الفصل الثالث

نحو «حرب ساخنة» في آسيا(١٩٤٥–١٩٥٠)

صارت آسيا ثاني أكبر مسارح الحرب الباردة، وأول مكان تحولت فيه الحرب الباردة إلى حرب ساخنة. بطبيعة الحال ولَّدت أوروبا قدرًا أكبر من الخلاف وتلقت قدرًا أكبر بكثير من الاهتمام من طرف الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ إذ تركزت فيها نقاط التوتر الرئيسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لقد حددت كل قوة من القوتين مصالحها التي بدت ضرورية للوفاء باحتياجاتها الأمنية قصيرة المدى وطويلة المدى، إضافة إلى الرفاهية الاقتصادية. ويعد نمو نطاق النفوذ الأمريكي في أوروبا الغربية وتقويته ونمو نطاق النفوذ السوفييتي المقابل في أوروبا الشرقية بمنزلة جوهر المرحلة الافتتاحية للحرب الباردة، كما بيَّن لنا الفصل السابق، بوجود ألمانيا كنقطة انطلاق أساسية للحرب الباردة. ومع هذا فقد تم تحاشي الصراع المفتوح بين الشرق والغرب في أوروبا، وذلك في أواخر الأربعينيات وعلى مدار أربعة عقود تالية. إلا أن آسيا، التي كان لكل من واشنطن وموسكو بعض المصالح المهمة بها، وإن كانت أقل حيوية، لم تكن محظوظة بالقدر عينه. فقد قتل قرابة ٦ ملايين جندي ومدني في صراعات مرتبطة بالحرب الباردة في كوريا والهند الصينية. علاوة على ذلك، أدى اندلاع الحرب الكورية في يونيو ١٩٥٠ إلى أول مواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة والقوى الشيوعية وحوَّل — شأنه شأن غيره من الأحداث المنفردة — الحرب الباردة إلى صراع عالمي.

اليابان: من عدو لدود إلى حليف الحرب الباردة

حفزت الحرب العالمية الثانية على وقوع تغييرات عدة على امتداد القارة الآسيوية. لقد تسببت الانتصارات العسكرية اليابانية المذهلة في شهور الحرب الأولى — في سنغافورة والملايو وبورما والفلبين وجزر الهند الشرقية الهولندية والهند الصينية الفرنسية وغيرها من البقاع — في قلب النظام الاستعماري الغربي في شرق آسيا رأسًا على عقب، ولو على نحو مؤقت، وفي الوقت ذاته حطمت خرافة تفوق الجنس الأبيض التي ارتكز عليها الحكم الغربي بالأساس. وقد علق أحد الدبلوماسيين الأستراليين في ذلك الوقت بقوله: «اعتمدت الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأقصى على الهيبة. وقد تحطمت هذه الهيبة تمامًا.» وقد عجل الاحتلال الياباني التالي للمستعمرات البريطانية والفرنسية والهولندية والأمريكية، والمبرر بالشعار المؤثر «آسيا للآسيويين»، مع أنه استُخدم لخدمة المصالح اليابانية الشخصية، بنمو الوعي القومي للشعوب الآسيوية. وهيأ الساحة للثورات القومية التي ستندلع بنهاية الحرب. فقد منح فراغ السلطة الناتج عن الاستسلام الياباني السريع في الرابع عشر من أغسطس ١٩٤٥ القوميين الطموحين الوقت لتنظيم أنفسهم وحشد قواهم وكسب الدعم الشعبي لإقامة نظم الحكم الوطنية التي سعوا لإرسائها سريعًا بدلًا من السيطرة اليابانية والغربية.

إن الصراعات الملحمية التي خاضتها الشعوب الآسيوية وغيرها من شعوب العالم الثالث من أجل الحرية والاستقلال الوطنيين في أعقاب الحرب العالمية الثانية تعد من أشد القوى التاريخية تأثيرًا في القرن العشرين. ويجدر بنا التأكيد على أن هذه الصراعات كانت منفصلة على نحو كبير عن صراع القوة والنفوذ الذي خاضته الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بالرغم من التداخل الزمني بينها، ومن المؤكد أنها كانت ستحدث في وجود الحرب الباردة أو غيابها. ومع ذلك فقد وقع صراع النفوذ، وشكلت طبيعته الشاملة اتجاه صراعات الاستقلال وخطاها والنتيجة النهائية لها؛ إذ جمع إنهاءَ الاستعمار والحرب الباردة رابطٌ يستحيل فصمه، وأسهم كل منهما في تشكيل الآخر، سواء في آسيا أو في غيرها من البقاع.

مع قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يبد أن الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي أدركا أن النظام القديم في شرق آسيا قُوِّض على نحو خطير بفعل حرب المحيط الهادي، ولم تقدرا المدى الذي ستغير به التيارات القومية التي أُطلق لها العنان المجتمعات الآسيوية. في البداية اتبع السوفييت سياستهم المعهودة المتسمة بالانتهازية والحرص في شرق آسيا، التي لا تختلف كثيرًا عن تلك التي اتبعوها في أوروبا بعد الحرب. سعى ستالين لاستعادة كل الأراضي التي كانت ضمن حدود روسيا القيصرية من قبل، والحصول على امتيازات اقتصادية في منشوريا ومنغوليا الخارجية، وضمان أمن الاتحاد السوفييتي بطول الحدود الصينية السوفييتية الممتدة مسافة ٤١٥٠ ميلًا. استدعى تحقيق هذه الأهداف أن تظل الصين حليفًا مأمون الجانب، لكنه ضعيف، ومن الأفضل أن تكون منقسمة على ذاتها، وذلك لتجنب أي صدامات مع القوى الغربية وكبح أي نزعات ثورية لدى الأحزاب الشيوعية المحلية. ومن جانبها، اتبعت الولايات المتحدة برنامجًا أوسع نطاقًا وأكثر طموحًا فيما يخص السياسة الخارجية يعتمد على تجريد اليابان من شوكتها العسكرية وتحويل المحيط الهادي إلى بحيرة أمريكية، وتحويل الصين إلى حليف ثابت يعتمد عليه، إضافة إلى التشجيع على الوصول لحل متوازن لمشكلة الاستعمار.

