مفهوم الوحي
وإذا كان اسم «الكتاب» واسم «القرآن» من الأسماء التي تعدُّ بمثابة الأسماء الأعلام، فإنَّ اسم «الوحي» في دلالته على القرآن ليس كذلك، بل تتَّسع دلالته لتَشمل كل النصوص الدينية الإسلامية وغير الإسلامية؛ فهو مفهوم يَستوعِب كل النصوص الدالة على خطاب الله للبشر. هذا من حيث الاستخدام القرآني. والاسم من جهة أخرى دال في إطار اللغة العربية قبل القرآن على كل عملية اتصال تتضمَّن نوعًا من «الإعلام». ورَد في اللسان: «وأصل الوحي في اللغة كلها إعلام في خفاء». وإذا كان صاحب اللسان يُعدِّد في معاني الوحي «الإلهام» و«الإشارة» و«الإيماء» و«الكتابة» و«الكلام»، فإنَّ هذه المعاني كلها يَستوعبها معنى «الإعلام» ويُشير كل منها على حِدَة إلى طريقة من طرق الإعلام؛ فالإعلام قد يكون بالكلام وقد يكون بالكتابة وقد يكون بالإشارة والإيماء وقد يكون إلهامًا.
(١) الوحي عملية اتصال
وإذا كانت الدلالة المركزية للوحي هي «الإعلام» فإنَّ من شرط هذا الإعلام أن يكون خفيًّا سريًّا. ونستطيع أن نقول بعبارة أخرى إن الوحي علاقة اتصال بين طرفَين تتضمَّن إعلامًا — رسالة — خفيًّا سريًّا. وإذا كان «الإعلام» لا يتحقَّق في أي عملية اتصال إلا من خلال شفرة خاصة، فمن الضروري أن يكون مفهوم الشفرة مُتضمَّنًا في مفهوم الوحي، ولا بد أن تكون هذه الشفرة المُستخدمة في عملية الاتصال والإعلام شفرة مشتركة بين المُرسِل والمُستقبِل أي بين طرفَي عملية الاتصال/الوحي.
إنَّ هذا المفهوم للوحي يُمكن أن نجده في الشعر كما نجده في القرآن نفسه. وها هو علقمة الفحل يصف ذكر النعام عائدًا إلى أنثاه مسرعًا … وقد انتابه قلق عليها وعلى الصغار نتيجة عاصِفة شديدة وأمطار. وحين عاد وجدَهم سالمين مُطمئنين فأخذ …
فاستخدام الشاعر للفعل «يوحي» يُشير إلى علاقة اتصال بين ذكر النعام وأنثاه (مُرسِل ومُستقبِل) من خلال شفرة خاصة (الأنقاض والنقنقة) سرِّية لا يَفهمها الشاعر ذاته، ولذلك قارن بينها وبين «رطانة» الروم في قصورهم. ومن الضروري أن نُشير هنا إلى أن الطرف الثالث أو المراقب الخارجي لعملية الاتصال/الوحي لا يَفهم شفرة الاتصال؛ ومن ثم لا يفهم مضمون الرسالة أو الإعلام المُتضمَّن فيها، لكنه يدرك بشكل عام أن ثمة اتصالًا وثمة رسالة وإعلامًا. في هذا الإطار نفهم تشبيه علقمة لاتصال ذكر النعام بأنثاه (الوحي) بتراطُن الروم، حيث يدرك العربي أنهم يتخاطبون بلغة خاصة لكنه لا يفهم مضمون مخاطباتهم.
ونجد مثل هذا الاستخدام في القرآن في قصة زكريا ومريم بصفة خاصة. لقد سأل زكريا الله أن يَهبه ولدًا فبشَّره الله باستجابة الدعاء، فطلب من الله علامة.
لقد كان على زكريا أن يتَّصل بقومه، أن يُعْلِمهم بطلب التسبيح، دون أن يستخدم النظام اللُّغوي الطبيعي العادي، فكان الإيحاء بنظام آخر من الرموز كما ورد في القرآن أيضًا في نفس القصة.
والرمز من الكلام هو الخفي الذي لا يُدركه إلا المخاطب به، جاء في اللسان: «الرمز إشارة وإيماء بالعينَين والحاجبَين والشفتَين والفم. والرمز في اللغة كلُّ ما أشرت إليه مما يبان بلفظٍ بأيِّ شيء أشرت إليه بيدٍ أو بعين». وهذا الاتصال الرمزي — الوحي — كان هو الاتصال الذي حدَث بين مريم وقومها حين وضعت عيسى وخشيَت مواجهة الناس فنذرت أن تصوم عن الكلام كما نُصِحَت.
والإشارة إليه — إلى عيسى الطفل — تتضمَّن رسالة فحواها «لا تسألوني واسألوه هو.» وهي رسالة أدركها قومها، فكان ردهم: كيف نخاطب طفلًا؟ إن الرسالة المُتضمَّنة في «إشارة» مريم لقومها تجعل هذه «الإشارة» وحيًا مثل إشارة زكريا لقومه طالبًا منهم التسبيح.
في الأمثلة الثلاثة السابقة لاحَظْنا أن عملية الاتصال/الوحي كانت تتضمَّن مُرسِلًا ومُستقبِلًا يَنتميان إلى مرتبة وجودية واحدة، ذكَر النعام وأُنثاه، زكريا وقومه، مريم وقومها. ولاحظنا أيضًا أن الشفرة التي استُخدمت في عملية الاتصال كانت شفرة مفهومة — إشارات وأصوات في حالة النعام وإشارات فقط في حالة البشر — لكلا الطرفَين. والحديث عن الوحي في القرآن ينقلنا إلى مجال أكثر تعقيدًا حيث تكون عملية الاتصال/الوحي بين طرفَين لا ينتميان إلى نفس المرتبة الوجودية. ومع ذلك فقد كان هذا المفهوم أيضًا — مفهوم الاتصال بين مراتب وجودية مختلفة — مفهومًا مألوفًا في الثقافة العربية قبل الإسلام.
(٢) اتصال البشر بالجن
لقد أدرَك العرب قبل الإسلام ظاهرتي الشعر والكهانة بوصفهما ظاهرتَين لهما أصولهما في عالم آخر وراء هذا العالم الحسِّي المرئي، هو عالم الجنِّ الذي تصوَّرُوه على مثال عالَمهم ومجتمعهم، فتصوَّروا الجن قبائل تعيش في وادٍ خاصٍّ في البادية أطلقوا عليه اسم وادي «عبقر»، حتى أصبح «يُقال في المثل لكأنَّهم جنُّ عبقر» كما يحكي صاحب اللسان. ولأنَّ عالم الجن وعالم البشر عالَمان مُتجاوران فقد تصوَّر العرب إمكانية الاتصال بين البشر والجن. لكنَّ البشر القادرين على الاتصال بالجنِّ لا بد أن يتمتَّعوا بصفات خاصة تؤهلهم للتواصل مع هذه المرتبة الوجودية المختلفة. ولأنَّ الجن ليسوا على صفات البشر أو صورهم، فقد كانوا كائنات قادرة على اختراق الحدود الفاصلة بين السماء والأرض، وقادرة مِن ثمَّ على الإنباء بالغيب ومعرفة المختفي المستور، هذه المعرفة الخاصة — التي يستطيع الجن تحصيلها باستراقه السمع إلى السماء يُمكن لبعض البشر من الخواص اكتسابها عن طريق الاتصال بالجن.
