عن الأسماك والجرذان والضفادع

بعد النشاط السياسي المكثف عاد الخطيب إلى مكتبه، وانهمك طوال أربع سنوات في كتابة رواية ضخمة، صدرت عام ١٩٧٧م بعنوان «سمكة موسى»، وبها استعاد صاحب «طبل الصفيح» أمجاده ككاتب فانتازي، وكرائد ألماني لتيار الواقعية السحرية. ويشي العنوان بولع جراس بالحيوانات واختيارها عناوين لأعماله، كما رأينا في «قط وفأر» و«سنوات الكلاب» و«يوميات حلزون»، وكما يتضح في أعماله اللاحقة مثل «الجرذة» و«نقيق الضفادع» و«في خطو السرطان».

تنطلق أحداث «سمكة موسى»، أو «الطربوت»، من حكاية شعبية كتبها الأخوان جريم، وهي حكاية صياد فقير يعيش مع زوجته، ويصطاد ذات يوم سمكة طربوت، يتضح أنها ليست سوى أمير مسخوط، فيطلق الصياد سراحه. عندما تسمع زوجته إلزبيل ما حدث، تسأله عما حصل عليه مقابل منح الأمير حريته. وعندما يقول لها إنه لم يطلب شيئًا، تصرخ في وجهه، وتطالبه بالذهاب مرة أخرى إلى البحر وأن ينادي هناك على السمكة، وأن يطلب منها الحصول على كوخ صغير. فعل الصياد ما طلبته زوجته، وبالفعل لبَّت له السمكة أمنيته. غير أن الزوجة تعلن عدم رضاها بالكوخ، وتطلب قصرًا، ثم تتمنى أن تصبح ملكًا وقيصرًا، وأخيرًا بابا الكنيسة. تلبي السمكة كافة طلبات الزوجة، إلى أن تطلب في النهاية أن تصير ربًّا. عندئذ تجد إلزبيل نفسها في كوخها الفقير السابق.

في روايته يعكس جراس الحكاية الشعبية، فليست المرأة هي التي لا تعرف الشبع أو الرضا، بل الرجل. يتحدث جراس في هذه الرواية (نحو ٧٠٠ صفحة) عن كل شيء تقريبا، ويمكن اعتبارها تاريخًا للجنس البشري من العصر الحجري حتى اليوم. إنها رواية عن الطعام والجنس، والصيد والزراعة والتجارة، والطهي والهضم ومخلفاته، كما أنها رواية عن السياسة والسلطة، ودور النساء في التاريخ، وتحرر المرأة.

تبدأ الرواية في أكتوبر عام ١٩٧٣م، وفي المشهد الافتتاحي نعرف أن الراوي وزوجته إلزبيل يتناولان وجبة من لحم الحمل مع الفاصوليا والكمثرى، ثم يمارسان الجنس، فتحمل امرأته. والكتاب مقسم إلى تسعة فصول، هي شهور الحمل. وفي نهاية الرواية تنجب إلزبيل بنتًا. هذا هو المستوى الأول للقص. بموازاة ذلك هناك مستوًى ثانٍ تجري أحداثه في برلين، حيث تعقد النساء محاكمة ﻟ «الطربوت» (والكلمة في الألمانية مذكرة)، الذي يرمز في الرواية إلى روح العالم، وتستمر المحاكمة تسعة أشهر أيضًا. وفي المستوى الثالث للسرد يحكي الراوي لزوجته إلزبيل عن حياته في العصور المختلفة، بدءًا من العصر الحجري وصولًا إلى أزمة النفط بعد حرب أكتوبر عام ١٩٧٣م. وخلال ذلك يسرد الراوي علاقاته النسائية مع النساء التسع اللائي كن يطعمنه قبل إلزبيل، ويتأمل في العلاقة بين الرجل والمرأة. ويتضح خلال ذلك أن التاريخ كتبه حتى الآن الرجال، وأنهم هم المسئولون عن الحروب والعنف في العالم. لقد قاد الرجال العالم إلى الهاوية؛ ولذلك فإن الوقت قد حان لكي تتولى النساء إنقاذ العالم.

