عندما يتحول الإنسان إلى خيال مآته في «سنوات الكلاب»

«هل خيال المآته حيوان ثديي؟
لكأنهم يتكاثرون
بتبادل القبعات ليلًا:
ها هي حديقتي تحفل بثلاثة.»

هذه الأبيات من قصيدة «خيال المآته» نشرها جونتر جراس عام ١٩٦٠م ضمن ديوانه الثاني «مثلث القضبان»، وقال عنها إنها كانت إرهاصة لروايته «سنوات الكلاب» التي صدرت بعد ذلك بثلاثة أعوام، وبها اختتم ثلاثية دانتسج التي كتبها بين عام ١٩٥٩ وعام ١٩٦٣م.

في «سنوات الكلاب» يستكمل جراس رحلته في التاريخ المنسي لمدينة دانتسج، ويُصوِّر مرة أخرى بزوغ نجم النازية وأُفوله. وإذا كانت «طبل الصفيح» تتميز بوحدة المنظور السردي — فالأحداث كلها يرويها القزم أوسكار — فإن جراس يلجأ في «سنوات الكلاب» إلى ثلاثة رواة يقدمون ثلاثة منظورات للأحداث في ثلاثة أجزاء. الجزء الأول، أو الكتاب الأول، هو «ورديات صباحية»، ويتناول نشأة صداقة بين فالتر ماتيرن وإدوارد أمزل الذي يقوم بتدوين الكتاب. يسجل أمزل «وردياته» أثناء العمل في المصنع الذي أسسه لإنتاج فزَّاعات الطيور (خيالات المآته)، وهو في الوقت نفسه المشرف على تحرير الكتابين الآخرين اللذين سيصدران مع كتابه قبل نهاية العالم في الرابع من فبراير. ولكن، وكما يقول أمزل في ورديته الأخيرة: «لم يحدث شيء. ومن الواضح أنه لم تكن ثمة نهاية عالم» (ص١١٩ من الترجمة العربية).١

ويتمحور الكتاب الثاني، «خطابات غرامية»، حول أحداث فترة النازية والحرب، ويقوم بتدوينه هاري ليبناوا باعتباره شاهدًا على تلك الفترة ومراقبًا لها، وهو يروي ما حدث آنذاك عبر رسائل يوجهها إلى تولا بوكريفكه (التي يعرفها قارئ «قط وفأر» جيدًا، وهي ستظهر بعد حوالي ٤٠ عامًا في رواية «في خطو السرطان»). أما الكتاب الثالث فيكتبه فالتر ماتيرن صديق أمزل تحت عنوان «ماتيرنيادات»، ويتناول فترة ما بعد الحرب.

ويجمع بين أجزاء الرواية الثلاثة علاقة الصداقة الحميمة التي تربط بين نصف اليهودي إدوارد أمزل (الذي يتغير اسمه بعد الحرب إلى براوكسل) وفالتر ماتيرن، وهي صداقة تمتد من عام ١٩٢٥م حتى الخمسينيات. كما يشد وثاقَ أجزاء الرواية الكلبُ برينتس (ومن هنا عنوان الرواية) الذي أهدته مدينة دانتسج إلى الفوهرر هتلر. في نهاية الحرب يفر الكلب من مخبئه تاركًا قائده إلى مصيره المحتوم: «كان يا ما كان، كان هناك كلب غادر صاحبه وخلَّف وراءه طريقًا طويلة … في الثامن من مايو عام ١٩٤٥م في الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة خاض الكلب مياه نهر الإلبه بالقرب من ماجدبورج … وأخذ يبحث غرب النهر عن سيد جديد.» (ص٣٨٠) والسيد الجديد هو ماتيرن الذي يطلق على كلبه اسم بلوتو.

في «ورديات صباحية» يحكي أمزل عن صداقته مع ابن الطحان فالتر ماتيرن المماثل له في العمر. منذ صغره وأمزل محل سخرية الأطفال بسبب أصله اليهودي. أمزل الحالم يهرب من واقعه التعس إلى الفن، ويحاكي البشر بالفزاعات التي يصنعها بإتقان بالغ يدهش مَن يراها. يراقب أمزل تنامي الاتجاهات القومية اليمينية بقلق، لكنه يواجه قلقه بالسخرية اللاذعة التي تثير حنق ماتيرن. يعتنق ماتيرن في البداية الأفكار الشيوعية، إلا أن بريق النازية يخلب لبه، فيلتحق بقوات الصاعقة، ويخون صديق عمره ويشي به؛ لأن أمزل صنع فزاعات تحاكي رجال الصاعقة. مع فرقة كوماندوز يهجم على صديقه البدين الساخر وينهال الجميع عليه ضربًا، ولا يتركونه إلا وقد تحطمت كافة أسنانه. ثم يحدث تقارب في سنوات الحرب بين إدوارد أمزل والبالارينا جيني، الطفلة الغجرية. تتعلم جيني رقص الباليه في برلين ويصمم لها أمزل مقطوعة باليه تلعب فيها الفزاعات دورًا أساسيًّا.

