حكايةٌ بلَا بدايةٍ ولا نهاية

١

هتف المُنشد في نغمة بدائيَّة:

«يا سيِّدي الأكرم على بابك.»

فردَّد المُريدون:

«الله .. الله .. الله.»

تابعت عيناه المشهد من خصاص نافذة ببهْوِ الاستقبال. تابعتا موكب أهل الطريقة وهُم يُنشِدون ويصفِّقون على أنغام الناي ودقِّ الدفوف وتحت البيارق يُنشدون. تزاحموا حول الضريح وأمام البيت الكبير حتَّى امتلأت بهم الحارة. تسلَّلت إليه في موقفه وراء النافذة نسائمُ دافئة من الحديقة مُترعة بأخلاطٍ من روائح الفلِّ والياسمين والحناء والقرنفل. لبث بمكانه في بذلته السوداء الأنيقة مُغطَّى الرأس بعمامةٍ مقلوزة، ينظر ويصغي باهتمام.

«يا سيِّدي الأكرم على بابك.
الله .. الله .. الله.»

وارتفع صوت مُكتسح النبرة يُطالب الجميع بالسكوت، فسادَ الصمت. راح يخطب قائلًا: «هنيئًا لأهل مصر. هنيئًا لمصر. اختارك الأكرمُ مأوًى ومستقرًّا لشخصه ولذُريَّته. هنيئًا لك يوم قصَدَكِ قادمًا من المشارق. على قدمَيه جاء. يستأنس وحوش البراري. يخترق الجبال، يسير فوق الماء، يُفجِّر العيون في الصخر. وهلَّ على القاهرة السعيدة كالبدر. وتجوَّل في أطرافٍ مُتباعدة حتَّى استقرَّ به المقام في هذه البقعة الطاهرة حيث يقوم مسجدُه وضريحه. هنيئًا يا مصرُ، وهنيئًا يا حارتنا، حارة الأكرم وموطن ذُريته ومُريديه. منذ قرونٍ خلت انبثق في هذا المكان نور ما زال يجذِب إليه فراشاتٍ مِن طالبي الهداية والغفران، وترك لكم المسجد والبيت الكبير. البيت الكبير مركز الروح والنور والهُدى، تدور حوله كواكب الأكرمية ما بين سوريا والعراق وتركيا ولبنان وفلسطين والجزيرة والهند وفارس وتونس والجزائر ومراكش وطرابلس. بيتٌ هو القلب الخفَّاق لعالَم رُوحي شامل. يا سيِّدي الأكرم تحيةً وسلامًا. يا مَن جُبتَ الأقطار كلها واخترت لمقامك هذا القُطر، هذه العاصمة، هذه الحارة، هذا البيت. يا صانعَ الكرامات تحيَّةً وسلامًا. ولآخِر خلفائك وذُريتك مولانا محمود الأكرم تحيَّةً وسلامًا.»

تعالت الهتافات من الأركان، ثم أنشد المُنشد وردَّد المريدون:

«يا سيِّدي الأكرم على بابك.
الله .. الله .. الله.»

تحوَّل عن النافذة. بوجهٍ أسمر مُستطيل ولحيةٍ سوداء قصيرة مُدبَّبة. تطلع إلى شيخٍ في الستين يقِف وسط البهو الكبير تحت نجفةٍ برُنزية على هيئة مِئذنة. أنعم فيه النظر فتلقَّى الشيخ نظرته بخشوعٍ وقال: تحيَّةً وسلامًا يا مولانا محمود الأكرم.

فتمتم الرجل باسمًا: طاب يومُك يا شيخ عمار.

مضى — والآخر يتبَعُه — إلى كنبةٍ تركيَّة مفروشة بالسجاد الشيرازي على مقربةٍ من باب السلاملك. جلس ودعا الشيخ إلى الجلوس. تتابعت نسائم الصيف العطِرة مُتهادية في تضاعيف أصيلٍ غابت شمسُه وراء أشجار التوت المُعششة بالعصافير. قال الشيخ محمود: مَن يرى مَوكبنا لا يتطرَّق إليه شكٌّ في استقرارنا.

فقال الشيخ عمار بحماسٍ: ما زالت الدنيا بخير.

هزَّ الرجل رأسه في أسًى مُتسائلًا: ماذا جرى لحارتنا؟

– لا شيء، سحابة صيف، عبث أطفال.

– إنك لا تؤمِن بما تقول يا شيخ عمار، هل سبق أن نال لسانٌ من الطريقة؟

– إنه جيل جديد عجيب يمتطي مركبة الشيطان.

قطَّب محمود الأكرم قائلًا: يسخرون من الطريقة، ومن المُريدين، ومنِّي شخصيًّا، ويرسلون النكات في مقاهي الحارة بكلِّ وقاحة.

– وباء هذا الزمن، ماذا جرى لهذا الجيل؟ كيف هانت عليه مُقدَّساته، ولكنه عبث أطفال ليس إلَّا.

– ألم يسمعهم المُريدون؟

– بلى يا مولاي.

– ماذا فعلوا؟

– نصحوهم بالتي هي أحسن، وركبهم الغضب مرات، ولكن أحدًا منهم لم ينسَ أنَّ الحارة أُسرة واحدة.

قال محمود الأكرم بحدَّة: لولا الأكرمية ما كان للحارة شأن!

– هو الحق يا مولاي، وقد هيَّجني الغضب مرة فكدت …

ولكنه قاطعه قائلًا: لا يليق العنفُ بأهل الطريق!

– ولكن للصبر حدود.

– أسأل الله ألَّا تدفعنا الأحداث إلى تجاوُز القصد.

رفع بصره إلى الساعة الكبيرة في الجدار الأوسط ثم تساءل: متى يَجيئون؟

– لعلَّهم في الطريق إلينا.

– ألا يُوجَد بينهم زعيم أو مُحرِّض، أو ما شاكل ذلك؟

– ليس هناك تنظيم أو زعامة، ولكن ثمَّة شابٌّ يتَّسِم بوقاحةٍ مُركَّزة يُدعى علي عويس.

ضيَّقَ الشيخ عينَيه مُتفكرًا وقال: علي عويس! .. إني أعرف هذا الاسم أو على الأقل بعضه.

– إنه ابن المرحوم عويس سوَّاق الكارو.

استقام ظهر الرجل بغتةً وتساءل: شقيق المُدرِّسةِ؟!

– شقيق زينب عويس المُدرِّسة.

نظر الشيخ محمود إلى حذائه الأسود صامتًا، فقال الشيخ عمار: لعلَّه ليس من الحِكمة أن نفتح المدارس لكل مَن هبَّ ودبَّ!

فتمتم الشيخ محمود وكأنما يُحدِّث نفسه: إذن فهو شقيق زينب عويس.

– يُغادر كل صباح بيتًا قديمًا أُعِدَّ مدخله قديمًا موقفًا للكارو ليذهب إلى الجامعة!

– يُقال إن شقيقته شقَّت طريقها بإرادةٍ من حديد.

– إنها عانس، مُدرِّسة أطفال، ذات دخلٍ ضئيل، وفي هذه الجحور يترسَّب الحقد يا مولاي، ويتستَّر على نفسه السوداء بالسُّخرية والنكات الجارحة.

– ليتك دعوتَ شابًّا آخر.

– إنه أسلَطُهم لِسانًا!

– كان أبوه مُريدًا لأبي، وكان محمودَ السيرةِ رغم ضِعته وفقره.

– قلتُ لهم اختاروا من بينكم نُخبة لمقابلة مولانا فكان أجرأهم على القبول، رفض البعض، وتردَّد البعض الآخر، ولكني أعتقد أن سيَجيء منهم نفرٌ لعلَّهم أصلبهم.

– طليعة الخاطئين.

تنهَّد الشيخ عمار قائلًا: لم تعرف حارتنا أمثالهم من قبل.

– هو زمن الغرور والوقاحة.

– يُخيَّل إليَّ أن جامعاتنا مَعاقل أجنبية!

حدجَه الشيخ محمود بنظرةٍ عابسة فتراجع الرجل في استحياءٍ قائلًا: إلا مَن هداه الله وحفظه.

– رحم الله أبي.

•••

– لقد جئتك بالمُعلمين ولكنك ترغب في دخول مدارس الدنيا.

– لا بأس من ذلك يا أبي.

– كلُّ علمٍ فهو من عند الله.

– الحمد لله.

– ولكن العبرة بالجهاد وعليه يتوقَّف الطريق.

– سمعًا وطاعةً يا أبي.

– لكي تكون خليفةً كما ينبغي لك.

– أجل يا أبي.

– إن علوم الدنيا لها نهاية أما جهاد الطريق فلا نهاية له.

•••

ولما خرج من أعماق صمته قال الشيخ عمار: ليرحم الله أباك.

– ليرحمنا الله جميعًا.