فور صدورها تصدرت «سمكة موسى» قائمة المبيعات في ألمانيا، وسرعان ما وجدت طريقها إلى الترجمة إلى لغات عديدة، ليس من بينها العربية حتى الآن. ويكاد يجمع النقاد الألمان على أنها تمثل الذروة الثانية في أدب جراس بعد ثلاثية دانتسج، وأن جراس نجح فيها في استعراض براعته في سرد مشاهد وقصص ونوادر خيالية رائعة، وأنه استعاد بها لغته الثرية بالصور والتشبيهات البلاغية. غير أنهم عابوا عليها ما انتقدوه في «سنوات الكلاب»، أي التضخم والترهل في السرد. وهذا ما ذكره أيضًا الأديب السويسري الكبير فريدريش دورنمات (١٩٢١–١٩٩٠م) الذي أبدى إعجابه بالرواية، منتقدًا في الوقت ذاته طولها غير المبرر فنيًّا.

«اللقاء في تلجته»

في عام ١٩٧٨م بلغ هانز فيرنر ريشتر، مؤسس «جماعة ٤٧» الأدبية، السبعين، فأراد جراس أن يفاجئه بهدية متميزة. أراد جراس أن يكتب قصة في عشرين أو ثلاثين صفحة، يتحدث فيها عن «جماعة ٤٧» وفضْل ريشتر عليها وعلى الأدب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن جراس نقل لقاءات الجماعة إلى القرن السابع عشر، أي إلى عصر الباروك، وجعل الجماعة تتأسس في عام ١٦٤٧م، أي مع انتهاء الحرب التي استعرت بين الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا واستمرت ثلاثين عامًا. وهكذا ظهر هانز فيرنر ريشتر في كتاب جراس في صورة الشاعر الباروكي سيمون داخ (١٦٠٥–١٦٥٩م). وعندما انتهى جراس من الكتابة، وجد أمامه كتابًا بلغ عدد صفحاته عند النشر ١٧٥ صفحة.

كانت التوازيات عديدة، بين ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي أعقاب حرب الثلاثين عامًا، قبل ذلك بثلاثة قرون. في كلتا السنتين: ١٦٤٧م و١٩٤٧م، كانت ألمانيا مُدمَّرة، وكان البؤس والعنف والدمار سائدًا. كما كان هدف اللقاء متشابهًا، وهو إعادة الحياة إلى الأدب الألماني بعد الحرب. بالقرب من مدينة مونستر اجتمع قادة ألمانيا آنذاك للتوقيع على اتفاقية سلام تنهي حرب الثلاثين عامًا، وبالقرب من مونستر نقل جراس لقاء «جماعة ٤٧» إلى مدينة صغيرة تدعى تلجته Telgte. كانت طقوس تلجته هي نفسها طقوس اجتماعات جماعة ٤٧، الشعراء والكتاب يقرءون من أعمالهم، ثم يسمعون النقد المُوجَّه إليهم دون أن تتاح لهم فرصة الرد. رغم ذلك لم يكن النص إسقاطًا على لقاءات جماعة ٤٧ أو رسمًا كاريكاتوريًّا لبعض الأدباء الذين شاركوا في تلك اللقاءات؛ لأن جراس نقل القصة بكافة شخصياتها إلى عصر الباروك. أثارت قصة «اللقاء في تلجته» إعجاب النقاد، بل واعتبرها عديد منهم «تحفة فنية» تُذكِّر بروايته القصيرة «قط وفأر». لكن هذا الاحتفاء النقدي بجراس سيتغير تمامًا بصدور «الجرذة» عام ١٩٨٦م.

جرذان وضفادع

في سنوات الثمانينيات يخرج جراس من دائرة السياسة الحزبية نحو الشأن العام. يتظاهر احتجاجًا على إعادة تسليح ألمانيا بالرءوس النووية، ويلقي الخطب، ويحاضر، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شئون بلاده. له دائمًا رأي، ورأيه مسموع. كثيرون من أصدقائه ومنتقديه يعتبرون نشاطه السياسي مُبالَغًا فيه، وينصحونه بالعودة إلى مكتبه. لكن جراس لا يعثر على الكلمات؛ لأننا «نحيا في عصر يمتلك قدرة تدميرية لا تكفي لمحو الجنس البشري وحده، بل كل ما يزحف ويطير أيضًا.» هذا الخطر الماثل يستدعي كتابة أخرى، كلمات لم يجدها بعد.

عندما كان يمسك بالقلم، كانت تتراءى أمامه صور، تدفعه إلى البحث عن الريشة، فيبدأ في رسم مجموعة من اللوحات محورها الجرذان، ومن هذه الرسومات بدأ في التخطيط لروايته الجديدة بعد صمت أدبي دام أربع سنوات. وفي عام ١٩٨٦م صدرت «الجرذة» (نحو ٥٠٠ صفحة)، واستلهم فيها جراس جو الصراع النووي، متخيلًا فَناء العالم وخلوه من البشر، فتتحكم الجرذان في العالم، وتسعد بهواء نظيف وبحار وأنهار لا تلوثها نفايات الإنسان.

