الملاحق

ملحق (١): «أحتفظ لنفسي بالحق في وصف الأفعال الإجرامية بأنها إجرامية!»١

  • لستَ الشخص الذي يخشى إثارة غضب الآخَرِين. قبل عدة أيام شن رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، باول شبيجل، هجومًا شديدًا عليك بسبب حديث صحفي اتَّهمْتَ فيه الحكومة الإسرائيلية بارتكاب أفعال «إجرامية». في أعقاب ذلك صَرَّح شبيجل بأنك تضع حق إسرائيل في الوجود موضع المساءلة، وقال: «إذا تأمَّلْنا في كلمات جراس فإن الرسالة التي يوجهها هي: لا بد من إزاحة إسرائيل عن الوجود.»

    • مَن يقرأ المُقابَلة التي أُجرِيَت معي، سيتأكد من أنني أعلنتُ ما يطالب به عديد من منتقدي السياسة الإسرائيلية الحالية، ومن بينهم كذلك مواطنون إسرائيليون، وأيضًا كثير من اليهود في ألمانيا وفي أنحاء أخرى من العالم: يجب العودة إلى اتفاق أوسلو، ولا بد من الانسحاب من المناطق الفلسطينية المحتلَّة. كما أنني أكدت على ضرورة إخلاء المستوطَنات الإسرائيلية غير الشرعية التي بُنيت في تلك المناطق على نحو إجرامي، إذا كنا نريد السلام. أنا لم أشكك أبدًا في حق دولة إسرائيل في الوجود داخل حدودها. وكيف لي أن أفعل ذلك؟ تربطني علاقة صداقة مع كثيرين في إسرائيل، وأنا أقف في صفهم؛ ولأنني أقف في صفهم — كما هو الحال في علاقتي مع أمريكا وأيضًا مع ألمانيا — فأنا أشعر بواجب النقد. (…) أنا لا أفهم السيد شبيجل، ومع احترامي له، فإنني أحتفظ لنفسي بالحق في وصف الأفعال الإجرامية بأنها إجرامية. كما أنني أرى أن رئيس وزراء إسرائيل الحالي (أرييل شارون) قد سلك في لبنان سلوكًا إجراميًّا، وأن زيارته للمسجد الأقصى كانت استفزازًا مقصودًا يستحق أن يُدان في موقف خطير كهذا. كل هذا يجب أن يُتاح قوله، بل ينبغي أن يُقال.

  • يقول باول شبيجل إن تصريحاتك تشبه أقوال أعداء إسرائيل المتطرفين.

    • حتى السيد شبيجل لن يمنعني من أن أظل صديقًا لإسرائيل.

  • بعض ردود الفعل تبدو مُبالغًا فيها هذه الأيام، في حين تبدو بعض الأشياء وكأنها تُطِلُّ برأسها من الماضي. مَن يسمع وزير الداخلية الألماني أوتو شيلي يتحدث عن حملات البحث والتحرِّي عن المشتبه فيهم، يشعر بأنه قد عاد على نحو غريب إلى سنوات السبعينيات، ألا ترى ذلك؟

    • من المفارَقات أن علينا الآن أن نُذكِّر شيلي بتلك الفترة التي كان فيها كمحامٍ ينتقد — عن حق — الدولة وإجراءاتها، كالحبس الانفرادي على سبيل المثال. آنذاك وجدنا أنفسنا نُوافِقه على آرائه. كان يقف على الجانب الآخر ويخشى ما أخشاه الآن تمامًا، أن تُقلِّصَ دولة القانون قاعدتها. من ناحية أخرى فإن المخاطر لا يمكن إنكارها، وأخشى أن ينمو الإرهاب الذي أطلَّ برأسه في الحادي عشر من سبتمبر. إنني أرى مخزون التطرف اليميني والغضب والإحباط الذي ينقلب إلى كراهية، وإنْ تنوعت الأسباب. هذا المخزون من الممكن أن يتحالف مع ذلك الإرهاب الصادر عن العالم الثالث. اليوم توحدهم كراهية اليهود. لم يدهشني أن الرئيس الأمريكي وجد نفسه مضطرًّا إلى الاعتراف بأن حالات الإصابة ببكتريا الجمرة الخبيثة مؤخرًا ليست لها صلة بابن لادن، وإنما من الممكن أن يكون مصدرها في أمريكا. هناك — في الولايات المتحدة — مخزون يميني مُتطرِّف قوي ومُدجَّج بالسلاح، أكبر من أي دولة أخرى في هذا العالم. كل أملي في هذه النقطة أن أكون مخطئًا. ولكن إمكانية حدوث تَحالُف كهذا لا بد أن يكون على الأقل واضحًا لنا.

