الكاتب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس

لعل المقولة التي لاحقت المُتنبِّي تَنطبِق تمامًا على روائي ألمانيا الأشهر جونتر جراس الذي ملأ دنيا الأدب في ألمانيا وخارجها، وشغل الناس بأدبه ومواقفه السياسية. منذ أول أعماله، رواية «طبل الصفيح»، وجراس هو الكاتب الحداثي والوجه الأبرز للأدب الألماني الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، وأكثر الكُتَّاب الألمان تأثيرًا في الأدب العالمي؛ لذلك غدا جراس النموذج والمُعلِّم بالنسبة إلى عديد من الأدباء في العالم، مثل سلمان رشدي، وجون إرفينج.

أما في المنطقة العربية فقد ارتكزت شهرة جراس أساسًا على مواقفه السياسية المناصرة لحقوق الإنسان والداعمة للعالم الثالث. وبالرغم من ترجمة عدد من أعماله إلى العربية، أظنُّ أنه لم يُقرأ على نطاق واسع، وأن الكُتَّاب العرب لم يتأثروا به، ولم يصبح مرجعًا لهم أو نموذجًا، على عكس الانتشار الكبير الذي حققه عدد من كُتَّاب أمريكا اللاتينية في العالم العربي، مثل ماركيز وبورخيس ويوسا. وأعتقد أن ابتعاد القراء العرب عن أعمال جراس يرجع، من ناحية، إلى ضخامتها وتَعقُّد بِنْيَتها والْتِصَاقها بالتاريخ الألماني واحتشادها بالتفاصيل، كما يعود إلى نوعية الترجمات العربية من ناحية أخرى. هذا ما تظهره أرقام مبيعات أعمال جراس المترجمة إلى العربية، لا سيما أشهر رواياته «طبل الصفيح» التي ظلت طبعتها الأولى التي أنجزها حسين الموزاني نحو خمسة عشر عامًا في الأسواق قبل أن تعيد دار الجمل طبعها. كما يتضح قلة الاهتمام بجراس عربيًّا في عدم وجود كتب تتناول حياته أو أعماله، فهذا — على حد علمي — أول كتاب يصدر بالعربية عن صاحب ثلاثية دانتسج.

جونتر جراس، أيضًا، لم يَعْرِف إلا القليل عن الأدب العربي، رغم أنه زار مصر في عام ١٩٧٩م بدعوة من معهد جوته، حيث عُرض الفيلم الذي أخرجه فولكر شلوندورف عن رواية «طبل الصفيح». في تلك الرحلة استضاف قسم اللغة الألمانية بكلية الألسن جونتر جراس، ونُظِّمَت ندوات عديدة مع الكاتب، شارك فيها طلبة الكلية وأساتذة القسم الذي كان يرأسه آنذاك الأستاذ الدكتور مصطفى ماهر. بعد ذلك بسنوات زار جراس اليمن في مطلع الألفية الجديدة. وعندما سألتُه في صنعاء عن الأعمال التي قرأها بالعربية، قال لي إنه لم يطالع إلا بعضًا من روايات نجيب محفوظ. كان واضحًا لكل من رافق جراس في اليمن أن العمارة التقليدية هناك — التي أطلق عليها جراس «قصيدة من طين» — هي التي فَتَنَت قارع «طبل الصفيح»، وأثارت اهتمامه أكثر من الأدب العربي. وسيجد القارئ تفاصيل هذه الرحلة في فصل «عاشق قصائد الطين اليمنية».

•••

«من العبث محاولة تكوين صورة متكاملة عني.» هكذا كتب جونتر جراس في «يوميات حلزون» غير أن معظم النقاد والقُرَّاء كوَّنوا بالفعل صورة ما عن أشهر كتَّاب ألمانيا. البعض رأى فيه كاتبًا إباحيًّا ومستفزًّا وصادمًا لمشاعر المواطنين الدينية والأخلاقية، بينما نظر إليه آخرون باعتباره فارس الخيال المسيطر على اللغة. هناك من رآه شخصًا متعالمًا لا يكف عن دس أنفه في كل شيء مُبديًا النصح أو مُطلقًا التحذيرات، بداع أو من غير داع، وثمة مَن اعتبره — بسبب ذلك — الضمير الحي للأمة الألمانية.

كثيرة هي وجوه جراس، الشاعر والروائي والنحَّات والرسام والكاتب السياسي. وبالتأكيد لن يحيط هذا الكِتاب إحاطة تامة بعالَمِه، ولن يُقدِّم صورة أكاديمية مُفصَّلة عن الكاتب وأعماله الروائية والمسرحية والشعرية والتشكيلية ومقالاته السياسية. إن هدفي من هذا الكتاب هو تسليط الضوء على المحطات المحورية في حياة جراس وأدبه على نحو كرونولوجي، والاهتمام اهتمامًا خاصًّا بالأعمال التي تُرجِمَت إلى العربية، والتَّمعُّن في جودة هذه الترجمات، لا سيما ترجمة عمله الأشهر «طبل الصفيح» الذي صدر في ثلاث ترجمات عربية في غضون عامين إثر حصول الكاتب على جائزة نوبل عام ١٩٩٩م. وآمل أن يكون هذا الكتاب مُحفِّزًا للقارئ على مطالعة أعمال جونتر جراس ليتعرف مباشرة على هذا المبدع متعدد الأوجه.