لقد كان ارتباط ظاهرتَي «الشعر والكهانة» بالجن في العقل العربي، وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها. ولو تصوَّرنا خلوَّ الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصوُّرات لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمرًا مُستحيلًا من الوجهة الثقافية، فكيف كان يُمكن للعربي أن يتقبَّل فكرة نزول ملك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصوُّر جذور في تكوينه العقلي والفكري. وهذا كله يُؤكد أن ظاهرة الوحي — القرآن — لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع أو تُمثل وثبًا عليه وتجاوزًا لقوانينه، بل كانت جزءًا من مفاهيم الثقافة ونابعة من مواضعاتها وتصوُّراتها. إنَّ العربي الذي يُدرك أن الجني يخاطب الشاعر ويُلهمه شعره، ويُدرك أن العراف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن لا يستحيل عليه أن يُصدِّق بمَلَك ينزل بكلام على بشر. لذلك لا نجد من العرب المُعاصرين لنزول القرآن اعتراضًا على ظاهرة الوحي ذاتها، وإنما انصبَّ الاعتراض إما على مضمون كلام الوحي، أو على شخص المُوحَى إليه. ولذلك أيضًا يُمكن أن نفهم حرص أهل مكة على ردِّ النص الجديد — القرآن — إلى آفاق النصوص المألوفة في الثقافة، سواء كانت شعرًا أم كهانة.
يقول الأعشى متحدثًا عن قرينه «مسحل» وعن اعتماده عليه في قول الشعر، وعن توافقهما:
ويُفرِّق بدرُ بن عامر بين أشعار الإنس وأشعار الجن ويَفخر بقُدرته على النُّطق بكلَيهما:
ولم يكن القرآن في صياغته للواقع الثقافي بمعزل عن هذه التصوُّرات؛ فقد ذكَر الجن في مواضع كثيرة وخصص سورة كاملة تُنْبئ عن تحوُّلٍ في طبيعة الجن وإيمانهم بالإسلام والقُرآن بعد أن استمعوا له. والسورة من ناحية أخرى تؤكد ما كان مستقرًّا في العقل العربي من اتصال الجن بالسماء ومن إمكانية اتصال بعض البشر بالجن.
ولكن علينا أن نُلاحظ أن النصَّ هنا وهو يصوغ الواقع يصُوغه بطريقة بنائية خاصة تُعيد تركيبه في نسق جديد. ويكفي أن نلاحظ هنا ذلك التداخل الدلالي في استخدام الضمائر. وإذا كانت السورة تبدأ بمُخاطبة الرسول قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ … فإنَّ ما يلي ذلك يبدو في المستوى الظاهر حكاية لما قاله الجن بعد أن استمعُوا إلى القرآن. ولكنَّنا نلاحظ أن الآية الأولى في الاستشهاد السابق — وهي الآية الرابعة في السورة — تتَّسق مع ما سبقها من آيات السورة في دلالة الضمائر حيث يشير ضمير المتكلمين فيها كلها إلى الجن، وذلك على عكس الآيات التالية لها — الآيات (٥)، (٦)، (٧) — حيث نُلاحظ أن ضمير المتكلم «نا» في «أنَّا» وفي «ظنَّنا» من الضروري أن يكون دالًّا على مُتكلِّم آخر غير الجن، إلا إذا اعتبرنا أنَّ الآية تعتمد على «التجريد» حيث يُجرِّد المُتكلِّم من نفسه شخصًا آخر يُشير إليه باسم أو بضمير الغائب. ولكن هذا الافتراض يعوقه استخدام ضمير الغياب في «ظنوا» إشارة إلى الإنس، وضمير المخاطب في «ظننتُم» إشارة إلى الجن في الآية رقم (٧).
ومعنى هذا التداخل الدلالي في استخدام الضمائر أن صوت الجنِّ ليس صوتًا مستقلًّا في النص، فإن صوت المتكلم الأصلي في النص يقطع هذا الصوت بين الحين والآخر بحيث يكون حضور الجن حضورًا مشروطًا. هذا بالإضافة إلى أن بدء السورة بفعل الأمر «قل» والمُخاطَب بهذا الفعل محمد، يجعل صوت الجن في مستوى تالٍ لصوت المتكلِّم الأول (الله) من جهة وصوت المُخاطَب «محمد» من جهة ثانية. وأخيرًا يأتي في المرتبة الثالثة صوت الجن. وفي الآيات التالية يَبرز صوت الجن بروزًا واضحًا، ولكن هذا صوت إسلامي، ثم يَخفت ليُفسح المجال لصوت المتكلم الأول:
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا.
وهنا يَنتهي صوت الجن تمامًا ليَبرُز الصوت الأول حتى نهاية السورة.
إنَّ النص هنا وإن كان يُمثل الواقع الذي ينتمي إليه يعيد تشكيل هذا الواقع من خلال آلياته اللغوية الخاصة. لقد صار الجنُّ في النص جنًّا مؤمنًا مسلمًا يُدين سلوكه السابق ويُدين البشر الذين كانوا يعوذون به رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا. وفي سورة «الناس» نُلاحظ تحوُّل أحاديث الجن إلى «وسوسة» يُستعاذ بالله منها، ويُوصَف هذا الجن بأنَّه «وسواس خناس». فإذا عرفنا أن سورة «الناس» سابقة في ترتيب النزول على سورة «الجن» أمكنَنا أن نُميز بين هاتين الصورتين: صورة الجن الخناس الموسوس الذي يُستعاذ بالله منه، وصورة الجن الذي يُشبه البشر في انقسامه إلى مؤمنين وكافرين. ولا شكَّ أن الصورة الثانية تُعدُّ نوعًا من التطوير القرآني النابع من التوافق مع مُعطيات الثقافة من جهة والهادف إلى تطويرها لمصلحة الإسلام من جهة أخرى.
