رابعًا: القسمة الرباعية (إخوان الصفا)

ونظرًا لظهور النزعة الإنسانية وغلَبتها على النزعة الرياضية العِلمية عند إخوان الصفا قسَّموا رسائلهم قسمة رباعية. كل قسم مُزدوج الموضوع على التماثل. الأول رياضية تعليمية، والثاني طبيعية جسمانية، والثالث نفسانية عقلية، والرابع إلهية ناموسية. في الأول أصبح المنطق جزءًا من الرياضيات قبل أن يُصبحا عند الفارابي علمين مستقلين. وفي الثاني تأكد التمايز بين الطبيعة والجسم، بين جسم الكون وبدن الإنسان، العالم الأكبر والعالم الأصغر. وفي الثالث تمَّ التمايز بين النفس والعقل بعد أن كانا ضائعين مذبذبين بين الطبيعيات والإلهيات حتى ابن سينا، وفي الرابع برَز الجانب التشريعي القانوني مع الإلهيات أي العلوم الاجتماعية، الأخلاق والسياسة والتاريخ. لم تعد الإلهيات مُرتبطة بالطبيعيات كما هو الحال عند الكندي، بل بالناموسيات والشرعيات، وكما هو الحال عند الفارابي بعد ذلك. الأول لفظ واحد الرياضي يضمُّ المنطق. فالمنطق جزء من الرياضة. والثاني لفظان، طبيعيات وجسمانيات وتفرُّد جسم الإنسان في الطبيعة. والثالث نفسانيات وعقلانيات دون حرف العطف «واو» لإبراز الإنسان الحي الناطق موضوعًا مستقلًّا بين الطبيعيات والإلهيات، والرابع ناموسيات إلهية وشرعية، ثلاثة ألفاظ بعد لفظ في القسم الأول، ولفظَين في القسمَين الثاني والثالث. الناموسيات أي كل ما يتعلَّق بالقوانين، وهو الجانب الاجتماعي والسياسي، ووصفها بأنها إلهية وشرعية. والفرق بينهما ليس كبيرًا. فالإلهي يَصف الناموس وليس ما بعد الطبيعة مما يُبيِّن الجانب الاجتماعي السياسي عند الإخوان، والذي سيتحوَّل إلى العلم المدني عند الفارابي وعلم العمران عند ابن خلدون.١
ويضع الإخوان الرياضي عنوانًا للمنطق، ويَسبقه كيفًا ويَتجاوزه كمًّا مثل الفارابي ووضعه الرياضة قبل المنطق، ثم وضع علم اللسان قبل الرياضة، فاللغة أم العلوم.٢
ولا تَنفصِل هذه الأقسام الأربعة عن بعضها البعض. كل قسم يُؤدي إلى الأقسام الأخرى على المستويَين المعرفي والتاريخي. فالرياضي معرفيًّا يُحيل إلى النفسانيات والعقليات والناموسيات الإلهية والشرعية؛ أي إلى أدنى ثم إلى أعلى. كما يُحيل إلى الجسمانيات الطبيعيات والناموسية الإلهية والشرعية، أي إلى أدنى وأعلى. ويُحيل الرياضي تاريخيًّا إلى النفسانيات العقليات وإلى الطبيعيات والجسمانيات وإلى الناموسيات الإلهية والشرعية. وتُحيل الطبيعيات والجسمانيات إلى النفسانيات العقليات وإلى الرياضي وإلى الناموسيات الإلهية والشرعية. وتُحيل النفسانيات العقليات إلى الطبيعيات والجسمانيات، وإلى الرياضي وإلى الناموسيات الإلهية والشَّرعية. وتُحيل الناموسيات الإلهية والشرعية إلى الرياضي وإلى النفسانيات العقليات وإلى الطبيعيات والجسمانيات. فقد كتبت الرسائل كلها في وقتٍ واحد، يُحيل بعضها إلى بعض في رؤية كلية واحدة.٣ ويبدو أنَّ القسم الرابع هو مصبُّ الأقسام كلها، وهي الإلهيات سواء كانت ما بعد الطبيعة أو العلوم الشرعية. ويَبدو أن هناك دورة من الرياضي إلى الجسماني الطبيعي نزولًا، ثم من الجسماني في الطبيعي إلى العقلي النفسي صعودًا، ثم من العقلي النفسي إلى الناموس الإلهي والشرعي صعودًا.

