المكي والمدني
سبقَت لنا الإشارة في التمهيد إلى أنَّ التفرقة بين المكي والمدني في النص تَفرقة بين مرحلتين هامتين ساهمتا في تشكيل النص، سواء على مُستوى المضمون أم على مستوى التركيب والبناء. وليس لذلك من دلالة سوى أن النص ثمرة للتفاعل مع الواقع الحي التاريخي. وإذا كان علم «المكي والمدني» يكشف عن الملامح العامة لهذا التفاعل، فإن علم «أسباب النزول» — الذي سنتعرَّض له في الفصل التالي — يكشف عن تفاصيل هذا التفاعل، ويكاد يزودنا بالمراحل الدقيقة لتشكيل النص في الواقع والثقافة. ورغم ذلك فالخطاب الديني المعاصر لا يُدرك تناقضه حين يقف إزاء هذين العلمين، فيعترف:
لكن هذا الاعتراف والتسليم — بسبب مثالية منطلقاته وطابعه الوعظي — يعود لكي يتنكَّر لكل المُعطيات والحقائق التاريخية؛ لكي يُؤكِّد مفارقة ظاهرة الوحي — ومن ثم مفارقة النص — للزمان والمكان.
وإذا كان اهتمام علماء القرآن بالمكي والمدني وبأسباب النزول كان اهتمامًا نابعًا من مُنطَلقات فقهية هدفها التَّفرقة بين الناسخ والمنسوخ والعام والمقيد؛ وذلك لاستخراج الأحكام الفقهية والشرعية من النصوص، فإن هذا المنطلق الفقهي في حقيقته وجوهره مُنطلق دلالي ما دام استخراج الحكم من النص لا يتأتَّى إلا باستقطار الدلالة الدقيقة للنص. لكن الاعتماد على المدخل الفقهي وحده في مناقشة قضايا المكي والمدني وأسباب النزول قد جعل علماء القرآن يقعُون في مجموعة من الاضطرابات المفهومية، خاصَّة فيما يرتبط بالحدود الفاصلة بين ما هو مكي وما هو مدني، سواء من حيث المضمون، أم من حيث البناء والتركيب.
(١) معايير التمييز
إنَّ معيار التصنيف يجب أن يستند إلى الواقع من جهة وإلى النص من جهة أخرى، إلى الواقع من حيث إن حركة النص ارتبطت بحركته، وإلى النص من حيث مضمونه وبنائه؛ ذلك أنَّ حركة النص في الواقع تَنطبِع آثارها في جانبَي النص. فإذا نظرنا إلى حركة الواقع فلا بد أن نُدرك أن حدث «الهجرة» من مكة إلى المدينة لم يكن مجرَّد انتقال في المكان. وإذا كانت مرحلة الدعوة في مكة لم تكد تتجاوَز حدود «الإنذار» إلى حدود «الرسالة» إلا قليلًا، فإن النقلة إلى المدينة حوَّلت الوحي إلى «رسالة». والفارق بين «الإنذار» و«الرسالة» أن الإنذار يرتبط بمصارعة المفاهيم القديمة على مستوى الفكر والدعوة إلى المفاهيم الجديدة، إنَّ «الإنذار» بهذه المثابة تحريك للوعي لإدراك فساد الواقع والنهوض من ثم إلى تغييره. و«الرسالة» تعني بناء أيديولوجية المجتمع الجديد. ولم يكن يُمكن أن تتمَّ هذه النقلة فجأة، فقد بدأت هذه المرحلة الثانية فعلًا حين بدأ النبي — بعد الهجرة الأولى لبعض المسلمين إلى الحبشة — يَعرض نفسه على الوفود التي كانت تأتي إلى مكة في موسم الحج، فبايعه أهل يثرب على أن يَفدُوه مما يفدون منه أهلهم وأبناءهم بعد أن قَبِلوا «الإسلام». وكان ذلك إيذانًا بتحوُّلٍ جديد في تاريخ الدعوة، ومن ثمَّ في حركة النص.
إنَّ معيار التصنيف الذي يَستند إلى الواقع إذن يجب أن يقوم على أساس التَّفرقة بين هاتَين المرحلتين، والتسمية «المكي والمدني» لا يجب أن تكون إشارة للمكان فحسب، بل يجب أن تكون إشارة إلى مرحلتين تاريخيتَين. من هذا المنطلق نختار أن:
وفي مثل هذا التعريف نَعتبر ما نزل في مكة بعد الهجرة مدنيًّا ما دام معيار المكان ليس هو أساس التصنيف، ويكون ما نزَل في طريق السفر إلى المدينة أول مرة مكيًّا، ولا اعتبار لأيِّ معيار آخر. لكننا لا يُمكن أن نَعتمِد على هذا المعيار وحده للتَّفرقة بين المكي والمدني؛ فالوثائق التاريخية المتوفِّرة لدينا من أقوال الصحابة والتابعين غير كافية وغير حاسمة في نفس الوقت.