  • هل يمكننا فعلًا التحدث عن وجود علاقة؟ أليس الأمر بالأحرى مجرد تَزامُن ظواهر ليست مرتبطة مضمونًا مع بعضها؟

    • أقول فحسب: إن عَقْد تحالفات غير مُقدَّسة قد بدأ ينتشر، وإن من الممكن جدًّا أن يُعقد تحالُف غير مُقدَّس بين الإرهابيين حول ابن لادن أو جماعات أخرى لها دوافع مشابهة وبين حركات إرهابية يمينية متطرفة. بالنظر إلى المخاطر التي تهددنا، فإنه من الخطأ ومن السذاجة أن نختزل كل شيء في اسم بن لادن، والأسوأ هو أن ذلك من علامات العجز. الموقف أعقد من ذلك؛ لهذا لا بد أن تكون الإجابة أيضًا أعقد. لقد أشرت قبلًا إلى أن الضربات العسكرية ليست حلًّا، وأنها لا تقود إلا إلى مزيد من الضحايا ومزيد من الكراهية. على الغرب أن يكون شجاعًا ويسأل نفسه عما ارتكبه من أخطاء. في «تقرير الشمال والجنوب» الذي كتبه فيلي برانت منذ أكثر من عشرين عامًا، يمكننا قراءة الأخطاء التي ارتكبت، أخطاء تَكرَّرتْ مرارًا منذ ذلك الحين. جون لو كاريه كتب في صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه» عن الفُرص الضائعة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. إن أكبر الفُرص التي لاحت للغرب عام ١٩٩٠م كانت هي الاستفادة من الطاقات التي تَحرَّرت، ووضع خطة شبيهة بخطة مارشال لإعادة بناء شرق أوروبا ودول العالم الثالث.

  • الغرب: سلسلة لا تنتهي من الجرائم والأخطاء والفرص الضائعة؟

    • لا أقول ذلك. بالطبع هناك اشتراك في الذنب وتورُّط من قِبَل القائمِين على الأمور في تلك البلاد؛ مثلًا عندما تُمْنَى الشعوب هناك بحكومات فاسدة؛ وإن كان لا بد أن نقول إن حكومات عديدة فاسدة تتلقى الدعم من الدول الغنية، وعن طريق هذا الدعم وحده تستطيع الاستمرار في الحكم. يجب دراسة كل حالة بالطبع على حدة، ولكن إجمالًا يمكن القول إن سياسة الغرب كانت حتى الآن دائمًا على حساب دول العالم الثالث. وأشك في استطاعة الغرب التغاضي عن مصالحه الذاتية الملحَّة لكي يفكر في صالح الكون، والنظر إلى العالم الثالث كشريك له نفس الحقوق. إذا فعلنا ذلك فستكون خطوة حاسمة لاجتثاث جذور الإرهاب الحالي وتجفيف منابعه بصورة دائمة. أما إذا لم نفعل ذلك ووضعنا ثقتنا في الضربات العسكرية وأعمال المخابرات، فسوف ينشأ جيل بعد آخر من الإرهابيين.

      لكنني أريد الإشارة إلى شيء آخر أعتبره مميزًا لعلاقة الغرب مع العالم الثالث: الطريقة التي نحصي بها الموتى. هذه الطريقة تمثل إهانة دائمة للموتى في العالم الثالث. إن الهجمات الإرهابية التي وقعت في نيويورك وواشنطن وحصدت حياة نحو ستة آلاف هي جريمة بشعة ولا يمكن تبريرها. ولكن عندما قتلَ الصرب والكروات خلال عامين أو ثلاثة نحو ٢٥٠٠٠٠ مسلم من البوسنة فإن الحزن والتأمل في العواقب جاء بطريقة لا يمكن بأي حال مقارنتها بما أثاره مقتل ٦٠٠٠ شخص في نيويورك وواشنطن. في رواندا، حيث تخلَّى الغرب عن مسئوليته على نحو يعاقب عليه القانون، قُتل حسب تقديرات تقريبية حوالي ٨٠٠٠٠٠ إنسان، لم يكد العالم يعلم عن مصيرهم شيئًا. لا بد أن أَحْذَر أنا نفسي من هذا التباين في طريقة الإحصاء؛ لأنني أعيش في هذا العالم الغربي الغني، وبرعب وحزن عايشت ما حدث في نيويورك. أما القتلى الكثيرون جدًّا الذين قضوا نحبهم من جراء الحصار المفروض على العراق، والذين لا يكاد يذكرهم أحد بكلمة، هؤلاء لم يحتلوا في تفكيري سوى المرتبة الثانية أو الثالثة. أو لنفكر فيما يحدث الآن في أفغانستان. لا أقصد الضحايا المدنيين الذين أصيبوا خلال الهجوم بالقنابل، الموت بدأ في أفغانستان قبل ذلك بأمد بعيد. إذا لم نتعلم أن ننظر إلى هؤلاء الموتى باعتبارهم متساوين معنا في القيمة، فسوف نخسر الكفاح الذي نخوضه من أجل حقوقنا الديمقراطية الأساسية.