وطيلة الوقت لم ينقطع إنشاد المُنشِدين وترديد المُريدين، ولكنَّه انخفض درجات كأنما يجيء من بعيد. تابعه الشيخ محمود بشيءٍ من الحزن، ثم قال: يا للذكريات، عرفنا ذات يوم أسماء جذَّابة كأرشميدس ونيوتن، وحقائق غريبة كالجُزيء والحركة، ولم أتصوَّر وقتذاك أنها ستُطاردنا بعنفٍ كالزمن.

دخل خادم يستأذن للقادمين .. أشار الشيخ محمود للشيخ عمار فقام ليُغادر المكان في أثر الخادم ولكنه أضاء النجفة قبل أن يُغيبه الباب. دخلت مجموعة من الشبان، عشرة بالتمام، دون العشرين سنًّا، يرتدون البنطلونات والأقمصة نصف كُم، ولا يخفى عن عينٍ قِدَم ملابسهم. وقف الشيخ لاستقبالهم فتمَّت المصافحة بطريقةٍ حديثة لم يتوقَّعها ولم يألفها. مدَّ يدَه منتظرًا تقبيلها ولكن شدَّت عليها الأيدي باحترامٍ دون تقبيل. بدأ التعارُف فقدَّم كلٌّ نفسه. الجميع طلَبة بالجامعة، بالآداب خاصةً، ما عدا واحدًا بالهندسة، وآخر بالعلوم هو علي عويس. تفحَّصه بنظرةٍ عميقة بقدْر ما سمح الموقف الخاطف. لمح قسماتٍ غير غريبة كنغمةٍ قديمة عُزِفت بعد نسيان، ونظرة حرَّكت باطنه بقوةٍ مُذهلة. فسَّرَها بالحنق فاستعاذ بالله من الشيطان في سِرِّه ولكنها كانت ألصق بالقلق والحيرة.

قال باسمًا: حللتم أهلًا وسهلًا.

فأجاب أكثر من صوت: شكرًا يا صاحب الفضيلة.

قلَّب عينَيه في الوجوه الغالِب عليها الشحوب وقال: لا تعجبوا لدعوتي إيَّاكم، فهذا البيت مفتوح لجميع أبناء الحارة، وبمعنًى آخر، هو بيت الجميع.

فقال أحدهم: فرصة طيبة وهِبة سعيدة.

لاحظ أن الآخرين جالوا بأبصارهم في المكان وصاحِبُهم يتكلم، فشعر بحدَّة التناقُض بين رثاثتهم وفخامة الجدران المُحلَّاة بالأبسطة المُزركشة والحُصر الملوَّنة وزينة الأرابيسك، والسقف الأبيض العالي تتدلى من وسطه النجفة البرُنزية ومن أركانه الفوانيس الأندلسية. بدَوا كحشراتٍ حادَّة تغوص في شباك البساط الكبير الدسم.

قال الشيخ: نحن قوم مُهمتنا في الحياة التواضُع لله وحُب الناس.

– ما أجمل أن نسمع ذلك.

– وإذا كان الحوار مُفيدًا بين الناس في كل حينٍ فما أوجبه إذا نشب بينهم ما يدعو إلى سوء التفاهُم.

صدَّقوا على قوله بإحناءاتٍ من رءوسهم العارية فقال: وطريقتي أن أدخُل الموضوع رأسًا، بلا لفٍّ ولا دوران، ثم أتركه يتفرَّع كيف شاء بعد ذلك.

استقرَّت في أعيُنِهم نظرات استطلاعٍ وتوقُّع فقال: بلغَني يا سادة أنَّكم تخوضون في كرامتنا وتهزءون بنا؟

فأجاب أحدهم: لا يخلو الخبر من مُغالاة.

– أتُنكِرون ذلك؟

فأجاب آخر: لعلَّ مِزاحنا علا أكثر مما ينبغي.

قال الشيخ محمود مُمتعضًا: لو جاء ذلك من خارج حارتنا ما اكترَثْنا له، بل حتَّى وهو من صميم حارتنا كان يُمكن أن ألقاه بالصبر والحِلم لولا أن بعض المُريدين همُّوا مرة بالدفاع عن مُقدَّساتهم فآلَمَني ذلك جدًّا، إذ إننا قوم مُهمتنا الأولى في الحياة هي حُب الناس لا الاعتداء عليهم، وبخاصة إذا كانوا من أبنائنا، لذلك قررتُ أن أدعوكم لتتَّضِح لأعيُننا المواقف والسبل، ولنتعاون على تحكيم الحِكمة والرَّشاد فيما بيننا.

قال صوت: سلوك حميد خليق بفضيلتكم.

قلَّب عينَيه في وجوههم مرةً أخرى ثم تساءل: ألا تعرفون ماذا يعني الأكرم وطريقتُه لحارتنا؟

ساد الصمت قليلًا حتَّى خرج منه علي عويس قائلًا: الحقُّ أن نَوايانا حسَنة وإن يكن مزاحنا عاليًا، ولكي تعرفنا على حقيقتِنا فاعلَم يا سيدي أننا طلَّاب علم، نُحِب الحقيقة أكثر من أي شيءٍ في الوجود، يؤسِفنا أننا أزعجناك.

عاوَدَه القلق لدى سماع صوتِه ولكنه كبَحَ انفعالاته وقال: نحن لا يُزعِجنا شيء، حتَّى الموت نفسه لا يُزعِجنا، ونحن طلَّاب الحقيقة منذ الأزل وإلى الأبد.

فقال علي عويس: لعلَّه اختلافٌ في وجهة النظر.

– لم يُطالبكم أحد بالدخول في طريقتِنا.

– الآراء المُتناقضة يا سيدي لا يمكن أن تعيش جنبًا إلى جنبٍ في سلام.

فتساءل الشيخ بحرارة: ألا تعلمون أنه لولا الأكرم، لولا الأكرمية، لَما كان لحارَتِكم ذِكْر ولا لأهلها شأنٌ أو أمل.

فقال علي عويس بثبات: الدنيا تتغير بلا توقُّف ولا رحمة يا مولانا.

– ولكن الحقائق باقية خالدة.

– التغيُّر هو الشيء الوحيد الخالد يا مولانا!

– التغيُّر؟!

– التغير في كل يوم، في كل ساعة، في كل لحظة.

– أراك تتعلق بظاهرٍ كاذبٍ خدَّاع.

– معذرةً يا سيدي فالظاهر الكاذب هو الجمود.

ابتسم الشيخ مُداراةً لضيقِه وقال: لا وقت الآن لمناقشة الظاهر والباطن وإلا طال النقاش بنا دهرًا، بيد أنه واضح أنكم لا تؤمنون بطريقتنا؟

لم ينبس أحد منهم بكلمةٍ فقال الشيخ: الصمت جواب، فهل تؤمِنون بطريقةٍ أخرى؟

فأجاب أحدهم: لنا في الحياة سبيل آخر غير الطرُق!

– إجابة مفجعة، تُرى ماذا تأخذون على طريقتنا؟

فسأله علي عويس: هل يتَّسِع يا سيدي صدرُك لصراحتنا؟

– إنه أوسع مما تتصوَّر.

فقال أحدهم: الحياة في حارتنا مُعاناة أليمة.

وقال آخر: إنها صحراء مُخيفة مليئة بالأكاذيب.

وقال علي عويس: صغار المُريدين، وهم الكثرة الغالبة، حُفاة خانعون.

فقال الشيخ بعجلة: إنهم راضون، والرضا مَطلَب روحي مضنون به على غير أهله.

– لا يملكون حيال قُوَّتكم إلا الرضا وإلا ماتوا جوعًا، ولكن لا شكَّ أنهم يمرُّون حيارى بهذا البيت الكبير الغارق في الرفاهية.

قال الشيخ بحدَّة لأول مرة: بيت آبائي وأجدادي مذ أقامه القطب الأول.

فقال الشابُّ بجرأة جنونية: أُقِيمَ بأموال المُريدين كسائر العمارات الشاهقة في وسط المدينة.

قام الشيخ مُحافظًا على هدوئه ما أمكن. تقدَّم خطواتٍ مُستقبلًا باب البهو المُفضي إلى الحديقة كأنما ليُرطِّب انفعالاته. تمتم دون أن يلتفِت إليهم: قاتل الله الحقد والحسد.

فقال الشاب ثمِلًا باستهتاره: إنهما وقود الحق إذا اختلَّ الميزان.

فقال الشيخ بازدراء: وَقودُنا الحُب وحدَه.

– ذلك يا سيدي أنك لم تذُق عضَّ الجوع ولا ضراوةَ الكدح ولا رهبةَ القوَّة الغشوم.

وتحول الشيخ إليهم بنظرةٍ نافذة وهو يقول: إذن فهذه هي المسألة!

– المسألة؟!

– إنكم تُريدون نقودًا؟!

– بمعنًى ما، ولكننا لا نُريد رشوة.

– ماذا تريدون؟ .. صارِحوني كما وعدتُم.

أجاب أحدهم: ليس في عقولنا مَطالِب أوضح مما نطقَتْ به شكاوانا.

وقال آخر: يُريحنا أحيانًا أن نُطالِب بنقيض ما هو قائم!

فعبس الشيخ قائلًا: لا يخلو كلامكم من خدَر هو التمويه نفسُه، حسَن، إني أشمُّ رائحة فوضوية!