في المقالة الأولى من الكتاب أتناول بدايات جونتر جراس في دانتسج وفترة الحرب العالمية الثانية التي أثَّرت عميقًا في حياته، وشكَّلت مواقفه اللاحقة بخصوص الديكتاتورية والمُقاوَمة. ولِفَهْم المشهد الأدبي في ألمانيا وقت ظهور جراس، أخصص مقالة ﻟ «جماعة ٤٧» الأدبية المشهورة، حيث قرأ جراس في عام ١٩٥٨م فصلين من مخطوطة «طبل الصفيح». وفي المقالات اللاحقة أتحدث بالتفصيل عن ثُلاثية دانتسج: «طبل الصفيح» و«قط وفأر» و«سنوات الكلاب»؛ لأنها العمل الأساس في شهرة جونتر جراس في العالم.

ولجراس معارك عديدة مع الرقابة والمجتمع المحافظ، ومع القضاء في ألمانيا خلال سنوات الستينيات، بعد أن وُجِّهَت له اتهامات بالإباحية والاستهزاء بالكنيسة الكاثوليكية وبأنه يمثل خطرًا على الشبيبة؛ ولهذا خَصَّصتُ مقالة لهذا الموضوع، كما كتبتُ مقالة أخرى عن نشاط الكاتب السياسي خلال الحملات الانتخابية التي خاضها لصالح الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة فيلي برانت.

وقد أثار كتاب «أثناء تقشير البصلة» ٢٠٠٦م، ضجة كبيرة بعد اعتراف جراس لأول مرة بانتمائه في سن السادسة عشرة إلى فرقة الحماية الخاصة بهتلر المسماة بسلاح اﻟ «إس إس» التي صُنِّفت بعد الحرب كمنظمة إجرامية. بعد صدور الكِتاب أعلن عدد من المثقفين العرب تضامنهم مع كاتِب «طبل الصفيح» في وجه ما اعتبروه حملة ضده. ولكن، هل كان هذا التضامن في محله؟ وهل كان سياق النقاش الألماني واضحًا بالنسبة إليهم؟ عن هذه الأسئلة سوف أجيب في الفصل الخاص ﺑ «تقشير البصلة». بعد ذلك تجدد الجدل حول جراس في ألمانيا عندما كتب قصيدته الشهيرة «ما ينبغي أن يُقال» التي هاجم فيها إسرائيل التي «تهدد السلام العالمي الهش بطبيعته». وحتى يستطيع القارئ فَهْم هذا النقاش، أوردتُ ترجمتي للقصيدة، كما ناقشتُ دلالات الجدل الذي أثارَته. أما آخر مقالات الكتاب فهي مخصصة للحديث عن جراس الشاعر، وهو جانب مجهول لدى كثيرين، رغم أن الشعر هو الرفيق الذي لازمَ جراس منذ بداياته الفنية وحتى وفاته.

ولقد أرفقتُ بالكتاب ملحقين رأيتُ أنهما يلقيان الضوء على آراء جراس السياسية، ويكملان الصورة عن الكاتب؛ الملحق الأول يضم ترجمةً لأهم أجزاء الحوار الذي أجرته معه صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه» في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، أما الثاني بعنوان «ظلم الأقوى» فهو ترجمة لمقالة نشرها جراس إثر غزو العراق عام ٢٠٠٣م، وتبين موقفه الرافض لهذه الحرب. كما سيجد القارئ والباحث قائمة بأهم التواريخ في حياة جراس، وقائمة أخرى بأهم أعماله وما تُرجم منها إلى العربية.

وختامًا، لا يفوتني أن أشكر كل الأصدقاء الذين قرءُوا مخطوطة هذا الكتاب، وأفادوني بنقدهم وملاحظاتهم واقتراحاتهم، وأخص بالذكر الشاعر حسن نجمي، والروائي رءوف مسعد، والصَّدِيقة هبة شريف.

•••

هذا الكتاب نافذة صغيرة على عالَم كاتبٍ كبير؛ كاتب وجد نفسه منذ صباه في قلب أحداث أعادت تشكيل العالم بأسره. انساق جراس وراء النازية صبيًّا، وخَبِرَ ضعف الفرد أمام غواية الشر، ثم شارَك في حرب عالمية مُدمِّرة، وظل يؤمن حتى اللحظة الأخيرة بالنصر النهائي لقوات هتلر. وبعد أن انتهت الحرب التي فتكت بزملاء له، وبعد أن زالت الغشاوة النازية عن عينيه، أدرك أنه يحيا بالصدفة، وأنه كان شاهدًا على أحداث وجرائم بشعة، بل ومشاركًا فيها، فكانت الكتابة سبيله لمواجهة الماضي، ماضي بلاده وماضيه الشخصي. هذا ما فعله في مطلع حياته في ثلاثية دانتسج، وظل يفعله حتى كتبَ — «طاعنًا في العمر وبآخر قطرات الحبر» — سيرته الذاتية «أثناء تقشير البصلة». وكلما كان يظن أنه «تغلب» على الماضي، أدرك بعد فترة أن مواجهة الماضي لا تنتهي أبدًا؛ لأنه لا يمضي بشكل تام، ولا ينقضي.

سمير جريس
برلين، أغسطس ٢٠١٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