صحوة ضَمير كاتِبٍ قَبْل نفاد حِبره؟

ثَمَّة أعمال تَدَّعِي انتاسبها إلى الشعر أو الرواية، غير أن المرء عندما ينتهي من قراءتها يتساءل: ما الذي دفع الكاتب إلى نشر شيء كهذا؟ ألم يكن من الأفضل له أن ينتظر حتى يجد الشكل الأدبي الملائم لفكرته؟ أو لماذا لم يتناول أفكاره بشكل مباشر في مقال صحفي أو دراسة؟

هذا أول ما تبادَر إلى ذهني عندما قرأت «القصيدة» النثرية «ما ينبغي أن يقال» التي أقامت الدنيا ولم تقعدها عندما نُشرت في أبريل ٢٠١٢م في ثلاث صحف أوروبية في الوقت نفسه، وهي «زود دويتشه» الألمانية، و«لا ريبوبليكا» الإيطالية، و«البايس» الإسبانية. «ما ينبغي أن يُقال» قصيدة مباشرة وخطابية، ولولا أن كاتبها حائز نوبل لما اهتم بها أحد على الأرجح؛ ولولا أن كاتبها ألماني، بل وشارك جنديًّا في سلاح اﻟ «إس إس»، ولولا أنه يهاجم في قصيدته إسرائيل هجومًا صريحًا مباشرًا، لما أثارت هذه «القصيدة» أي ضجة.

«طاعنا في العمر، وبآخر قطرات الحبر» هاجم جراس القوة النووية إسرائيل التي «تهدد السلام العالمي الهش بطبيعته»، وهاجم ألمانيا على نيتها توريد غواصات يمكن تزويدها برءوس نووية إلى إسرائيل، فكان ما أثارته القصيدة من جدل كبير في ألمانيا وفي إسرائيل وفي العالم كله. وسرعان ما تعرض صاحبها لانتقادات حادَّة، ووجه إليه البعض التهمة التي توقَّعَها في القصيدة، تهمة «معاداة السامية». أما الكاتبة الألمانية هيرتا مولر (نوبل ٢٠٠٩م) فقالت له بكل صراحة إن «ماضيك لا يسمح لك بانتقاد إسرائيل.»

معاداة السامية

قصيدة مباشرة وخطابية وساذجة سياسيًّا، ولكن هل تَنمُّ عن موقف معادٍ للسامية؟ وما هي دلائل ردود الفعل على هذه القصيدة التي وصلت، في رأيي، إلى حد الهيستيريا؟ ما الجرم الذي ارتكبه كاتبها لكي تعلن إسرائيل أنه شخص غير مرغوب فيه؟ هل أنكر الهولوكوست؟ هل طالب بمحو إسرائيل من الخريطة؟ ولماذا طالب البعض بسحب جائزة نوبل منه؟

نعم، القصيدة في معيار الشعر تافهة ولا تستحق التوقف عندها، ولكن هل هذا هو السبب؟ ولماذا ترتفع على الفور الأصوات التي تتهم الكاتب بمعاداة السامية إذا تجاوز في انتقاده لإسرائيل حدًّا معينًا، فلنقل إذا تجاوز حد «الصوابية السياسية»؟ ومن يحدد معايير هذه الصوابية؟

لقد انتقد جراس تصدير ألمانيا غواصة أخرى إلى إسرائيل، وهي الغواصة السادسة، التي يمكن أن تُزود برءوس نووية قد تُستخدم لتدمير المنشآت النووية الإيرانية، واتهم إسرائيل بأنها «تهدد السلام العالمي الهش بطبيعته»، غير أنه لم يتحدث عن سياسة إيران ولا عن طموحها النووي أو تهديداتها لإسرائيل. مرة واحدة يصف جراس أحمدي نجاد بأنه «بطل صوتي جعجاع»؛ أي إنه، مثلما يرى منتقدوه، هوَّن من أخطار سياسة الرئيس الإيراني وقلَّل من شأن تهديداته بمحو إسرائيل من الخارطة.

ربما كان جونتر جراس في الحوار التلفزيوني الذي أدلى به للمحطة الأولى ARD أكثر وضوحًا في أفكاره وفي حججه مما كان في «قصيدته»، ولعله لذلك كان من الأفضل له أن يصوغ تلك الأفكار في مقالة وليس في نص يكاد يجمع معظم مَن قرأه ألا علاقة له بالشعر. من ناحية أخرى، يؤكد جراس في القصيدة — ومواقفه طيلة حياته تثبت ذلك — أنه صديق لإسرائيل ومتضامن معها، ويود أن يظل كذلك. في الحوار التلفزيوني يقول جراس إنه لم يهاجم إيران في القصيدة؛ لأن هذا من نافلة القول. لقد كان هدفه كسر الصمت الذي يغلِّف الملف النووي الإسرائيلي، ومهاجمة سياسة حكومته التي تزود إسرائيل بغواصة بعد الأخرى، ولهذا اعتبر بلاده «شريكة في الذنب».