والقسمة الرباعية مُتكرِّرة في كثير من تقسيمات إخوان الصفا، الطبائع والأركان والأخلاط والأزمان والجهات والرياح والأوتاد والمكوِّنات والرياضيات، والحساب والهندسة والفلك والموسيقى.

وأحيانًا تكون القسمة الرباعية رياضيات ومنطقيات وطبيعيات وإلهيات تمايُزًا بين الرياضيات والمنطق، وجمعًا بين الطبيعيات والإلهيات. ويترتَّب هذا الرباعي أيضًا بين الأعلى والأدنى، خاصة وأنها قسمة ثنائية؛ رياضيات ومنطقيات، وطبيعيات وإلهيات. فإذا ضُمَّت الرياضيات والمنطقيات إلى النفسانيات تظهر البِنية الثلاثية للحكمة، المَنطق والطبيعيات والإلهيات أي الإنسان بين عالَمين؛ الطبيعة والله. وكل قطب يُحيل إلى الآخر، من الإنسان إلى الطبيعة، ومِن الطبيعة إلى الإنسان، تقابلًا بين العالَمين الأصغر والأكبر، ومن الإنسان إلى الله ومن الله إلى الإنسان كشفًا للبُعد المفارق للإنسان، ضمًّا للطبيعيات والإلهيات في علم واحد.٤
بل إنَّ معظم الرسائل يُمكن إدراجها في هذه الأقطاب الثلاثة. تُحيل كل رسالة من قطب إلى قطب بحيث تكون النفس مركز الحركة والاتجاهات، من الرياضة والمنطق إلى النفس، ومن الطبيعيات والجسمانيات إلى النفس ومن النفس إلى الله.٥ هناك حركة مُستمرة من الأقسام الأربعة وإليها رفعًا وخفضًا، صعودًا وهبوطًا، تأويلًا وتنزيلًا؛ فالاتِّصال بين مراتب الوجود أكثر من الانفصال.٦ لذلك قد تتشابَه بعض الرسائل في الأقسام الأربعة؛ مثل الثامنة في الطبيعيات، والتاسعة في الرياضيات.٧ والسادسة في الرياضيات، والثانية في الطبيعيات، والثانية عشرة في الطبيعيات، والثالثة في النفسانيات العقليات.٨
وتتفاوَت الأقسام الأربعة كمًّا؛ فأكبرها من حيث عدد الرسائل الجسمانيات والطبيعيات، ثم الرياضي ثم الناموسيات الإلهية والشَّرعية، وأصغرها النفسانيات العقليات.٩ أما من حيث عدد الصفحات فأكبرها الجسمانيات والطبيعيات، ثم الناموسيات الإلهية والشرعية، ممَّا يَكشف عن صغر عدد الرسائل وكبر حجمها، ثم الرياضي، وأصغرها النفسانيات العقليات، الخلاف في عدد الرسائل والصفحات بين القسمَين الأول والرابع من حيث عدد الرسائل؛ الرياضي، ثم الناموسيات الإلهية والشرعية، ومن حيث عدد الصفحات؛ الناموسية الإلهية والشرعية ثم الرياضي.

ومصادرها أربعة: الأول الكتب المُصنَّفة على ألسنة الحكماء من الرياضيات والطبيعيات، مع أنها شاملة أيضًا على الإلهيات، وكأنَّ الإلهيات قاصرة على الكتب المنزَّلة. المصدر الثاني: والثاني الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والقرآن، نظرًا لوحدة الوحي دون التعرُّض لقضية التحريف، فالإشراق دين واحد، وحقيقة واحدة مُستقلَّة عن الصحة التاريخية للنصوص، على عكس الفقهاء مثل الغزالي وابن حزم وابن تيمية. والثالث: الكتب الطبيعية عن الكواكب والأفلاك والبروج والحيوانات والنبات والمعادن الظاهرة، والتي في حاجةٍ إلى تأويل، وهو تكرار للمصدر الأول، طبيعيات الحكماء، ويعني العلم في عصره، ويدل على سيادة الطبيعيات، وهو ما يؤكده حجم الجسمانيات والطبيعيات سواء من حيث عدد الرسائل أو عدد الصفحات، والرابع الكتب الإلهية التي لا يمسُّها إلا المطهرون الملائكة وجواهر النفوس، وما تحتويه من حسابٍ وعقاب وجنة ونار وبرزخ وأعراف وحسٍّ وعقل، تكرار للمصدر الثاني، أو هي الكتب السرية الأخرى الشرقية أو كتب الإشراق.