وفي حالة غياب الوثائق الحاسمة فإنَّ الاعتماد على الذاكرة يجعل التَّفرقة — اعتمادًا على الرواية وحدها — مسألة اجتهادية، لذلك وضع العلماء القُدماء بعض المعايير المضمونية من النص ذاته للتَّفرقة بين المكي والمدني، فذهبوا إلى أن:
«كل سورة فيها «يا أيها الناس» وليس فيها «يا أيها الذين آمنوا» فهي مكية وفي الحج اختلاف.
وكل سورة فيها «كلا» فهي مكية، وحكمة ذلك أن نصفَه الأخير (نِصف القرآن حسب ترتيب التلاوة لا حسب ترتيب النزول) نزَل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة، فتكرَّرت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم بخلاف النصف الأول. وكل سورة فيها حروف المعجم فهي مكية إلا البقرة وآل عمران، وفي الرعد خلاف.
وليست هذه الخصائص جامعة مانعة كما أدرك القدماء أنفسهم، بل هي خصائص وصفات على التغليب:
وإذا كان معيار «المضمون» أيضًا معيارًا غير حاسم فذلك لأنَّ المدخل الفقهي يفترض وجود تمايز واضح حاد يُمكن تلمُّسه والدلالة عليه في التَّفرقة بين المكي والمدني. والحقيقة أن مثل هذا التمايز الحاد القاطع الواضح مجرَّد افتراض ذهني إلا إذا تصوُّرنا أن المرحلتين: المكية والمدنية مرحلَتان مُنفصلتان. إن التطوُّر لا يحدث فجأة سواء على مستوى الواقع أم على مستوى النص، ولذلك تظلُّ التَّفرقة بين المكي والمدني في النص تَفرقة تقوم على خصائص عامة، ولكنَّها ليسَت حاسمة. وتزداد صعوبة إيجاد معيار حاسم للتميُّز بما نعلمه من أن ترتیب التلاوة في المصحف المدوَّن مُخالف لترتيب التنزيل الزماني، فتتداخل النصوص المكية والمدنية في السورة الواحدة، بحيث يحتاج تحديد انتماء كل جزء من النص، وكل آية منه، إلى دراسة لغوية دقيقة، خاصة تلك النصوص التي استشكلت على القُدماء أنفسهم. وفي هذه الدراسة لا بدَّ من مراعاة المعيار الزماني جنبًا إلى جنب مع معيار النصِّ ذاته، سواء من حيث مضمونه أم من حيث بناؤه وتركيبه.
(٢) معيار الأسلوب
إذا كان تحديد المكي وتمييزه عن المدني على سبيل الحسم يظلُّ أمرًا اجتهاديًّا؛ فقد كان اجتهاد القدماء عادةً يتركَّز في الترجيح بين المرويات دون أن يتجاوز ذلك إلا قليلًا إلى محاولة البحث عن خصائص أسلوبية فارقة إلى جانب المعيار الزمني والمعيار الموضوعي. ويُمكن لنا أن نحدد اثنتين على الأقل من هذه الخصائص الأسلوبية التي تُساعدنا على التمييز بين المكي والمدني. وقد أشار ابن خلدون إلى واحدة من هذه الخصائص في حديثِه عن الوحي حين أشار إلى طول الآيات المدنية إذا قُورنت بقِصَر الآيات المكية.
أما الخصيصة الثانية من الخصائص الأسلوبية التي يُمكن أن تكون فارقة بين المكي والمدني فهي خصيصة «مراعاة الفاصلة». ورغم أن هذه الخصيصة يمكن أن تُعد جزءًا من الطبيعة اللغوية للُّغة التأثيرية — لغة الإنذار — فإنها يُمكن أن تُفسَّر أيضًا في ضوء تشابه آليات النص مع آليات النصوص الأخرى في الثقافة، ورغم تنبُّه القُدماء لأهمية الفاصلة في القرآن بشكل عام فإنهم تحاشَوا أي مقارنة بينها وبين «السجع» الذي كان ظاهرةً مألوفة في النصوص الأخرى.
كانت نبوءات الكُهان والعرافين تعتمد على السجع، وكان السجع من ثَمَّ دلالة في الضمير الثقافي على أن هذا الكلام ليس من كلام البشر الناطق به. ها هو سطيح يُفسر رؤيا ربيعة بن مضر على النحو التالي:
ونفس الرؤيا يفسرها شقُّ بن أنمار بقوله:
وإذا أخدنا هذَين المعيارَين الأسلوبَين في اعتبارنا جنبًا إلى جنب مع معيار المضمون ومعيار ارتباط حركة النص بالواقع — فيما عُرِف بأسباب النزول — أمكَنَنا أن نحلَّ كثيرًا من خلافات القُدماء حول المكي والمدني. إنَّ حِرص القدماء على الفصل بين النص القرآني والنصوص الأُخرى في الثَّقافة وصل إلى حدِّ تأكيد القطيعة الكاملة بين النص والواقع؛ وذلك سعيًا للحفاظ على التقدير الذي ظنُّوه يتعارَض مع انطلاق النص من الواقع وتفاعُله به. ولو تخلَّى القدماء هونًا ما عن هذا الحِرص الشديد على المُفارقة بين النص والنصوص الأخرى لأمكَنَهم أن يُفسِّروا «الحروف المقطعة» في أوائل السور — التي اعتبرُوها إحدى علامات السور المكية — تفسيرًا يتباعَد بها عن إشكالية «المحكم والمُتشابه»، ويربطها بالسياق الثقافي للنص. لكن ذلك كان مستحيلًا على أيِّ حال في إطار مفاهيم الثقافة أولًا، ومع سيطرة الاتجاهات الغيبية التبريريَّة على تطوُّر حركة الفكر الديني في تراثنا ثانيًا.