أولًا وقبل أي شيء، رأى المخططون الأمريكيون أنه من الحتمي ألا يسمح لليابان مجددًا بتهديد أمن المنطقة. ولتحقيق هذا الهدف، عقدت واشنطن العزم، بمفردها، على الإشراف على عملية احتلال اليابان وإعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب. كان هدف الولايات المتحدة بسيطًا مثلما كان طَموحًا؛ استخدام قوتها لإعادة تشكيل المجتمع الياباني بواسطة تدمير أي بقايا للروح العسكرية وفي الوقت نفسه التشجيع على نمو المؤسسات الديمقراطية الليبرالية. وقد نجحت الولايات المتحدة في مقاصدها إلى حدٍّ بعيد. وتحت إشراف القائد العسكري المتغطرس الجنرال دوجلاس ماكارثر، حفز نظام الاحتلال الأمريكي على تحقيق نطاق واسع من الإصلاحات: منها البدء في إصلاح نظام الأراضي، وإقرار قوانين العمالة التي وفرت حقوق المفاوضات الجماعية وتأسيس الاتحادات، وتفعيل التحسينات التعليمية ومنح حقوق مساوية للمرأة. وقد نبذ الدستور الياباني الموضوع في مايو ١٩٥٧ الحرب رسميًّا، وحظر الاحتفاظ بقوات مسلحة، وأرسى مبادئ نظام من الحوكمة الديمقراطية النيابية تحت سيادة القانون. ربما كانت هذه العملية، حسب كلام المؤرخين: «أشمل عملية للتغيير السياسي الضخم والموجه من الخارج في تاريخ العالم.»

على عكس الحال في ألمانيا، التي كانت تُحكم على نحو مباشر من جانب أربع قوى عظمى مختلفة فيما بينها من حيث الأهداف السياسية والإدارية، هيمنت قوة عظمى وحيدة على عملية احتلال اليابان وحكمت على نحو غير مباشر، مفضلة أن تفرض إرادتها من خلال التعاون الوثيق مع البيروقراطية الحكومية اليابانية النفعية. وبطبيعة الحال حافظت اليابان على سلامتها كدولة قومية ذات سيادة، وذلك على عكس ما حدث في ألمانيا.

لكن بالرغم من كل هذه الاختلافات البارزة، عامل المسئولون الأمريكيون اليابان — وتحديدًا بعد عام ١٩٤٧ — كنسخة آسيوية من ألمانيا (الغربية): دولة جعلتها بنيتها التحتية الصناعية المتقدمة وعمالتها الماهرة وبراعتها التقنية محركًا لا غنى عنه للنمو الاقتصادي الإقليمي، وحليفًا استراتيجيًّا ذا قيمة عظيمة في الحرب الباردة. ومع تصاعد التوتر بين الشرق والغرب في أوروبا، تحول نظام الاحتلال الأمريكي في اليابان من التركيز على إصلاح العدو السابق ونزع الصبغة العسكرية عنه إلى الاهتمام بتسهيل تعافيه الاقتصادي السريع. فقد رأى المخططون الاستراتيجيون الأمريكيون أن وجود اليابان كدولة مستقرة، قوية اقتصاديًّا، موالية لأمريكا أمر ضروري لتحقيق أهداف السياسة الأمريكية الشاملة في آسيا ما بعد الحرب، تمامًا كما كان وجود ألمانيا المستقرة، القوية اقتصاديًّا، الموالية لأمريكا ضروريًّا لتحقيق أهداف السياسة الأمريكية الشاملة في أوروبا ما بعد الحرب. وفي كلتا الحالتين، كانت الأهداف الجيوسياسية والأهداف الاقتصادية تُنسجان معًا في شبكة متجانسة. اعتبر الخبراء الأمريكان أن اليابان أهم بلد آسيوي؛ ذلك بسبب قدرتها على أن تكون محرك التعافي الاقتصادي بشرق آسيا وبسبب قيمتها الاستراتيجية الطبيعية. وبداية من عام ١٩٤٧ فصاعدًا، كان الهدف الأساسي لسياسة إدارة ترومان في آسيا هو توجيه اليابان المستقرة المزدهرة جهة الغرب. وقد حذرت هيئة الأركان المشتركة من أنه إذا وقعت طوكيو تحت هيمنة النفوذ الشيوعي فإن «الاتحاد السوفييتي سيحظى، بهذا، على قدرة حربية إضافية تعادل ٢٥٪ من قدرته الحالية». وفي ديسمبر ١٩٤٩، عبر وزير الخارجية الأمريكي دين أتشيسون عن الأهمية الاستراتيجية لليابان على نحو مشابه من منظور توازن القوى الشامل بين الشرق والغرب بقوله: «لو أضيفت اليابان إلى المعسكر الشيوعي، فسيحصل السوفييت على عمالة ماهرة وقدرات صناعية قادرة على تغيير ميزان القوى العالمي على نحو بالغ.»

في ضوء جسامة المخاطر المحتملة، اتفق المسئولون الأمريكان على أن حماية اليابان من أي تهديد شيوعي خارجي وفي الوقت ذاته تحصينها من أي عدوى داخلية محتملة هي الأولويات الإقليمية الرئيسية لأمريكا. لكن بالرغم من النجاحات البارزة المبكرة للاحتلال، ظل الأمريكيون قلقين على المستقبل، ومتخوفين تحديدًا من أن تتسبب تطورات الأوضاع عبر بحر الصين في إضعاف فرص إعادة إحياء اليابان وأن تكون موالية على نحو راسخ للغرب. ومع انتصار الشيوعيين الصينيين في الحرب الأهلية الصينية بنهاية الأربعينيات، خشي المحللون الأمريكيون من أن يتسبب اعتماد اليابان على الصين كسوقها الرئيسية عبر البحار في جذبها بمرور الوقت نحو المدار الشيوعي. وكما قال رئيس الوزراء الياباني شيجيرو يوشيدا: «سواء أكانت الصين حمراء أم خضراء، فهي سوق طبيعية لنا.» كان توجيه اليابان ومستقبل الصين مشكلتين يصعب الفصل بينهما.

الانتصار الشيوعي في الصين

لم يمثل إعلان قيام جمهورية الصين الشعبية، في الأول من أكتوبر ١٩٤٩، انتصارًا شخصيًّا لماو تسي تونج وغيره من قادة الحركة الشيوعية الصينية الذين تعرضوا للدحر والمطاردة وشارفوا على الموت على يد حزب الكومينتانج الحاكم بزعامة شيانج كاي شيك منذ عقدين وحسب، بل مثل أيضًا رمزًا لتحول جذري في طبيعة ومكان الحرب الباردة؛ تحول ذي تبعات سياسية داخلية وأيديولوجية واستراتيجية عظيمة الشأن.