ويضمُّ القسم الأول — وهو أربع عشرة رسالة — الرياضي والمنطق، ومن ثَمَّ دخول المنطق كحالة للرياضة كما هو الحال في المنطق الرمزي الحديث. ولا يَتجاوَز المنطق خمس رسائل من أربع عشرة رسالة؛ أي أقل من الثلث، مع إضافة المدخل للأجزاء الأربعة لمنطق اليقين، المقولات والعبارة والقياس والبرهان، وحذف منطق الظن الجدل والسفسطة والخطابة والشعر.١٠ ومن حيث طول الرسائل أطوَلُها التاسعة عن الأخلاق والدين، وأصغرها العبارة ثم الموسيقى ثم الفلك ثم الهندسة، ثم العدد ثم الجغرافيا ثم البرهان، ثم الصنائع العِلمية ثم الصنائع العِلمية ثم النِّسبية، ثم إيساغوجي ثم المقولات، ثم القياس ثم العبارة.
وتستعمل الألفاظ مُعربةً وأحيانًا منقولة، مما يدلُّ على عدم استقرار الوافد داخل الموروث، أو استعمال الاثنين بدايةً باللفظ المنقول ثم المعرب، أو بداية بالمعرب دون المنقول، مع التأكيد على أن المقصود بيان المعاني، وليس شرح نصوص الوافد.١١ ولا يُوجد ابتكار في المنطق، مجرَّد نقل من المنطق الوافد، وتدخل الموسيقى مع المنطق في الرياضي، وتُعتبر الجغرافيا علمًا رياضيًّا، فالغرض من الرياضة ليس العدد والحساب، بل تهذيب النفس كما هو الحال في الرسالتين السادسة والتاسعة.١٢ وواضح أنَّ النفس والأخلاق وعالم الإنسان تكون البؤرة المُشتركة للأقسام الأربعة، كما يَقترن العِلمي بالعملي في الرياضيات كما هو الحال في الرسالتَين السابعة والثامنة.١٣
والمنطق علمٌ معياري، ومشروع الحضارة الإسلامية كله هو إنزال الصوري الرياضي في النفس، ورفع الطبيعي المادي إلى الإلهي عبر النفسي، يتحوَّل الرياضي إلى شعوري، فالنسب العددية تظهر من القوة إلى الفعل، أي من النظر إلى العمل، من الرياضة إلى الطبيعة، موضوعاتها جسمانية لا مجردة، الغرض عمارة الأرض، والنسب العددية الروحانية تتحقق في صنائعٍ عملية، مهمة الرياضي إخراج العلم من القوة إلى الفعل، علمٌ أخلاقي الغاية منه إصلاح النفوس، إعداد النفس إلى المعاد، كما يتَّضح ذلك في الرسالتين السادسة والتاسعة.١٤
والقسم الثاني وهو سبع عشرة رسالة الجسمانيات والطبيعيات، ويضمُّ الجسم إلى الطبيعة؛ لأنَّ الجسم يَفنى في العالم وتفارق الروح، أكبرها الثامن عن الحيوانات وتكاد تصل إلى ثلث القسم كله، وأصغرها الثالثة في الكون والفساد، جزءًا من عشرين جزءًا من القسم كله.١٥ والرسالة الأولى عن الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان، تعادل السماع الطبيعي الذي يَتناول المفاهيم العامة للطبيعة، ومن الطبيعيات يبرز عالم الإنسان في الرسالة الثانية، الموسومة بالسماء والعالم، في إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق، وفي الرسالة عشرة «في قول الحكماء» أن الإنسان عالمٌ صغير، كما يظهر الإنسان المعروف في الرسالة الرابعة عشرة في بيان طاقة الإنسان في المعارف، وإلى أي حدٍّ هو مبلغُه من العلوم، وإلى أي حدٍّ يَنتهي وأي شرف يرتقي، وفي الرسالة السادسة عشرة «في اختلاف اللغات ورسوم الخطوط والعبارات، وكأن اللغة ظاهرة طبيعية، كما يظهر العالم الإنساني في مقابل العالم الحيواني»، نفس الرسالة الثامنة «في كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها»، نقل من المستوى الطبيعي