(٣) منهج التلفيق بين الروايات
كان مِن نتيجة عجز المُفكِّر القديم عن ربط النص بالواقع والثَّقافة بصفة عامة، وعن ربطه بغيره من النصوص بصفة خاصة، أنه راح يُحاول الترجيح بين الروايات المختلفة المُتعارِضة حول تحديد ما إذا كان نصٌّ بعينِه مكيًّا أو مدنيًّا. فإذا تساوَت عنده معايير الترجيح من حيث صحة السند وصدق الرواة، وهي معايير النقد الخارجي، راح يَفترض أحد أمرين: الأول أن النص تكرَّر نزوله، مرة في مكة ومرة في المدينة. والأمر الثاني أن النص نزل في مكة ولكن حكمه الشرعي والفقهي تأخَّر حتى المرحلة المدنية. أو بعبارة أخرى يلجأ المفكِّر القديم إلى افتراض يُلغي تمامًا الفُروق بين المكي والمدني من جِهة، ويُلغي أسباب النزول من جهة أخرى؛ وذلك هو افتراض تكرَّر النزول. أما الافتراض الثاني وهو افتراض تأخَّر الحكم عن النص فيُؤدِّي إلى فصل النص عن دلالته وإلى تعليق الدلالة والمعنى وجعلهما خارج النص. وكلا الافتراضَين يُؤدي إلى شناعات يستحيل أن يتقبَّلها المُفكِّر القديم ذاته لو مدَّ نتائج افتراضاته إلى نهاياتها المنطقية.
وعلى ذلك لا نجد علماء القرآن يَرفضون رأيًا من الآراء في قضايا المكي والمدني أو قضايا أسباب النزول، فلكلِّ رأي وجاهته، ولكل رواية مبررها ومشروعيتها ما دامت رواية صحيحة بمنهج النَّقد الخارجي، نقد السند والتحقُّق من صدق الرواة. فإذا استوت الروايتان في الصحة فالمرجح بينهما أن يكون الراوي حاضرًا القصة أو نحو ذلك من وجود الترجيحات. والمثال الذي يُناقش هنا هو الآية:
ورغم أن الآية مكية باتفاق فإنَّ البخاري يُورد عن ابن مسعود رواية في سبب نزولها يجعل منها آية مدنية، وهي رواية مُخالفة لرواية ابن عباس التي تجعل منها آية مكية، وهي رواية رواها الترمذي، والروايتان هما:
«قال كنتُ أمشي مع النبي ﷺ بالمدينة وهو يتوكَّأ على عسيبٍ فمرَّ بنفر من اليهود فقال بعضهم: لو سألتمُوه! فقالوا: حدِّثنا عن الرُّوح، فقام ساعة ورفع رأسه فعرفتُ أنه يُوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
ومن الواضح أنَّ هذا الافتراض — افتراض النزول مرتَين — قد أدَّى إلى افتراض آخر مؤدَّاه أن نصوص القرآن التي نزلت كانت عرضة للنِّسيان، ومن النبي ذاته، ولذلك كان يحتاج مع تجدد وقائع شبيهة أن ينزل عليه جبريل — مرة أخرى — مُذكِّرًا له بالنص السابق الذي أوحى إليه به من قبل. ومع صحة هذا الافتراض الذي تعارضه كثير من المرويات عن حرص النبي وحرص الصحابة على حفظ نصوص القرآن، فإن نزول جبريل «مذكرًا» لا يعني تكرر النزول، ولا يعني من ثم أن كل روايات أسباب النزول — أو المكي والمدني — صحيحة.
