي.

انتفى مناخ العمل الجمعي الموحد وقواعده، مما أفضى إلى حالة أنوميا أو خواء اجتماعي؛ إذ لم يعُد الوجود الفردي راسخ الجذور في وسط اجتماعي ثابت ومتكامل وموحد، وفقدت الحياة معناها الذي يُضفيه عليها الإنتاج الاجتماعي، وفقد النشاط دلالته وهدفه، وانتفى النشاط الفكري المجتمعي، فالغِنى الروحي لا يتأتَّى بدون عمل جمعي للإنسان/المجتمع، لأن هذا العمل يصنع الأمل، ويحفز إلى التغيير والإبداع إذ يعبر في صورة مجسدة عن قدرة الإنسان على التأثير والخلق ومن ثَمَّ الثقة بالنفس.

ولعل في هذا إجابة على سؤال إذا كانت مصر لها فخر الريادة والسبق الحضاري فلماذا توقَّفَت عن العطاء؟ وفي هذا أيضًا بيان للفارق بين عمل جمعي إنتاجي في اتصال تاريخي، وبين عمل فردي هو الكدح بعينه، وقد سقطت عنه رابطة المجتمع، والعمل الذي فقدته مصر هو الإنتاج الجمعي الذي يجسِّد الخبرة الإبداعية والمهارة الاجتماعية وقيم المجتمع في التاريخ، ويرمز إلى وحدة المجتمع وتضامنه وإلى عناصر تميزه، أو تمايزه في إطار أيكولوجي تاريخي؛ لأنه رهن السياق البيئي في شموله جغرافيًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا أو إنسانيًّا بوجه عام، ولهذا يقترن جمود المجتمع بجدب عرفاني وتحلُّل ثقافي.

(٥) النشاط المجتمعي شرط إنتاج المعرفة

إن إنتاج أبسط الأدوات يشتمل ضمنًا على إنتاج معرفة ومهارات وقيم، أو بعبارة أخرى إن الأداة هي معرفة ومهارات وقيم مجسدة في موضوع أو شيء، والعمل والإنتاج من حيث هما نشاط جمعي منهجي هادف ومنظم، ومن حيث هما صياغة وحلول لمهام وإنجازات لأهداف محددة مجتمعيًّا، جرى إعدادها فكريًّا قبل نتائج العمل واستجابة لمهام العمل واتساقًا مع وسائله، أي كانت موضوع تأمُّل وتحليل وتفكير ومحاولة وخطأ وتنظير وتراكم معرفي تاريخي ومراجعة قيمية، فإنهما بذلك كله يمثلان أنشطة لكائن، أو مجتمع قادر على المعرفة ويمتلك وعيًا أو عقلًا بالمعنى الاجتماعي التاريخي لمصطلح الوعي.

وفي ضوء هذا نقول: إن الحدث التاريخي هو فعل إنساني اجتماعي، ونشاط مجتمعي هادف يترسَّب في الوعي كخبرة تاريخية للمجتمع تتراكم، ليس كميًّا، بل يتمثَّل تراكُمها في تطوُّر كيفي للمعرفة والسلوك والإنجازات، معرفة متطورة متباينة هي الإبداع في تفرده الثقافي المعبر عن خصوصية أيكولوجية للإنسان/المجتمع/البيئة في التاريخ وما يفرضه هذا السياق من مهام وتحديات للبقاء.