فقال علي عويس: لا تُهمُّنا الأسماء، وفي الوقت نفسه فهي لن تُخيفنا.

– لعلكم تحلمون بالقتل؟

– القتل؟!

– بدأتم بالسخرية وستنتهون بالدم.

– أحلامنا تحوم حول هدفٍ واحدٍ هو التقدُّم.

– يا فتى، إني جامعي مثلكم!

– نعرف ذلك يا سيدي.

فعاد إلى مجلسه وهو يقول: فلنتحدَّث كزملاء.

– هذا شرَف كبير لنا يا سيدي.

فابتسم مُستردًّا بذلك هدوءه وقال: إنكم شباب في مُقتبل العمر، أمامكم فُرَص لا تحصى للتعلُّم من الكتب والحياة والزمن، فأي خطأ تعثرون به قابِلٌ للإصلاح، لذلك لا يُزعِجني كثيرًا أنكم لا تؤمنون بشيء.

– لا نؤمن بشيء؟!

– أتؤمنون بشيء؟

– إن مَن يعمل فلا بدَّ أن يؤمن.

– كثيرون يعملون كالآلات.

– ولكننا نعمل بحماسٍ صادق.

– فلعلَّه الطموح؟

هزَّ علي عويس رأسه هزةَ غيرِ القانع ثم تساءل: ألا يستحقُّ العلم أن نؤمِن به يا مولاي؟

– إنه معرفة باهرة، وهو من أحبِّ القراءات إلى نفسي.

– وما رأيك فيه؟

– إنه باب من أبواب العبادة.

– وقُدرته على السيطرة والتغيير؟

– خيرٌ كثير وشرٌّ كثير.

– هو خير خالِص أما الشرُّ فيجيء من أوضاعٍ إنسانية مُعوجَّة.

– فما الذي يُوجِّه الإنسان نحو الخير؟

– وعي حكيم في مُجتمع سليم.

قال الشيخ بنبرةٍ راسخة قوية: لا إيمان حقيقي إلا بالله ولا خير حقيقي إلا بالله وفي سبيل الله.

وساد صمت فترامى من الحديقة نقيق، وخشخشة أوراق، على حين ارتفعت من الحارة ضجَّة عابثة ضاحكة. جعل الشيخ يُنقِّل عينَيه بينهم. لم يستطع تجنُّب النظر إلى عويس. وقال: لعلكم تؤمنون بالإنسان، هكذا يُقال كثيرًا في هذه الأيام، ولكن ما قيمة الإيمان بالإنسان بغير الإيمان بالبطولة؟

أجاب أحدُهم: لا قيمةَ لشيءٍ بغير البطولة.

– أي ضمان للبطولة — وهي تضحية بالنفس والمال — بغير إيمانٍ كامل بالله؟!

– مِن المؤمنين مَن لا بطولةَ لهم والعكس صحيح!

– على أي أساسٍ تقوم بطولاتهم؟

– إيمانهم بأنفسهم وبعالَمِهم!

– غير كافٍ وحدَه.

– التربية الرشيدة.

– ولا هذه.

فقال آخر: قد نستعين في ذلك بالعقاقير كما نستعين بها على مقاومة الأمراض!

ابتسم الشيخ على رغمه ولكنه قال بامتعاض: حبوب للتضحية .. حبوب للشجاعة .. حبوب للأمانة .. ما شاء الله!

فقال علي عويس مُنفعلًا: لا تسخر منَّا يا سيدي، إن جميع ما حولنا يُثير الحزن الشديد، لقد ضِقْنا بكلِّ شيءٍ ونُريد لكل شيءٍ أن يتغير، وقد ورثنا هذا العالَم عن آباءٍ وأجداد ظُنَّت بهم الحِكمة يومًا ما، فحُقَّ لنا أن نتنكَّر لهم ولتُراثهم.

فتمتم الشيخ مُمتعضًا: أسفي على الآباء والأجداد.

– نحن أجدر بالرثاء منهم.

تفكَّر الرجلُ قليلًا ثم قال: الآن عرفتُ لمَ تسخرون من الطريقة وأهلها!

فقال أحدهم: إنك يا مولانا رجل مُثقف، وليس جمْعُك بين البدلة والعمامة عبثًا، وإنَّ خيرًا كثيرًا يُرجى منك لحارتنا.

– تُرى ماذا يُرجى منِّي؟

– لا شيء يَخفى على فطنتك.

– أعطِني مِثالًا يا بُني.

فقال علي عويس: أن تُمزِّق ستار الأكاذيب الذي يَغشى حارتنا.

– الأكاذيب؟!

– كالتناقُض بين شِعار الزهد والممارسة الفعلية للتسلُّط واقتناء العمارات الشاهقة!

وقال آخر: والكفُّ عن التغنِّي بالخُرافات.

– الخرافات؟!

فقال علي عويس: مَعذرةً عن صراحتنا ولكننا بِتْنا نكرَه الكذب حتَّى الموت.

– زيدوني صراحةً!

– نحن مُقتنعون بأن شيئًا لا يخفى عن فطنتكم.

أعقب ذلك صمتٌ ثقيل .. طال الصمتُ فلم يجرؤ أحدُهم على خرقِه. وبذل الشيخ جهدًا جبَّارًا ليُخفي انفعالاته. ونهض باسمًا. قال: ها قد تمَّ التعارُف بيننا، وذاك من فضل الحوار كما قلتُ في بدء الاجتماع.

فقال أحدهم: نرجو أن تغفر لنا صراحتنا.

فقال الرجل بهدوء: ليغفر لنا الله جميعًا.

صافحهم واحدًا واحدًا. غادروا البهو. ولمَّا خلا المكان اكفهرَّ وجهه. ورَوَّحَ عن انفعاله بالحركة ذهابًا وجيئةً. لم ينتَبِه إلى عودة الشيخ عمار حتَّى مَثل الرجل بين يدَيه. وضع يدَه على كتفه وهو يقول: كما أخبرتني وأكثر.

تمتم الرجل: أبالِسة يا مولاي.

– يريدون سلبَ أموالنا والقضاء على نفوذنا وإهدار قِيَمنا.

– وهم يتكاثرون وتتسلَّل زندقتُهم إلى النفوس الضعيفة.

– وابن سواق الكارو صاروخ مدمر.

– قلت إنه أسلطهم لسانًا.

– بل هو شرٌّ من ذلك.

– والعمل يا مولاي؟

ابتسم الشيخ محمود قائلًا: نحن قومٌ الحُب غايتهم الأولى والأخيرة.

فابتسم الشيخ عمار بدوره قائلًا: الآن عرفتُ سبيلي يا مولاي.

– ليكُنِ الله في عونك.

– سأفعل ما يُمليه الحُب عليَّ، حُبنا لمقدساتنا، وحُبنا للمُريدين الأبرياء!

وتبادلا نظرةً طويلة.

٢

جلس على الديوان تحت النجفة يرنو إلى الحديقة بعينَين نصف مُغمضتَين. إلى جانبه استكنَّت العمامة فبدا شَعرُه الأسود غزيرًا مفروقًا بعنايةٍ لم يتطرَّق إليه أثرٌ لشَيب. ومن الحارة ترامت نداءات باعة الصباح مُترنِّمة. وفي الحديقة تألَّقت أوراق التوت والحناء والأعناب تحت دفقاتٍ حارة من أشعة الشمس. استغرق في تأمُّلاتٍ حتَّى انتبه على حفيف ثوب. نظر نحو جارية سوداء طاعنةٍ في السن جدَّت في البحث عنه بعينَين عمشاوين .. ناداها برقَّة: أمَّ هاني.

اتَّجه وجهُها النحيل الضامر نحو الصوت ثُم همست: امرأةٌ تريد مُقابلتك.

جاءت امرأة في أواسط العمر، صافية السمرة، تعكس عيناها السوداوان نظرةً جادَّة مُتجهِّمة تستقرُّ في أعماقها كآبة ثابتة. لبس العمامة ووقف في دهشةٍ أوشكت أن تكون انزعاجًا لولا نجاحه في ضبط مشاعره. قال: زينب .. أهلًا .. تفضَّلي.

مدَّ لها يدَه فصافحَتْه بعد تردُّدٍ ودون أن يندَّ عن وجهها أي تعبيرٍ إنساني.

– كيف حالك، أهلًا أهلًا، تفضلي بالجلوس.

جلست على مقعدٍ قريب من الديوان. ظلَّ واقفًا وهو يُنعم فيها النظر ثم قال: لم أركِ منذ عمرٍ طويل، عمر طويل حقًّا، ولكني تابعتُ نجاحك بإعجاب.

قالت بلهجةٍ قاطِعة في التركيز على الهدف الذي جاءت من أجله: أرْجِع إليَّ أخي!

حدَّق فيها متسائلًا وقال: ماذا عن أخيك؟ لقد اجتمعتُ به مع بعض زملائه في هذا المكان منذ أيامٍ قلائل.