  • الكاتبة الهندية أرونداتي روي أشارت منذ فترة إلى الأطفال الجوعى في العراق والأطفال الأفغان الذين فقدوا سيقانهم في حقول الألغام السوفيتية.

    • وهي محقة في ذلك! ينبغي أن ينحفر كلامها عميقًا في ذاكرتنا، ويحثنا — على الأقل في المستقبل — على أن نعامل القتلى بالعدل. لم يكن في استطاعتي أن أكتب ما كتبته على هذا النحو؛ المرء يشعر لدى أرونداتي روي بالغضب، الغضب المتحكم فيه من إنسان مُصاب. أرى أن نقدها صحيح، خصوصًا أنها لا تدخر نقدًا تجاه حكومة بلادها وحكومة باكستان، فهي ترى أيضًا الأخطاء في وطنها.

  • أثارت هذه المقالة نقاشًا كبيرًا في ألمانيا وبالذات حول مقطع أثار ردود فعل عنيفة، وصفت فيه أرونداتي روي بن لادن بأنه «القرين» المظلم لجورج بوش.

    • إنها صورة مبالغ فيها، لكنها صحيحة إلى حد ما. أمريكا تدعو بتعجل إلى شن حملات صليبية: الخير ضد الشر، الطريقة الأمريكية في الحياة تُفرَض طريقًا وحيدًا للحياة الإنسانية. أي عنجهية هذه أن تقوم أمريكا بتقسيم العالم إلى قسمين، إلى نصف مُتحضِّر وآخر يُصنَّف على أنه «غير متحضر»، دون النطق بهذه الكلمة؟ في الوقت ذاته تتحالف أمريكا مع بوتين غاضة النظر عن الحرب مع الشيشان، ومع الرئيس الصيني غاضة البصر عن الإجراءات القمعية في الصين؛ أي إنها تتحالف مع بلاد مارقة حسب المقاييس الأمريكية. من يعرف الولايات المتحدة قليلًا، يعلم كيف يتم هناك الاهتمام الشديد بتقاليد أصولية لدى مختلف الجماعات الدينية؛ هذا يفسر بعض تعبيرات بوش. يذكرني ذلك على نحو غير سار على الإطلاق بالأصولية الدينية، المسيحية والإسلامية.

(…)
(ترجمة: س. ج)

ملحق (٢): ظلم الأقوى

كلمة جراس إثر اندلاع الحرب على العراق عام ٢٠٠٣م

«لقد اندلعت حرب كان مخططًا لها بعزم وتصميم منذ وقت طويل، وضاعت كل النداءات والتحذيرات التي أطلقتها الأمم المتحدة سُدًى. صدر الأمر إلى آلة عسكرية هائلة الجبروت بشن هجوم وقائي مُنافٍ للقانون الدولي، ولم تَلقَ الاعتراضات سوى آذان صماء. بل قوبل التصويت في مجلس الأمن باحتقار وسخرية باعتباره عديم الجدوى. بدءًا من العشرين من مارس (آذار) ٢٠٠٣م لم يَعُد يسري إلا قانون الأقوى. وبالاستناد إلى هذا القانون الظالم يمتلك الأقوى السلطة لشراء الراغبين في الحرب ومكافأتهم، واحتقار عدم الراغبين في الحرب، بل ومعاقبتهم. إن مقولة الرئيس الأمريكي الحالي «من ليس معنا فهو علينا» تخيِّم على كل ما يحدث الآن كَصدًى آتٍ من العصور الهمجية. ليس غريبًا إذن أن تتقارب المفردات التي يستخدمها المُعْتَدُون مع مفردات لغة الأعداء. لقد دفعت الأصولية الدينية كلا الطرفين إلى انتهاك حرمة الدين، وجعلت من الله خالق الكل أسيرًا للفهم المتعصب. حتى النداءات الحارَّة لبابا الفاتيكان — الذي يعلم حق العلم أي خراب مقيم خَلَّفَته عقلية الحروب الصليبية — لم تَلقَ آذانًا صاغية. ذاهلين، فاقدي الوعي، ولكن أيضًا شاعرين بغضب عظيم، نشاهد الانهيار الأخلاقي للقوة الوحيدة المتبقية في العالم، وتسيطر علينا الهواجس بأن لهذا الجنون المُنظَّم عاقبة أكيدة: المزيد من الإرهاب الشامل، والمزيد من العنف والعنف المضاد.