لقد ظلَّ هذا التصوُّر — تصوُّر اتصال البشر بعالم الجنِّ أو العوالم الأخرى بصفة عامة — جزءًا من المفاهيم المستقرَّة في الثقافة العربية الإسلامية، وعلى أساسه أمكن تفسير ظاهرة النبوة ذاتها من خلال نظرية الخيال عند الفلاسفة والمُتصوِّفة. لكن هذا التصوُّر قد أُعيدت صياغته في بناء أكبر يستوعب الوجود كله، وهو تصوُّر صيغ على الوجه التالي:
في مثل هذا التصوُّر الذي ساد الثقافة العربية — والذي نجد جُذوره في تصوُّرات ما قبل الإسلام — لا يتكوَّن الكون من عوالم مُنفصلة، بل يكون الاتصال والحركة صعودًا وهبوطًا بين العوالم هو مجال الفعالية التي تُمكن الإنسان — آخر العوالم وأكملها في نفس الوقت — من الاتصال ببعض هذه العوالم، يَستوي في ذلك النبي والكاهن. والفارق بين اتِّصال النبي بالملأ الأعلى واتِّصال الكاهن، أن اتِّصال النبي قائم على نوع من الفِطرة والخِلقة أساسها الاختيار «الاصطفاء» الإلهي، بينَما يحتاج الكاهن إلى آلات وأدوات مُساعِدة تُعينه على التخلص — جزئيًّا — من عوائق العالم المادي والاتصال بما وراءه من العوالم. إنَّ الأنبياء:
والكُهَّان على عكس ذلك يَعتمدون على محاولاتهم البشرية، ويستعينون بما يُساعدهم على مجاوزة عوائق الجسد. وبسبب وجود الوسيط المساعد من السجع أو عظام الحيوانات يكون اتِّصالهم ناقصًا ويكون ما يحصلون عليه من «معلومات» قابلًا للصدق والكذب، أو بالأحرى يختلط فيه الصدق والكذب. إن اتِّصال الأنبياء:
إنَّ العلاقة بين النبوة والكهانة — في التصوُّر العربي — أن كلَيهما «وحي»، اتصال بين إنسان وبين كائن آخر يَنتمي إلى مرتبة وجودية أخرى، مَلَك في حالة النبي، وشيطان في حالة الكاهن. وفي هذا الاتصال/الوحي ثمَّة رسالة عبر شفرة خاصة لا يُتاح لطرف ثالث أن يفهمها على الأقل لحظة الاتصال؛ وذلك لأن النبي «يبلغ» للناس بعد ذلك الرسالة، والكاهن «يُنبئ» عن محتوى ما تلقاه. وفي هذا كله تُصبح ظاهرة «الوحي» ظاهرة غير طارئة على الثقافة ولا مفروضة عليها من خارج كما سبقَت الإشارة ويَكاد ابن خلدون يصر على أن النبوة لم تلغِ الكهانة ولم تقضِ عليها كما يتوهم بعض الناس:
إن إصرار ابن خلدون على الاحتفاظ للكهانة والعرافة بمكانهما بعد النبوة يرتدُّ إلى أمرين: الأمر الأول أن إلغاء الكهانة يستلزم إلغاء أساسها الوجودي؛ ومن ثمَّ تُصبح ظاهرة النبوة ذاتها في حاجة إلى تفسير جديد. والأمر الثاني أنَّ الكهانة والعرافة كانتا معيارًا لدى عرب ما قبل الإسلام لإثبات حقيقة النبوة من جهة، وكانتا وسيلة للتنبؤ بالنبي الجديد المُرتقب من جهة أخرى.
وإذا كان إلغاء الكهانة يؤدي إلى إلغاء الأساس الوجوديِّ وكذلك الأساس المعرفي لظاهرة النبوة، فإن ذلك يؤكد أن ظاهرة «الوحي» استندت إلى مفهوم عميق في الثقافة، مفهوم عن إمكانية اتصال بين البشر وبين العوالم الأخرى من الملائكة والشياطين. وإذا كان «الشِّعر» أيضًا — كما سبقت الإشارة — قد تمَّ تصوُّره من حيث مصدره داخل إطار هذا التصور العام للوحي، فإننا هنا نكتفي بهذه الإشارة، وسنعود لمناقشة علاقة القرآن بالشِّعر وبالسجع؛ وذلك عند حديثنا عن علاقة النص بالنصوص الأخرى في الثقافة في الفصل الخاص بالإعجاز.
(٣) الوحي بالقرآن
-
(أ)
إن اتِّصال الله بالبشر — أو كلام الله للبشر — له طرائق محدَّدة عبَّر عنها النص ذاته على النحو التالي:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا.١٥أولى هذه الطرائق «الوحي» بالمعنى السالف الذي ناقَشْناه في الفقرة السابقة، وهو ما يُطلِق عليه العلماء «الإلهام» مثل الوحي إلى أمِّ موسى وإلى النحل وإلى الملائكة، وكل وحي يتميَّز بالخصوصية والسرية. والطريقة الثانية من طرائق كلام الله للبشر الكلام من وراء حجاب، وذلك كلامه لموسى من وراء حجاب الشجرة والنار والجبل. ونُلاحظ في حالتَين من حالات الكلام من وراء الحجاب أنه قد عبَّر عن بداية الكلام بالنداء:
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى.١٦وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ.١٧وإذا كان الوحي في الحالة الأولى كلامًا لا يفهمه إلا طرَفا الاتصال، فهو كلام بدون قول، أو لنَقُل هو كلام بشفرة غير صوتية، بلُغة غير اللغة الطبيعية. وعلى العكس من ذلك يكون الخطاب — المُعبَّر عنه بالنداء — في حالة موسى كلامًا باللغة التي يُمكن أن يَستوعبها موسى أنه قول لغوي. ويُؤكِّد هذا الحوار في مشهد الرؤية:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا.١٨إنَّ استخدام الفعل «قال» هنا يُؤكد التمايز بين حالتَي الوحي الأولى والثانية من جهة، كما يُؤكد طبيعة اللغة المستخدمة في الحالة الثانية من جهة أخرى. ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن سياق الآيات التي ورد فيها الفعل «أوحى» أو «يوحي» دالًّا على الاتصال غير اللغوي يؤكد أن مضمون الوحي لم يكن يتضمَّن موقفًا اتصاليًّا تبادليًّا بين المرسل والمستقبل كما هو الأمر في حالة «الكلام من وراء الحجاب» مع موسى، بل كان المضمون يتضمَّن مجرد الأمر بفعل وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ،١٩وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا،٢٠ وتكون استجابة المستقبِل للوحي مجرد تنفيذ الأمر وتحقيق الفعل. وهذا فارق أساسي بين موقف الاتصال غير القولي وموقف الاتصال القولي في «الوحي».الطريقة الثالثة من طرائق كلام الله للبشر هي الوحي غير المباشر عن طريق الرسول المَلَك الذي يُوحي للمستقبل بإذن الله ما يشاء. وهذه الطريقة كانت هي الطريقة التي تمَّ بها إلقاء القرآن أو تنزيله. وعلى ذلك يمكن أن نضع العلاقة على النحو التالي:
إنَّ صورة الاتصال كما يَطرحها النص في الآية السابقة بالنسبة للقرآن هي صورة الاتصال عبر وسيط هو الرسول الملك الذي أطلقت عليه الآية اسم «الروح». لكن هذا التصوُّر يترك مجال الفكر مفتوحًا في كيفية الاتصال بين الله والملك، أولًا من حيث الشفرة المستخدمة في هذا الاتصال، وبين الملك والرسول ثانيًا من حيث كيفية التلاقي ما دُمنا نعلم أن الشفرة المستخدمة بينهما كانت اللغة العربية. ولقد كانت هذه الأسئلة الحَرِجة محور علم من علوم القرآن هو «كيفية الإنزال ومعناه».
-
(ب)
كيف كان الاتصال على المستوى الرأسي بين الله وجبريل، وأيُّ شفرة استُخْدِمت في هذا الاتصال؟ ذهب العلماء إلى أن:
«الله أفهم كلامه جبريلَ وهو في السماء، وهو عالٍ من المكان، وعلَّمه قراءته، ثمَّ جبريل أدَّاه في الأرض وهو يهبط في المكان.»٢١إنَّ عبارة «علَّمه قراءته» تترك مجال الحدس واسعًا، لكن الإشكالية طُرِحَت عند علماء القرآن بطريقة أخرى حين تساءلوا: ما الذي نزل به جبريل من القرآن، أهو اللفظ والمعنى؛ أي النص بمضمونه وصياغته، أم هو المضمون والمعنى والمُحتوى ثم وضع الرسول على كل ذلك رداء اللغة العربية؟ وبعبارة أخرى: هل كان الاتصال بين جبريل ومحمد «وحيًا» بمعنى الإلهام، أم كان «وحيًا» بالقول؟ وقد اختلف العلماء في الإجابة عن هذا السؤال إلى فريقَين: ذهب الفريق الأول إلى أن المُنزَّل كان:
«اللفظ والمعنى، وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ كلُّ حرف منها بقدر جَبَلِ قاف، وأن تحت كل حرف مَعانٍ لا يُحيط بها إلا الله عزَّ وجلَّ، وهذا معنى قول الغزالي: إنَّ هذه الأحرف سترة لمعانيه.»٢٢ويُهمنا في هذا الرأي التوقُّف أمام دلالته ونتائجه التي انتهى إليها في مجرى تطوُّر الفكر الديني. والإشارة هنا للغزالي إشارة هامة ربما يتَّضح مغزاها عندما نُناقش مفهوم الغزالي للنصِّ وتحويله لطبيعته ولوظيفته في الباب الثالث والأخير من هذه الدراسة. والذي يُهمنا هنا أن نُلاحظه أن هذا الرأي يتصوَّر للنص وجودًا خطيًّا سابقًا في اللوح المحفوظ. وفي هذا التصوُّر ما فيه من إهدار لجدَلية العلاقة بين النص والواقع الثقافي، وهي العلاقة التي تُؤكِّد عليها كثير من علوم القرآن كما سيأتي في الفصول القادمة من هذه الدراسة.