لازمَتِ الصمت كأنها لم تسمع شيئًا فواصل حديثه: دعوتُهم بعد أن بلغَني عنهم ما بلغني، لا شكَّ أنك سمعتِ بما يُقال، وتناقشْنا طويلًا، والتزمتُ في حديثي معهم بالرفق والسماحة وسعة الصدر، ولم أضنَّ عليهم بالنُّصح الرشيد.

فقالت دون أدنى تأثُّرٍ بكلامه: أرْجِعْه إليَّ من فضلك!

– ماذا تعنين؟

– أنت تعرف ما أعنيه تمامًا.

– صدقيني …

فقاطعَته بهدوئها الميت: لقد أُلقي القبض على الجميع فجر اليوم.

– علمتُ بذلك الساعةَ فقط ولكني لم أفهم معنًى لقولك بعد.

فقالت دون مبالاة بأقواله: لذلك أكرهتُ نفسي على هذه الزيارة.

– الحق أنني نسيتُ لدى رؤيتك كلَّ شيء.

– إن الأخطاء يُنسي بعضُها بعضًا.

فقال مُحتجًّا: يا للعجب، إنك تُسيئين بي الظن!

– نعم.

– مُغالاة جاوزَت كلَّ حد.

– أرجِع إليَّ أخي.

– أي تهمة وُجِّهت إليهم؟

– يقيني أنهم أبرياء.

– إذا كان بريئًا فسوف يرجع إليك دون شفاعة.

– لستُ أطلب شفاعتك، ولكني أطالبك بإصلاح خطئك.

قطَّب قائلًا: اقتلِعي هذا الوهم من رأسك.

– ليس وهمًا ما أعتقد، إنك أكبر من أي وهم!

– سامحكِ الله.

– إنه يُسامح الولايا والضعفاء والمخدوعين والمغلوبين على أمرِهم، ولكنه لا يُسامح الأشرار والمنافقين.

– صدقيني …

فقاطعته: لا أستطيع أن أُصدِّقك.

– لا دخل لي فيما حصل لأخيك.

– أنتَ أبلغتَ عنه أو أحد رجالك بإيعازٍ منك.

هزَّ رأسه هزةَ المتسامِح وقال: لم يكن بحاجةٍ إلى مَن يشي به، ارتفعت أصواتهم في كلِّ مكان، ودوَّت ضحكاتهم بالآراء الهدامة.

– ليس فيما قالوا جريمة ولكن انقلب الحال بعد مجيئهم لمُقابلتك.

– ماذا تعنين؟

– أحلام شباب لا تؤذي أحدًا من الأبرياء، ولكن مادت الأرض عندما تطرَّق الحديث إلى شخصك.

– كلَّا، ولكنهم لا يؤمنون بالله، لا يؤمنون بشيء.

– أتؤمن بالله أنت؟

– أيَّتها الجارة .. اتقي الله.

– ماذا لدَيكَ من درجات الإيمان التي تَحفظها عن ظهر قلب؟!

– لا تحكُمي على رجلٍ لم تريه منذ عمرٍ طويل.

– كثيرون — حتَّى مِن مُريديك — يَعرفونك على حقيقتك.

– لا تُعرِّضي بقومٍ يدينون لي بالولاية.

– إنهم يُطيعون نداء المصالح.

– ليَسَعْك حلمي إلى ما لا نهاية.

– لم يُغضبك كفره المزعوم ولكن أغضبك رأيُه في عماراتك الشاهقة في وسط المدينة.

– ليغفر الله لك سوء ظنك!

فعادت تقول بهدوئها الميت: أرجع إليَّ أخي.

– يتعذَّر عليَّ التدخُّل في مثل تلك الأحوال.

– ما دام في قُدرتك أن تُرسِله إلى السجن فلن يتعذَّر عليك إخراجه.

جلس الشيخ على الديوان. ابتسم ابتسامةَ مَنْ يأسى على نفسه. قال معاتبًا: ليغفر الله لك!

ثم واصل حديثه: أعتقد أن الإجراءات التي اتُّخِذت معهم لا تعدو أن تكون نوعًا من الزجر ليس إلَّا، ومن أجل خاطرك سأبذل سعيًا حميدًا ولكني لستُ واثقًا من النتيجة، أرجو أن تَعدلي عن سوء ظنِّك بي، إن اتهامك فوق احتمالي، ولا يليق بمركزي سواء في الطريقة أو في الحارة، ولقد حرَّمتُ على أتباعي حقَّ الدفاع عن مُقدساتهم إيثارًا للحُب والسلام.

– إني عاجزة عن تصديقك؛ لديَّ من الأسباب ما يحملني على إساءة الظن بك دائمًا وإلى الأبد، ولكني ما كنتُ أتصوَّر أنك ستُلاحقني بالأذى جيلًا بعد جيل!

– إني بريء مما تَرمينني به.

– إني أُصدِّق قلبي وهو خير دليل.

– صدِّقيني.

– كلَّا، ولكن أرجِع إليَّ أخي.

– وعدتُ بالسعي.

– سيعرف أهل المقبوض عليهم الرجلَ المسئول عن ذلك آجِلًا أو عاجلًا.

فقال بحدة: جيل شرير من الأبالِسة، أوغروا الصدور بضلالِهم، ولا أحد من العقلاء يُضمِر لهم أي عطف.

– إنهم أفضل ممَّا تظن.

– أهذا رأيك؟

– يَودُّون الخير من أعماق قلوبهم.

– هل حدَّثَك أخوك عن آرائهم؟

– أعرف أحلامهم.

– يا لخيبة الأمل، كدتُ أُطالبك بالمعاونة على تهذيبه.

– لقد أحسنتُ تربيتَه.

– إذن كيف نشأ على الحقد والحسد والتعلُّق بأتفه ما في الحياة؟!

– أتفه ما في الحياة؟!

– زينة المال الكاذبة وما يتبعها من شهوات.

تنهَّدت زينب وقالت: يا لك من رجلٍ تفوق جُرأته الخيال!

فرَّق بينهما صمت. أراح رأسه بالنظر إلى الحديقة. تلقَّى دفقةً من انفعالاتٍ طارئة. قال وكأنما يُخاطب نفسه: يا للذكرى، ها هي نفحةٌ من الماضي تهبُّ كأنما تهبُّ من بستان، حاملة عَرف عَرقٍ خاص، لعلَّه عَرق الإبطَين، ناشرة صورًا مَطويةً في قلب الزمن، تُثير الحنين بقدْر ما تُثير الشجن.

– ماذا تعني؟

عاد يُحدِّق فيها ثم قال: ما زلتِ جميلة كما كنتِ.

فهتفت بحدة: يا لك من رجلٍ مريض!

– ليكن لِسانكِ نفخةً من ذكرياتٍ لا نصلًا للطعن والقتل.

– كأنك إبليس بلحمِه ودمِه.

فقال باسمًا في غموض: هيهات أن تعرفي عذابات رجال الطريق.

– ولكني أعرف المنافقين.

فقال مُتوغِّلًا في الانفعالات الطارئة: القلب نبعٌ يفيض بمُنصهِر المعادن النفيسة والخبيثة، والسرور توءم الحزن.

– إنك تهذي.

ولكنه باخ. أفاق تمامًا. تراخت شفتاه امتعاضًا. قال بفتور: أرجو ألا يخيب مسعاي في إرجاع الجميع إلى بيوتهم.

– وأرجو ألا أُضطَرَّ إلى المجيء مرةً أخرى.

– بوسعكِ أن تفعلي شيئًا لتجنيب حارتنا ويلات نزاع يُوشك أن ينقلِب داميًا.

– بوسعكَ أنت أن تفعل هذا خيرًا منِّي.

تساءل عابسًا: أتجرِين مَجراهم؟! أتطمَعين أنتِ أيضًا في مالي الحلال وولايتي المُستمدَّة من كرامات جدي الأكرم؟!

– إني أصغر شأنًا من أن أُنبِّهك إلى ما ينبغي لك.

– بفضل طريقتنا يؤمِن أحقر رجلٍ في حارتنا بأنه أصل الوجود وغايته!

فقامت وهي تقول: هل أغنانا ذلك عن تعاستنا شيئًا؟!

فقام أيضًا وهو يقول مُحتدًّا: إنك على وشك الزَّيغ يا زينب.

– إني منتظرة وعدَك.

– كان أبوكِ مُريدًا صادقًا.

– رحمه الله.

– مات سعيدًا كما يجدُر بمؤمن.

– ولكنه عاش عيشةً مريرة!

– أهم ما في الحياة هو الموت!

مضت نحو الباب وهي تقول: إني مُنتظرة وعدك.

•••

– في هذا البيت المُقدس! وفي هذه الحجرة المباركة، عليك لعنة الله.

•••

همَّ بقول شيءٍ قبل أن تختفي ولكنه أطبق فاه، ثم ذهب إلى النافذة فأزاح الستارة وألقى نظرةً يُتابع مَسيرها.