هل هذه هي الولايات المتحدة التي نحتفظ لها — نحن الألمان — بذكرى طيبة ولأسباب عديدة؟ البلد الذي موَّل بسخاء مشروع مارشال لإعادة بناء ألمانيا الغربية؟ هل هذه هي الولايات المتحدة التي كانت لسنوات طويلة المعلم الحليم لمادة الديمقراطية؟ هل هذه هي أمريكا التي لم تكن تتورع عن توجيه النقد الذاتي الشجاع؟ البلد الذي تَمكَّن عبر التنوير الأوروبي من التغلب على حقبة الاستعمار والحصول على دستور مثالي؟ البلد الذي كانت حرية الكلمة فيه حقًّا ثابتًا من حقوق الإنسان؟

لسنا الوحيدين الذين يلاحظون كيف بهتت هذه الصورة للولايات المتحدة عبر السنين حتى غدت حلمًا أو صورة مُشتهاة، وها هي الآن أصبحت صورة مشوهة. إن قطاعًا واسعًا من المواطنين الأمريكيين الذي يحبون بلادهم ينتابهم أيضًا السخط عندما يرون انهيار قيم وطنهم، وانفلات عيار حكومتهم وعربدتها. مع هؤلاء تربطني روابط قُربى. وبجانبهم أشعر بأنني من أشد المؤيدين لأمريكا. معهم أحتج على ظلم الأقوياء الوحشي، وعلى تقليص حرية التعبير عن الرأي، واستخدام سياسة إعلامية لا تمارسها إلا الدول ذات النظام الشمولي. إني أضم صوتي إلى صوتهم للاعتراض على هذه العقلية التهكمية التي تغض الطرف عن موت الآلاف من النساء والأطفال مقابل الحفاظ على مصالح اقتصادية وسياسية.

كَلَّا، ليست معاداة أمريكا هي ما يضر بسمعة هذا البلد، ليس الديكتاتور صدام حسين، وليست بلاده التي نُزع عنها معظم أسلحتها هي التي تهدد أعظم قوى الأرض. إنه الرئيس بوش وإدارته اللذان يعملان على انهيار القيم الديمقراطية. إنهما هما مَن يُلحِقان الضرر ببلادهما، ويتجاهلان الأمم المتحدة، ويُرعبان العالم بحرب منافية للقانون الدولي.

كثيرًا ما سألونا — نحن الألمان — عما إذا كنا نشعر بالفخر ببلادنا. كانت الإجابة تصعب علينا، وكان لترددنا أسباب عديدة. أما اليوم فيمكنني القول إنني أشعر ببعض الفخر؛ لأن غالبية الألمان يرفضون هذه الحرب الوقائية. لقد استوعبنا دروس التاريخ بعد حربين عالميتين كنا مسئولين عن اندلاعهما بكل عواقبهما المريعة. استوعبنا الدرس جيدًا، وهو أمر لم يكن بالسهل.

منذ عام ١٩٩٠م وجمهورية ألمانيا الاتحادية تتمتع بالسيادة الكاملة. وعندما تَحلَّت الحكومة الألمانية بالشجاعة وعارضت أقوى حلفائها، فإنها اتخذت ولأول مرة قرارًا سياديًّا، وحمت بذلك الألمان من خطر الانتكاس إلى سلوك القاصِرِين. إنني أتوجه بالشكر إلى المستشار جيرهارد شرودر ووزير خارجيته يوشكا فيشر على صلابتهما. لقد حافَظَا على مصداقيتهما بالرغم من كل العداءات والافتراءات.

قد يشعر عديدون الآن بالإحباط، وهناك أسباب لذلك. لكن معارضتنا للحرب، ودَعْمَنا للسلام لن يضيعا هباء.

ماذا حدث؟

إن الحَجر الذي دحرجناه إلى أعلى يجثم الآن على سفح الجبل. لا بد إذن أن نُدَحرِج الحَجر مرة أخرى، حتى لو انتابتنا الهواجس بأنه سيعاود الهبوط إلى السفح بمجرد بلوغه الذروة. على الأقل هذا الرفض، وهذا الاعتراض الذي لا ينتهي، هما ما يبقيان في استطاعة البشر.»

(ترجمة: س. ج)
١  مُقتطَفات من الحوار الذي أجراه هوبرت شبيجل مع جونتر جراس في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. نُشر الحوار في صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه» بتاريخ ٢٠٠١/١٠/٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