في هذا الوجود الخطي السابق كان النص مُدوَّنًا في اللوح المحفوظ بالحروف العربية قطعًا، كل حرف منها بحجم «جبل قاف»، وهو الجبل الأسطوري الذي يحيط بالأرض من جميع نواحيها وأطرافها في التصوُّر القديم عند الشيعة والمتصوِّفة خاصة. لقد أدَّى هذا التصور للوجود الأزلي الكتابي للنص إلى نتيجتَين هامتين؛ النتيجة الأولى المبالغة في قداسة النص وتحويله من كونه نصًّا لغويًّا دالًّا قابلًا للفهم إلى أن يكون نصًّا تصويريًّا. ومع ازدهار الفنون — خاصة فن الخطِّ والزخرفة — كان القرآن يُمثل من حيث وجوده الخطِّي محور إبداع الفنان العربي. ويُمكن القول من منظور المفهوم العربي للمحاكاة إنَّ الفنان العربي كان يُحاول محاكاة هذا الخط القديم الأزلي للنص في اللوح المحفوظ. إن هذا الافتراض يُسانده فصل الأشاعرة بين الكلام النفسي القديم من القرآن وبين مُحاكاته الصوتية في القراءة من حيث إن الكلام النفسي صفة قائمة بالذات الإلهية لا تُفارقها، على حين أن تلاوة القارئ محاكاة في الزمان لهذه الصفة الأزلية. هذا على المستوى الصوتي، فلماذا لا يكون الرسام العربي الخطاط محاكيًا للخط الأزلي الكتابي للنص في اللوح المحفوظ؟ بناءً على هذا التصور أن إضافة علم «مرسوم الخط»٢٣ إلى مجال علوم القرآن يُؤكِّد هذا الافتراض ويُسانده. هذا بالإضافة إلى المكانة الخاصة التي تمتَّعت بها الحروف على المستويين الصوتي والكتابي عند كل من الشيعة والمتصوِّفة، وهو أمر ناقشناه في مكان آخر.٢٤النتيجة الثانية التي أدَّى إليها تصور وجود خطي أزلي للقرآن — كل حرف بقدر جبل قاف — الإيمان بعمق دلالته وتعدُّد مستوياتها؛ إذ لا بد أن يكون المعنى والدلالة مُتلائمَين مع الكلام النفسي القديم — الذي توحَّد بالعلم الإلهي — من جهة، ومع هذا الحجم الهائل لحُروف القرآن الأزلية من جهة أخرى. لكن ربط تعدُّد مُستويات الدلالة بالأصل الإلهي والوجود الأزلي للنص أدَّى إلى استغلاق معنى النص نتيجة استحالة النفاذ إلى مُستويات معانيه في نهاية الأمر. لذلك لا نعجب أن يسود مفهومٌ للنص يوحِّد بين دلالته اللغوية وبين ذات المتكلِّم، فيَنسب الزركشي للإمام الشافعي أنه قال:
«جميع ما تقوله الأمة شرحٌ للسنَّة، وجميع السنَّة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. وزاد غيره: وجميع الأسماء الحسنى شرحٌ لاسمه الأعظم.»٢٥ويُنسب أيضًا إلى سهل بن عبد الله التُّستَري قوله:
«لو أُعطِيَ العبد بكلِّ حرفٍ من القرآن ألفَ فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه؛ لأنه كلام الله وكلامه صفته. وكما أنه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفَهم كلامه، وإنما يفهم كلٌّ بمقدار ما يفتح عليه.»٢٦وإلى مثل ذلك ذهب أبو بكر بن العربي، فجعَل علوم القرآن لا تَتناهى إذا راعينا الروابط والتراكيب. وهذه العلوم إذا حُصِرَت باعتبار كلمات القرآن فهي:
«خمسون علمًا وأربعمائة وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كَلِم القرآن، مضروبة في أربعة. قال بعض السلف: إذ لكلِّ كلمة ظاهر وباطن وحدٌّ ومطلع. وهذا مطلق دون اعتبار تراكيبه وما بينها من روابط. وهذا ما لا يُحصى ولا يعلمُه إلا الله عزَّ وجلَّ.»٢٧إنَّ سيادة هذا المفهوم لدلالة النص وسيطرته على الثقافة قد أدَّى في النهاية إلى نقل فعالية النص من مجال الدَّلالة اللغوية بوصف النص رسالة إلى مجال الدلالة السميوطيقية بوصف النَّص أيقونة. ويُمكن أن يكون ذلك مسئولًا إلى حدٍّ كبير عن إعطاء الأولية في بعض مراحل تاريخنا الفِكري والثقافي للأحاديث النبوية؛ وذلك بوصفها خطابًا بشريًّا قابلًا للفهم من حيث اللغة والصياغة؛ وذلك إذا قُورنت بقداسة القرآن وأزلية لغته وتعبيرها عن ذات المتكلِّم سبحانه وتعالى. وتلك قضية سنعود إليها بمَزيد من التحليل عند حديثنا عن «الإعجاز» من جهة، وعند حديثِنا عن «تحويل مفهوم النص» في الباب الأخير من هذه الدِّراسة من جهة أخرى.
-
(جـ)
وإذا كان الرأي السابق يرى أنَّ الشفرة اللغوية في عملية الاتصال/الوحي كانت هي اللغة العربية سواء في مُستوى الاتصال الرأسي (الله-جبريل) أم في المستوى الأفقي (جبريل-محمد) فإنَّ الرأي الثاني يُفرِّق بين هذَين المُستويَين، فيجعل تحويل الوحي من مستوى «الإلهام» إلى مُستوى الاتِّصال اللغوي؛ أي يَجعل الصياغة اللغوية للوحي مهمَّة جبريل مرة، ويجعلها مُهمَّة محمد مرة أخرى.
إنَّما نزَل جبريل على النبي ﷺ بالمعاني خاصة، وأنه ﷺ علم تلك المعاني وعبَّر عنها بلغة العرب. وإنما تمسَّكوا (أصحاب هذا الرأي) بقول الله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ.٢٨وإذا كان أصحاب هذا الرأي يتمسَّكون بالمضمُون الحَرفي للنزول على «القلب»، فيَعتبرُون أن النزول كان نزولًا للمعاني مُنفصِلة عن الشفرة اللغوية، فلا شكَّ أن المفهوم الضِّمني للوحي هنا هو مفهوم «الإلهام» الذي تُستخدم فيه شفرة خاصة غير صوتية. لكن بعض العلماء افترضوا أن الصياغة اللغوية لمضمُون الرسالة كانت من دور جبريل.