خلال الحرب العالمية الثانية دعمت إدارة روزفلت نظام شيانج كاي شيك بكميات ضخمة من المساعدات الاقتصادية والعسكرية، مع أنها لم تكن كافية قط للوفاء بطلبات القائد العام الكثيرة. أراد روزفلت أن يحول القوة العسكرية الصينية إلى قوة فعالة مناهضة لليابان وأن يكون نظام شيانج حليفًا يعتمد عليه للأمريكيين، حليفًا يستطيع أن يلعب دورًا في إرساء الاستقرار والتوازن في آسيا ما بعد الحرب. ولتحقيق تلك الأهداف، تقابل روزفلت مع شيانج في القاهرة عام ١٩٤٣، قبل مؤتمر قمة الثلاثة الكبار في طهران، الذي لم يُدع إليه الزعيم الصيني، وبعده مباشرة. وخلال مباحثاتهما في القاهرة، جامل الرئيس الأمريكي شيانج بأن رفع الصين معنويًّا إلى مصاف الدول العظمى، ومن ثم تحدث روزفلت عن الصين بوصفها واحدة من «القوى الأربع الضابطة» التي من شأنها المساعدة في الحفاظ على السلام بعد الحرب، وذلك رفقة نظيراتها الثلاث الأخرى؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى. وقد شجع الصين على هذا النحو بغرض توثيق العلاقات الصينية الأمريكية، إضافة إلى التعويض عن المساعدات العسكرية الإضافية التي طالب بها شيانج لكن عجزت واشنطن عن تلبيتها، بالإضافة إلى الإبقاء على الصين في حالة حرب، وبهذا يزيل احتمالية عقد سلام منفصل كارثي بين الصين واليابان. لكن لم تكن لفتات روزفلت المعنوية ولا البعثات العسكرية والدبلوماسية التي أرسلها على نحو شبه دوري إلى الكومينتانج وقت الحرب في تشونجتشينج كافية لإقناع قوات شيانج بالمساهمة بقوة عسكرية ذات اعتبار.

بحلول عام ١٩٤٤ صار الدبلوماسيون الأمريكيون بالصين أكثر استخفافًا بالتطلعات طويلة الأمد لهذا النظام الغارق في الفساد والرشوة وعدم الكفاءة. ومن جانبها، كانت الحكومة القومية، الكومينتانج، مقتنعة بأن التهديد الرئيسي لوجودها لم يأت من جانب اليابانيين؛ الذين من المؤكد أن يهزمهم حلفاؤهم الأمريكان مع أو بدون مساعدة صينية تذكر، بل كان التهديد قادمًا من الشيوعيين الصينيين. فتَحْت الزعامة القديرة لماو تسي تونج، قويت شوكة الشيوعيين وصاروا قوة عسكرية وسياسية مهولة خلال سنوات الاحتلال الياباني، وبسطوا سيطرتهم على قطاعات شاسعة من شمال ووسط الصين. وبدلًا من إهلاك الرجال والعتاد في حرب المستعمر الياباني، فضل شيانج والمقربون منه ادخار الموارد من أجل المواجهة الحتمية المتوقعة مع الشيوعيين بعد انتهاء الحرب.
fig4
شكل ٣-١: ماو تسي تونج، الزعيم الصيني ورئيس الحزب الشيوعي الصيني.1

في مؤتمر يالطا، في فبراير ١٩٤٥، تطلع روزفلت إلى مصدر غير معتاد بحثًا عن حل لمعضلة السياسة الأمريكية في الصين. فبعد أن أيقظه عزوف شيانج عن القتال من الوهم، سعى للحصول على التزام السوفييت بدخول الحرب ضد اليابان في غضون ثلاثة أشهر بعد نهاية أعمال القتال في أوروبا، ونجح في الحصول على ما أراد. كان الثمن الذي طلبه ستالين مقابل هذه اللفتة — وعد روزفلت بمساعدة السوفييت على استعادة امتيازات حقبة روسيا القيصرية في منشوريا ومنغوليا الخارجية — مقبولًا في نظر الرئيس الأمريكي الذي أولى قيمة عظيمة لتقليل خسائر الأرواح الأمريكية في حرب المحيط الهادي المتوقع لها أن تكون حربًا دموية إلى أقصى حد. وفي الرابع عشر من أغسطس، وافق شيانج على هذه الامتيازات فيما حمل رسميًّا اسم «معاهدة التحالف والصداقة الصينية السوفييتية» مقابل اعتراف موسكو بالسيادة القانونية لحكومته.

بطبيعة الحال شعر الشيوعيون الصينيون بالخيانة من طرف من يفترض بهم أن يكونوا رفاقهم في الأيديولوجية. لكن من الجلي أن حسابات ستالين للمصالح القومية الروسية فاقت أي تعاطف كان لديه لقضية رفاقه الشيوعيين الثوريين. في واقع الأمر كان الزعيم الروسي يفضل أن تكون الصين ضعيفة ومفككة على أن تكون قوية وموحدة، بصرف النظر عمن يعتلي سدة الحكم. كان يريد من الشيوعيين الصينيين أن يظلوا معتمدين على موسكو وتابعين لها، واستشعر الخطر من الحركة المغرقة في القومية التي لو امتلكت مقاليد السلطة فقد تطالب بفرض سيادتها على كل الأراضي الصينية، وبهذا تعرض نطاق النفوذ الذي تحرق لإرسائه للخطر. وبالمثل، أراد الديكتاتور السوفييتي الميال لتجنب المخاطر أن يتجنب استفزاز الولايات المتحدة. ارتضى ستالين باغتنام منشوريا، التي دخلتها القوات الروسية بعد دخولها إلى شمال شرق الصين في أغسطس ١٩٤٥، وأن يقوي مكاسب روسيا التجارية المكتسبة حديثًا هناك وفي غيرها من المناطق الحدودية. أما احتياجات ماو، الذي رآه ستالين شخصًا مغرورًا صاخبًا تصعب السيطرة عليه يقود مجموعة من الشيوعيين «المصطنعين»، فاحتلت مرتبة تالية على احتياجات السوفييت.

عقب استسلام اليابان، تدهور الموقف السياسي في الصين على نحو متزايد. فقد رأى ماو، كما فعل شيانج، أن عقد سلام حقيقي بين الشيوعيين والكومينتانج كان أمرًا مستبعدًا، وأن الحرب الأهلية قادمة لا محالة. وفي جلسة توجيهية للدائرة الداخلية للحزب الشيوعي في ١١ أغسطس أعطى تعليماته لكوادر الحزب والقادة العسكريين بأن «يحشدوا القوات استعدادًا للحرب الأهلية». وخلال خريف عام ١٩٤٥ تقاتلت القوات الشيوعية والقومية في شمال شرق الصين، مع زيادة اعتماد شيانج على المعدات ووسائل النقل الأمريكية في محاولة منه لدحر القوات الشيوعية.

