ضد الحرب على العراق

قبل اندلاع الحرب على العراق أعلن جونتر جراس أكثر من مرة موقفه الرافض لكل الذرائع الوهمية التي ساقتها الولايات المتحدة لإقناع العالم بحتميتها. وعندما أطلق الجيش الأمريكي صواريخه الأولى، وشن التحالف غاراته على بغداد، نشر جراس مقالة هاجم فيها بشدة «قانون الأقوى» الذي تستخدمه الولايات المتحدة لفرض مصالحها.١ واعتبر جراس أننا نعايش — بهذه الحرب — «الانهيار الأخلاقي للقوة الوحيدة المتبقية في العالم»، وأن «هذا الجنون المُنظَّم» لن يجلب سوى المزيد من الإرهاب. ولقد أثبتت الأيام كم كان صائبًا في رأيه.

وفي عام ٢٠٠٦م انتهز الكاتب فرصة مشاركته في فعاليات مؤتمر جمعية الأدباء الدولية ليعلن مجددًا موقفه الثابت المناهض للحرب على العراق. وكان هذا المؤتمر قد أقيم تحت شعار «الكتابة في زمن يفتقد السلام»، وشارك فيه نحو ٤٥٠ كاتبًا من كافة أنحاء العالم. في افتتاح المؤتمر تحدث هورست كولر، الرئيس الألماني آنذاك، عن دور الكُتَّاب في تحرير الناس من طغيان الحكام، مُذكِّرًا في الوقت نفسه بأن الشعراء هم الذين يدبجون المدائح البليغة لأبشع المستبدين. أما جراس فقد كرر في كلمته موقفه من حرب العراق والسياسة الأمريكية، مناشدًا زملاءه أن يناهضوا الظلم. ويمكن تلخيص كلمة جراس التي ألقاها في كلمتين، هما: «لا للحرب»، وهو يتحدث هنا انطلاقًا من خبرة اشتراكه في الحرب العالمية الثانية، ومما قاله: «في السابعة عشرة تعلمتُ الخوف، وظللت أؤمن حتى الختام بالنصر النهائي، بعد أن أمسى كل شيء حطامًا ورمادًا. منذ ذلك الوقت لم تغادر أشباح الحرب رأسي، حتى في فترات الاستراحة من الحرب، تلك الفترات التي يسمونها سلامًا.»

هاجم جراس في كلمته الألمان والأوروبيين والأمريكيين وزملاءه الكتَّاب، واتهم أوروبا بأنها تستفيد اقتصاديًّا من القمع والمجاعات والحروب في دول العالم الثالث، أما الكتَّاب فقد حذرهم من التقوقع في الصمت، والجلوس في برج فكري عاجي، ظانين أن السباحة في بحر السياسة القذر تفسد نقاء الأدب. إن على الأديب، في رأي جراس، أن يكتب ما لن يجده القارئ في أي إحصاء ولا في أي كتاب من كتب التاريخ.

ثم اقتبس حامل نوبل فقرات طويلة من الكلمة التي ألقاها الكاتب البريطاني هارولد بنتر أمام الأكاديمية السويدية أثناء تسلمه جائزة نوبل في ديسمبر ٢٠٠٥م، محييًا زميله على شجاعته وموقفه الصريح بخصوص الحرب على العراق، رغم كل الزوابع النقدية التي أثيرت حوله. وتساءل جراس مع الكاتب البريطاني: كم عدد البشر الواجب قتُلهم حتى يستحق المرء صفة «سفاح» و«مجرم حرب»؟ ويضيف جراس: ليس هذا السؤال بلاغيًّا، فهو يكشف موقف الغرب المنافق في إحصاء الضحايا. «صحيح أننا نحاول بدقة مُحاسب أن نحصي القوائم التي تسجل أسماء ضحايا الضربات الإرهابية — وعددهم يصيب ولا شك بالرعب — ولكن، لا أحد يحصي الجثث التي تخلفها القنابل والصواريخ الأمريكية، لا في حرب الخليج الثانية ولا الثالثة (أما الأولى فقد خاضها صدام بمساندة الولايات المتحدة ضد إيران). إن التقديرات الجزافية تصل إلى مئات الآلاف … وهكذا فإن التقديرات الغربية لا تفرق في المعاملة بين الأحياء فحسب، بل تقسم الموتى أيضًا إلى درجات، أولى وثانية وثالثة، مع أنهم جميعًا ضحايا الإرهاب المتبادل.»

وأنهى جراس كلمته قائلًا: «إن بنتر ضرب مثالًا على ما يمكن أن يفعله الكُتَّاب في «زمن يفتقد السلام». فمهمة الكُتَّاب أن يقوموا بإحصاء مغاير بعيدًا عن الانحياز إلى طرف دون آخر، إحصاء يشمل العدو والصديق، المرأة والطفل، وكل تلك الأعداد الغفيرة المطمورة في الثرى بلا اسم، وبلا هوية. على الكاتب أن يوجه الأسئلة غير المريحة: من أراد هذه الحرب؟ ما هي الأكاذيب التي غطت على أهدافها الحقيقية؟ مَن ربح مِن ورائها؟ مَن وَرَّد الأسلحة الفتاكة لِمَن؟ ومنذ متى ونحن نشارك في هذه الحرب؟»

وقد ظل جراس حتى وفاته مناهضًا للحرب على العراق، ومنتقدًا السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ومهاجمًا سياسة إسرائيل أيضًا، وكما سيتضح في قصيدته «ما ينبغي أن يُقال».

١  ترجمة الكلمة كاملة في ملحق (٢) في نهاية الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