ولهذا أيضًا نقول: إن الحدث التاريخي المجتمعي حدث هادف لا يحدث بسبب، أعني ليس مجرَّد رد فعل ميكانيكي شأن الحدث في الطبيعة، وإنما يحدث من أجل، لا يصنعه الماضي لزومًا واضطرارًا ميكانيكيًّا، بل يصنعه المستقبل، أي الهدف الاجتماعي حين يكون المجتمع نشطًا فعالًا له فكره ورؤيته، وبذا يكون الفعل الإنساني أو لنقل التاريخ في اتصاله هو مشروع وجود وليس مجرَّد أحداث أو وقائع متجاورة أو متعاقبة، ولا مجرَّد نتيجة لفعل خارجي، وهنا يتكامل جدليًّا الفعل الإنساني المجتمعي والنشاط المعرفي حيث تكون المعرفة هي حصاد سياق النشاط الإنساني في المجتمع، وجماع التطوُّر والنمو في التاريخ أو الزمان وتكون حافزًا لفعل اجتماعي جديد، ويشكلان معًا وعي الإنسان في التاريخ، ورؤية المجتمع للذات والمستقبل.

أما المجتمع الذي تسوده فردية قاهرة، بفعل قسر يحطم البنية الحضارية للمجتمع، فردية تقطع علاقات التداخل والتفاعل بين أبنائه، وتحجب فعاليته وترابُطه الجمعي بين أبنائه، وبينه وبين المجتمعات الأخرى (شأن مصر بعد انهيارها الحضاري)، مثل هذا المجتمع يفقد قدرته على العطاء الإبداعي الجمعي، أي يفقد إرادة جمعية للبناء والتغيير وإبداع المعرفة، مثال ذلك خبرة المجتمع عن الطقس والفصول والتقويم السنوي وغير ذلك مما أبدعه المصريون القدماء، هذه الخبرة ليست وليدة تأمُّل فردي، بل تأمل أجيال المجتمع في تعاقب وترابط ومصالح مشتركة تشكل بؤرة اهتمام النشاط الاجتماعي وحياة في جغرافيا مشتركة.

وحين نتحدث عن العمل والمعرفة، حَريٌّ بنا أن ندرك أنه ليس أي نشاط يفضي إلى فكر ويولد معرفة علمية، بل نشاط منهجي مشترك يعكس مصالح مشتركة، نشاط استقصائي ومجتمعي متفاعل وفق خطوات وقواعد متعارف عليها، النشاط الاستقصائي هو بذرة التجريب، بذرة حوار الذهن مع الواقع لفهم الظاهرة، ومراجعة الواقع في إطار شهادة مجتمعية، حوار الذهن مع نفسه (الذي هو رصيد خبرات مجتمعية) ومع الواقع إزاء الظاهرة، وهو حوار نقدي يلتمس الخطأ والصواب دون تقليد أو انقياد، فالذي أنشأ الحضارة وأقام الثقافة هو جدل الإنسان مع الواقع من جهة، وحواره النقدي مع النص الموروث من جهة أخرى، فإن تفاعل الإنسان من حيث هو مجتمع مع الواقع، وجدله معه — بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية — هو الذي ينشئ الحضارة ويدفعها قدمًا ماديًّا وروحيًّا.

(٦) أثر تجفيف منابع الثقافة المصرية

ومع جفاف منابع الثقافة القومية، وغياب العمل المجتمعي المعبِّر عن العلاقة الإبداعية بين الإنسان والبيئة في صورة معرفة، ومع تعاقب الغزاة والتسلُّط غاب الوعي التاريخي أو الوعي بالتاريخ، وتعطلت قدرة المجتمع على صياغة صورة عن ذاته ممتدة من الماضي إلى مستقبل يهدف إليه بجهده علمًا وعملًا عبر الحاضر، فالأمة تفكر لنفسها وبنفسها، أي يكون لها فكرها المستقل، ويتوفر لها ركن من أركان الإرادة الجمعية حين تعي ذاتها التاريخية في استجابة لتحديات مفروضة على هدي مشروع عملي مستقبلي، والوعي بالتاريخ الذي أعنيه هو إطار نسقي للوعي بالذاتية القومية في بُعدي الزمان والمكان، أعني تاريخية علاقة المجتمع بالبيئة في امتداد زماني وعلاقته بالآخر، أي بالمجتمعات الأخرى، سلبًا وإيجابًا في سياق الفاعلية.

