أنصاف المواصلات!

كانت المُحاضرة التي استمع إليها الشياطين في اليوم التالي من أصعب المُحاضَرات التي سمعوها في المقر السري … كانت تتعلَّق بالتكنولوجيا الحديثة جدًّا في العالم.

قال المحاضر وهو دكتور في العلوم: إن العالم الآن يَعيش في ثورة التكنولوجيا، وجزء من هذه الثورة ما يعرفه الناس باسم الترانزستور والدوائر المتكاملة وأنصاف المواصلات … إن كل الأجهزة الإلكترونية مثل الآلات الحاسبة وأجهزة اللاسلكي والعقول الإلكترونية تَعتمِد اعتمادًا كاملًا على هذه الخلايا الدقيقة في عملها، إنَّ هذه الخلايا رقائق دقيقة جدًّا لا تُرى أحيانًا إلا تحت الميكروسكوب؛ لهذا تُسمَّى الأجهزة أو الخلايا الميكروسكوبية، وبهذه الخلايا الدقيقة جدًّا أمكن صناعة عقول إلكترونية تستطيع تخزين ملايين المعلومات في حيز صغير جدًّا … وهذه العقول الإلكترونية هي التي تُدير كل الصناعات الهامة في العالم الآن، بدءًا من صناعة الأقمار الصناعية إلى القطارات والسيارات والدراجات … وتُسيطر على جميع أجهزة الاتصال السِّلكية واللاسلكية، بل إنها قلب جميع الحاسبات الآلية التي تسيطر على حركة العمال في البنوك، وأيضًا انتقال المعلومات في أجهزة الدولة بما في ذلك الجيوش، والغواصات والطائرات وغيرها.

وسكَت المُحاضر لحظات ثم مضى يقول: ببساطة يُمكن أن نقول إن هذه الخلايا الميكروسكوبية هي عماد الحياة الصناعية في العالم كله سواء في المصانع أو البيوت … فإذا كُنا قد وصلنا إلى تبسيط هذه المعلومات لكم فإني على استعداد لسَماع أي سؤال منكم …

لكن لم يسأل أحد، فشكرَهم المحاضر ثم اختفى، وسمعوا صوت أقدام رقم «صفر» وهو يعود إلى مكانه في البرج الزجاجي المعتم، وقال رقم «صفر»: بعد هذه المحاضرة القصيرة أريد أن أقول لكم: إن أمريكا قد توصَّلت إلى نوع من القنابل النووية التي تستطيع تحويل الخلايا الميكروسكوبية إلى معدن منصهر في ثوانٍ قليلة … وهذا يعني أنه يمكن إحداث شللٍ للحياة بالكامل في مدينة ضخمة بقنبلة واحدة … وقد استطاع الاتحاد السوفيتي أيضًا أن يصل إلى نفس السلاح … بل إنَّ الخبراء يقولون إنه إذا تمَّ تفجير هذه القنبلة على ارتفاع ١٠٠ كيلو متر، فإن تأثيرها على الخلايا يصل إلى ٣٠٠٠ كيلو متر؛ أي يغطي مساحة أوروبا كلها … وبمعنى آخر: إن قنبلة واحدة من هذا النوع يُمكِن أن تُصيب الحياة في أوروبا كلها بالشلل التام.

وتنهَّد رقم «صفر» وقال: إن الإنسان ابتكر من التكنولوجيا ما يجعلها حياة سهلة وممتعة … وابتكر أيضًا ما يُدمر هذه الحياة.

وهمس «أحمد» في أذن «عثمان»: لا أظن أن رقم «صفر» يُريدنا أن نحارب أمريكا أو الاتحاد السوفيتي.

عاد رقم «صفر» لحديثه قائلًا: والمُشكلة التي تُواجهنا الآن … أن «المخ» — وهو الرجل الذي يقود عمليات الإجرام العالمية — قد دخل معركة إنتاج سلاح نووي صغير يُمكن أن يُؤدي مهمة القنبلة الذرية، ولكن على نطاق محدود … ولكي أوضح لكم خطورة هذا السلاح بالضبط … فذلك يمكن تبسيطه إذا تصورتم أن هذا السلاح لو اتجه نحو أحد البنوك فإنه يشلُّ جميع الأجهزة التي فيه … من أجهزة إنذار وتحكم، وإغلاق الخزائن، وغيرها، في ثوانٍ قليلة، بحيث يُمكن سرقة هذا البنك في دقائق دون الحاجة إلى استعمال أيِّ عنفٍ قبل أن يصلَ إليه رجال الشرطة.