٣

دخل بهو الاستقبال فرأى الشيخ عمار في انتظاره. صافحَه دون أن يُخفي دهشته وهو يتساءل: خير. ما جاء بك في هذه الساعة وقد أوشك الليل أن ينتصف؟

أجابه الرجل وهو يغضُّ البصر: لا غرابة أن نُوجَد في هذا البيت في أي ساعةٍ من نهارٍ أو ليل.

– جواب حسن.

جلسا والشيخ يمسح وجهه بمنديله ويقول: في الخارج عاصفة تُرابية أخشى أن تدفن الحارة دفنًا، في هذا الجو يَضيق الإنسان بالحياة وتضيق الحياة بالإنسان، وعجيب أن نكون من تُراب ونجزع هذا الجزع لِلفحةٍ منه، وفي كل خطوة يُصادفك شابٌّ من أولئك الشبان، لقد بذلنا لهم مسعًى طيبًا ولكنهم لا يَبدون شاكرين، كلَّا، إنهم أبعد ما يكون عن الشكر، وما أجدر اللِّئام بأن يَظنُّوا الاستجابة الطيبة ضعفًا، وذاك الشاب المُتهوِّر حدجَني اليوم بنظرةٍ مُتحدِّية، وقديمًا قيل: اتَّقِ شرَّ من أحسنتَ إليه، اللعنة، لم تعُد الحارة بالحارة التي أولَتْنا الإمامة ولا الزمان بالزمان الذي طاب لنا، أكنتَ تنتظرني يا شيخ عمار؟

غمغم الرجل: نعم يا مولاي.

– ماذا أرى؟! .. إن وراء نظرة عينَيك أنباء لا تَعِد بخير!

– حفظك الله من كلِّ سوءٍ يا مولاي.

– ماذا حدث؟ هل وقع انقلابٌ خطير في نظام الكواكب؟!

– الدنيا بخير، ولن ينال من كمالها عبَث الأبالسة.

تساءل الشيخ بِضيق: ماذا وراءك يا رجل؟

– نحن قوم خلقنا الله لنُواجِه الشدائد بقلوبٍ أشد منها.

فقال بجزع: هات ما عندك، كلما استفحلَتِ المصيبة كان الإيجاز أليقَ بها!

فقال الشيخ عمار بعناد: ليس من الوفاء أن نُخفي عنك أمرًا باتت تلُوكه ألسنة الكثيرين.

قال بنبرة غاضبة: تكلَّم.

– ثمة نشرة مطبوعة كُتبت بمداد حقدٍ أسود.

– نشرة مطبوعة؟

– نعم.

– للتشهير بنا؟

– ما يُشهِّرون إلا بأنفسهم.

وأخرج من جيب جلبابه نشرةً على هيئة كتابٍ بغير غلاف مطبوعة بالرنيو، وسلَّمها إليه مُطرقًا. تلقَّاها الشيخ مُتجهِّمًا، تفحَّص صفحتها الأولى، فرَّها بسرعة، ثم عاد إلى صفحتها الأولى.

– يا له من عنوانٍ غريب، «ماذا تعرف عن الأكرمية؟» ولكن مَن ذا الذي لا يعرف كلَّ شيءٍ عن الأكرمية؟!

نظر في عينَي الرجل مُتظاهرًا بالاستهانة ثم سأله: أقرأتها؟

– نعم يا مولاي.

– مُهاترات؟!

– نفثات شيطانٍ رجيم.

– هل وُزِّعت على نطاقٍ واسع؟

– على جميع من يعرفون القراءة في حارتنا.

– متى حدث لك؟

– لم أدرِ بها إلا اليوم.

– لقد تمَّ الإفراج عن الأبالسة منذ عشرة أيام!

أطرق الشيخ عمار صامتًا فتساءل الشيخ محمود ساخرًا: هل يَحرِمُنا ما جاء بها من الحياة أو يصدُّ الحياة عنَّا؟

– معاذ الله يا مولاي!

– نحن نعرف أعداءنا كما نعرف أصدقاءنا.

ومضى يقرأ بسرعةٍ وهو صامت وتندُّ عنه كلمات من آنٍ لآن.

– تُوجَد مقدمة، ما شاء الله، كما يليق بالكتب العلمية، ماذا تقول المُقدمة؟ .. «الحقيقة هي الحقيقة، لا تحتاج إلى أسبابٍ تُبرر نشرها على الناس، علينا أن نتقبَّلها دون تحريفٍ وبشجاعة تليق بالبشر وإن تغير أسلوب حياتنا ليتوافق معها، فنحن لا ننشُرها بقصد الإساءة إلى أحدٍ ولكن إيثارًا للحق ونُشدانًا للخير.» ما شاء الله، أي حقيقة يا أوغاد؟ أبواب ثلاثة؟ أي أبوابٍ أيها اللئام؟ الباب الأول عن «البيت الكبير»، والثاني عن «الأكرم صاحب الطريقة الأول»، والثالث عن «السلوك في الأسرة الأكرمية»، ما شاء الله .. ما شاء الله.

وراح يقرأ مُستغرقًا صامتًا والرجل يُراقبه بإشفاق. وعلى حين بغتةٍ هتف: اللعنة .. الجحيم.

ورجع إلى الأسطر وقتًا آخَر ثم صاح بحنق: الحمقى يتناسَون أن الآلات الحادة قادرة على تحطيم الجماجم الخاوية إلا من ظلمات الكفر.

وواصل القراءة بوجهٍ مُكفهرٍّ وشفتَين قلقتَين حتَّى هتف: أُشهِد الله أني قوَّة إذا شاءت اقتلعت أعداءها الجُبناء من جذورهم المغروسة في الطين.

وانكبَّ على النشرة بنظراتٍ مفترسة وأسارير تنضح بالعنف حتَّى قال بصوتٍ مُتحشرج: إذن فلتتوقَّف الأرض عن الدوران أو فلتَدُرْ في عكس اتجاهها.

رمى بالنشرة أرضًا. انتتر واقفًا. ورغم غضبه الأحمر بدا مُنهارَ القوى مُهدَّم البنيان. هرول إلى مدخل الحديقة. ضرب الأرض بقدمِه. ثم رجع إلى موقفه مُسدِّدًا بصرَه إلى الشيخ عمار الذي وقف بدَوره تأدبًا، وقال: أي وقاحة، أي جنون، أي تجديف، أي دعارة!

وكوَّر قبضته ثم استرسل: الهذيان لُغة دارِجة، درجة الحرارة الطبيعية هي درجة الموت، التاريخ قُتِل غيلةً، المِسك سمٌّ زعاف، الأضرحة الطاهرة مَتاحف حشراتٍ مُنحطَّة، لا أنت أنت ولا أنا أنا، ولا تعجب للدوابِّ إذا زحفت علينا لتُعلِّمنا كيف يكون السلوك في هذه الحياة اللعينة!

قال الشيخ عمار بإشفاق: نحن في موقف يقتضينا أقصى ما نملك من حكمة.

– والجنون لماذا خُلق إذن؟

– مولاي، علينا بالحكمة التي نُبشِّر بها وإلا أفلتَ مِنَّا الزمام.

– أيها العجوز، لقد كنتَ الذي يُحرِّضني وكنتُ الذي يُحذِّرك.

– هذا موقف جديد لم يسبق لنا مواجهته من قبل.

فلوَّح بيده وهو يصيح: الويل له .. الويل لهم.

– نحن لا نعرف المُجرم إلَّا …

– إلَّا؟

– إلَّا الظن.

– لا تُغالِط ضميرك.

– عيون رجالنا في كلِّ مكانٍ فلننتظِر.

– سواد الكتاب برهان قاطع على مداد الحقد الذي استُمِدَّ منه!

– الحكمة .. الحكمة.

– وندعه يقوم بيننا ساخرًا مُجدفًا؟!

– لنتلَقَّ الضربة بعقلٍ ولنُدبِّر بعقلٍ آخر.

– لو تَفشَّت هذه الأكاذيب لقضت علينا.

– الأكاذيب لا تقضي على إنسانٍ ولكن قد يقضي الإنسان على نفسه.

صاح بغضب: أُكافح أنا أمواج الغرق العاتية على حين تجلس أنت على برِّ السلامة تتغنَّى بالأقوال الحكيمة!

– أضرَع إليك باسم صاحب الضريح ألَّا تُقدِم على خطوةٍ إلا بعد امتحانٍ وتدبُّر وتفكُّر.

– لقد أذهلتك الضربة.

فقال عمار بهدوء: سنضرب ضربتنا ولكن علينا أولًا أن ندرأ عنَّا الشبهات.

– وكيف يتأتَّى لي أن أمشيَ في الحارة مرفوع الرأس بعد اليوم؟

– المؤمنون بنا أضعاف الكافِرين.

– ولكنَّ الكافرين أقوى على الشر.

– لم يئن أوان المعركة بعد، علينا ألَّا ننفرِد برأي، وعلينا أن نرُدَّ على النشرة بالعِلم واليقين فلن يُبدِّد العراك ظلماتها.

فقال الشيخ مُتأوهًا: إجراءات من طبيعتها أن تطول أكثر من ليلتي الحالكة!