خابت آمال الولايات المتحدة على نحو متزايد في وجود صين موحدة مسالمة موالية لأمريكا. وقد حث الجنرال ألبرت ويديماير، قائد القوة الأمريكية الصغيرة في الصين، واشنطن على مساندة شيانج دون تحفظ، وقد تنبأ قائلًا: «إذا صارت الصين دولة تابعة للسوفييت، وهو ما سيعنيه بالتأكيد انتصار الشيوعيين الصينيين، عندئذٍ ستتحكم روسيا السوفييتية عمليًّا في قارتي آسيا وأوروبا.» اختلف المحللون الأمريكيون الآخرون مع هذا التوقع المبالغ فيه. ولما كانوا مقتنعين بأنه ليس بمقدور شيانج هزيمة الشيوعيين الصينيين عسكريًّا، وأن من شأن السلام الناتج عن المفاوضات بين الشيوعيين والقوميين وحده أن يجنب الصين حربًا أهلية من المؤكد أن تخل باستقرارها وتدمر أهداف السياسة الأمريكية، فقد أصروا على أن ما كان شيانج بحاجة إليه هو الوصول إلى تسوية مع خصومه السياسيين لا محاولة القضاء عليهم. وفي نهاية عام ١٩٤٥ أرسل الرئيس ترومان الجنرال جورج سي مارشال، أكثر القادة العسكريين الأمريكيين احترامًا وتحقيقًا للإنجازات في جيله، إلى الصين للتوسط في حل سلمي للصراع.

في بداية عام ١٩٤٦ نجح مارشال في الترتيب لهدنة مؤقتة، لكنها سرعان ما نُقضت. كانت محاولات الجنرال الأمريكي الوصول إلى تسوية مرضية بين شيانج وماو ترتكز أساسًا على وهم الاعتقاد أنه من الممكن التشارك بالسلطة في حكومة ائتلافية تضم كلًّا من الشيوعيين والقوميين. وبالرغم من نزاهة مارشال، فقد فشلت تلك الجهود بسبب الاختلافات المتأصلة بين الجانبين، اللذين لم يكن أحدهما يثق بالآخر أو مستعدًّا لتقاسم السلطة معه. وبنهاية عام ١٩٤٦ قرر مارشال، محقًّا، أنه ليس من سبيل لحل هذا الصراع إلا بقوة السلاح، وأنه من المستحيل على شيانج الفوز في هذا المضمار. استمرت إدارة ترومان في تقديم المساعدات لنظام شيانج — بإجمالي ٢٫٨ مليار دولار بين وقت استسلام اليابان وعام ١٩٥٠ — لكن كان هذا بغرض حماية نفسها سياسيًّا من مناصري القوميين الصينيين والإعلام، ما يسمى بجماعة الضغط الصينية، أكثر منه عن قناعة بأن المساعدة الأمريكية وحدها ستمكن قوات الكومينتانج المهلهلة من الانتصار. وبنهاية عام ١٩٤٨ باتت الهزيمة محققة، مع فرار شيانج والمقربين منه من الصين إلى تايوان. وما كان إعلان ماو المؤثر عن قيام جمهورية الصين الشعبية الجديدة من بوابة السلام السماوي في بكين، في أكتوبر ١٩٤٩، سوى إضفاء للصبغة الرسمية على النتيجة التي توقعها المراقبون المطلعون منذ وقت طويل.

كان لانتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية الصينية تبعات لا مفر منها على الحرب الباردة، مع أنه جاء بالأساس نتاجًا لقوى داخلية معقدة. فقد هُزم النظام القومي المدعوم من الولايات المتحدة — بالرغم من العلاقة غير المستقرة المفتقرة للثقة بين واشنطن وشيانج — أمام الحركة الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفييتي، بالرغم من العلاقة غير المستقرة المفتقرة إلى الثقة بين موسكو وماو. نظر المراقبون الأوروبيون والآسيويون إلى نتيجة الحرب الأهلية الصينية بوصفها هزيمة كبرى للغرب وانتصارًا ملحميًّا للاتحاد السوفييتي والعالم الشيوعي على السواء. كان هذا أيضًا رأي منتقدي ترومان داخل البلاد الذين هاجموا الرئيس على خسارته الصين من خلال التصرفات غير المخطط لها، إن لم توصف بالغادرة. ومن جانبهم، نظر مخططو إدارة ترومان إلى انتصار الشيوعيين في الصين بدرجة من الاتزان؛ إذ اعتبروه إخفاقًا محبطًا للولايات المتحدة وليس كارثة استراتيجية مطلقة. بادئ ذي بدء، لم ينظر وزير الخارجية الأمريكي، دين أتشيسون، وكبار مسئولي الخارجية إلى الصين المعدمة الممزقة بفعل الحرب على أنها مكون أساسي في التوازن العالمي الشامل للقوى، على الأقل ليس في المستقبل المنظور. ولهذا لم تكن أهمية الصين بقدر أهمية كل من أوروبا واليابان؛ أو حتى الشرق الأوسط. ثانيًا، لقد خلصوا إلى أن الصين الشيوعية لن تُترجم بالضرورة إلى جبهة صينية سوفييتية موحدة مناهضة لأمريكا. فقد آمن كبار المخططين الاستراتيجيين الأمريكيين بأن الطموحات الجيوسياسية المتعارضة تعمل ضد تطور روابط قوية بين الاتحاد السوفييتي تحت زعامة ستالين والصين تحت زعامة ماو. وأخيرًا، كانوا يأملون أن يمنح احتياج الصين اليائس للمساعدات الاقتصادية الولايات المتحدة الفرصة التي تحتاجها لدق الإسفين بين القوتين الشيوعيتين.