ارتفعت همسات الشياطين اﻟ «١٣» فقال رقم «صفر»: لقد كانت العصابات في الماضي تلجأ إلى الرشاشات والقنابل والمتفجرات في اقتحام البنوك ونسف خزائنها … أما الآن فمِن المُمكن بجهاز صغير لا يَزيد حجمه عن حقيبة صغيرة أن يهاجم رجلان بنكًا، بل مدينة صغيرة ببساطة شديدة … وأعتقد أننا يجب أن ندخل الصراع ضد مؤسسات الإجرام الضخمة بكلِّ قوتنا، وإذا كانت مهمَّتنا عادة أن نتدخل إذا كان الصراع عربيًّا، لكننا يجب أن نتدخل هذه المرة لسببَين … أولًا؛ لأن شحنة الكعكة الصفراء يبدو أنها تتَّجه إلى الشرق الأوسط، وهو مجال نشاطنا. وثانيًا؛ لأن عملنا هو تحقيق العدالة ومحاربة الإجرام حيث يكون.

توقف رقم «صفر» قليلًا، بينما كانت هناك لمبة حمراء تُضاء في المكان. قال على إثرها: لحظة واحدة. اختفى رقم «صفر» شيئًا فشيئًا حتى تلاشت خطواته …

كان الشياطين اﻟ «١٣» في حالة صمت كاملة … إن مشكلة الكعكة الصفراء جعلتهم يستغرقون في التفكير، خصوصًا وأنها في طريقها إلى منطقة الشرق الأوسط.

قالت «إلهام» بعد لحظة: إن الكعكة الصفراء سوف تكون طعامنا في حفلة «المخ».

ابتسم الشياطين، وهم يعرفون أن «إلهام» تُريد فقط تخفيف اللحظة الصامتة.

ومن جديد، بدءوا يستمعون إلى خطوات رقم «صفر» وهي تقترب، فتعلقت أعينهم بالحجرة الزجاجية المُعتمة.

ثم توقَّف رقم «صفر» وهو يقول: لقد وصلتنا معلومات جديدة من عميلنا في باريس أن العملية موجَّهة لبنك فرنسا المركزي، ومعروف أنه يتمتع بحراسات إلكترونية شديدة؛ فهو يضم رصيد فرنسا من الذهب، والكعكة الصفراء، سوف تُصنع في إحدى دول الشرق الأوسط، ثم تعود مرة أخرى إلى فرنسا لاستخدامها … إنَّ خطتنا هي أن نتخلَّص منها، أما إذا استطعتم أن تحصلوا على الكعكة … فسوف تكونوا قد فعلتم شيئًا عظيمًا.

سكت رقم «صفر» لحظة، ثم أضاف: إنَّ عصابة «المخ» تبحث عن شركة تقوم بنقل اليورانيوم، وهذه فرصتكم … وقد رتبت كل شيء، لتتحرك الناقلة من ميناء شيربورج الفرنسي إلى المحيط الأطلنطي، ثم تمر في مضيق جبل طارق إلى البحر المتوسط حيث تأخذ طريقها إلى الدولة المعينة. إنَّ المفروض أن تنقلها من داخل فرنسا إلى أحد مواني البحر المتوسط مباشرة، مثل مرسيليا مثلًا، لكنها تخشى أن تنكشف … وخطة نقلها من ميناء شيربورج إلى المحيط ثم المتوسط، هي خطة ذكية فعلًا … إنكم تعرفون أن ميناء شيربورج يقع في أقصى الشمال الفرنسي …

ثم ظهرت خريطة مُضاءة لفرنسا … ومن مياه الأطلنطي خرجت أسهُم حمراء تُشير إلى ميناء شيربورج في الشمال، ثم تحرَّكت الأسهم، كما قال رقم «صفر» لتقطع المحيط الأطلنطي، ثم تمر من خلال مضيق جبل طارق، ثم البحر المتوسط، لتقف في عرض البحر.