وأكد جراس في حديثه التلفزيوني أنه حصل على طوفان من الرسائل المؤيِّدة له. وبالفعل، مَن يطالع بريد القُرَّاء في الصحف آنذاك، أو يقرأ ردود الفعل في الإنترنت على قصيدته، يجد عددًا كبيرًا من التعليقات المؤيِّدة لجراس والمصفِّقة له، وكأنها وجدت أخيرًا من ينطق بما يدور في رءوسهم. قد يكون من بينهم من ينتمي لليمين المتطرِّف أو المعادِين بالفعل للسامية، ولكن لا يمكن الادعاء بأنهم كلهم كذلك.

وعلى النقيض من ذلك كان رد فعل معظم السياسيين والكتَّاب الذين يلتزمون خطابًا مُعيَّنًا، وإذا ذكروا نقدًا لإسرائيل فلا بد أن يعقبه تأكيد على حق إسرائيل في الوجود، حتى إذا لم يكن هذا الحق محل تهديد، مثلما هو الحال في موضوع بناء المستوطَنات على أرض فلسطينية مثلًا. ويتناسى مهاجمو جراس أيضًا أن هناك أصواتًا كثيرة داخل إسرائيل تهاجم مُخطَّطَات الهجوم على إيران، ومن هؤلاء الروائي الإسرائيلي الكبير دافيد جروسمان.

ينسى منتقدو جراس الذين وصفوه بمعاداة السامية، أنه كان أول أديب ألماني يزور إسرائيل بعد تأسيسها وإقامة العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا الاتحادية. كألماني لم يكن مرحبًا به من الجميع في تلك الزيارة التي قام بها في مارس ١٩٦٧م، فرفض اتحاد الكُتَّاب الإسرائيلي استقباله، في حين رحَّبَت به الدولة ترحيبًا كبيرًا، فاستقبله رئيس الوزراء ليفي إشكول والرئيس زلمان شازار، بل وسُمح لجراس أن يعطي حديثًا إلى التلفزيون الإسرائيلي باللغة الألمانية، رغم أن الرقابة كانت تمنع إذاعة أي برامج ﺑ «لغة النازيِّين». وفي عام ١٩٧١م زار جراس إسرائيل مرة ثانية مؤكدًا تضامنه مع الدولة العبرية.

هذا الموقف تغير تدريجيًّا في العقود اللاحقة، ومع حلول الألفية الجديدة بدأ جراس ينتقد إسرائيل علانية، ما أثار أكثر من مرة غضب المجلس المركزي لليهود في ألمانيا. على سبيل المثال قال جراس في مقابَلة صحفية نشرتها صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه» بتاريخ ٢٠٠١/١٠/٢٧: «لقد أعلنتُ ما يطالب به عديد من منتقدي السياسة الإسرائيلية الحالية (…): يجب العودة إلى اتفاق أوسلو، ولا بد من الانسحاب من المناطق الفلسطينية المحتَلَّة؛ بالإضافة إلى ذلك أكدت على ضرورة إخلاء المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية التي بُنيت في تلك المناطق بطريقة إجرامية، هذا إذا كنَّا نريد السلام. أنا لم أشكك أبدًا في حق دولة إسرائيل في الوجود داخل حدودها.»١

ولكن، ما الذي دفع جراس إلى الاقتراب من «التابو» الإسرائيلي؟ أهي شجاعة «الطاعن في العمر» الذي يكتب ﺑ «آخر قطرات الحبر»؟

أظن أن جراس كان يشعر في السنوات الأخيرة من حياته بضرورة أن يبوح بما يُعذِّب ضميره قبل أن ينفد حبره. اعترف جراس في سيرته عام ٢٠٠٦م — أيضًا متأخرًا جدًّا — بأنه جُنِّد في صباه في سلاح اﻟ «إس إس» النازي الإجرامي، وبعد ذلك بستة أعوام قال ما يريد قوله، أو ما ينبغي عليه قوله، رغم أنه كان يعرف ما ينتظره من اتهامات.

صمَتَ جراس دهرًا عن ماضيه النازي وعن إسرائيل، وهو في نهاية حياته لم ينطق كفرًا، ولكنه — أيضًا — لم يقل شعرًا.

١  انظر الملحق (١) في آخر الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