يؤمن بعض المؤرخين أن الولايات المتحدة بددت فرصة فريدة لتطوير علاقات ودودة، أو على الأقل علاقات عملية، مع الصين في هذا المنعطف المهم. كانت بعض العناصر داخل الحكومة الصينية الشيوعية ترغب بالفعل في إقامة علاقات إيجابية مع الولايات المتحدة بغرض الحصول على مساعدات إعادة الإعمار التي كانت الصين تحتاجها ولتجنب الاعتماد المفرط على الكرملين. من الجانب الأمريكي، ظن أتشيسون أنه بمجرد أن «يهدأ الغبار»، ستستطيع الولايات المتحدة أن تعترف دبلوماسيًّا بحكومة بكين وأن تنقذ ما تستطيع إنقاذه من حطام الحرب الأهلية. إلا أن الأدلة الصينية الحديثة تقترح أن مثل هذه «الفرصة الضائعة» لم يكن لها وجود من الأساس. كان ماو منجذبًا على نحو طبيعي ناحية المعسكر السوفييتي، وذلك بسبب عزمه على إعادة تغيير وجه الصين — وهو العزم المدفوع بغضبه العارم من الدول الاستعمارية الغربية التي دنست الصين زمنًا طويلًا — إضافة إلى حاجته لعدو إضافي للمساعدة في حشد الدعم الشعبي وراء طموحاته الثورية العظيمة بالداخل. ومن ثم فقد رفض كل الاقتراحات الواردة من تابعيه التي تقضي بأن تبادر بكين بتقديم غصن زيتون لواشنطن. وبدلًا من هذا فقد سافر الزعيم الصيني إلى موسكو في ديسمبر عام ١٩٤٩، وبالرغم من الاستقبال الفاتر الذي قوبل به من جانب ستالين الذي لم يتخلص من حذره بعد، فقد نجح في التفاوض على عقد معاهدة صداقة وتحالف مع الاتحاد السوفييتي. ألزمت المعاهدة الصينية السوفييتية كلًّا من القوتين بمساعدة الأخرى حال تعرضها لهجوم من طرف ثالث، وبذا صارت أبرز العلامات المنذرة بالخطر للحرب الباردة التي صارت متأصلة على نحو راسخ في القارة الآسيوية.

الحرب الباردة تصل إلى جنوب شرق آسيا

مثلما صارت الحرب الأهلية الصينية مرتبطة على نحو وثيق بالحرب الباردة، انطبق الأمر عينه على صراعات الاستقلال في جنوب شرق آسيا في فترة ما بعد الحرب. سعت القوى القومية الأهلية والقوى الاستعمارية الغربية على السواء إلى الحصول على الشرعية الدولية واستقت الدعم الإضافي من التنافس بين الشرق والغرب، بحيث أخفت أهدافها الحقيقية تحت غطاء الحرب الباردة لكي تنال المساعدة المادية والدبلوماسية من إحدى القوتين العظميين. أرست «العولمة» المترتبة على هذه الصراعات نمطًا صار شائعًا خلال حقبة الحرب الباردة بأسرها. في البداية لم تحدد الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي أي مصالح حيوية في جنوب شرق آسيا أو رصدت أي علاقة بين صراعات السلطة المحلية في هذا الجزء النائي من العالم والصراع الدبلوماسي الأهم بكثير الدائر في أوروبا. ومع هذا لم يكن بالإمكان الفصل بين التحديات التي فرضتها المنطقتان بسهولة، وبحلول أواخر الأربعينيات، بالتصادف مع انتصار الشيوعيين في الصين، نظرت واشنطن وموسكو على نحو متزايد إلى جنوب شرق آسيا كمسرح مهم آخر للصراع بين الشرق والغرب.

قبل الحرب العالمية الثانية لم يولِ الاتحاد السوفييتي الكثير من الاهتمام لجنوب شرق آسيا. علاوة على ذلك كان إدراكه بطيئًا للغاية للمزايا الجيوسياسية التي قد يجنيها من وراء الانحياز لقوى التمرد الثورية المعادية للغرب هناك، سواء أكانت تحت قيادة شيوعية أم لا. وشأن موسكو، لم تولِ واشنطن اهتمامًا كبيرًا لجنوب شرق آسيا عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة. وقد تحركت سريعًا لتجريد نفسها من ممتلكاتها الاستعمارية بالمنطقة؛ إذ أشرفت على الانتقال المنظم للسلطة إلى حكومة مستقلة موالية لأمريكا في الفلبين في يوليو ١٩٤٦. احتفظ الأمريكان بوجود ملحوظ في جزر الفلبين بالطبع، مطالبين بنشر قواعدهم على نطاق واسع، وهو ما ساعد الجيش الأمريكي على تأمين قدرة بحرية وجوية هائلة يمكن نشرها في أرجاء المحيط الهادي. لكن خلافًا لتلك القواعد العسكرية، والرغبة العامة في وجود نظام مسالم مستقر أكثر انفتاحًا للتجارة هنا، شأن أي مكان آخر، بدت المصالح الأمريكية في جنوب شرق آسيا ضئيلة.

شجعت إدارة ترومان البريطانيين والفرنسيين والهولنديين على أن يحذوا حذوها في الفلبين من خلال النقل التدريجي للسلطة المدنية إلى حكومة صفوة محلية موالية للغرب، مع الاحتفاظ في الوقت ذاته بدرجة من النفوذ السياسي والأمني والتجاري في مستعمراتها السابقة. رأى الخبراء الأمريكان أن هذه هي أنسب صيغ السلام والازدهار طويل الأمد اللذين تتطلبهما المصالح الأمريكية هنا وفي أي مكان آخر. تبنى البريطانيون، تحت قيادة حكومة حزب العمال التقدمية ورئيس وزرائها كليمنت أتلي، الصيغة الرئيسية نفسها، وتفاوضوا على الانتقال السلمي للسلطة في أغلب المستعمرات البريطانية الآسيوية. حصلت الهند وباكستان على الاستقلال عام ١٩٤٧، وبورما وسيلان في عام ١٩٤٨. وعلى النقيض، كان الفرنسيون والهولنديون مصممين على استعادة سيطرتهم على الهند الصينية (فيتنام) وجزر الهند الشرقية (إندونيسيا)، اللتين احتلتهما اليابان خلال الحرب. إن عزوف فرنسا وهولندا عن الانصياع للقوى التاريخية التي يستحيل الوقوف في وجهها، التي أدركتها القوى الأنجلوأمريكية على نحو صحيح، لم يتسبب في سفك للدماء لا حاجة له وحسب، بل أضفى صبغة الحرب الباردة المميزة على أشرس صراعات إنهاء الاستعمار في بدايات حقبة الحرب الباردة.