إلى المستوى السياسي مثل «كليلة ودمنة»، كما أن الحديث عن الأنفس الجزئية في الأجساد، والفرق بين الحياة والموت، وماهية الذات إلى الرسائل الستِّ الأخيرة، كلها انتقالٌ من الطبيعة إلى الإنسان، وكان الإنسان يَبزغ في الطبيعة، أما باقي كتب الطبيعيات فإنها تُعادل طبيعات الوافد، السماع الطبيعي، والسماء والعالم، والكون والفساد، والآثار العلوية، وتكوين المعادن، وأجناس النبات، وتركيب الجسد، والحاس والمحسوس، ومسقط النطفة، وأحيانًا تبدو بعض الجدة في وصف ماهية الطبيعة وإبراز الجسد، وتُنكر بعض العناوين مثل الرسالتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة في حكمة الموت والحياة.١٦
والقسم الثالث النفسانيات العقليات عشر رسائل.١٧ أكبرها التاسعة في «العلل والمعلولات»، وأصغرها الثانية في «المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفا».١٨ وتتداخَل بعض الموضوعات مع القسمَين السابقين؛ فالرسالتان الثامنة في «كمية أجناس الحركات» والتاسعة في «العلل والمعلولات» أدخل في الجسمانيات والطبيعيات، والرسالة العاشرة في «الحدود والرسوم» أدخل في الجزء المنطقي من الرياضي، والرسالة السابعة في «البعث والقيامة» أدخل في الإلهيات، والرسالة الخامسة في «الأدوار والأكوار» أدخل في فلسفة التاريخ، وهو جزءٌ من الإلهيات أدخله حكماء الشيعة مثل أبي يعقوب السَّجستاني وغيره في القرن الرابع بعد إخوان الصفا، ويبرز الإنسان كبؤرة أولى في الرسالة الثالثة في معنى قول الحكماء إن العالم إنسان كبير «لتوحيد النفس والعقل في الإنسان»، والرسالة الأولى عن المبادئ العقلية بين الرياضيات والطبيعيات والإلهيات؛ لأن المبادئ معرفية ووجودية في آنٍ واحد.
والقسم الرابع، الناموسيات الإلهية والشرعية، وهي إحدى عشرة رسالة.١٩ ويبدو جدل السلب والإيجاب في الرسالة الأولى «اختلاف الآراء والمذاهب»، أي تفرُّق الملل من أجل إفساح المجال للإيجاب، وحدة الإشراق، أكبرها الرسالة الحادية عشرة في «ماهية السحر والعزائم والعين»، وأصغرها في «ماهية الطريق إلى الله عز وجل»، وكأنَّ السحر والعزائم والعين أهم من طريق الله.٢٠ واقترن وصف إلهي بالناموسيات — أي بالشرائع والقوانين — وليس بالكون، واستعمال اللفظ المعرب «الناموسيات» مع المنقول «الشرعي»؛ فالإلهيات هنا إنسانيَّات مقلوبة إلى أعلى؛ أي اغتراب ديني بالرغم من اقترابها أيضًا من نظرية الفيض، الله والعقل والنفس والمادة، تتداخل بعض موضوعات المعرفة مثل الرسالة الحادية عشرة «في ماهية السحر والعزائم والعين»، وبعض مسائل الإلهيات التقليدية مثل نظرية الفيض في الرسالة العاشرة «في كيفية نضد العالم بأسره»، والرسالتان في الطريق إلى الله والدعوة إليه، ورسالتان في الإخوان وأن جماعتهم هو الطريق إلى الله اعتقادًا ومعاشرة في الرسالتين الثالثة والرابعة، كما تحدثوا عن أنفسهم في الرسالة الثانية في النفسانيات، وواضح الطابع التشريعي السياسي لهذا القسم في الرسالتين السادسة والتاسعة، وأربع رسائل سؤال عن الماهية، وخمس عن الكيفية، وواحدة في بيان اعتقاد الإخوان، مما يدلُّ في نفس الوقت على الطابع الفكري الخالص للقسم الرابع، مثل السؤال عن ماهية العشق في الرسالة السادسة في القسم الثالث.