كان الشياطين يتابعون الخريطة وحركة الأسهُم بينما قال رقم «صفر»: إنَّ خطتكم أن تكون لكم شركة نقل بحرية في باريس، ولها فرع في شيربورج … وعن هذا الطريق سوف تكون الحمولة القاتلة في أيديكم … بعدها، يُمكن أن تتصرَّفوا.

تنهَّد ثم قال: إنني في انتظار أسئلتكم. كان الصمت يملأ قاعة الاجتماعات. وكانت الخريطة لا تزال مُضاءة، وأعيُن الشياطين فوقها … لحظة، ثم بدأت الأسهم تختفي، ثم أُطفئت الخريطة … لم يكن أحد من الشياطين يُفكِّر في شيء، إلا أن ينطلقوا الآن … في النهاية قال: أتمنى لكم التوفيق.

ابتعدت خطوات رقم «صفر» قليلًا قليلًا حتى اختفت تمامًا … وأُضيئت القاعة … التقت أعين الشياطين، وكأنها تتفق على شيء ما. وفي هدوءٍ بدءوا يأخذون طريقهم إلى الخارج، وكان من الطبيعي أن ينتقلوا إلى القاعة الصُّغرى، حتى يُحدِّدوا الخطوط الأخيرة للمغامرة … وعندما ضمتهم القاعة قال «عثمان»: يجب أن نتحرَّك بسرعة، فالعمل أمامنا كثير.

قالت «ريما»: إن العمل يحتاج إلى مجموعتَين؛ واحدة في باريس، والأخرى في ميناء شيربورج.

خالد: أعتقد أننا نحتاج إلى مجموعة واحدة كبيرة … ثم نظر إلى «أحمد»، وأكمل حديثه: من المهم أن تعمل المجموعة على الناقلة التي تنقل الشحنة.

قال «أحمد» في هدوء: بالتأكيد.

خالد: إذن، فلتكن المجموعة ثمانية فعلًا.

لم يرد «أحمد» فقد كان مستغرقًا في التفكير … غير أن لمبة زرقاء لمعت فوق باب القاعة الصغرى، فعرف «أحمد» منها أن هناك تعليمات من رقم «صفر» … انتظروا قليلًا، حتى أُضيئت شاشة الفيديو، وبدأت تظهر التعليمات: على الشياطين أن يرحلوا بسرعة تحتاج العملية إلى خمسة فقط، على أن يكون الباقي على استعداد … ساعة الرحيل ١٣.

نظر «أحمد» في ساعته. كانت تشير إلى الثانية عشرة والنصف، اختفت في نفس الوقت تعليمات رقم «صفر» من فوق شاشة الجهاز، ظلَّ «أحمد» صامتًا … إن هناك نصف ساعة فقط، حتى يَنطلِق أفراد المجموعة … طالت اللحظة، حتى إن «قيس» بدأ الحديث، لكنه ما كاد يفتح فمه، حتى أُضيئت شاشة الفيديو، فعرفوا أن رقم «صفر» لديه تعليمات أخرى.

صمت «قيس»، وبدأت تظهر أسماء على الشاشة، تَتبَّعوها في انفعالٍ. كانت الأسماء «أحمد». «إلهام». «قيس». «خالد» «باسم».

مرَّت نصف دقيقة … ثم اختفت الأسماء، ودون كلمة، تحرَّك الشياطين جميعًا، أخذوا طريقهم إلى حُجْراتهم، كان الخمسة الذين سيخرجون في المغامرة، أسرع حركة؛ ففي دقائق كانت حقائبهم السرية قد أُعدَّت.

ابتسم «أحمد» وهو يأخذ طريقه إلى حيث تقف السيارات … وكانت ابتسامته لشيء واحد فقط … وهو اختيار «إلهام» كعضو في المجموعة، إنه يَعرف لماذا فكَّر رقم «صفر» بهذه الطريقة … إن الشركة تحتاج إلى سكرتيرة، كنوعٍ من الشكل العام.

في أقل من ربع ساعة، كان الشياطين الخمسة قد التقوا حيث تقف السيارات … التقت أعينهم في ابتسامة. وعندما كانت الساعة تعلن الساعة ١٣، كانت أبواب المقر السري السرية الصخرية تُفتح، لتنطلق سيارة الشياطين، إلى حيث تبدأ المغامرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