في البداية سعت الولايات المتحدة للحفاظ على صورة الحياد والموضوعية حيال المنازعات الفرنسية الفيتنامية والهولندية الإندونيسية. تطلب الأمر قدرًا من المعاناة لتجنب استعداء المستعمرين الأوروبيين أو القوميين الآسيويين، بقدر الإمكان، مع الاحتفاظ في الوقت ذاته بقدر من النفوذ مع الجانبين. لكن إدارة ترومان في الحقيقة مالت ناحية حلفائها الأوروبيين منذ البداية؛ إذ اعتبرت أن فرنسا وهولندا تحملان قيمة كبيرة في التحالف الناشئ ضد الاتحاد السوفييتي بما لا يسمح باستعدائهما من خلال رفع لواء معاداة الاستعمار. التمس كل من «هو تشي منه» و«سوكارنو»، زعيما الحركتين القوميتين في فيتنام وإندونيسيا على الترتيب، دعم الولايات المتحدة وذلك على خلفية التعهدات الأمريكية إبان الحرب المؤيدة لمنح الشعوب حق تقرير المصير. بيد أن كليهما شعر بالخذلان حين قوبلت مناشداتهما بالتجاهل التام، وساءهما دعم واشنطن غير المباشر للقوى الاستعمارية التي كانا يسعيان للإطاحة بها.

الزعيم «هو تشي منه»

ولد الزعيم القومي الفيتنامي الأسطوري عام ١٨٩٠ لعائلة متعلمة ثرية نسبيًّا. غادر وطنه عام ١٩١٢، لعدم استعداده للعمل لمصلحة النظام الفرنسي الاستعماري، واستقر به الحال في النهاية داخل تجمع للفيتناميين المغتربين في باريس عام ١٩٢٠، ثم تلقى تدريبه الأيديولوجي والتنظيمي في الاتحاد السوفييتي، وعمل كوكيل لمنظمة الشيوعية الدولية (كومينترن) خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وأسس الحزب الشيوعي للهند الصينية عام ١٩٣٠. عاد «هو» إلى فيتنام عام ١٩٤١، بعد غربة دامت قرابة ٣٠ عامًا، وأسس «اتحاد استقلال فيتنام» (فيت منه) كبديل قومي للحكم الفرنسي والياباني. وفي الثاني من سبتمبر ١٩٤٥، في أعقاب استسلام اليابان، أعلن قيام جمهورية فيتنام الديمقراطية المستقلة.

بحلول عامي ١٩٤٨ و١٩٤٩، أدت مجموعة من العوامل الإقليمية الإضافية المترابطة بالمسئولين الأمريكيين إلى الشعور بمزيد من القلق حيال شئون منطقة جنوب شرق آسيا، والتدخل فيها. فقد باتت الصراعات الاستعمارية المستعرة في الهند الصينية وجزر الهند الشرقية، بالإضافة إلى التمرد الذي شهدته الملايو البريطانية تحت قيادة الشيوعيين، عبئًا كبيرًا على برنامج تعافي أوروبا الغربية. كانت المنتجات الرئيسية لجنوب شرق آسيا تساهم في المعتاد في النشاط الاقتصادي، وقدرة الكسب بالدولار، بكل من بريطانيا وفرنسا وهولندا. بيد أن الظروف غير المستقرة في جنوب شرق آسيا لم تعق مثل هذا الإسهام وحسب، بل التهمت الأموال والموارد والقوى العاملة المطلوبة لتنفيذ برنامج مارشال وتحالف الأطلسي الناشئ، وهي أهم الأولويات الأمريكية في الحرب الباردة. كان الخبراء الأمريكيون مقتنعين بأن عدم الاستقرار السياسي في جنوب شرق آسيا وما يستتبعه من جمود اقتصادي يتسبب بالمثل في كبح قدرة اليابان على التعافي. كانت اليابان تعتمد على أسواقها الدولية من أجل البقاء الاقتصادي. لكن مع إحكام الشيوعيين قبضتهم على الصين حث واضعو السياسات الأمريكيون اليابان على عدم المتاجرة مع الصين؛ أكبر أسواق اليابان قبل الحرب، وذلك خوفًا من أن تقرب الصلات التجارية بين طوكيو وبكين على المستوى السياسي. بدت آسيا أكثر حل واعد لمعضلة الصادرات اليابانية، لكن يجب إنهاء الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تجتاح المنطقة أولًا. مثل اعتلاء نظام شيوعي لسدة الحكم في أكبر دول قارة آسيا من حيث التعداد السكاني العامل الخارجي الكبير الآخر الذي حث أمريكا على تبني دور أكثر نشاطًا في جنوب شرق آسيا. خشي المحللون الأمريكيون من نزعات الصين التوسعية؛ إذ مثلت إمكانية أن تستخدم الصين قوتها العسكرية لفرض سطوتها على أجزاء أخرى من جنوب شرق آسيا أحد التهديدات، وتَمَثَّلَ تهديد آخر في احتمالية تقديمها الدعم للحركات الثورية.

استجابة لتلك المشكلات، قطعت الولايات المتحدة على نفسها عددًا من الالتزامات الجديدة حيال جنوب شرق آسيا تهدف إلى تشجيع الاستقرار السياسي بالمنطقة من جانب، واحتواء التهديد الصيني من جانب آخر. كان أهمها التخلي عن النهج شبه المحايد حيال صراع الهند الصينية وتبني سياسة دعم صريح للفرنسيين، والاعتراف رسميًّا في فبراير ١٩٥٠ بالحكومة التابعة التي عينتها فرنسا برئاسة الإمبراطور السابق باو داي والوعد بالدعم العسكري المباشر. أيضًا زادت إدارة ترومان من دعمها للقوات البريطانية التي تقاتل العصيان الشيوعي المسلح في الملايو. ووعدت واشنطن بتقديم مساعدات اقتصادية وفنية لحكومات بورما وتايلاند والفلبين وإندونيسيا. كانت إندونيسيا قد حصلت على الاستقلال في ديسمبر ١٩٤٩، بعد صراع مرير مع الهولنديين، وهو ما تحقق في جزء منه بفضل تخلي الولايات المتحدة عن نهجها شبه المحايد هناك أيضًا، مع أنه تمثل في هذه الحالة في الضغط على حليفتها الأوروبية للاعتراف بالحركة القومية التي بدت معتدلة وغير شيوعية.