وإذا كانت رواية ابن مسعود السابق الإشارة إليها تنصُّ على حالة الوحي بآية «الروح» في المدينة وتدلُّ من ثم على أنه كان شاهد عيان على نُزول الآية، الأمر الذي يُرجح روايته على رواية ابن عباس في نظر السيوطي، فإنَّ جدلية علاقة النص بالواقع كفيلة بالكشف عن حقيقة الآية بعيدًا عن التلفيق بين الروايات. إن العودة إلى السياق الكبير — سياق النص في جدله مع الواقع — تُؤكِّد مكية الآية. ولا يصح اعتراض معترض هنا استنادًا إلى أن أهل مكة لم يكونوا في مستوًى عقلي يَسمح لهم بالسؤال عن «الروح»؛ لأنَّ ذلك اعتراض يفترض أن مجتمعَي مكة والمدينة كانا مجتمعَين مُنفصلَين معزولين مُغلق كلٌّ منهما على ذاته. إنَّ أهل الكتاب من اليهود الذي تركَّزوا في يثرب، أو من نصارى نجران، لم يكونوا مُنفصِلين بأيِّ حال من الأحوال عن وثنيي مكة والطائف وغيرهما من بدو البادية. ولو كان الأمر على ما يُفترض في مثل هذا الاعتراض لكان علينا أن نُغضي عن حقائق التاريخ التي تخبرنا أن السيدة آمنة أم النبي كانت من بني النجار، وأنها ماتت في طريق عودتِها من يثرب في زيارة أهلها، ناهيك عن وجود ورقة بن نوفل النصراني في مكة وذهاب السيدة خديجة بمحمد إليه بعد واقعة الوحي الأولى … إلى آخر كل هذه الحقائق.
إن الفصل بين «الأميِّين» و«أهل الكتاب» فصل من جهة المعتقَدات والتصورات الدينية الغالبة على كل فريق منهما، وإلا فالأمر كما يقول ابن خلدون:
إن كلًّا من أهل الكتاب والأميِّين يَنتمي إلى نفس الثقافة رغم اختلاف العقائد. وقد كان من الطبيعي أن يلجأ عبَدة الأوثان إلى أهل الكتاب من جيرانهم في يثرب يستفتونهم في شأن هذا الذي يدَّعي النبوة على زعمهم. إنَّ السيرة النبوية هنا — على ما يُقال من ضعف مروياتها — حريصة على الربط بين الأحداث والنص، فبعد أن أعيت الحِيَل أهل مكة في تفسير هذه الظاهرة، وفي تصنيف مضمون الوحي، هل هو شعرٌ أم سحرٌ أم كهانة أم جنون، لجئوا إلى أحبار اليهود، فأرسلوا النضر بن الحارث وعُقبة بن أبي معيط:
«وقالوا لهما: سَلَاهم عن محمد، وصِفا لهم صفتَه، وأَخبِراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله ﷺ، ووصَفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جِئنا لتُخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنَّ، فإن أخبركم بهنَّ فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل مُتقوِّل، فرَوْا فيه رأيكم. سلُوه عن فِتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الرُّوح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه، فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل مُتقوِّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم …
وتَمضي السيرة بعد ذلك في الكشف عن تفاصيل الرد على المشركين، رابطة بين أحوال المشركين مع النبي من جهة وبين النص من جهة أخرى. إنَّ السيرة لا تطرح تفسيرًا لسبب نزول آية واحدة، بل تربط بين سورة «الكهف» كلها وبين مرحلة من مراحل الدعوة في مكة. في هذه السورة نزلت القصة العجب قصة الفتية، ونزَلَت قصة الرجل الطواف. وإذا كان الرد على سؤال الروح ورد في سورة أخرى فهذا أمر لا يُقلِّل من مصداقية الرواية، ذلك أن ترتيب النزول مغاير — كما هو معروف — لترتيب التلاوة في المصحف.
إنَّ السيرة هنا تطرح سبب النزول وتُحدِّد من ثم مكية الآيات بطريقة أكثر ارتباطًا بالنَّص من جهة وبالواقع من جهة أخرى، بل إنها تتجاوَز ذلك إلى التعليل النابع من الإحساس بجدلية العلاقة بين الواقع والنص. لقد كان تأخَّر الوحي نوعًا من التأديب لمحمَّد الذي وعدهم بالرد على جهة القَطع والتأكيد في الغد «دون أن يستثني» كما تقول الرواية؛ أي دون أن يشترط المشيئة الإلهية أو نزول الوحي عليه. لقد كان من شأن الوحي لو أجاب على أسئلتهم في الغد كما وعَدَهم أن يُؤكِّد في نفوس قومه شُكوكهم في أنه ينقل عن كتاب أو في أنَّ ثمَّة مَن يُملي عليه ما يزعم أنه يأتيه من ربه، وهي اتهامات صارَحُوه بها فعلًا قبل ذلك في أكثر من مُناسَبة. لذلك تَحرِص السيرة على بيان أن نزول الوحي ليس رهنًا بإرادة محمد أو رغبته، وتحرص كذلك على التمييز بين مُستويَين للخطاب في النص هما مستوى المتكلِّم ومستوى المخاطب، وهما مُستويان يطرحهما النص ذاته باستخدام «يسألونك» وباستخدام النهي: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ.