لهذا سقطت الحضارة؛ إذ إنها رهن التحرُّر والانتماء، التحرُّر في إدارة الأدوات الثقافية إدارة واعية على الصعيد المجتمعي، وبدون التحرُّر تسقط الإرادة المجتمعية، وينتفي نفوذ المجتمع في تطوير ثقافته وإبداعها، وفي الحوار مع الثقافات الأخرى، لأن الحضارة أيضًا تُحرِّر الوعي بالذات أو الانتماء الواعي، وإذا سقط هذا الوعي سقطت مشاعر النحن وحركة النحن، وانتفى الشعور بالأزمة على صعيد المجتمع في شموله وهو أساس الحافز إلى التغيير، وانتفى الشعور بالتحدي المشترك، والفعل المشترك، والصورة المشتركة للجميع، ويبقى للناس الوعي بالتمزُّق، والوعي بالخواء وتفاهة الحياة، ولا نستطيع أن نقول هناك عقل مصري جمعي يواجه التحدي، ويستجيب بفضل قدراته المجتمعية فكرًا وثقافة وإنتاجًا، والحضارة استجابة فكرية ومادية منتظمة مجتمعيًّا ضد أسباب الفوضى والتمزق وضد عوامل الفناء.

(٧) الانتماء فعل مجتمعي نشط

والانتماء رهن وعي بالذاتية القومية على امتدادها التاريخي الاجتماعي في سياق فعل مجتمعي نشط وهادف تزدهر وتتعزز من خلاله هذه الذاتية، إذ إن هذا الوعي ذروة التلاحم بين الذات الجمعية، وبين الواقع الحي بوصفه عملية تاريخية، أو هو تعبير عن إدراك أبناء المجتمع لخصائصهم بوصفهم شخصية قومية متمايزة لها بعدها التاريخي، ولعناصر ثقافتهم ممثلة في السلوك والقيم والعواطف والآمال والطموحات والمصالح المشتركة وكل ما يشكل قوة ربط وتلاحم، ويمثل عامل تضامن ووحدة على الصعيد القومي، ويسبغ على النشاط العملي الاجتماعي طابع الوحدة والتجانس، وتتحقَّق من خلاله للمجتمع رؤية مشتركة لحمتها وسداها تاريخه وخصوصيته، وحصاد ذلك مجسَّد في ثقافته وجهده في تغيير الطبيعة وبناء حضارته ونظرته إلى المستقبل وإلى الحياة بعامة، ثم إدراك المرء لنفسه بوصفه عنصرًا متمايزًا عن الطبيعة التي يغيرها، وبوصفه وحدة في مجتمع متكامل يشكِّل نسقًا تاريخيًّا له لغته ورموزه وطقوسه وعقائده وقيمه وسلوكه وأسلوبه في التعامل مع النفس ومع الآخر مجتمعًا وطبيعةً.

والوعي بالذاتية القومية ليس نسقًا سلبيًّا، بل إنه عنصر نشط إبداعي فعَّال؛ لأنه وليد التلاحم الإنتاجي بين الذات والمجتمع والطبيعة، والذي يعبر عنه في صورة منتج حضاري ورغبات وحاجات مطردة التغيير تدفع إلى مزيد من الإنتاج الإبداعي المعبر عن خصائص الذات الخالقة، وعن صورة انعكاس العالم الموضوعي في أذهان أبناء المجتمع، وعن ثراء هذا العالم، وبقدر ما يكون الوعي صورةً للانتماء الاجتماعي، وبقدر ما يكون استيعابًا نقديًّا لثقافات الماضي وإمكانات الواقع، يكون تعبيرًا عن الحاجات والتطلعات الجمعية التي تشكِّل حافزًا مستمرًّا للبحث العملي والعلمي معًا في سياق حركة ممتدة متعدِّدة الأبعاد.