لكن حيثما رأت الولايات المتحدة الأخطار، كان خصومها في الحرب الباردة يرون الفرص. عملت الصلات الودية، والمصالح المشتركة، على تشكيل جبهة موحدة بين ماو وستالين وهو تشي منه. كان هو تشي منه — معتنقُ الشيوعية لثلاثة عقود الذي خدم على نحو مؤثر بمنظمة الشيوعية الدولية والفيتناميُّ الوطنيُّ ذو السجل الناصع — قد زار بكين في يناير ١٩٥٠ في محاولة للحصول على الاعتراف الدبلوماسي والدعم المادي من حكام الصين الجدد. وفي الشهر التالي سافر إلى الاتحاد السوفييتي والتمس بصورة شخصية الدعم من ستالين، وماو؛ الذي كان هو الآخر موجودًا في موسكو في ذلك الوقت لإضفاء اللمسات الأخيرة على معاهدة التحالف الصينية السوفييتية. وفي أوائل عام ١٩٥٠ أسبغت كل من موسكو وبكين اعترافهما الدبلوماسي الرسمي بجمهورية فيتنام الديمقراطية الوليدة بزعامة هو، وبعدها بوقت قصير أمر ماو بتزويد مقاتلي هو بالمعدات العسكرية والتدريب العسكري. آمن الزعيم الصيني بأنه عن طريق تقوية الشيوعيين الفيتناميين سيكون بمقدوره حماية الحدود الجنوبية للصين، وتقليل التهديد القادم من جهة الأمريكان وحلفائهم، ولَعِبُ دورٍ رئيسي في الصراع ضد الاستعمار في آسيا. أسس ماو «مجموعة استشارية عسكرية صينية» وأرسلها إلى شمال فيتنام للمساعدة في تنظيم قواتِ منه المقاومة للفرنسيين وتزويد استراتيجيتها العسكرية الإجمالية بالخبرة. تزايد اهتمام ماو بقضية قوات منه، ودعمه لها، بعد اندلاع الحرب بشبه الجزيرة الكورية في يونيو ١٩٥٠، تمامًا مثلما تزايد اهتمام الولايات المتحدة ودعمها للجهود العسكرية الفرنسية مع بدء الصراع الكوري.

الحرب تصل إلى كوريا

في الساعات الأولى من صباح الخامس والعشرين من يونيو ١٩٥٠ عبرت قوة عسكرية مؤلفة من قرابة ١٠٠ ألف جندي كوري شمالي، مزودين بأكثر من ١٤٠٠ قطعة مدفعية و١٢٦ دبابة، دائرة العرض الثامنة والثلاثين ودخلت كوريا الجنوبية. أذِن هذا الغزو غير المتوقع بمرحلة جديدة أخطر كثيرًا في الحرب الباردة، ليس فقط في آسيا، بل في العالم أجمع. كان رد فعل إدارة ترومان قويًّا، وذلك لثقتها من أن مثل هذا الهجوم ما كان ليحدث دون دعم الاتحاد السوفييتي والصين، وهو التقييم الذي ثبتت صحته من واقع الأدلة الحالية، ولاقتناعها بأنه نذير لنهج هجومي عالمي عدواني أجرأ من جانب القوى الشيوعية. وعلى الفور أرسلت الولايات المتحدة قواتها البحرية والجوية إلى كوريا من أجل درء هجوم كوريا الشمالية وتعزيز دفاعات كوريا الجنوبية. وحين ثبت أن التدخل الأولي لم يكن كافيًا، أرسلت الإدارة الأمريكية حشودًا عسكرية قتالية، صارت جزءًا من قوة دولية بفضل إدانة الأمم المتحدة للغزو الكوري الشمالي. وفي السابع والعشرين من يونيو خاطب الرئيس ترومان الشعب الأمريكي قائلًا: «لقد أوضح الهجوم على كوريا بما لا يدع مجالًا للشك أن الشيوعية تجاوزت التآمر لغزو الدول المستقلة، وأنها ستستخدم الغزو المسلح والحرب.» وكشف في الخطاب ذاته عن أنه أمر بإرسال الأسطول السابع إلى مضيق تايوان، وأنه سيزيد الدعم المقدم للفرنسيين في الهند الصينية، ويسرع بتقديم مساعدات إضافية للحكومة الفلبينية الموالية لأمريكا التي كانت تخوض معركة ضد متمردي «الهوك». خلف تلك التدخلات الأربعة — في كوريا والصين والهند الصينية والفلبين — كمنت قناعة أمريكية بأن تهديدًا موحدًا هائل الحجم كان يشن ضد المصالح الغربية من جانب حركة شيوعية جديدة عدوانية معادية تحت زعامة الاتحاد السوفييتي وشريكتها الصغرى الصين.

كان للحرب الكورية أبلغ الأثر على الحرب الباردة. فلم يؤدِّ القتال في كوريا إلى اشتداد الحرب الباردة وتوسعها الجغرافي، والتهديد بصراع أوسع بين الولايات المتحدة والقوى الشيوعية، وإذكاء العداوة بين الشرق والغرب؛ لم يؤدِّ إلى كل هذا فقط، بل أدى أيضًا إلى زيادة مهولة في الإنفاق الدفاعي الأمريكي، وعلى نطاق أوسع إلى إضفاء الطابع العسكري على السياسة الخارجية الأمريكية وعولمتها. ففيما وراء آسيا، عجل الصراع في كوريا أيضًا بعملية تقوية حلف شمال الأطلسي، وتسليح ألمانيا، وتمركز القوات الأمريكية على الأراضي الأوروبية. ويقول الدبلوماسي تشارلز بولين: «كانت الحرب الكورية، لا الحرب العالمية الثانية، هي ما جعلت الولايات المتحدة قوة سياسية عسكرية عالمية.» ويؤكد الباحثون في إجماع نادر الحدوث على هذا الرأي؛ جاعلين من الحرب الكورية نقطة التحول الرئيسية في التاريخ الدولي لحقبة ما بعد الحرب. ويؤكد جون لويس جاديس أن «التزام أمريكا الحقيقي باحتواء الشيوعية في كل مكان يرجع بأصوله إلى الأحداث المحيطة بالحرب الكورية». يصف وارين آي كوهين هذه الحرب بأنها «حرب غيرت من طبيعة المواجهة السوفييتية الأمريكية، وغيرتها من منافسة سياسية منتظمة إلى نزاع أيديولوجي عسكري يهدد بقاء كوكبنا ذاته».