فقال الرجل بدهاء: المعركة قبل جلاء الحق اعتداء، ومن شأن الاعتداء الغاشم أن يُكسبهم عطفًا لا يَستحقُّونه، وسوف يُشجعهم ذلك على مقابلة الاعتداء بمِثلِه وهم عددٌ لا يُستهان به، ورجالنا ورجالهم في النهاية ينتمون إلى هذه الحارة التي كُتب عليها العناء.

فتساءل في جزع: متى وكيف نبدأ؟

فأجاب الرجل بعد تردُّد: هنالك رجل لا غِنى عنه في هذا المأزق.

قطَّب الشيخ مُتمتمًا: الشيخ تغلب الصناديقي؟

– نعم.

قال مُمتعضًا: لقد هجرَنا منذ عهدٍ بعيد، ورأيُه فينا غير خافٍ على أحدٍ!

– أعلم ذلك يا مولاي ولكنَّه ما زال إمامًا من أئمة الطريقة، ولن يتردَّد في الدفاع عنها بعِلمه الغزير.

تنهَّد ثم قال: عليك بإقناعه بالمجيء إليَّ.

– سأذهب إليه مع الصباح الباكر.

– اذهب إليه في الحال.

– مولاي .. لقد انتصف الليل.

– اذهب إليه في الحال، وإن بدا منه اعتراض فذكِّره بأبي إمامه وصديقه.

أحنى الرجل رأسه ومضى والآخر يقول: قل له: إن رياحًا مليئة بالأوبئة انقضت على الطريقة ترُوم اقتلاعها من جذورها المقدسة.

٤

لاح في مدخل البهو. تقدَّم مُتوكئًا على عصاه بعد أن أوصله الشيخ عمار ثم ذهب، في جلبابٍ أبيض بسيط ناصع البياض تُطوِّق وجهه الضامر الوضيء لِحيةٌ بيضاء مُسترسِلة حتَّى مُنتصف الصدر. ورغم طعونه في العمر تألَّقت عيناه بحيوية جذَّابة ونشاطٍ روحي أضفى على أساريرِه جمالًا يجمع بين النضارة والعتاقة اختصَّت به الشيخوخة المُستكنَّة في أحضان البراءة والتقوى. هُرع الشيخ محمود إليه فصافحَه بحرارةٍ وهو يُداري حرجَه بابتسامة، ثم مضى به إلى الديوان فأجلسه وجلس إلى جانبه. أرتج عليه القول لحظاتٍ ثم قال: حللتَ أهلًا وسهلًا في بيتك بعد غيبةٍ طويلة!

فقال الشيخ تغلب ببساطة: كُتِبَتْ علينا التلبية عند النداء.

لم يرتح الشيخ محمود للإجابة تمامًا ولكنه قال: أعترف بأن غيبتك إنما ترجع إلى تقصيرنا.

فقال الرجل بصراحة: هذا حق!

ابتسم الشيخ رغم غمِّه وكمَدِه وقال: كأنك أصغر منِّي سنًّا، إنك رجل سعيد، إني أغبطك!

– خفَّف الله عنك.

– دعْني أشكر لك تفضُّلك بالمجيء في هذه الساعة من الليل.

فقال الشيخ تغلب بنفس البساطة والصراحة: كنتُ من دعوتك لي على انتظار!

صدمه قوله. آذى مشاعره. ولكنه تساءل: حقًّا؟

– نعم.

– لعل النشرة بلغتْك؟

– نعم.

فقال بكآبةٍ جديدة: لا أجِد لها أثرًا في وجهك الكريم!

– أي أثر توقَّعْت؟

– الأثر المنشود لدى إمامٍ مِن أهل الطريقة.

فارتفع صوت تغلب الصناديقي وهو يقول: لم يعُد للطريقة أهل!

فانقبض قلب الشيخ محمود وقال: الوقت غير مناسب لإثارة الخلافات القديمة.

فقال العجوز بحدَّة: لم يبقَ من الطريقة إلا الأغاني والأذكار والنذور والعمارات!

– بقِيَ الإيمان وهو كفيل بتجديد الحياة في أي لحظة.

– ليست الولاية أن ترِث العرش ولا أن تقرأ كُتب الأقدمين والمُحدثين، ولكنها طريق طويل شاقٌّ لا يقدِر عليه إلا أهل الإيمان الحق.

•••

– تزوَّج، وابدأ الطريق، وإلا فاتكَ قطار الرحمة إلى الأبد.

•••

– لم نتخلَّ عن الإيمان ساعة، وهو يتبَعُنا كظلٍّ من العذاب، ولكننا وقَعْنا في أحابيل زمانٍ عجيب.

– أي زمانٍ يمنع الرجل الصالِح من التطلُّع إلى الأفق الأبدي؟!

تنهَّد الشيخ محمود قائلًا: ليتنا ننسى خلافاتنا في هذه الليلة المُكشِّرة عن أنياب الشر.

– أنسيتَ أنني لم أركَ منذ كنتَ شابًّا وها أنت تُناهز الأربعين؟

– قاطَعْتنا ونبذتَ عِشرتنا يا شيخ تغلب.

– ذلك أني أضنَّ بوقتي على غير الاجتهاد.

– لا يجوز أن تنقطع الأسباب بيننا.

– رحم الله أباك، أما أنت فلم تذكُرني إلَّا حين هبَّت الأعاصير على مجدِك!

فامتعض الشيخ محمود وقال مُصحِّحًا: بل على الطريقةِ يا شيخ تغلب.

– الطريقة؟! .. لقد تقوَّضَت على يدَيك.

– لن أُناقشك ولكني أُطالبك بواجب الدفاع عنها.

ثم بتوكيد: إنك رجُل القلَم، مؤلف أشعار الأكرمية وفلسفتها والعالِم بأسرارها وأول مَن يحقُّ له الدفاع عنها.

– أقرأت النشرة؟

– قرأتُ نفثات الأبالسة المدسوسة فيها.

هزَّ العجوز رأسه وقال: تُريد أن أردَّ عليها؟

– هذا ما أُطالبك به.

– لا ردَّ عندي عليها!

– ماذا؟

ندت عن الشيخ محمود صيحة توجُّع وقطَّب غاضبًا، ولكن الآخر قال بهدوء: ليس عندي ما أردُّ به عليها.

– ماذا تعني يا شيخ تغلب؟

– أعني ما قلتُ حرفيًّا.

– أتعني أن ما جاء بها حق؟!

– أجل يا مولاي.

ضحك ضحكةً جافة باردة وحملق في وجه العجوز بذهول.

– إنك لا تعني ما تقول.

– قلت: إنني أعنيه حرفيًّا.

ضرب يدًا بيدٍ وصاح: إليَّ بعقلٍ جديدٍ لأقترب من هذه الأحاجي!

– يلزمُك عقل جديد حقًّا.

– عمَّا قليل سيعتلي الجنون عرش الطبيعة!

– لم يجدَّ جديد يدعو إلى ذلك.

– لقد اختلقوا الأكاذيب بغيةَ القضاء علينا.

– لم يختلقوا أكاذيب ولكنهم عرفوا السبيل إلى مخطوطاتٍ قديمة بدار الكتب.

– زيَّفها ولا شكَّ أعداء الأكرمية؟

– بل وضعها مُريدون من أصدق المُريدين القُدامى.

– مريدون صادقون؟ .. أنت تقول ذلك؟

– نعم.

– أكُنتَ على عِلمٍ بها من قبل؟

– نعم ولكني تكتَّمتُها لاعتقادي بأنه قد يُساء فهمها.

– لا أصدق أنهم كانوا مُريدين صادقين.

فقال الرجل بنبرةٍ تنمُّ على الاحترام: كانوا ثلاثة، الشيخ أبو كبير أوَّلهم وقد عكف على دراسة بيوت الأكرمية، والشيخ الدرمللي ثانيهم، وكان حُجةً في معرفة رجال الأكرمية، والشيخ أبو العلاء ثالثهم وقد ولع بتأريخ أهواء القلوب.

فصاح الشيخ محمود: أوغاد كذَّابون!

– بل مُريدون صادقون، كان الأوَّلان تلميذَين للقُطب الأكبر عبد الله الأكرم، أما الثالث فكان مُريدًا لوالدك رحم الله الجميع.

– لن أُصدق أن الشمس تُشرق مِن المغرب ولو أجمع على ذلك المريدون.

– إلى الشيخ أبو كبير يرجع ما ورد في النشرة عن البيت الكبير.

فقال الشيخ محمود بحنق: هذيان ما يقول، مَن يُصدق أن بيتنا هذا ما هو إلا فرع من فروعٍ لا حصر لها من بيوت الطريقة لا أنه الأصل الذي انبثق منه النور؟!

– لم يقصد الحطَّ من بيتكم، كلَّا، عُني بدراسة بيوت الطريقة الأكرمية فسافر من أجل رسالته إلى الشام وشمال إفريقيا وإيران والهند، ثم قرَّر الحقيقة التي لا ضَير منها وهي أن هذا البيت الكبير ما هو إلا مقامٍ أنشأه الأكرم، بيت من مئات البيوت التي سبقته إلى الطريقة، بل هو آخر بيتٍ وصل إليه النور والهُدى.