(٤) فرض تكرر النزول
إنَّ منهج التلفيق بين الروايات المُختلفة والمتعارضة، بصرف النظر عن صدقها — سواء مِن جهة اتفاقها مع الوقائع أم من جهة اتفاقها مع معطيات النص — قد تجاوز أسباب النزول وحدود التمييز بين المكي والمدني إلى مجال الآراء المُختلفة في التفسير. لقد صار العالِم القديم قادِرًا بحُكم منهجه التلفيقي على القول بأنَّ منطوق الآية أو الآيات يَحتمِل المعاني المُختلفة التي ورَدَت فيها على ألسنة أسلافه. وما دام منهج التلفيق قد وصَل إلى افتراض إمكانية نزول الآية أو السورة مرتَين فلماذا لا يكون كل نزول منها مُرتبطًا بمعنى محدَّد؛ بحيث يكون تعدُّد المعاني مرهونًا بتعدُّد مرات النزول، لا صفةً في جدلية علاقة القارئ مع النص، أو في تفاعُل النص مع الواقع والثقافة. لم يكن التسليم بتعدُّد المعنى في النصوص نابعًا إذن من التسليم بخصوبتها وحيويتها، ولكنه كان أيضًا محاولة تلفيقية بين الاجتهادات المختلفة والمتنوعة التي ورَدَت عن الصحابة أو التابعين إزاء نص بعينه. هذا الاجتهاد والتنوع قد يكون نابعًا من «احتمالية» الألفاظ، وقد يكون نابعًا من تعدد النزول.
وإذا كانت ظاهرة «الاشتراك» اللغوي أو الألفاظ «المُحتملة» و«المتواطئة» ظواهر لا توجد في التركيب؛ إذ التركيب اللغوي بكل علاقاته، من علاقات تجاور وعلاقات استبدال يُزيل هذا الغموض ويُحدِّد الدلالة، فإن منظور علماء القرآن يَنتهي — بناءً على افتراضات الاشتراك والاحتمال — إلى صحة كل المعاني التي قالها السلف؛ وذلك تجنُّبًا لأيِّ نقد حقيقي لرأي قديم. ومن شأن هذه الافتراضات وما يُصاحبها من افتراض تعدُّد مرات النزول أن يَقضي على مفهوم النص ذاته؛ وذلك بالقضاء على جذوره الدلالية الناتجة من علاقته بالواقع وجدله مع الثقافة.
ولقد كان الخلاف في الروايات التي ورَدَت حول سورتي «الفاتحة» و«الإخلاص»، وهل هما مكيتان أم مدنيتان، ومحاولة العلماء المتأخِّرين الجمع بين كل الروايات، وراء هذا الإصرار على أن كلتا السورتَين نزَلَت مرتَين: مرةً في مكة ومرة في المدينة. هذا رغم أن سورة «الفاتحة» جزء أصيل من شعيرة الصلاة التي لا تتمُّ إلا بقراءتها، والمعلوم المشهور أنَّ الصلاة فُرضت في نهاية المرحلة المكية، ليلة المعراج بلا خلاف وإن كانت السيرة ترى أنها فُرضت قبل ذلك.
وسواء كان فرض الصلاة قبل المعراج أم بعدَه فلا بدَّ أن تكون سورة الفاتحة قد نزلت قبل ذلك، ولا بد من ثمَّ أن تكون مكية. ورغم أن كلًّا من السيوطي والزركشي في «المكي والمدني» يُقرُّ أنها سورة مكية، فإنهما في «أسباب النزول» يُقرِّران أنها من السور التي نزلت مرتين. والسبب وراء هذا التضارب في أقوالهما أن المُفسِّرين ذهبوا إلى أن معنى «المغضوب عليهم» و«الضالين» اليهود والنصارى. وقد تحوَّل هذا التفسير، أو بالأحرى التأويل، إلى أن يكون منطوقًا للنص عند المتأخِّرين من العلماء، ومن هنا نشأ أصل القول بأن السورة مدنية ما دامت تتضمَّن إشارة إلى اليهود النصارى؛ أي إلى أهل الكتاب. من هنا نشأ التعارُض بين هذا الفهم الذي يضعها في دائرة «المدني» وبين الروايات والحقائق التي تُؤكد أنها من القرآن «المكي». وبسبب عجز العالِم المُتأخِّر عن اتخاذ موقف نقدي لجأ إلى التلفيق بين الأمرَين بالقول إنها نزلت مرتين.
إنَّ افتراض تكرُّر نزول السور والآيات لم يقف عند حدود تقبُّل الآراء كلها والتلفيق بينها سواء في مجال التفسير أم في مجال «المكي والمدني» و«أسباب النزول»، بل اعتُبرت الأحرف السبعة التي ورَد أن القرآن نزل بها تنزيلات مختلفة لنفس النص، بحيث ينزل كل مرة على حرف من هذه الحروف، وبذلك يكون النص نزل سبع مرات، وبذلك تُفسَّر ظاهرة الأحرف السبعة بتكرر النزول أيضًا:
وإذا كانت قضية «الأحرف السبعة» ذاتها إذا فُسرت في سياق جدلية النص مع الواقع من جهة، وعلى ضوء شفاهية تلقِّي النص وشفاهية أدائه من جهة أخرى يمكن أن تُؤكِّد استجابة الوحي للواقع فإن طرح السخاوي لها من خلال هذا المنظور يُساهم في إلقاء مزيد من الغموض على ظاهرة «أسباب النزول» و«المكي والمدني» ناهيك عن القَضاء على مفهوم النص ذاته. لقد كانت الأحرف السبعة في حقيقتِها نوعًا من التسهيل على المسلمين في قراءة النص مُراعاة لواقع التعدُّد اللغوي في الجزيرة العربية، لتعدُّد لهجات القبائل المختلفة.
