الفصل الرابع

هذه هي القصيدة الثامنة في الأصل. وهي مما عربته ببعض التصرف. وقد جاء نظمها العربي على وزن قليل المقاطع وعلى غير قافية ملتزمة، وإنما عفوًا حصل ذلك، فكان على مقتضى الحال. والنكتة في السؤال: «أين هي» واستحياء الفتاة من الرد. وصيغته الأصلية: «هي أنا». وجمال هذه الأبيات في تمثيلها الحياء الذي ينشأ عنه الغنج والدلال من طبائع الحبيب. والمرأة الهندية على أعظم ما يكون من الحشمة والأدب، وهي لولا تملك فطرة الحياء من خلقها لما تحلت بهاتين الخلتين. والحياء وهو من أعوان العفة والأنفة، وإن كان مردودًا إلى الضعف والخوف، يكون للمرأة حلية وزينة تدعوان إليها وترغبان فيها، فيصبح ذريعة تتذرع بها وقوة تنصر ضعفها على بأس الرجل وأيده. وقد قيل: أحب شيء إلى الإنسان ما منع، والمنع والتمنع في المرأة فرعان من شيمها والحياء أصلهما.

وقليل ما في الشعر العربي مما جعل على لسان المرأة حتى كأنها هي تعرف وتفصح عن عواطفها، بل لعله نادر جدًّا وأقل من القليل. وسترى لهذه القصيدة أخوات في هذا الباب:

لمَّا تجلَّى السِّحرْ
وقبَّلتْني الصِّبا
ونور خِدري استترْ
ومن حياءٍ خبا
قامت طيور الغداةْ
بكل لحنٍ شجي
وقمتُ: مَنْ للفتاةْ
ثرثارةِ الدُّملجِ!
إكليل زهرٍ ندي
في فرعيَ المُرسل
قلبي خلِيٌّ، يدي
رنَّانةٌ بالحلي
وجاء من فجرهِ
موشَّحًا بالصَّباحْ
في الجيد١ من درِّهِ
أغلى ثنايا الملاحْ
يسأل عنِّي أنا:
أين التي أطلبُ؟
فقلتُ: ليست هنا:
إنَّ الحيا يكذبُ

•••

بعد الأصيل الجميلْ
قبل اضطرابِ السراجْ
في ليل شعري الطويلْ
ضيَّعتُ بعض اللَّجاجْ
وجاء في المركبةْ
والشمسُ رهن الغروبْ
والخيل في كبكبةْ
والنقع ملءُ الجيوبْ
يسأل عنِّي أنا:
أين التي أطلب؟
فقلت: ليست هنا:
إنَّ الحيا يكذبُ

•••

يا ليلتي الزاهرةْ
بحسن فصل الربيعْ
طولي — أنا ساهرة
والنومَ لا أستطيعْ
تهفو لِطاف الجَنوبْ
إلى سراجي المنيرْ
ببغاءُ خِدري الطروبْ
من سجنه في سريرْ
محزونةٌ جاثمةْ
وحدي على الأرضِ
لا أحسد النائمةْ
والطرف لا أُغضي
أقول: عُدْ للطلَبْ
واسألْ، فها هي هنا
إن الحيا قد كذبْ
ما تلك إلا أنا

هوامش

(١) الهنود على تفاوت طبقاتهم يتختَّمون كسائر الشعوب، ويلبس رجالهم الحلي أساور على الزند، وأقراطًا وشنوفًا في الآذان، وعقودًا على الأعناق. وقد اشتهر أمراء الهند ممن زار العواصم الأوروبية بما يلبسونه من ثمين الحجار الكريمة وعقود اللؤلؤ. وحضرت زفاف ولي العهد لمملكة بارودا، فرأيت العروس وعلى صدره مثل هلال الربع، بضعة من عقود اللؤلؤ خلتها تثقل عنقه فذكرت بيت أبي العلاء:
وحامل ثقل الثرى جيدُه
وكان يشكو الثقل من عقده
ومما يدلنا على أن رجالهم كانوا والنساء على حدٍّ سوى في لبس الحلي، منذ قديم الزمان، ما نقرأه في «الماهابراتا» و«الرامايانا»؛ وهما الملحمتان الهنديتان الكبيرتان، وفي سائر الآثار السنسكريتية. ومن ذلك ما ورد في رواية شاكونتلا وصفًا للملك وقد اعتراه الهم ودهمه الغم:
قد تردى المسوح فهو مليكٌ
زاهد عاطل من النبل حال
قانعٌ من حليِّه بسوار
من نضار في معصم ذي انتحال
وما ألطف تصرف «قاليداس» بهذا المعنى في موضع آخر من روايته هذه؛ إذ يُنطق هذا الملك العاشق بهذه الأبيات واصفًا ما اعتراه من النحول:
وسواري حلية رصَّعتُها
بدموع سابلات بانسجامْ
إن تَرعْه رعشة في معصمي
سال للمرفق يشكو ما يُسامْ
عز ما يثنيه فالجدل وهى
واغتدى الساعد جلدًا وعظامْ
وعفا مرسوم آثار القِسي
فكأني لم أكن رب السهامْ
والضمير في «ترعه» عائد إلى السوار. والرعشة في المعصم كالطنين في الأذن، والطرفة في العين، مما يتكنهون به ويعدونه نذيرًا بشرٍّ واقع أو بشيرًا بخير لاحق، على حسب ما يكون في اليمين أو اليسار من هذه الأعضاء. وتتمة لتفسير هذه الأبيات نقول: إن الملك كان مولعًا بالصيد، وكان شديد العضل، وقد أصبح الآن من النحول، ودقة العود، بحيث يسيل السوار من معصمه إلى مرفقه، وعبَّر عن زوال لحمه وشدة هزاله بقوله: إن آثار الرمي (عن القوس) التي كانت ظاهرة على ذراعه قد اضمحلَّت وامَّحت حتى كأنه لا عهد له بالصيد والرماية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