ولعلنا في إطار هذا الفهم ندرك خطر المعزل العنصري الذي فرضه الغزاة المتعاقبون على الشعب المصري، وما أفضى إليه هذا العزل والتسلُّط من تجفيف لمنابع الثقافة، وقطع كل صلة تربط المصري بجذوره التاريخية، ولم يبقَ له غير الأسطورة، ولم يعُد لشعب مصر حضور فعَّال على ساحة التفاعل الاجتماعي والبناء والتغيير، ولم تعُد له قضية قومية.

(٨) البحث في الجذور

إن التحرك على طريق النهضة يستلزم، من بين أمور أخرى، إجراء دراسة حالة وصولًا إلى تشخيص جيد وفهم سليم للإنسان والمجتمع يكون من خلال فهم البيئة التاريخية ومعرفتها في نشوئها وتطورها، وصراعاتها ومعاناتها، والمواقف المختلفة، والغذاء الفكري وتحولاته … إلخ، وسياق هذا كله وانعكاسه في الفكر والسلوك، ليس الهدف رواية وقائع، بل دراية بكيف حدثت الوقائع، وماذا فعلت بالإنسان المصري، وما هو طريق الإصلاح، إصلاح بيئة المجتمع، وتصحيح التاريخ، وإيقاظ الوعي على هَدْي حس تاريخي صادق، ليكون هذا كله مقدِّمة أساسية لفعل مجتمعي نشِط يعبِّر عن إرادة جمعية وهدف مستقبلي مشترك، إنها قضية قومية لها أولوية قصوى، وهي إشكالية علمية أيضًا سوف تتعدَّد وتتباين، وقد تتصارع بشأنها الآراء إلى حين تصحيح النهج والمسار.

لهذا كله تمثل الدراسات المعاصرة النقدية عن الحضارات دعوة إلى صحوة، أو هي صدمة بكل ما تعنيه كلمة صدمة من مسئوليات وواجبات علينا أن نضطلع بها أفرادًا ومؤسسات في مجالات الحياة العامة والسياسية والإعلامية والعلمية والتعليمية وفي التنشئة الاجتماعية، وإنما سوف يتمخَّض عنه الحوار العلمي والبحث الأكاديمي بشأن موضوع نشأة الحضارات الإنسانية ومسارها وما شاب التاريخ من تزييف، لا بد وأن يكون مؤشرًا لمنحًى جديدٍ في حياتنا حتى نخطو أولى خطواتنا على طريق النهضة في مواكبة مع التغيير المادي للمجتمع وفعالية أبنائه.

إنني أتوقع — على سبيل المثال — أن تكون هذه القضايا موضوعًا لأطروحات علمية في الدراسات العليا في الفلسفة والتاريخ والاجتماع وغير ذلك من علوم وثيقة الصلة، وقد يكون من الملائم أن تتضمَّن دروس التاريخ، بل والمطالعة، في المدارس مقتطفات من آراء العلماء في حضارة مصر، ومختارات من الأدب المصري القديم أسوة بالأدب في مراحله المختلفة حتى الحديث، وأن تتضمَّن دراسات عن إنجازات مصر في مجال السَّبْق الحضاري في الفلك والفلسفة والطب والأخلاق والدين … إلخ، وحَريٌّ بنا أن نعيد صياغة دروس الرياضيات والفلسفة لنقول كمثال: نظرية فيثاغورس التي تعلمها في مصر، أو نقول: معبد دلفي المصري في اليونان، أو فلاسفة اليونان تلامذة الفلسفة المصرية وليس في هذا خطأ، بل الخطأ هو البقاء أسرى تزييف التاريخ إذا ما ثبتت التهمة، والخطأ أن نظل ضحية مشاعر الدونية وحدود التحريم دون مسوغ موضوعي، والخطأ أن نردِّد مع خصوم الحضارة المصرية القديمة قولهم إنْ هي إلا أساطير أوَّلِين، أو أن التنقيب في أطلال الماضي مَضْيعة للوقت أو رِدَّة إلى وثنية مزعومة، وعلينا أن نقطع صِلتنا بكل هذا الماضي «الهمجي» واللحاق بالعالم الحديث الذي بات قرية صغيرة بلا حدود قومية، أو أن العلم سوف يحل مشكلاتنا وقد كفانا عناء البحث عن حل لقضايانا الحاضرة وأزمتنا الراهنة، وأن البحث عن الماضي مشكلة محلية وثانوية باتت غير ذات موضوع.