(٥) الفصل بين النص والحكم
لا شك أن علاقة التلازُم بين المنطوق اللغوي للنص وبين دلالته أمر بديهي. وهو ما أشار إليه ابن خلدون وهو يُفرِّق بين حالتي الوحي بالقول إن:
لكن علماء القرآن أحيانًا ما يُلغون علاقة التلازم والتزامن الضرورية هذه بين النص والدلالة؛ وذلك بافتراضهم إمكانية أن يَسبق النصُّ الحكمَ، بمعنى أن ينزل النص أولًا في المرحلة المكية ثم يتقرَّر حكمه الشرعي أو الفقهي بعد ذلك في المرحلة المدنية. وكان من الطبيعي أن يفترضوا أيضًا — بحكم علاقة التلازم المنطقي — إمكانية أن ينزل الحكم أولًا في المرحلة المكية، ثم يَرِد النص الدالُّ عليه بعد ذلك في المرحلة المدنية. ويؤدي الافتراض الأول إلى وجود نصوص معطلة عن أحكامها، أي نصوص غير دالة، والنص إذا كان غير دالٍّ فقَد أهمَّ خاصية فيه بوصفه نصًّا، أو بالأحرى يتوقَّف عن أن يكون نصًّا. أما الافتراض الثاني فيُؤدي بداهة إلى إمكانية الوحي/الاتصال بدون نص، وإلا فكيف ينزل حكم بلا نص؟
وإذا كان علماء القرآن يُدركون دون شك أن «السنة» نصٌّ، فلا شكَّ أن افتراضهم تأخُّر النصوص عن أحكامها افتراض ناشئ عن تجاهلهم أحيانًا — أو تناسيهم — لنصِّ «السنة». إنَّ هذا الافتراض معناه أن تصور هؤلاء العلماء للنصِّ الديني تصوُّر يقصره على «القرآن» ويرى السنة «مذكرة تفسيرية»، وهذا تصور مخالف لتصور الفقهاء والأصوليِّين. ولذلك يستند الفقهاء في استخراج الأحكام إلى كلٍّ من القرآن والسنة، ويُعتبر الإجماع عند جميعهم نصًّا، وإن كانوا اختلفوا حول «القياس». والمقصود بذلك أنهم اعتبروا كلَّ ذلك دلالات شرعية يمكن استخراج الأحكام على أساسها. ولو تنبَّه علماء القرآن لهذا الربط بين الدلالات الشرعية لأدركوا أن افتراضهم إمكانية تأخُّر نزول النص عن الحكم مجرد افتراض ذهني يعتمد على فصلٍ بين جانبي النص الديني.
ومن تحليل الأمثلة التي يُوردها العلماء دليلًا على تأخُّر نزول النص عن حكمه يُمكن أن نكتشف طبيعة الخطأ الذي وقعوا فيه والناشئ — كما سبَقَت الإشارة — عن مُحاولتهم تقبل جميع المرويات الواردة عن القدماء دون نقدٍ أو تحليل. والمثال الأول آية التيمُّم التي ذهب البعض إلى أنها مدنية استنادًا إلى سبب النزول، وهذا يتعارَض بالقطع مع حقيقة أن الصلاة فُرِضت في مكة. والآية هي قوله تعالى:
ویُروی سبب نزول الآية على الوجه التالي:
ليسَت نصًّا في فرض صلاة الجمعة، بل هي نصٌّ في «وجوب» ترك البيع، وبناء النص نفسه يدلُّ على ذلك. وعلى ذلك فلا معنى لمُحاولة التوفيق بين كون الآية مدنية وكون الصلاة فُرضت في مكة. وكذلك يُمكن أن يُقال عن آية الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ … الآية، فهذه الآية نزَلَت بعد فرض الزكاة، فهي ليسَت نصًّا في الزكاة، وإنما هي نصٌّ في مصارف الزكاة وفي تحديد وجوه توزيعها والمستحقين لها.