إنَّ جبريل ﷺ إنَّما ألقى عليه المعنى، وأنه عبَّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية، ثم أُنْزِل به بعد ذلك.٢٩ويَفترض هذا الرأي أنَّ للملائكة نظامًا لغويًّا، ويفترض علاوة على ذلك أنَّ هذا النظام اللغوي هو اللغة العربية. إنَّ النص في هذا التصور كان نصًّا غير لغوي في المستوى الرأسي (الله-جبريل)، ولكنَّه تحوَّل إلى نص لُغوي في المستوى الأفقي (جبريل-محمد)، سواء كان ذلك من جانب جبريل أم كان من جانب محمد. ولا شك أن مثل هذا التصوُّر يَتناقَض مع مفهوم النص لنفسه من أنه قول وقرآن — بالاشتقاق من القراءة — وأنه رسالة لغوية لا يجوز المساس بمَنطوقها أو تحريفها.
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا.٣٠وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا.٣١وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا.٣٢وأشدُّ دلالة فيما نحن بصددِه نهيُ النَّص للنبيِّ أن يُحرِّك لسانه بالقرآن حالة الوحي:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ.٣٣ -
(د)
إنَّ إشكالية طبيعة الشفرة اللُّغوية المستخدمة في حالة الوحي تتَّضح أكثر حين يُناقش العلماء «كيفيات الوحي»؛ أي الكيفيَّات التي أمكن بها الاتصال بين طرفين لا يَنتميان للمرتبة الوجودية نفسها. إنَّ جبريل ملك يَنتمي إلى أفق وجودي مُغاير للأفق الذي يَنتمي إليه محمد البشر. ومن الضروري الإشارة إلى أن هذه الإشكالية لم تكن مطروحة على العقل العربي في مرحلة ما قبل الإسلام، وقد أدَّى إلى طرحِها تطوُّر العقل العربي واحتكاكه بثَقافات أخرى، وهذا يُؤكِّد طبيعة العلاقة الجدلية بين النَّص والثقافة. فإذا كان النص في مفهومه الجَوهري والأساسي اعتمد على مُعطيات الثقافة، فإنَّ الثقافة هنا تُحاول فهم هذا الجذر الثقافي للنص. كان السؤال: كيف أمكنَ هذا الاتصال مع التغايُر في الطبيعة الناتج عن اختلاف مراتب الوجود. وكانت الإجابة أن ثمَّة تحوُّلًا يحدُث في أحد طرفي عملية الاتصال حتى يُمكنه الاتصال بالطرف الآخر:
«أحدهما أن رسول الله ﷺ انخلَع من صورة البشَرية إلى صورة الملائكة وأخذه من جبريل، والثاني أنَّ الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخُذ الرسول منه. والأول أصعب الحالَين.»٣٤ومثل هذا التحوُّل من مرتبة وجودية إلى مرتبة أخرى أمر مفهوم في إطار الثقافة العربية بناءً على التصوُّر الوجودي الذي سبق أن ناقَشْناه في الفقرة الثانية من هذا الفصل. وإذا كان علماء القرآن لم يُميِّزوا بين حالتي التحوُّل واكتفَوا بوصف التحوُّل من جانب محمد إلى مرتبة الملَكية بأنه أصعب الحالَين فإن ابن خلدون يميز بين هاتين الحالتَين، ويَربط بين كل حالة منهما وبين طبيعة الشَّفرة المُستخدمة في الاتصال. إن حالة الوحي كما سبَقَت الإشارة حالة تتطلَّب استعدادًا خاصًّا يكون في حالة الأنبياء استعدادًا فطريًّا نابعًا من الاصطفاء الإلهي لهؤلاء البشر. بهذا الاستعداد يُمكن للنبي البشر أن يَنسلِخ من طبيعتِه ويتحوَّل إلى الملأ الأعلى فيأخُذ من الملك ما يوحيه إليه:
«فإذا توجَّهُوا وانسلَخُوا عن بشريتِهم وتلقَّوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقَّونه عاجُوا به على المدارك البشرية مُنَزَّلًا في قواها لحكمة التبليغ للعباد، فتارة يسمع أحدهم دويًّا وكأنه رمز من الكلام يأخُذ منه المعنى الذي أُلقيَ إليه، فلا يَنقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمَه. وتارة يتمثل له الملك الذي يُلقي إليه الوحي رجلًا فيكلمه ويعي ما يقوله. والتلقي من الملك والرجوع إلى المدارك البشرية وفهمه ما أُلقي عليه كله كأنه في لحظة واحدة، بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلُّها تقع جميعًا فيظهر كأنها سريعة. ولذلك سُمِّيت وحيًا؛ لأن الوحي في اللغة الإسراع.
واعلم أنَّ الأولى وهي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حقَّقوه، والثانية وهي حالة تَمَثُّل الملك رجلًا يُخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين، ولذلك كانت أكمل من الأولى. وهذا معنى الحديث الذي فسَّر فيه النبي ﷺ الوحي لما سأله الحارث بن هشام وقال: كيف يأتيك الوحي؟
فقال: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدُّه عليَّ، فيَفصِم عنِّي وقد وعيتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول. وإنما كانت الأولى أشد؛ لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتِّصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر. ولذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية اختصَّت بالسمع وصَعُب ما سواه. وعندما يتكرَّر الوحي ويكثر التلقِّي يسهل ذلك الاتصال، فعندما يعرج إلى المدارك البشرية يأتي على جميعها وخُصوصًا الأوضح منها وهو إدراك البصر. وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي، فمثَّل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المُتعارف غير كلام وأخبَر أنَّ الفهم والوعي يَتبعه غِب انقضائه. فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع. ومثَّل الملك في الحالة الثانية برجل يُخاطب ويتكلَّم والكلام يُساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المُقتضي للتجدُّد.»٣٥هذه التَّفرقة بين حالتي الوحي — وحالتي التحوُّل المشار إليهما عند علماء القرآن — يُمكن أن تكون تَفرقة بين النصين الدينيَّين؛ القرآن والسنة. وفي تحليل ابن خلدون افتراض ضمني بأنَّ حالة التحوُّل من البشرية إلى الملَكية؛ أي التحوُّل من جانب محمد، تنفي الاتِّصال اللغوي حيث يكون التلقِّي رمزًا من الكلام — عبَّر عنه في الحديث بالدوي — يتلقَّى من خلاله النبي المعنى الذي يصُوغه هو بعد ذلك لإبلاغه. في هذه الحالة يكون اعتماد الاتِّصال على حاسة «السمع» دون «الرؤية». وعلى ذلك يكون الاتصال في هذه الحالة قريبًا من حالة «الإلهام»، لكنَّه إلهام يَستلزم درجة هائلة من التركيز المرهق:
«واعلَم أن في الوحي كلها صعوبة على الجُملة وشدَّة قد أشار إليها القرآن، قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، وقالت عائشة: كان مما يُعاني من التنزيل شدة، وقالت كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فَيفصم عنه وإن جبينَه ليتفصَّد عرقًا. ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف … وهذا هو معنى الغط الذي عبَّر به في مبدأ الوحي في قوله فغطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، وكذا ثانية وثالثة كما في الحديث.»٣٦والحالة الثانية هي الحالة التي يتحوَّل فيها الملك إلى الصورة البشرية، فيكون الاتِّصال بالكلام العادي، بالنظام اللغوي البشَري الخاص بالمُستقبِل، ولذلك يكون الوعي «مُساوقًا» للكلام على حدِّ تعبير ابن خلدون، على حين يكون الوعي بالدلالة في الحالة الأولى تاليًا لعملية الاتصال. إنَّ تحليل ابن خلدون وتمييزه بين هاتَين الحالتين من حالات الوحي يستند أيضًا إلى النص، ولذلك استطاع من خلال تحليل استخدام صيغة الفعل الماضي في حالة التحوُّل من جانب النبي أن يؤكد على طبيعة الاتصال في هذه الحالة بوصفه اتصالًا غير لغوي، على حين أن حالة التحوُّل من جانب جبريل تستلزم الاتصال اللغوي الذي عبَّر عن الوعي فيه باستخدام صيغة المضارع. وقد لا يتَّفق معنا ابن خلدون في القول بأنَّ الحالة الأولى — حالة الانسِلاخ عن البشرية — يُمكن أن تكون حالة الوحي بالسُّنة، بينما تكون الحالة الثانية — حالة تحوُّل الملك إلى البشرية — خاصة بالوحي بالقرآن. والواقع أن ابن خلدون يرى هاتَين الحالتين من حالات الوحي مرحلتَين في تطور عملية الاتصال، فيرى أن الشدة والغط لازَمَا عمَلية الاتصال في بدء الوحي، ثم مع التعوُّد والألفة انتقلت عملية الاتصال في الوحي من مجرَّد الاعتماد على «السماع» بحاسة السمع إلى المشافهة الكلامية والاعتماد على حاسة «البصر». ويَعتمد ابن خلدون على هذا المفهوم للتَّفرقة بين المكي والمدني من القرآن:
«وقد يُفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئًا فشيئًا إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله. ولذلك كانت تنزل نجومُ القرآن وسوره وآيُهُ حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة. وانظر إلى ما نُقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك، وأنها نزَلت كلها أو أكثرها عليه وهو يسير على ناقتِه بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المُفَصَّل في وقتٍ وينزل الباقي في حين آخر. وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدَّين وهي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن والذاريات والمدَّثر والفلق وأمثالها. واعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي والمدني من السور والآيات.»٣٧وإذا كنَّا سنعود في الفصول القادمة لمناقشة ما يطرحه ابن خلدون هنا، فإنَّ الذي يعنينا من هذا النص في سياقنا هذا أن ابن خلدون في هذه التسوية بين حالتَي الوحي وفي اعتبارهما مجرَّد مرحلتَين زمانيتَين، يتخلَّى عن تَفرقته الأساسية بينهما من حيث طبيعة الشفرة المُستخدمة، التي أشار إليها باسم «الرمز» في حالة انسلاخ النَّبي وباسم «الكلام» في حالة تحوُّل الملك إلى البشرية. وإذا كان ابن خلدون قد فرَّق بين هاتَين الحالتَين من جهة أخرى على أساس أن حالة الانسلاخ إلى الملَكية هي حالة «النبوَّة» — حالة الأنبياء غير المرسلين — وأن الحالة الثانية هي حالة الأنبياء المُرسلين، فهل يُمكن لنا أن نفترض أن المرحلة المبكِّرة في الوحي كانت مرحلة «نبوة» فقط غير مُتضمنة للرسالة؟ والحقيقة أنَّ مثل هذا الافتراض يُمكن أن يجد له سندًا في بعض الآراء عند علماء القرآن الذين ذهبوا إلى أن بداية الرسالة كانت بالأمر بالإنذار في سورة «المدثر»، وأن ما سبقها من نصوص دالة على النبوة فقط.
قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ دالٌّ على نبوة محمد ﷺ، لأنَّ النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملَك بتكليفٍ خاصٍّ. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ دليل على رسالته ﷺ لأنَّها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف عام.٣٩ -
(هـ)
إنَّ مفهوم «الانسلاخ عن البشرية» والتحول إلى الملَكية في حالة الوحي الأولى ليس مقصودًا معناه الحَرفي بالتحوُّل الفيزيقي كما يفهم من منطوقه، فالتغيُّر الذي كان يُلاحَظ على النبي تغيُّر طارئ طفيف وليس تحولًا بالمعنى الذي تُنبئ عنه لفظة «الانسلاخ» أو «الانخلاع». ولعلَّ هذا هو الذي مهَّد السبيل أمام الفلاسفة والمتصوِّفة لمناقشة مفهوم «النبوة» من خلال نظرية «الخيال».
إنَّ تفسير النبوة اعتمادًا على مفهوم «الخيال» معناه أن ذلك الانتقال من عالم البشر إلى عالم الملائكة انتقال يتمُّ من خلال فاعلية «المخيلة» الإنسانية التي تكون في «الأنبياء» — بحكم الاصطفاء والفِطرة — أقوى منها عند من سواهم من البشر. وإذا كانت فاعلية «الخيال» عند البشر العاديِّين لا تتبدَّى إلا في حالة النوم وسكون الحواس عن الانشغال بنَقل الانطباعات من العالم الخارجي إلى الداخل، فإنَّ «الأنبياء» و«الشعراء» و«العارفين» قادرُون دون غيرهم على استخدام فاعلية «المخيلة» في اليقظة والنوم على السواء. وليس معنى ذلك — بأي معنى من المعاني — التسوية بين هذه المُستويات من حيث قدرة «المخيلة» وفاعليتها، فالنَّبي يأتي دون شك على قمة الترتيب، يَليه الصوفي العارف، ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب.
إنَّ النفس الإنسانية بصفة عامة جزء من العالم الرُّوحاني في التصور العام للوجود عند العلماء، وعلى ذلك فإنَّ كل البشر قادرُون على الإلمام بلمحة من هذا العالم من خلال تجربة «الرؤيا». ولكن حين يكون هؤلاء البشر العاديُّون تحت سطوة «العالم الحسي» لا يستطيعون مقاربة هذا العالم الخصب الثري. إنَّ «الأحلام» تُمثِّل مجال فاعلية «المخيلة» عند البشر جميعًا، لكن «دلالة» ما يراه النائم قد تكون واضحة وقد تكون غامضة، لكنَّها في كل الأحوال لها دلالتها على بعض حقائق العالم الروحي الذي تَنتمي إليه النفس الإنسانية.