في تلك الفترة يشهد ماتيرن تحولًا في حياته وأفكاره، فيندم على وشايته بصديقه، ويبدأ في الإفراط في الشراب حزنًا وهمًّا، ويفقد ثقة رؤسائه في الحزب. وعندما تنتهي الحرب عام ١٩٤٥م يجد ماتيرن نفسه أسيرًا لدى القوات البريطانية. بعد الحرب يشعر بالذنب الهائل الذي يثقل كاهله، ويحاول أن يكفر عنه، فيتجول في ربوع ألمانيا مُحاولًا القيام بدور القاضي العادل. فيبحث عن الذين عذبوه وأهانوه، ويغوي نساءهم ويغرر ببناتهم وينقل إليهن الأمراض التناسلية.

أما أمزل فيغير اسمه إلى براوكسل ويركب طاقم أسنان ذهبية (ولهذا يُدعى ذهبي الفم)، ويصنع فزاعاته في أحد المناجم التي توقفت عن العمل. تحت الأرض يستعيد أمزل أحداث التاريخ الألماني المفزعة، ويستثمر ذلك في تجارته المربحة بالفزاعات، وكأن جراس يؤكد إكليشيه اليهودي التاجر ورجل الأعمال الناجح. وفي الفصل الأخير من الكتاب الثالث يتقابل ماتيرن وأمزل وجيني مرة أخرى ويستعيدون ذكرياتهم معًا.

«ليس لليهودي روح. اليهودي لا يغني. اليهودي لا يمارس الرياضة. على اليهودي أن يتغلب على اليهودية داخله.» (ص٣٤) هذه الكلمات التي ترد في كتاب ألفه شاب يدعى أتو فايننجر عام ١٩٠٣م ولاقى رواجًا كبيرًا آنذاك، تمثل فكرة جوهرية يحاول جراس أن يدحضها في «سنوات الكلاب». كان أمزل مهووسًا بهذا الكتاب، وكان يحمله معه دومًا، في حين ضاعت منه الكتب الأخرى بمرور الوقت. ويمكن اعتبار «سنوات الكلاب» رواية مضادة لكتاب فايننجر. فإذا كان فايننجر يعتقد في كتابه أن الآري يعرف «من خلال اليهودي ممن يجب عليه أن يحترس، من اليهودية كإمكانية موجودة في داخله» (ص١٩٧)، فإن جراس يريد أن يثبت أن على الألماني أن يحترس من الألمانية الكامنة في داخله؛ لأنها تحوله إلى إنسان بلا روح، إلى خيال مآته فحسب، وهذا هو أصل الكوارث.

كما نرى، تتسم «سنوات الكلاب» بالتعقيد في بنيتها. وتزداد الرواية تعقيدًا بسبب ما يقحمه جراس في السرد من حكايات فلكلورية، ونقد اجتماعي، ووصف مسهب للبيئة المحلية المُستمَد من خبراته هو قبل التفرغ للكتابة (مثلًا وصفه لأحد مناجم البوتاس وطريقة العمل به، ص٥٧٦ وما بعدها). كما أن الرواية تفيض بالسخرية من الفيلسوف مارتين هايدجر ولغته، خصوصًا في عمله الرئيسي «الكينونة والزمن»، ما يضيف صعوبة أخرى لمَن لم يقرأ أعمال الفيلسوف.

استقبل النقد الأدبي في ألمانيا الرواية استقبالًا متباينًا بين الإعجاب المتحفظ والاستهجان والهجوم؛ فخلافًا لروايته الأولى عجز جراس في «سنوات الكلاب» عن أن يجمع هذا الزخم من الأحداث والإيحاءات والصور والاستطرادات التي تزدحم بها جنبات الرواية الضخمة — التي تبلغ في الأصل الألماني ٧٥٠ صفحة — لتنساب في تيار واحد. وكانت «سنوات الكلاب» أضخم من ذلك عندما دفع بها جراس للمطبعة، لكن المحرِّر كلاوس فاجنباخ اقترح على الكاتب حذف قرابة خمسين صفحة (فقط). ووافق جراس على مضض. للمرة الأولى. وربما الأخيرة.

١  الاقتباسات من الرواية مأخوذة من ترجمة أحمد فاروق التي صدرت عن دار الجمل عام ٢٠٠٣م بعنوان «سنوات الكلاب».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