ومع ذلك، يقول كوهين أيضًا: «أن تكون حربٌ أهلية في كوريا نقطة التحول المحورية في العلاقة السوفييتية الأمريكية بعد الحرب، وتزيد احتمالية نشوب حرب عالمية؛ هو أمر غير مستغرب بالمرة من منظورنا الحالي.» بالتأكيد في أعقاب الحرب العالمية الثانية كانت أماكن كثيرة أخرى مرشحة لتكون محور تنافس القوى العظمى. كانت كوريا، التي احتلتها اليابان وحكمتها كمستعمرة منذ عام ١٩١٠، حاضرة في المؤتمرات المنعقدة وقت الحرب بوصفها مجرد إقليم ناء صغير الحجم يقع عبء تحديد مستقبله على عاتق الحلفاء المثقل بالفعل بالأعباء. وفي مؤتمر بوتسدام، وافق السوفييت والأمريكان على اقتسام مسئوليات الاحتلال هناك من خلال تقسيم البلاد عند دائرة العرض الثامنة والثلاثين، واتفق الجانبان على العمل نحو تأسيس كوريا موحدة مستقلة في أقرب وقت يمكن فيه عمل ذلك. وفي ديسمبر ١٩٤٥، في مؤتمر لوزراء الخارجية في موسكو، وافق السوفييت على اقتراح أمريكي بتأسيس لجنة سوفييتية أمريكية مشتركة للإعداد لانتخاب حكومة كورية مؤقتة كخطوة أولى على سبيل الاستقلال الكامل. لكن سريعًا ما راحت الخطة ضحية للتوترات المصاحبة للحرب الباردة التي عصفت بأي تعاون، أو حل وسط، ذي معنى بين موسكو وواشنطن. وبحلول عام ١٩٤٨ ترسخ الانقسام بين القسمين المحتلين. ففي الشمال، اتخذ النظام الموالي للسوفييت تحت زعامة المحارب السابق ضد اليابان كيم إيل سونج كافة مظاهر النظام المستقل. وقام نظيره في الجنوب، النظام الموالي للأمريكيين بزعامة سينجمان ري؛ العدو اللدود للشيوعية والقومي الكوري ذي التاريخ الطويل، بالأمر نفسه. وعلى نحو منتظم هدد كل طرف منهما الآخر؛ إذ لم يقبل الكوريون الشماليون ولا الجنوبيون بالانقسام الدائم لوطنهم.

في عام ١٩٤٨ بدأت إدارة ترومان، الساعية لتحرير نفسها بلباقة من التزاماتها نحو كوريا، في سحب قواتها العسكرية من شبه الجزيرة الكورية. لم ير مخططو الدفاع الأمريكيون أن أفراد القوات المسلحة الأمريكية موزعون على نحو مبالغ فيه حول العالم بما يحتم سحبهم وحسب، بل إن كوريا في حقيقة الأمر لم يكن لها سوى قيمة استراتيجية طفيفة. بيد أن الغزو الكوري الشمالي الذي وقع بعدها بعامين قلب هذه النظرة تمامًا. فبالرغم من افتقار كوريا إلى القيمة الاستراتيجية في حد ذاتها، فإنها تعد رمزًا بارزًا، خاصة في ظل الدور الأمريكي كراعٍ وحامٍ لنظام سيول. علاوة على ذلك، كان الهجوم الكوري الشمالي، المقبول والمدعوم من طرف الاتحاد السوفييتي والصين، يهدد مصداقية أمريكا كقوة إقليمية وعالمية تمامًا مثلما كان يهدد بقاء حكومة كوريا الجنوبية ذاتها. وفي نظر ترومان وأتشيسون وغيرهم من كبار صانعي القرار، بدت مخاطر الغزو الكوري هائلة. ومن ثم، ودون أن يثار أي اعتراض، سريعًا ما أجاز الرئيس التدخل العسكري الأمريكي. وفي خطاب ألقاه ترومان للجماهير في الثلاثين من نوفمبر قال: «لو رضخت الولايات المتحدة لقوة العدوان فلن تعود أي دولة آمنة أو مطمئنة. وإذا نجح العدوان في كوريا فلنا أن نتوقع انتشاره عبر آسيا وأوروبا وصولًا لجانبنا هذا من الكرة الأرضية. إننا نحارب في كوريا من أجل أمننا القومي وبقائنا.»
figure
خريطة ٢: الحرب الكورية، ١٩٥٠–١٩٥٣.2

جاء هذا التصريح بعد دخول القوات الصينية الشيوعية «المتطوعة» المعركة، وهو التطور الذي غير وجه الصراع الكوري، والحرب الباردة ككل على الأرجح. كانت ثقة ترومان ومستشاريه العسكريين قد بلغت عنان السماء بعد أن حول ماكارثر دفة الحرب في سبتمبر ١٩٥٠ حين طوق قوات كوريا الشمالية بإنزاله الأسطوري في إنشون. وقد دخلت قوات الأمم المتحدة تحت قيادته أراضي كوريا الشمالية في السابع من أكتوبر، وبحلول الخامس والعشرين من الشهر عينه وصلت بعض الوحدات المتقدمة إلى نهر يالو، على امتداد الحدود بين الصين وكوريا الشمالية. ومع تقدمها البطيء نحو الأراضي الصينية أعلم ماو ستالين بأنه قرر إرسال قوات صينية لتعبر نهر يالو. وقد فسر قراره قائلًا: «السبب هو أننا لو سمحنا للولايات المتحدة باحتلال كل الأراضي الكورية وذاقت القوات الكورية الثورية هزيمة ماحقة، فسينتشر الأمريكيون في أرجاء الشرق بأسره.» رأى ماو أيضًا التبعات الإقليمية والعالمية لنتيجة الصراع الكوري. أما ماكارثر، الذي استهان بالتهديد العسكري الصيني، والذي كادت قواته تُطرد بالكامل تقريبًا من كوريا الشمالية بنهاية نوفمبر، فقد قال لهيئة الأركان المشتركة: «إننا نواجه حربًا جديدة بالكامل.»

بحلول ذلك الوقت كان العالم يشهد حربًا باردة جديدة تمامًا، حربًا امتدت حدودها إلى خارج أوروبا. فبزوغ نظام ماو في الصين، والتحالف الصيني السوفييتي، والدعم السوفييتي والصيني لمغامرات كوريا الشمالية العسكرية، وتدخل قوات الولايات المتحدة والأمم المتحدة في كوريا وما تبعه من دخول للقوات الصينية، ووجود عناصر شيوعية داخل الحركات القومية بجنوب شرق آسيا، كل هذا كان من شأنه أن يضمن للحرب الباردة حضورًا مستمرًّا في آسيا ما بعد الحرب وقتًا طويلًا. استمرت الحرب الكورية نفسها حتى يوليو ١٩٥٣، حين وقعت الأطراف المتحاربة على هدنة لم تحقق ما هو أكثر من تبادل لأسرى الحرب والعودة إلى ما كانت الأمور عليه قبل الغزو. ظلت دائرة العرض الثامنة والثلاثون الحد الفاصل، ليس فقط بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، بل أيضًا بين الكتلتين الشرقية والغربية.

هوامش

(1) © Corbis.
(2) From Robert Schulzinger, American Diplomacy in the Twentieth Century (Oxford University Press, 1994).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