و«رسالة الجامعة» رسالة مُبتسَرة ومُفلطحة ونصية، وخالية من أي إبداعٍ جديد، ومشوِّهة للأصل، ربما قام بها تلميذٌ مبتدئ مع أن القصد منها إيضاح حقائق الرسائل، وبيان ما فيها من معانٍ مُلخصة ومستوفاة، مهذبة مُستقصاة «ببراهين هندسية يقينية ودلائل فلسفية حقيقية، وبيانات عملية، وحُجج عقلية، وقضايا منطقية، وشواهد قياسية، وطرق إقناعية، وبالرغم من هذا الإعلان فهي تخلو من الحجج العقلية الباقية في الرسائل، والاعتماد على الحُجج النَّقلية وحدها، فهي ليست تلخيصًا بل تشويهًا وتراجعًا ودخولًا في الموروث ضد العقل تملقًا للناس، واعتمادًا على سلطة النقل، لم تأتِ بجديد، مجرَّد تلخيص وتصغير للحجم، ربما لسهولة الاستعمال، إذا كان المقصود منها تجنيد العامة وإبراز أهم عناصرها، والاعتماد على سلطة النقل مباشرةً مع إسقاط أسماء الأعلام.

وهي مُقسمة إلى قسمين بلا سببٍ واضح، إلا إذا كانت قسمة الأربعة أجزاء قسمين في رسالةٍ واحدة، فنقَصَت الرسائل من اثنين وخمسين إلى أربعين رسالة، وتخلو من أيِّ تحليلٍ سياسي أو إضافة شيء جديد، وهي غير مُتنافسة من حيث الكم، نقص الجزء المنطقي؛ لأن الرياضي هو الغالب؛ ولأنَّ المنطق للخاصة، وزاد الجزء الجسماني؛ لأنَّ الغالب هو الطبيعي ولأنَّ الطبيعة للمُشاهَدة، وهو أكبر الأقسام، وزاد العقل على النفس في النفسانيات العقليات للربط بين الطبيعيات والإلهيات، وزاد الجزء الناموسي الإلهي الشرعي ربما لمُخاطبة العوام، وهو أصغر الأجزاء بالرغم من أهميته وإمكان الزيادة فيه.٢١
وتَعترف «رسالة الجامعة» صراحةً بأنها مُعارضة باطنية سرية في الداخل، وذكر الاسم صراحةً عكس الأجزاء الأربعة، والإعلان عن اسم مؤلِّفها جعفر الصادق، الذي عاش في آخر القرن الثاني وأوائل الثالث قبل الكندي، مع أنَّ مُصنَّفاته مفقودة.٢٢ وربما المقصود نسبتُها إليه إعطاء مزيد مِن السلطة الدينية والتاريخية لها، ومضمون الرسائل يُوحي بأنها بعد الكندي وقبل ابن سينا، وقبل الفترة التي كان فيها الفِكر الشيعي يُبلور الفكر الفلسفي المستقل مِن اليونان عند السجستاني والعامري، والذي استشهد البعض منهم في ثورة ٣٧١ﻫ.

وفي الرسالة السابعة من القسم الرياضي «في الصنائع العِلمية والغرض منها»، والثامنة بنفس العنوان يضع إخوان الصفا قمة شاملة للحكمة، فالصنائع تَنقسم إلى علمية وعملية، مما يُؤكِّد على وحدة النظر والعمل، الصنائع العملية هي العلوم التي تَنقسم إلى رياضية، وفي مُقابلها الشرعية الوضعية، وهو نفس التقابل بين النظر والعمل، وفي الوسط الفلسفية الحقيقية التي تَنقسِم القسمة الرباعية، إلى رياضيات ومنطقيات وطبيعيات وإلهيات، وتُسمى العلوم الشرعية الوضعية تأكيدًا على أحكام الوضع؛ أي تأسيسها في العالم وليس في الإدارة الإلهية، وتتكرَّر العلوم الرياضية، مرةً في قسم كلي بمفردها، في القسمة الثلاثية، رياضة شرع فلسفة، ومرةً كأحد أقسام العلوم الفلسفية في الرباعي الشهير الذي يَنتظِم مجموع الرسائل، وكل علم من العلوم الرياضية مزدوج في علمين: الكتابة والقراءات، اللغة والنحو … إلخ، وأحيانًا أكثر من اثنين مثل البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل. وتُستعمل الرياضيات بالمعنى الواسع، أي الأدوات، بحيث تشمل القراءة والكتابة، واللغة والنحو، والشعر والعروض، والزجر والفأل، والسحر والعزائم، والكيمياء والحِيَل، والحِرَف والصنائع، والبيع والشراء، والتجارة والحرث والنسل، والسير والأخبار، فالأقسام التسعة خارجة عن الرياضيات بالمعنى الدقيق باستثناء القسم الثالث، الحساب والمعاملات، الذي يقتصر على الحساب فقط دون الهندسة والفلك والموسيقى، ودخولها في القسم الأول من العلوم الفلسفية.