وإذا كان افتراض تأخُّر نزول النص عن الحكم افتراضًا وهميًّا ناتجًا عن قصور في مفهوم النص الديني من جهة، وعن عجز في التحليل اللُّغوي للنصوص من جهة أخرى، فإن افتراض تأخُّر الحكم عن النص، أو بكلمات أخرى تقدُّم النص زمانيًّا على حكمه ودلالته نابع هو الآخر من مجموعة من الأخطاء نُوردها على النحو التالي:
-
(١)
عدم التفرقة بين الدلالة اللغوية والدلالة الشرعية في النصوص، وذلك رغم إدراك العلماء نظريًّا لعملية التطوير الدلالي التي أضفاها النص على كثير من ألفاظ اللغة خاصة في مجال الأحكام الشرعية والعبادات. من ذلك مثلًا تصوُّرهم أن قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى٣٢ نصٌّ في الزكاة رغم أنها آية مكية:«ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة ولا صوم، وأجاب البغوي بأنه يجوز أن يكون النزول سابقًا على الحكم.»٣٣
والآية في الحقيقة لا علاقة لها بالزكاة بالمعنى الفقهي الشرعي، بل التزكي هنا مقصود معناه اللغوي، وهو معنى مستخدم بكثرة في القرآن. ومع ذلك فالاستخدام القرآني لنفس اللفظ في سورة تالية — من حيث ترتيب النزول — يجعل التزكِّي بإتيان المال؛ وذلك في قوله تعالى:
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى.٣٤ولو كان المقصود الزكاة الشرعية لكان ذكر المال نوعًا من الإطناب المرذول الذي يتنزَّه عنه النص. وقد كان من نتيجة هذا الخلط بين الدلالات اللغوية والدلالات الشرعية للألفاظ أن ذهَب بعض العلماء إلى ورُود بعض الأحكام الشرعية الفقهية في السور المكية، وهو رأي نابع من ذلك الخلط الذي أشرنا إليه. يقول ابن الحصار:
«قد ذكَر الله الزكاة في السور المكيات كثيرًا تصريحًا وتعريضًا بأنَّ الله سيُنجز وعده لرسوله ويُقيم دينه ويُظهِره حتى يَفرض الصلاة والزكاة وسائر الشرائع ولم تُؤخذ الزكاة إلا بالمدينة بلا خلاف. وأورد من ذلك قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، وقوله في سورة المزمل: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، ومن ذلك قوله فيها وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، ومن ذلك قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا فقد قالت عائشة وابن عمر وعكرمة وجماعة أنها نزلت في المؤذِّنين، والآية مكية ولم يُشرع الأذان إلا بالمدينة.»٣٥ويُهمُّنا في هذا الرأي الوقوف عند النصوص التي استشهد بها صاحبه للدلالة على ورود بعض الإشارات — ولو من باب التعريض — للأحكام المدنية. وأهم هذه النصوص ما ورَد في سورة المزمل مِن قوله تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.٣٦ومن السهل أن نحدد أن هذه الآية «مدنية» وليست مكية استنادًا إلى طولها البالغ إذا قورن بقِصَر الآيات الأخرى في السورة ذاتها. إنَّ السورة كلها عشرون آية، تتكوَّن الآية الواحدة من بضع كلمات، ولا تزيد إن طالت عن ستِّ كلمات، بينا هذه الآية وحدها تكاد أن تبلغ أكثر من ثلث حجم السورة كلها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالسورة كلها — باستثناء هذه الآية — فيها حرص على الفاصلة وهي اللام الممدودة التي تتحول إلى ميم ممدودة في الآيتين الثانية عشرة والثالثة عشرة، وتصبح باء ممدودة في الآية السابعة عشرة. وهذه دلائل من النص تفصل بين هذه الآية الأخيرة وبين باقي آيات السورة. وعلى ذلك لا يصحُّ إصرار السيوطي على أن الآية مكية مثل بقية السورة استنادًا إلى رواية عائشة أن نهاية السورة «نزل بعد نزول صدر السورة بسنة؛ وذلك حين فُرِض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس.»٣٧ومن أمثلة الخلط بين مستوى الدلالة اللغوية ومستوى الدلالة الشرعية للنصوص فَهمُ قولِه تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ — وهو نص مكي — على أنه إشارة إلى الحج ويكون معنى «حلٌّ» على هذا التأويل الإحلال المقابل للإحرام. والواقع أن معنى «حل» هنا «مُقيم» والقسَم إنما هو قسَم بمكَّة حيث يُقيم النبي. -
(٢)
المصدر الثاني لأخطاء العلماء والذي أدَّى إلى افتراضهم تأخُّر الحكم عن نزول النص أن يردَ تفسيرٌ معيَّن للنص في رواية لا يستطيع العالم أن يردَّها لأنها منسوبة إلى صحابي أو تابعي، وتكون دلالة هذا التأويل أنَّ الآية «مدنية» فلا يجد العالم من حلٍّ لهذا التعارُض سوى التوفيق بافتراض تأخُّر النص عن الحكم. ويمكن إدراج آية لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ضمن هذا الإطار. ويُمكِن أيضًا أن نشير إلى ما ورد في قول ابن الحصار روايةً عن عائشة أن قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا نزلت في المؤذِّنين رغم أن الآية مكية. لكن المثال الأوضح هو ما يرويه السيوطي عن ابن مسعود تفسيرًا لآية مكية هي قوله تعالى: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ.أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ قال: السيف، والآية مكية مُتقدِّمة على فرض القتال. ويُؤيد تفسير ابن مسعود ما أخرجه الشيخان من حديثه أيضًا قال: دخل النبي ﷺ مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا فجعل يَطعنها بعود كان في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا. وما يُبدئ الباطل وما يُعيد.٣٨