وتظهر في الرواية شخصيات من أعمال جراس السابقة التي تجد نفسها مهددة هي أيضًا بالدمار؛ فيصادف القارئ أوسكار ماتسرات الذي أصبح من كبار رجال الإعلام بعد أن أنتج سلسلة من أفلام البورنو، كما يقابل شخصيات من روايته «سمكة موسى». بعد صدور الرواية بأشهر قليلة وقع الانفجار في مفاعل تشرنوبيل النووي، وهو ما أدى إلى ارتفاع كبير في مبيعات الرواية. غير أن رد الفعل النقدي على «الجرذة» كان سلبيًّا في عمومه، ما دفع جراس إلى الانسحاب من الحياة الأدبية، بل من ألمانيا كلها والسفر إلى الهند لستة أشهر؛ بحثًا عن الراحة من «الوطن المُتعِب». وكانت نتيجة رحلته الهندية الكتاب الذي صدر عام ١٩٨٨م بعنوان «إظهار اللسان».

وفي عام ١٩٩٢م يرجع جراس إلى الأدب، فينشر قصة طويلة تحمل عنوان «نقيق الضفادع» (٣٠٠ صفحة). وبهذه القصة يعود، مرة أخرى، إلى دانتسج حيث يتعرف مؤرخ فن من ألمانيا الغربية بامرأة بولندية تعمل في مجال ترميم الآثار، وكلاهما في الستين من العمر. يربط الحب بينهما، ويقرران الزواج، ثم يفكران في تنفيذ مشروع يساهم في المُصالَحة بين بولندا وألمانيا. والفكرة هي السماح للألمان الذين هُجِّروا بعد الحرب العالمية الثانية بأن يُدفَنوا في مقبرة في دانتسج. غير أن المشروع يفشل بسبب تَضارُب المصالح.

لم يُصِب كتاب «نقيق الضفادع» نجاحًا كبيرًا، واعتبره معظم النقاد في ألمانيا عودة مفتعلة إلى عالم الثلاثية، ومحاولة غير مقنعة للتحدث روائيًّا عن المصالَحة بين الألمان والبولنديين. وازداد الهجوم النقدي ضراوة مع صدور رواية «مجال شاسع» (٨٠٠ صفحة) في عام ١٩٩٥م التي تُعتَبر محاولة لتناول موضوع الوحدة الألمانية التي كان جراس معارضًا لها منذ البداية، أو على الأقل لحدوثها بمثل هذه السرعة أو «التهام» ألمانيا الغربية للشرقية على حد تعبيره. وتجري أحداث الرواية في برلين بين سقوط جدار برلين في التاسع من نوفمبر ١٩٨٩م والوحدة الألمانية في الثالث من أكتوبر ١٩٩٠م. وتعقد الرواية مقارنة بين ثورة عام ١٨٤٨م وبين الوحدة الألمانية عام ١٩٩٠م.

ويحيل عنوان الرواية إلى آخر جملة من رواية شهيرة للكاتب الألماني تيودور فونتانه (١٨١٩–١٨٩٨م)، وهي رواية «إيفي بريست» حيث يقول والد إيفي في نهاية الرواية: «آه يا لويزة، دَعْكِ من ذلك … هذا مجال شاسع للغاية.»

أثارت الرواية جدلًا شديدًا في ألمانيا، ويكاد يجمع معظم النقاد الألمان على أنها لم تكن مُعالَجة روائية مقنعة لموضوع الوحدة، وأن الجانب السياسي المباشر طغى على الجانب الروائي الفني. وقد صدرت الطبعة الأولى في مائة ألف نسخة، بِيعَتْ كلها في غضون أيام بسبب ما أثارته الرواية من جدل وضجة، حتى إنه أُعِيد طبعها خمس مرات خلال شهرين.

وعندما صدرت مجلة «دير شبيجل» وعلى غلافها أشهر نقاد ألمانيا، مارسيل رايش-رانتسكي، وهو يمزق الرواية تمزيقًا، كانت المعركة قد خرجت من دائرة الأدب والنقد إلى حيز التشهير والتجريح، بل إن البعض اعتبر ذلك «شنقًا علنيًّا» للكاتب. خلَّفت هذه الحملة الصحفية جرحًا غائرًا لدى جراس، لن يُشفى منه إلا في عام ١٩٩٩م عندما حصل على أعلى وسام أدبي في العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