وينقسم المنطق إلى علومٍ خمسة: الشعر، والخطابة، والجدل، والبرهان، والسفسطة، والثلاثة الأخرى، المقولات، والعبارة، والتحليلات أقسام للبرهان، وهي نفس قسمة الفارابي فيما بعد المنطق إلى خماسي وثلاثي مع تغيير في القسمة، فالخماسي عند الفارابي، المقولات والعبارة، والقياس، والبرهان والجدل، فإذا غاب كانت السفسطة والخطابة والشعر.

وتضمُّ الطبيعيات علوم الطب والبيطرة وسياسة السباع والطيور، والحرث والنسل وعلوم الصنائع، مع أن الحرث والنسل قد دخَلا من قبل مع الرياضيات، مما يدلُّ على أن القسمة ما زالت غير جامعة مانعة.

وفي الإلهيات تتداخَل السياسة بأنواعها الخمسة، والمعاد وعِلم العمران خليط بين العلم الشرعي والأُخروي والمدني، وفي العلوم الشرعية الوضعية تتكرَّر الروايات والإخبار من العلوم الرياضية، وتضمُّ علوم التنزيل والتأويل والروايات والفقه والتصوف وعلم تعبير الرؤيا.٢٣
وتَنقسم الصناعات العملية إلى إلهية ونفسانية وطبيعية وبشرية، الإلهيات هي مُبدَعات الله، والنفسانية مُبدَعات نظام الكون والكواكب والأرض، والطبيعية موجودات الطبيعة من حيوانٍ ونبات ومعادن، والبشَرية المصنوعات والمنتجات، وهي قسمة أكثر تفصيلًا من الصنائع العلمية، ويستعمل لفظ المصنوعات لله وللإنسان، ويظهر نظام الكون، الكواكب والأرض، ومن المصنوعات الإنسانية مرتين، مرة نفسانية للكون، ومرة بشرية لصناعات البشر، وتغيب الرياضية والمنطقية لدخولهما في الصنائع العملية.٢٤
١  ج١، ٢١.
٢  نسبة الرسائل الرياضية للمنطقية نسبة ٥: ٩.
٤  ج١، ٤٨-٤٩ ج١، ١٣-١٤، ٤٩، ٧٨-٧٩.
٥  ج١، ٤٨-٤٩.
وهي المُثُل الثلاثة التي جعَلها كانط مثل الفعل.
٦ 
وهو نفس طريق الظاهريات في الفلسفة المعاصرة في الغرب، من الصوري إلى الشعوري، ومن المادي إلى الشعوري، ومن الشعوري (الترنسندنتالي) إلى المطلق (عالم الماهيات).
٧  ومن ثم يكون دارون أقرب إلى الإخوان من برجسون.
٨  الثامنة في الطبيعيات؛ في كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها. والتاسعة في الرياضيات؛ في بيان الأخلاق وأسباب اختلافها وأنواع عِلَلها، ونُكَتٍ من أدب الأنبياء وأخلاق الحكماء. السادسة في الرياضيات؛ في النسبة العددية والهندسة في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق. والثانية في الطبيعيات؛ السماء والعالم في إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق. الثانية عشرة في الجسمانيات الطبيعيات؛ في قول الحكماء أن الإنسان عالمٌ صغير. والثالثة في النفسانيات العقليات؛ في معنى قول الحكماء العالم إنسانٌ كبير.
٩  (أ) الرياضي (١٤ رسالة)، (٤٥٢ص).
(ب) الجسمانيات والطبيعيات (١٧ رسالة)، (٥٦٦ص).
(ﺟ) النفسانيات العقليات (١٠ رسائل)، (٢٢٣ص).
(د) الناموسيات الإلهية والشرعية (١١ رسالة)، (٥٦٦ص).
١٠  من الناحية الكمية ما زال الرياضي هو الغالب من حيث عدد الرسائل (٥)، ثم المنطق (٥)، ثم الإنسانيات (٤)، ومن حيث عدد الصفحات الرياضي هو الغالب أيضًا (١٩٤ص)، ثم الإنسانيات (١٤٨ص)، ثم المنطق في النهاية (٦٣ص)، المنطق من الرسالة العاشرة حتى الرسالة الرابعة عشرة الجغرافيا (٢٥ص)، البرهان (٢٤)، الصنائع العملية (٢٠)، الصنائع العلمية (١٨)، النسبة (١٦)، إيساغوجي (١٤)، المقولات (١٠)، القياس (٩)، العبارة (٦).