والغريب أن دعاة هذا الرأي جميعًا هم أعلى الأصوات في الدعوة إلى التمسُّك بالتراث، ولكن تراثهم هم، ويكفي أن نقول إن الغرب — على سبيل المثال — حين شرع في ثورة التحديث لم يُنكِر ماضيه، ولم يستنكره، بل إن التحديث اعتمد على الولاء الإبداعي للماضي، وليس قَطْع الصِّلة به، وهذا هو ما ندعو إليه: إيمان عقلاني نقدي بوحدة التاريخ المصري في اطراده، ومراحله المتعاقبة وصولًا إلى العصر الحديث، وإيقاظ الوعي به على نحو موضوعي صادق.

(٩) علم التاريخ الذي نريده

لهذا لا نريد التاريخ روايات صمَّاء، ولا نثار أحداث، ولا رؤية تُصادِر على الفهم الموضوعي، فلم يعُد التاريخ رواية حدث ولا مجرد تأويل لهذا الحدث من منطلق التسليم به أو الانتقاء الأيديولوجي، بل التاريخ إسقاط العلوم الاجتماعية على الماضي في ضوء حركة مستقبلية، ومن ثَمَّ فأهمُّ ما يعني المؤرخ الآن الذي يؤمن بأن التاريخ هو الزمان الوجودي والفعل الواعي للإنسان/المجتمع/البيئة هو فَهْم التحولات المادية والنفسية التي أثَّرَت بقوة ووضوح على العوامل الإنسانية الحاكمة للحياة، واستكشاف الأُطُر المعرفية التي جَرَت في سياقها وعلى ضوئها الأحداثُ، كيف تشكلت، وكيف تكونت؟ ولماذا؟ وفهم العوامل الأساسية الصانعة للإنسان، منتج التاريخ، وفهم الظروف: البؤس، المجاعات، والتسلط، والعلاقات، والطقوس … إلخ؛ أسبابها وآثارها على الإنسان/المجتمع، لهذا فإن فهمنا للإنسان المصري منطلقه تاريخية الوجود: الفعل والفِكر، ولكننا نتحدَّث عن نهضة وتغيير، وصحوة وانتماء … إلخ، ودون تحليل نقدي لمعنى مصر والمصريين في ضوء التاريخ باعتباره ظاهرة وعملية نشوئية تكوينية دينامية نتعامل معها، وباعتباره موضوعًا للوعي النقدي، وأداة لإنتاج المستقبل.

•••

إنني لست من دعاة الرِّدَّة، ولا تجاوز مراحل التاريخ أو الافتئات عليها، كما إنني لست من دعاة الإغراق في البحث عن الذات بالمعنى المُبهَم، أو تصوُّر أن الذات وجود مضى نبحث عنه ونستعيده من بين أطلال الماضي، ذلك لأن الذات القومية وجود متصل وفعالية ممتدة وتفاعلًا مطردًا، ولا أومن بالتحيُّز إلى نهج بذاته عند الدعوة إلى البحث عن الذات، أو تعريفها مسبقًا، فإن التحيُّز لغير الواقع الموضوعي والمنهج العلمي، يُفضي إلى حجب حقائق تاريخية، ومن ثَمَّ يدفع إلى الافتعال، وهو ما نعاني منه، وأحد أسباب اختلال الأنا وقصور الفعل، والتحيُّز يُفضي عادةً إلى تضييق مجال البحث عن الهُوية الثقافية وحصره دون مقتضى في أيٍّ من الدوائر النظرية الثلاثة: الدينية أو القومية أو الإقليمية بالمعنى اللاتاريخي، وواقع حالنا اللاتاريخي حافل بمحاولات افتعال صورة للذات ليست هي الحقيقة، وإنما إشباع لهوًى طغى، والتزام أو انسياق، أو لنقل انصياع لمحورية هي بطبيعتها منافية للعلم، حينًا محورية أوروبية خضوعًا لهيمنة الفكر الأوروبي، وحينًا محورية ذاتية تمثِّل أيديولوجية ماضوية ضيِّقة الأفق تنطوي على ردة إلى واقع محدود هو أيضًا لاتاريخي وغير دينامي، ونحن في جميع الأحيان نردِّد الوافد بعد اقتلاع الجذور.