وأما الرؤيا فحقيقتها مُطالَعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات، فإنها عندما تكون روحانية تكون صورة الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأنُ الذوات الرُّوحانية كلها، وتصير رُوحانية بأن تتجرَّد عن المواد الجسمانية والموارد البدنية. وقد يقع لها ذلك لمحةً بسبب النوم كما نذكر، فتقتبس بها علم ما تَتَشَوَّف إليه من الأمور المستقبلة، وتعود به إلى مداركها. فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفًا غير جليٍّ بالمحاكاة والمثال في الخيال فيحتاج لتَخَلُّصه من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير. وقد يكون الاقتباس قويًّا يُستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصِه من المثال والخيال. والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات رُوحانية بالقوة مُستكملة بالبدن ومَداركه حتى تَصير ذاتها تعقلًا محضًا ويكمل وجودها بالفعل، فتكون حينئذٍ ذاتًا رُوحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية إلا أنَّ نوعها في الرُّوحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى الذين لم يستكملُوا ذواتهم بشيء من مَدارك البدن ولا غيره. فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن. ومنه خاص كالذي للأولياء ومنه عام للبشر على العموم.٤٠وإذا كانت النَّفس الإنسانية تتلقَّى من الملأ الأعلى على قَدرِ رُوحانيتها وصفائها، فلا شك أن الأنبياء يصلون إلى الدرجة القُصوى من الصفاء والرُّوحانية ولكنَّهم لا يتحوَّلون إلى ذوات من التعقُّل المحض تجعلهم ملائكة. هل يُمكن أن نقول إذن إنَّ المرحلة الأولى من مراحل الوحي — مرحلة الشدة والغطِّ والتحوُّل من جانب النَّبي — كانت مرحلة أشبه بالرؤيا حيث تتلقَّى نفس النبي — بناءً على هذا التصوُّر — من الملك رسالة ذات شفرة خاصة يُحوِّلها النبيُّ بعد ذلك إلى رسالة لُغوية؟ وهل يُمكن أن نقول إن التعود والأُلفة — مع توالي عملية الاتِّصال — جعلت الوحي مُمكنًا في حالة اليقظة بالكلام اللُّغوي العادي؟
تتضافَر الحقائق لتُجيب بالإيجاب عن هذا السؤال، والحقائق التي نشير إليها هي الحقائق كما عرفتها الثقافة كما سبق أن أشرنا في التمهيد. من هذه الحقائق ما ترويه السيدة عائشة:
«كان أول ما بُدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرُّؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءَت مثل فلق الصبح. ثم حُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حِراء يتحنَّث فيه الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلِها.»٤١ويُحدِّثنا النص ذاته عن رُؤيا الأنبياء وما تتضمَّنه من الوحي، سواء في قصة «إبراهيم» أم في قصة «يوسف». في الحالة الأُولى كان تحقُّق الحلم بالموازاة الرمزية بين «الكبش» و«الابن»؛ إذ رأى إبراهيم أنه يذبح ابنه، وإيمانًا بأن الأحلام تعبير عن حقائق أوشكَ على تحقيق الحلم حرفيًّا ثم حدَث التأويل «فما ذبَح إلا كبشًا في صورة ولدِه، فأفسد الحلم صورة الكبش في المنام».٤٢ وكذلك في حالة «يوسف» تحقَّق الحلم بالتأويل الرمزي للصور المُدْرَكة، فكانت الشمس والقمر هما الأب والأم، وكان الأحد عشر كوكبًا هم إخوته الذين سجدوا له جميعًا، فأدرك حينذاك دلالة الحلم. لكنَّ أباه يعقوب كان قد أدرك دلالة الحلم قبل ذلك حين قصَّه عليه يوسف، ولذلك طلب منه ألا يقصه على إخوته حتى لا يَكيدوا له. ومعنى ذلك كله أن «الرؤيا» تُعدُّ إحدى طرائق الوحي، وهي طريقة تكون لغتُها الصور الرمزية الدالة على معانٍ تحتاج للتعبير والتأويل. وفي شخصية «النبي» تَجتمِع القابلية لهذه الطريقة من طرق الوحي مع القُدرة على التأويل والعبور من الصور الرامزة إلى المعاني المرموز إليها. إن التشابه والتماثل بين إحدى حالات الوحي وبين «الرؤيا» أمرٌ مؤكَّد في الثقافة العربية الإسلامية، سواء قبل الإسلام — مرتبطًا بالعرافة والكهانة — أم بعده.٤٣ إنَّ ما يحدث للأنبياء شبيه بما يحدث للنائم في حلمه مع فارق في الدرجة؛ هو أن:«حال النوم أدون منه بكثير، فلأجل هذا الشبه عبَّر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وفي رواية ثلاثة وأربعين، وفي رواية سبعين. وليس العدد في جميعِها مقصودًا بالذات، وإنما المُراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السَّبعين في بعض طرقه، وهو للتكثير عند العرب … إنَّ معنى هذا الجزء نسبة الاستِعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنفِ الأنبياء الفِطري لهم صلوات الله عليهم. إنَّ هذا الاستعداد البعيد وإن كان عامًّا في البشر معه عوائق وموانع كثيرة تَمنع من حُصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة، ففطر الله البشر على ارتفاع حجابِ الحواسِّ بالنوم الذي هو جِبِلِّيٌّ لهم، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوَّف إليه في عالم الحق، فتُدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظَّفر بالمطلوب. ولذلك جعَلها الشارع من المبشرات، فقال: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات يا رسول الله، قال: الرؤيا الصالحة يَراها الرجل الصالح أو تُرَى له.»٤٤إنَّ فهم ظاهرة «الرؤيا» على أساس أنها حالة اتصال بين النفس والعالم الروحاني كان من شأنه أن يُدعِّم الأساس النظري لظاهرة النبوة بالاستناد إلى بعض الحقائق المُشتركة بين البشر جميعًا. وفي ظلِّ هذا التصوُّر لا تكون «النبوة» ظاهرة فوقية مُفارقة، بل تُصبح ظاهرة قابلة للفهم والاستيعاب. ويُمكن أن يُفهَم «الانسلاخ» أو «الانخلاع» في ظلِّ هذا التصور على أساس أنه تجربة خاصة، أو حالة من حالات الفعالية الخلَّاقة. ويكون التمييز بين حالتَي الوَحي تمييزًا بين مرحلتَين لا بين حالتَين.
(٤) القرآن والكتاب
لا نريد أن نتوقَّف طويلًا عند ذلك الخلاف التفسيري حول كلمة «القرآن»، وهل هي مصدر من «قرأ» بمعنى ردَّد، أو من «قرأ» بمعنى جمع، وهو خلاف مبسوط في المعاجم وفي كتب علوم القرآن على السواء. والمعيار الثقافي الذي نَستنِد إليه في التحليل لا بد أن يؤكد أنها مصدر مِن «قرأ» بمعنى الترديد؛ ذلك أن النص تشكَّل من خلال ثقافة شفاهية لم يكن للتدوين فيها دور يُذكر، هذا بالإضافة إلى أن ما ورد في الآيات والسور الأولى من النص يُشير إلى النص باسم «القرآن»، ويُشير إلى قراءته من جانب الملقي «جبريل» ومن جانب المتلقِّي «محمد» على السواء.
وعطف القرآن على الجمع يؤكد التغاير، وتأتي الآية الثانية لتُؤكِّد أن «القرآن» مصدر من «قرأ» بمعنى القراءة الذي هو الترديد والترتيل.
إنَّ النص في إطلاقه هذا الاسم على نفسه ينتسب إلى الثقافة التي تشكَّل من خلالها، ولكنه في نفس الوقت يفرض تميُّزه عنها باختيار هذا الاسم غير المألوف تمامًا من حيث صيغته وبناؤه، الأمر الذي أدَّى إلى مناقشات العلماء: هل هو بمعنى القراءة أم بمعنى الجمع؟ ولقد أدرك الجاحظ أن هذه الأسماء التي أطلقها النص على نفسه وعلى أجزائه مثل السورة والآية والفاصلة هي من قبيل الأسماء التي تُؤكِّد مخالفة النص لغيره من النصوص في الثقافة. وهذه ملاحظة هامة، فالنص يَنتسِب إلى الثقافة من حيث «شفاهيته» في التلقي والأداء، ولكنَّه ينفصل عنها باختيار الأسماء الدالة على أجزائه.