١١  (١٠) إيساغوجي. (١١) في المقولات العشر التي هي قاطيغورياس. (١٢) في معنى بارامنياس. (١٣) في معنى أنولوطيقا الأولى. (١٤) في معنى أنولوطيقا الثانية، جيو مطريا في الهندسة، الأسطرونوحيا علم النجوم.
١٢  الرسالة السادسة: في النِّسبة العددية والهندسية في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق. الرسالة التاسعة: في بيان الأخلاق وأسباب اختلافها وأنواع عللها، ونُكَت من آداب الأنبياء وزبد من أخلاق الحكماء.
١٣  الرسالة السابعة: في الصنائع العلمية والغرض منها. الرسالة الثامنة: في الصنائع العَملية والغرض منها.
١٤  الرسائل هي: (١) في العدد. (٢) الموسومة بجومطريا في الهندسة وبيان ماهيتها. (٣) الموسومة بالأسطرونوميا في علم النجوم وتركيب الأفلاك. (٤) في الجغرافيا. (٥) في الموسيقى. (٦) في النسبة العددية والهندسية في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق. (٧) في الصنائع العلمية والغرض منها. (٨) في الصنائع العملية والغرض منها. (٩) في بيان الأخلاق وأسباب اختلافها وأنواع عِلَلها ونكت من آداب الأنبياء وزبد من أخلاق الحكماء. (١٠) في إيساغوجي. (١١) في المقولات العشر التي هي قاطيغورياس. (١٢) في معنى بارامنياس وهي الرسالة الثالثة من المنطقيات. (١٣) في معنى أنولوطيقا الأولى. (١٤) في معنى أنولوطيقا الثانية.
١٥  ترتيب الرسائل من حيث الكم (أرقام الصفحات) من الكبر فالأصغر مع أرقامها كالآتي: (٨) في كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها (٢٠٠). (١٣) في علل اختلاف اللغات ورسوم الخطوط والعبارات (٩٤). (٥) في بيان تكوين المعادن (٤٥). (١١) في مسقط النطفة (٣٩). (١٦) في ماهية اللذات وفي حكمة الحياة والموت وماهيتها (٣٢). (٢) الموسومة بالسماء والعالم في إصلاح النفس تهذيب الأخلاق (٢٨). (٧) في أجناس النباتات (٢٨). (٤) في الآثار العلوية (٢٥). (١) في قول الحكماء أنَّ الإنسان عالمٌ صغير (٢٤). (١٠) في الحاسِّ والمحسوس (٢١). (١) في بيان الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان وما فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض (١٩). (١٥) في حكمة الموت والحياة (١٨). (٦) في ماهية الطبيعة (١٨). (٩) في تركيب الجسد (١٨). (١٤) في بيان طاقة الإنسان في المعارف إلى أي حدٍّ هو مبلغه من العلوم وإلى أي غاية ينتهي وأي شرف يَرتقي (١٦). (١٣) في كيفية نشوء الأنفس الجزئية في الأجساد والبشرية الطبيعية (١٣). (٣) في بيان الكون والفساد (١٠).
١٦  هذه الرسالة هي (١) في بيان الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان وما فيها من المعاني إذا أُضيف بعضها إلى بعض. (٢) الموسومة بالسماء والعالم في إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق. (٣) في بيان الكون والفساد، (٤) في الآثار العلوية. (٥) في بيان تكوين المعادن. (٦) في ماهية الطبيعة. (٧) في أجناس النباتات. (٨) في كيفية تكوين الحيوانات وأصنافها. (٩) في تركيب الجسد. (١٠) في الحاس والمحسوس. (١١) في مسقط النطفة. (١٢) في قول الحكماء أن الإنسان عالمٌ صغير. (١٣) في كيفية نشوء الأنفس الجزئية في الأجساد البشرية الطبيعية. (١٤) في بيان طاقة الإنسان في المعارف وإلى أيِّ حد هو مبلغه من العلوم، وإلى أي غاية ينتهي وأي شرف يرتقي. (١٥) في حكمة الموت والحياة. (١٦) في ماهية اللذات وفي حكمة الحياة والموت وماهيتها. (١٧) في علل اختلاف اللغات ورسوم الخطوط والعبارات.