– يا للفظاعة.

– قل يا للحقيقة!

– جدِّي هو مؤسس الطريقة وبيته هو الأصل والمركز.

– إنك غاضب للكبرياء لا للطريقة، طريق الله مفتوح للجميع، وشرف العزة فيه للواصِلين مهما يكن مَوقعهم.

فهتف محمود وكأنما يُخاطب نفسه: الهواء يختفي ليحلَّ محله الحُزن، ولن يُوجَد بعد اليوم مُبرِّر لكي يُحافظ العاقل على عقله ولا ليبرأ المجنون من جنونه.

– تأمَّل ولا تحزن، كم صادف أبو كبير في تجواله من بيوتٍ ظنَّ أصحابها أنهم الأصل والمركز.

– ودَّ أن نضيع في زحمة لا نهائية!

– النور لا يضيع أبدًا ولا يفنى.

– إنك تسلُبني العزة لتهبني بلاغةً لفظية.

– إنك تُعاني لأنك لم تُوجِّه إلى الطريق قلبك .. لم يشغله إلا الجاه. جاه وريث البيت الكبير، أما الأكرم نفسه فقنع بأن يقبس من النور شُعلة أصَّلَها في هذه الحارة التي أصبحت بفضله مباركة.

قطَّب الشيخ محمود وقال: سوف يحتاج الناس لرؤيتنا إلى مجهرٍ كبير!

– المُهم أن يرَوا شيئًا يستحقُّ الرؤية.

قام الشيخ محمود فذهب إلى باب السلاملك ثم رجع وهو يتنفَّس بعُمق. وترامى من الحارة صوت يصيح كالمُستجير «يا سيدي الأكرم على بابك» فضحك الشيخ ضحكةً قصيرة لم تنبسِط لها أساريره إلا لحظةً ثم عادت إلى اكفهرارها. أما الشيخ تغلب فقال: وإلى الشيخ الدرمللي يرجع ما ورد في النشرة عن القطب الأول، جدك الإمام الأكرم.

فقال الشيخ محمود بحدة: ذاك الذي رام نسف الأكرم نسفًا.

– ليس في وسعِ إنسان أن ينسف مولانا الأكرم.

فقال الشيخ محمود برجاء: إذن فأنت تؤمِن بكذِب ما جاء عنه في النشرة؟!

– كلَّا!

تلقى الطعنة في صميم قلبه وهتف: يا للفظاعة يا شيخ تغلب، ألم تعُد تؤمِن بأن الأكرم جاء مصر بين يدي سلسلةٍ من الكرامات؟!

فلاذ الرجل بصمتٍ قاسٍ مُغلق المنافذ حيال أية رحمة.

– أتُصدِّق أن القطب الأعظم جاء مصر هاربًا عقب ارتكاب جريمةٍ شنعاء؟!

لم يخرق العجوز عن صمته الرهيب القاتل.

– وأن اسمه الذي عُرف به ها هنا وهو الأكرم مُحَوَّر عمَّا شُهر به في الخارج وهو المجرم؟!

أصرَّ العجوز على صمته فقال الشيخ محمود يائسًا: وأنه جاء الحارة أشعثَ أغبرَ عاريَ الجسد لا يختلف شيئًا عن الحيوان الأعجم؟!

وتبادلا نظرةً طويلة وهو يلهث ثم سأله مُتحديًا: أتُصدِّق ذلك عن مولاك الأكرم؟!

عند ذاك تمتم الشيخ تغلب الصناديقي: ما أجمل الهُدى بعد الضلال، ما أجمل الاستقرار بعد التشرُّد، ما أجمل الجلال بعد البهيمية، إنه مولاي الأكرم الذي بلغ بجدِّه المُراد وكفى!

صاح الشيخ محمود: كذبٌ، افتراءٌ، إلحاد، حسَد، حقد، من أولئك الثلاثة خُلِّفت ذُرية الأبالسة التي تعيث في حارتنا فسادًا.

– مأساتك الحقيقية هي الكبرياء والغرور.

– أبالسة من ذُرية شياطين.

– لم تُحسِن معاملتهم كما ينبغي لرجلٍ من رجال الطريق.

فهتف مُكوِّرًا قبضته في غضب: أنصاف مجانين يحلمون بإبادة الصالِحين من البشر.

– ماذا صنعتَ من أجلهم!

– قدَّمتُ الحلم حيث كان يجب أن أُقدِّم العصا!

– ثُم دسستَ مَن وشى بهم إلى السلطة!

– لقد ترامت أصواتهم المُزعجة إلى مراكز الأمن دون حاجةٍ إلى وشاية!

– لقد زاروني، حدثوني عن العِلم الذي يؤمنون به فحدَّثْتُهم عن العِلم الذي أؤمن به، تبادلنا الاحترام طيلة الوقت، قلت: إن العالِم من رجال الله إلا إذا أراد أن يكون من رجال الشيطان، قالوا ليس من أهل الطريق من يلهج بالفسق والجشع، فقلتُ ولا من العلماء مَن يهب قدراته للدمار!

وراح الشيخ محمود يُحادث نفسه: كذب، افتراء، حقد أسود.

– قرب التفاهُم بيننا حتَّى فرَّقت بيننا الشرطة!

فصاح الشيخ محمود بغضب: الويل، لن يُبدِّد ظلمات الأكاذيب إلا الضربات الحاسمة.

– العراك سلوك غير جدير بأهل الطريق!

– إنْ صدَق ما قاله أبو كبير والدرمللي فلا طريق هناك ولا طريقة.

– بفضل اكتشافاتهم وضح الطريق.

فقال الشيخ محمود ساخرًا: إني أرتدي البدلة وما عليَّ إلا أن أنزع العمامة.

– لقد وضعتْك الحقائق في مَوضع الامتحان فاختر لنفسك ما يحلو لها!

– لا اختيار هناك، إنه طريق ذو اتجاهٍ واحد.

ثم خاطب نفسه: ويل لي من العذاب الذي يتبعني كالظل! .. ويل لي .. وطوبى للذين يعيشون بلا ضمائر.

فصل بينهما صمتٌ كالجدار. وطال الصمت حتَّى قال الشيخ تغلب: وإلى الشيخ أبو العلاء يرجع ما ورد في النشرة عن السلوك.

فصرخ الشيخ محمود: ذلك الداعر!

قال العجوز بإشفاقٍ لأول مرة: كان خادمًا في البيت الكبير قبل أن تُولَد.

– داعر ماجن سافل!

– الحق أنه اجتهد فصار من المُريدين.

– كلماته تقطع بأنه قَوَّاد أو مُنحرف.

– لم يقصد الإساءة صدِّقني!

– ذلك الوحش الذي يتلذَّذ بتمزيق الأعراض؟!

– كان يؤمن بأن الطريقة حُب خالص فتابع الحُب في جميع أحواله!

– ذلك الداعر!

– كان الحُب همَّه الأول والأخير، وآمَن بأن في قلب كل إنسانٍ بذرة حُب إلهية مهما يكن من مساراتها فهي تتَّجه في النهاية إلى الحبيب الأوحد!

– يا شيخ تغلب، إن هي إلا أكاذيب افتُريت بقصد القضاء على أُسرتنا المجيدة!

– لو وهبتَ الطريق قلبك ما أكرَبَتْك الوساوس ولا اهتزَّت شعرة في رأسك لأقاويل الناس.

– يا ويلي من الذين ينثرون لي الحِكَمَ وأنا أحترق في الجحيم!

– لو عاصرك الرجل لوجد عندك مادةً لكتاب قائم بذاته.

فقال غاضبًا مُتحديًا: إني رجل مُحمَّل بالخطايا ولكني أنتمي إلى أسرةٍ طاهرة مُقدسة، وما أصحابك إلا دجَّالون مُجرمون.

– لقد صارحتُك بما عندي، هو الحق والصدق، ليس فيه ما يُزري بقيمةٍ حقيقية، ولا ما يسدُّ الطريق في وجه مؤمن، وكما ترى، لم يتزعزع لي إيمان بالطريقة ولا بصاحِبها رضي الله عنه.

– سأُقدِّم لك الدليل على كذبهم.

ومضى نحو الباب المُفضي إلى الداخل ونادى بأعلى صوته: يا أمَّ هاني .. يا أم هاني.

ثم التفت إلى العجوز قائلًا: إذا ثبت كذِب أحدِهم انهار البناء كله من أساسه.

ولكن الشيخ تغلب قام وهو يقول آسفًا: أستودِعك الله، لا أُحب أن أقوم بينك وبين مُربيتك، إن وجدتَ جديدًا فاستدعِني، ودعني أقول لك مرةً أخرى «تأمَّل ولا تحزن وابدأ طريقك.»

قال العجوز ذلك ومضى نحو الباب الخارجي على حين تحوَّل الشيخ إلى الداخل وهو يصيح: يا أم هاني .. يا أم هاني.