ولا شكَّ أنَّ إطلاق هذا الاسم على النص لم يكن مجرَّد دلالة على «الانفصال» عن النصوص الأخرى؛ فالحقيقة أن هذا النص هو أول نص دُوِّن في تاريخ الثقافة، هذا بالطبع إذا استثنَينا ما جاء في الروايات من تدوين «المعلقات» وتعليقها على جدران الكعبة. وإذا كان تدوين المعلَّقات مع افتراض صحته حادثة جزئية للاحتفال ببعض النصوص الممتازة، فإن الحرص على تدوين كل ما يستجدُّ في النص من جانب النبي والمسلمين يُعدُّ ظاهرة جديدة في إطار ثقافة شفاهية تعتمد على النقل الشفاهي لمَخزونها من النصوص. من هذه الزاوية يمكن أن نعتبر النص حلقة فاصلةً في تاريخ الثقافة بين مرحلتَين؛ مرحلة الشفاهية، ومرحلة التدوين.
لقد انمحى رسم مدافع الريان بحكم إسفاء الرياح عليها، فاختفَت ولم تَعُد مرئية تمامًا كما تتضمَّن الحجارةُ الكتابةَ. وإذا كان تضمُّن الحجارة للكتابة لا يُخفيها، والأحرى القول إنه يبرزها، فإنَّ رؤية الشاعر للكتابة — المتضمنة في الحجارة — رؤية لنقوش وأشكال «عارية» عن الدلالة بالنسبة له. وتكون الحقيقة بالنسبة للشاعر أن الكتابة «الخافية الدلالة» — الوحي — يُمكن أن تُماثل اختفاء مدافع الريان بفعل الرياح، أو تعرِّي رسوم هذه المدافع. إن الكتابة هنا تبدو بالنسبة للأمي دلالة، ولكنها دلالة خفية لا يستطيع كشف غموضها، إنها دلالة على المستوى الافتراضي، لكنَّها في الحقيقة غموض. لكن الغموض لا ينشأ في وعي الناظر إلى الكتابة إلا من خلال معرفته أنها دالَّة، ولكن دلالتها بالنسبة إليه خفية. إن موقف الشاعر هنا أمام الكتابة/الوحي مُماثل لموقف علقمة أمام «الأنقاض» و«النقنقة» بين ذَكر النعام وأُنثاه، إنه يعلم أنها أصوات دالَّة بالنِّسبة لهما، لكن دلالتها خفية غامضة بالنِّسبة له، لذلك قارنها بتراطن الروم في قُصورهم.
وبهذا المعنى جاء المثَل «وحي في حجر» لمن يكتم سرَّه. وقد أخطأ «أبو زيد القرشي» حين شرح هذا المثل قائلًا كما حَكى عنه صاحب اللسان «الحجر لا يُخبر أحدًا بشيء، فأنا مثله لا أُخبر أحدًا بشيء أكتمه»، حيث جعل المقارنة في المثل بين الإنسان والحجر في حين أن المقارنة بين «السر» و«الوحي»، ويكون المعنى «سرك كالوحي في الحجر» لا يُدركه أحد. ولا شك أن هذا المثل كان دالًّا في ثقافة شفاهية تُمثل الكتابة فيها نصًّا غامضًا مُستغلق الدلالة. ولعلَّ خطأ «أبو زيد القرشي» في شرح معنى المثل — وعُذره أيضًا — راجع إلى انتفاء مفهوم الكتابة من معنى «الوحي» بفعل فاعلية النص في الثقافة.
إنَّ هذا المثل يُشبه إلى حدٍّ كبير ما نقوله في أمثالنا العامية من أنَّ «السر في بير»، وليس المقصود من ذلك أنه في مكان يَستحيل الوصول إليه، بل المقصود أنه مُودع في مكان يستحيل على غير من أودعه أن يبحث عنه فيه. وتتعقَّد الدلالة بارتباط «البير» في الخيال الشَّعبي بعالم الأشباح والعفاريت والأرواح الشريرة بشكلٍ عام. إنَّ الدلالة اللغوية للمثَل لا تَنفصِل عن النظام الثَّقافي بأعرافه وتقاليده ومُعتقداته.
وحين نقول إنَّ النص قد ساهمَ في تحويل الثقافة من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة التدوين عن طريق إضفاء اسم «الكتاب» على نفسه وعن طريق نفي دلالة «الوحي» بما يرتبط به من سرية وغموض عن معنى «الكتابة» فإننا لا نقصد بالنص مجرد المعطى اللغوي، بل نقصد فعالية النص من خلال مجموعة البشر الذين اعتبروه نصهم الأساسي. وفي هذا الصدد يَكفي أن نُشير إلى أن النبي كان يجعل فدية الأسير من أهل مكة أن يُعلِّم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة؛ وذلك من شدة حرصه وحرص الجماعة على تدوين النص وعلى إحداث تغيير نَوعي في الثقافة. إن النص هنا لا يفعل وحده، بل تتحقَّق فعاليته بالإنسان الذي كان النص بالنسبة إليه رسالة وبلاغًا.
(٥) الرسالة والبلاغ
وليسَت الرسالة المتضمَّنة في عملية الاتصال/الوحي، سواء كانت رسالة لغوية أم كانت رسالة غير لغوية، رسالة خاصة بالمُتلقِّي الأول، ولكنَّها رسالة مطلوب تبليغها للناس وإعلامهم بها. وإذا كانت الرسالة لُغوية قولية، كما هو الأمر في حالة القرآن، فالمطلوب إبلاغ منطوق الرسالة اللفظي دون تحوير أو تبديل أو تحريف. إنَّ النص يفصل في مواطن كثيرة بين فاعل القول — المتكلِّم والموحي — وبين المتلقِّي الأول:
إنَّ مهمَّة المتلقِّي الأول نقل الرسالة وإبلاغها للناس لا مجرَّد تلقيها والعلم بمحتواها ومضمونها. إن مجرد التلقي والعلم بالرسالة لا يتجاوز مرحلة «النبوة»، والإبلاغ هو الذي يجعل من «النبي» رسولًا.
وكون «النص» بلاغًا معناه أن المُخاطَبين به هم الناس جميعًا، الناس الذين ينتمون إلى نفس النظام اللغوي للنص وينتمون إلى الإطار الثقافي الذي تُعد هذه اللغة مركزه. إن مفهوم «التنزيل» هنا لا بد أن يُفهم بوصفه تنزيلًا إلى الناس عبر وسيطين: الأول المَلَك، والوسيط الثاني محمد البشر. إنها رسالة السماء إلى الأرض، لكنها ليست رسالة مفارقة لقوانين الواقع بكلِّ ما يَنتظِم في هذا الواقع من أبنية وأهمها البناء الثقافي. إنَّ المطلق يكشف عن نفسه للبشر، «يَتَنَزَّل» إليهم، بكلامه عبر نظامهم الدلالي الثقافي واللغوي. ويُمكن أن نضع هذا التحديد للنص على الوجه التالي:
إن «الناس» هم هدف الوحي وغايته، ومِن الطبيعي أن يكون النص في هذه الحالة دالًّا؛ حيث هو رسالة لغوية، على كل أطراف عملية الاتصال. وإذا كان النص بمثابة خطاب فلا بد أن يتضمَّن دوال تدل على المتكلم، وعلى المخاطب الأول، وعلى المخاطَبين، أي على الله، وعلى محمد، وعلى الناس. ومع ذلك فهذه الدوال لا تكون متساوية أو متوازية، سواء من حيث طبيعتها الدلالية أم من حيث نسبتها العددية.
Toshihiko Izutsu, Revelation as a Linguistic Concept in Islam.