١٧  هذه الرسائل هي: (١) في مبادئ الموجودات العقلية على رأي الفيثاغورثيين، (٢) في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفا. (٣) في معنى قول الحكماء أن العالم إنسانٌ كبير. (٤) في العقل والمعقول. (٥) في الأدوار والأكوار. (٦) في ماهية العشق. (٧) في البعث والقيامة. (٨) في كمية أجناس الحركات. (٩) في العلل والمعلولات. (١٠) في الحدود والرسوم.
١٨  ومن حيث الكمُّ يكون الترتيب كالآتي (عدد الصفحات): (٩) في العلل والمبادئ (٤٠). (٧) في البعث والقيامة (٣٤). (٨) في كمية أجناس الحركات (٢٣). (١) في مبادئ الموجودات العقلية على رأي الفيثاغوريين (٢١). (٣) في معنى قول الحكماء إن العالم إنسانٌ كبير (١٩). (٥) في الأدوار والأكوار (١٨). (٤) في العقل والمعقول (١٨). (٦) في ماهية العشق (١٨). (١٠) في الحدود والرسوم (١٥). (٤) في المبادئ العقليَّة على رأي إخوان الصفا (٢٣).
١٩  هذه الرسائل هي: في الآراء والديانات. (٢) في ماهية الطريق إلى الله عز وجل. (٣) في بيان اعتقاد إخوان الصفا ومذهب الربانيِّين. (٤) في كيفية معاشرة إخوان الصفا وتعاون بعضهم مع بعض، وصدق الشفقة والمودة في الدين والدنيا جميعًا. (٥) في ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحقِّقين. (٦) في ماهية الناموس الإلهي وشرائط النبوة وكمية خصالهم ومذاهب الربانيِّين والإلهيين. (٧) في كيفية الدعوة إلى الله. (٨) في كيفية أحوال الروحانيين. (٩) في كيفية أنواع السياسات وكميتها. (١٠) في ماهية السحر والعزائم.
٢٠  ومن الناحية الكمية (عدد الصفحات) يكون الترتيب كالآتي: (١١) في ماهية السحر والعزائم والعين (١٨١). (٥) في ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحققين (٦٣). (٧) في كيفية الدعوة إلى الله (٥٣). (٨) في كيفية أحوال الروحانيِّين (٥٢). (٣) في بيان اعتقاد إخوان الصفا ومذهب الربانيين (٢٧). (٩) في كيفية أنواع السياسات وكميتها (٢٣). (٦) في ماهية الناموس الإلهي وشرائط النبوة وكمية خصالهم ومذاهب الربانيين الإلهيِّين (٢١). (٤) في كيفية معاشرة إخوان الصفا وتعاون بعضهم مع بعض وصدق الشفقة والمودة في الدين والدنيا جميعًا (٢٠). (١٠) في كيفية نضد العالم بأسره (١٠). (٢) في ماهية الطريق إلى الله عز وجل (٩).
٢١  لا يُوجد عنوان في الجزء الأول، والجزء الثاني في ختم الرسالة الرياضية والابتداء بما يَليها من الجسمانية، والثالث في ذكر الرسائل العقليات والذخائر النفسانيات والإفاضات الإلهيات، والرابع في التميم الأولى من الرسائل الناموسية والإلهية، وأصبحت الرسالة الرابعة في الجزء الرابع من الرسائل الخاتمة في الجامعة، فيكون مجموعها في الرسائل (١١) وفي الجامعة (١٠)، الجزء الأول (١٤) رسالة، الثاني (١٧) رسالة، الثالث (١٠)، الرابع (١١)، ومن حيث الكم (عدد الصفحات) الرياضي (٥٠)، الجسماني الطبيعي (١٩١)، العقليات النفسانيات (١٧٢)، الناموسيات الإلهية (٣١)، خاتمة: رسالة عشرة إخوان الصفا وخلان الوفا.
٢٢  هو الإمام المستور أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (١٦٠، ١١٥، ٢١٢ﻫ)، ومؤلَّفاته: المدارس الأربع، الكتب السبعة، الجفران، الرسائل الخمسة والعشرون، الرسائل الاثنتان والخمسون، الرسالة الجامعة ص١٠.
٢٣  ج١، ٢١٦–٢٧٢.
٢٤  ج١، ٢٧٦–٢٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