إننا في مصر باعتبارنا دائرة لواقع له تاريخه وامتداده العضوي والفكري الأفريقي والعربي والمتوسطي بحاجة إلى التزام منهج التحليل والتركيب لتحديد صورة الذات التي تولدت في تعاقب زمني حضاري صعودًا أو هبوطًا، وأسهم هذا كله بإيجابياته وسلبياته في صياغة تراثٍ نحن في مسيس الحاجة إلى دراسته سوسيولوجيًّا، وإن سبر أغوار نفسنا الاجتماعية، أو وعينا أو تراثنا الواعي وغير الواعي لا يكون إلا باعترافٍ منَّا بالبعد الزماني وبالفاعلية والتفاعلية أو الانفعالية الإنسانية في التاريخ، والنفاذ إلى البعد الزماني يعني نفاذًا إلى العمق النابع من دراسة المجتمع باعتباره تجمُّعًا ديناميًّا لقوى تعبِّر عن ذاتها وتتجلَّى في صيرورة مطردة ومتصلة، الكشف عن البعد الإنساني في التاريخ وعاء التراث باعتباره امتدادًا، ولن يكشف لنا هذا غير فهم العمليات الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية في الزمان.

وفي هذا الاتجاه تضع الدراسات النقدية المعاصرة عناصر فلسفة جديدة هي فلسفة تحرير ووفاء أو رد اعتبار للإنسان الأفريقي، وهدفها هو تحرير أنفسنا وتحرير أوروبا وكل أصحاب الأقنعة الأيديولوجية من أخطاء التاريخ ومن ممارسات غير موضوعية، بل عنصرية وعرقية.

ولا ريب في أن هذه الدراسات — شأن كل الأعمال التي تتصف بجرأة الريادة — قد تشوبها بعض المآخذ من حيث التأويل أو الاستنتاجات على الرغم من صواب جزئيات المعلومات، من ذلك مثلًا أننا لا نستطيع أن نقول إن الثقافات، شأنها شأن الجوامد في حركتها تنتقل من مجتمع إلى آخَر، أي من بيئة إنسانية واجتماعية وطبيعية إلى بيئة أخرى انتقالًا آليًّا فتكون نسخة طبق الأصل على مدى الحياة المغاير، دون أن تظهر عليها بصمة البيئة الجديدة، خاصةً إذا كانت بيئة نشطة ولها عناصر تميزها وتفردها، ولها مجالات تفاعلها، هذه وغيرها من قضايا علمية تجعل إشكاليته منطلقًا لدراسات مهمة «وجادة» وموضوعية الْتِماسًا للحقيقة، فالسبيل الوحيد إلى النهوض هو التفكير والعمل من خلال الحقيقة، حقيقة التاريخ وحقيقة الواقع الراهن هداية صائبة لخطونا نحو مستقبل نحن صناعه.

١  شيخ أنتاديوب، الأصول الزنجية للحضارة المصرية، ترجمة حليم طوسون، دار العالم الثالث، القاهرة، ١٩٩٥م، ص١١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