-
(٣)
المصدر الثالث والأخير هو الخلط بين «مناسبة» النزول وبين سياق آخر يُعاد فيه الاستشهاد بالنص مرة أخرى، فيظن الراوي أن النص نزل سابقًا على سببه، ويأتي العالم في مرحلة أخرى فيرى إمكانية تقدُّم نزول النص على حُكمِه ومُناسبتِه. مثال ذلك ما يرويه السيوطي أيضًا أن عمر بن الخطاب حين نزَل قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قال:«أيُّ جمع؟ فلمَّا كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرتُ إلى رسول الله ﷺ في آثارهم مُصلتًا بالسيف يقول: سيُهزم الجمع ويولون الدبر، فكانت ليوم بدر.»٣٩
ولكن سياق الآية في سورتها يكشف أنها تتضمَّن مقارنة بين آل فرعون وبين مشركي مكة، وهي مقارنة يمكن تلمُّسها من انتقال النص من قصة آل فرعون إلى تهديد أهل مكة:
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ * أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ.٤٠وهو انتقال يَنكشف من خلال «الالتفاف» المتكرِّر من الغيبة إلى خطاب المؤمنين إلى خطاب الكفار، ثم إلى الغيبة مرةً أخرى في حركة سريعة. وبالإضافة إلى ذلك فإن التوعُّد بصيغة الاستقبال «السين»، ثم الإضراب باستخدام «بل»، والحديث عن الساعة يكشف عن سياق النص أو مناسبة النزول. إنَّ النص يساهم في الصراع المُستَعِر بين المؤمنين والكفار، وهو صراع كانت الغلبة فيه للكفار في المرحلة المكية، ولذلك نجد النص يتوعَّد. وهذا هو حكم النص الذي نزل مُتزامنًا معه إن أردنا استخدام مُصطَلحات القدماء.
قد نقول إن هذا «الوعيد» قد تحوَّل في سياق حركة الواقع — ومع إعادة قراءة النص والاستشهاد به في سياق جديد — إلى نوع من البشارة. لكن هذا التحوُّل نوع من تطوير دلالة النص باتِّساع أفق القراءة، وليس ذلك إلا أثر تطور حركة الواقع في قراءة النصوص وفي إعادة تأويلها. إن تطور وعي الجماعة يجعل من النصوص إمكانية مفتوحة دائمًا للتعبير عن وقائع جديدة. من هنا تصح إعادة قراءة النصوص المكية في ضوء المرحلة المدنية.
ولقد تنبَّه العلماء إلى أنَّ الفصل بين المكي والمدني ليس دائمًا فصلًا حاسمًا، فمِن النصوص المدنية نصوص تحمل خصائص النصوص المكية، وكذلك من النصوص المكية نصوص تحمل خصائص النصوص المدنية. إن التحوُّل من مرحلة إلى أخرى — على مستوى الواقع وعلى مُستوى النَّص — لا يتم عبر طفرة، بل هو تحول تدريجي. لذلك قد نجد في النصوص المكية ما يمكن أن يكون دالًّا على تطوُّر لاحق في المرحلة المدنية. وفي هذا الصدد يشير العلماء إلى قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ٤١ وهي آية مكية باتِّفاق، لكنها تتضمَّن من الألفاظ ما صار ذا دلالة شرعية في المرحلة المدنية مثل «كبائر الإثم» التي تعني كل ذنب عاقبتُه النار، ومثل «الفواحش» التي تعني كل ذنب فيه حدٌّ، و«اللمم» وهو ما بين الحدَّين من الذنوب.٤٢ لكن هذه الدلالات الجديدة لم يكن يُمكن اكتشافها في النَّص إلا من خلال النص ذاته في تفاعُله مع حركة الواقع حيث يُطوِّر النص اللغة لكي تلائم هذه الحركة. هذا بالإضافة إلى أن اكتشافها من النص لا يتمُّ إلا من خلال القارئ والمُفسر، أي من خلال جدل العقل الإنساني مع النص. إنَّ جدل العقل الإنساني مع النص وما يُؤدي إليه من اكتشاف دلالات جديدة في النصوص القديمة عملية لا تتمُّ بمعزل عن دراسة سياق النصوص، وهو السياق الذي يُمكن أن نجده في «أسباب النزول»، موضوع الفصل التالي.
Al-Ghazali’s Theory of Interpretation.
وفي ظلِّ هذا الاتجاه صُنِّفَت الاتجاهات الأخرى في الفكر الديني كالمعتزلة والشيعة والفلاسفة بوصفها اتجاهات «مُنحرِفة». ولم يبقَ سوى ما أُطلق عليه «مذهب أهل السنة والجماعة»، وكانت هذه — فيما نَدري — أول صياغة لصكِّ البراءة والطهارة — صفة السُّني — لاتجاه واحد من اتجاهات تُراثنا الفِكري. وما زال هذا الصك يُمارس فعالياته الأيديولوجية حتى اليوم، فعندنا «أئمَّة أهل السنة» و«علماء أهل السنة» و«جمعية أنصار السنة» بحيث صار مفهوم «السنة» اليوم مفهومًا أيديولوجيًّا، لا مُصطلحًا علميًّا.