٥

انتظرَها في الردهة المُفضية إلى بهو الاستقبال ثم قادَها من يدِها إلى المكان الذي أخلاه الشيخ تغلب الصناديقي. انسابت آثار النوم في تجاعيد وجهها وعينَيها الكليلتَين، وجعلت تتثاءب بصوتٍ كالأنين وهي تتساءل: كم الساعة الآن؟

– نحن في أواخر الليل يا أمَّاه.

– وماذا يُبقيكَ مُستيقظًا حتَّى الآن؟

– إنها ليلة لم تُخلَق للنوم فيما أرى.

– لِمَ والعياذ بالله؟

فتفكَّر حائرًا من أين يبدأ ثم تمتم: دعوتُك لأمورٍ هامة فأصغي إليَّ جيدًا وافتحي لي قلبكِ بلا تردُّد.

– ليكن خيرًا ما دعوتني من أجله.

– الخير يتوارى هذه الأيام في بطون الزواحف السامَّة.

– ماذا بكَ يا بُني؟

– لقد عاصرتِ أبي وأُمي وعمَّتي، ربيتِنا جميعًا وأرضعتِنا.

– ليمُدَّ الله في أعمار الباقين وليرحم من انتقلوا إلى جواره.

فجلس إلى جانبها وهو يقول: أطالبك بالصدق والصراحة ولو زلزل ذلك السماوات السبع، سنعود معًا في رحلةٍ طويلة إلى الماضي.

– الماضي؟!

– أجل، الماضي، الماضي الذي يتوارى بمكرٍ أحيانًا كاللصِّ ولكنه لا يموت، ثم يُبعَث بغير دعوةٍ ولا رغبة.

– لا أفهم عمَّ تتكلم يا بُني؟

– لا شكَّ أنك تتذكَّرين عمَّتي؟

– طبعًا، يرحمها الله.

– حدِّثيني عنها.

– أنت تعرِف كلَّ شيءٍ عنها، ليرحمها الله.

– دعيني مما أعرف، وحدِّثيني عمَّا لم أعرف.

ارتسم القلق في صفحة الوجه الضامر وقلِقتْ شفتاها دون أن يندَّ عنها صوت.

– إنها لم تمُتْ كما قيل يا أُمَّاه.

– ليرحمها الله.

– لم تمُت، لا فائدة من الإنكار، عشرات وعشرات من أبناء حارتنا يعرفون اليوم الحقيقة فلا جدوى من إخفائها.

هتفت المرأة مُستغربة: أبناء حارتنا؟!

– نعم، إنهم يقرءون مغامراتها بشغفٍ شيطاني ويتندَّرون بها.

– لا أفهم شيئًا.

– ألم تسمعي عن الشيخ أبو العلاء؟

– رضي الله عنه.

– فلتُمزِّقه أيدي الأبالسة في الجحيم الأبدي.

– يا ربَّ السماوات!

– تكلَّمي يا أمَّ هاني.

– لِمَ تفسد الطيبات التي أنعم الله بها عليك؟

– أستحلِفُك بالله .. بأبي .. بمولانا الأكرم.

– لا تَحفُر في الماضي الذي مضى.

– أحقٌّ ما يُقال من أنها عشِقَت في شبابها ضابطًا إنجليزيًّا؟

– يا ألطاف الله.

– وأنها هربت إليه بليلٍ ثم رحلا معًا إلى إنجلترا؟

تراجعت العجوز في فزع، تمتمت: مَن .. كيف .. ارحم نفسك يا بني.

– هل مرقت من دِينها حفيدة القطب الأعظم؟

– اللهم ارحمنا.

– كذِّبيني إن استطعتِ.

أغمضت المرأة عينَيها في حُزن ويأس: أكان بعض كبار الإنجليز يُدعَون إلى بيتنا هذا على عهد أبي؟

– كان له أصدقاء منهم ولا عيب في ذلك.

– ولكنَّ أحد أولئك الأصدقاء الكرام انقضَّ على أُخته فطار بها.

– قلبي يتقطَّع يا بُني.

– تمنَّيتُ أن تكذِّبيني ولكن الحقيقة كالموت لا مهربَ منها ولا نجاة.

وهزَّ رأسه في يأسٍ ثم عاد يقول: وقيل وقتذاك في الحارة إنها سافرت للعلاج ثم أُذيع بعد ذلك أنها غرقت في البحار فأُقيم مأتم أَمَّه المُريدون وغيرهم من أبناء حارتنا الطيبة الساذجة، كان أي شيءٍ يجوز على حارتنا التي لم يعُد يجوز عليها شيء.

أطرقتِ المرأة حتَّى خُيِّل إليه أنها نامت أو ماتت. لم يجد في قلبه قُدرةً على العطف ولكنه قال: لا تؤاخِذيني على إزعاجك، أنت أمُّ الأسرة وسِرُّها، وحولك تتفجر أحداث مُفجعة فلا مفرَّ من أن يُصيبك رشاشٌ منها!

وكان يغوص في ظلمات اليأس بلا توقُّف بيدَ أنه لم يجد بُدًّا من السَّير في طريق الأحزان حتَّى نهايته. قال لها: حدِّثيني الآن عن أُختي رشيدة!

رفعَتِ المرأة رأسَها في فزع.

– لا تجزَعي فلا يَخفى اليوم سرٌّ.

– لتبعد عنا الشياطين!

– لكنها تزحَف علينا من جميع الجحور.

– كُفَّ عن هذا العذاب.

– لقد خُلِقَت هذه الليلة للعذاب.

– كأني لا أعرِفُك يا بُني.

– ولا أكاد أعرف نفسي ولا طريقتي ولا حارتي، ولكن قيل إني مجرم من سلالة مجرمين.

– بُني!

– حدِّثيني عن أُختي رشيدة، لا تخافي عليها، إنها تعيش اليوم في كنف زوجٍ كبير المقام في أقاصي الصعيد، ولكن سِيرتها الخفيَّة يقرؤها المُطَّلِعون من أبناء حارتنا.

– كيف تفتح أبواب الجحيم بيدَيك؟

– لقد فتحتها الزبانية.

انتحبت أمُّ هاني بحرارةٍ فقال: لا تبكي، لا فائدة، ولكن تكلَّمي.

فهتفت: ليُقطَع لساني إن نطق بسُوء.

– لقد لعبت البنت لعبةً غير لائقة مع خادم، كذِّبيني إن استطعتِ.

– اللهم احفظنا.

– لعبة ليست غريبة في هذا البيت، فقد لعِبتُها أنا مع أُخريات، هكذا يتلقَّانا الشيطان جيلًا بعد جيل.

– يا رب عفوك ورضاك!

– لا شكَّ أن أبي حزن حزنًا بليغًا، أُخته فابنتُه ثم ابنه، لعلَّه تساءل طويلًا عن سِرِّ عذابه، تُرى ماذا كان يقول في خلوته؟

– كما يجدُر بالمؤمن الصادق.

– ولا شك أنه عانى كثيرًا قبل أن يعثُر لها على زوجٍ مُناسب!

تنهَّدت المرأة قائلةً: لقد قصرتَ عمري يا بني.

– كِلانا يتلقَّى الضربات يا أُمَّاه.

وغشيِهُما صمتٌ غير قصير، ثم قادها إلى الداخل كما جاء بها وهو يقول: سامحيني، لقد حَمَّلْتُكِ من العذاب ما لا طاقة لك به.

ولما رجع إلى البهو وجد الشيخ عمار في انتظاره. وقفا مُتقابِلَين يتبادلان النظر، ثم قال الشيخ عمار: آن لكَ أن تنام يا مولاي.

ضحك الشيخ ضحكةً لا حياة فيها فقال الشيخ عمار: فلنُفكِّر مليًّا ثم نشرع في العمل بلا تردُّد.

فلوَّح الشيخ محمود بيدِه في غضبٍ وصاح: يا شيخ عمار .. لا تُحدِّثني بلغةِ الحكماء فلستُ حكيمًا، إني مجرم تجري الجريمة في عروقه منذ القدم، شُدَّ على قبضتك .. اشحَذْ سلاحك .. سَدِّد ضرباتك، نحن نخوض معركة حياةٍ أو موت تحتاج إلى الدهاء والقسوة والعنف لا المأثورات الجميلة، إنك ثعلب ماكر وإني لفي حاجةٍ إلى كل نقطة مكرٍ في صدرك، لا تُعْنَ بالمحافظة على المظاهر الرقيقة فقد فاحت روائح الباطن الكريهة، إليَّ بجميع الشياطين التي تُقيم في هذا البيت واستعِرْ مَن تستطيع من شياطين الحي كله، كفاك خداعًا بالفضائل الكاذبة .. واستخرج من قبور قلبك الرذائل الرائعة المخلوقة أصلًا للكفاح والنصر، لنتصرف بسرعة .. وبقوة .. وبلا رحمة، ليكن سلوكنا كما ينبغي لأناسٍ سادوا بعد هربٍ مُوفقٍ من مسرح جريمةٍ بشعة .. ثم هاموا على وجوههم كالوحوش يأكل بعضهم بعضًا .. ولمَّا شيَّدوا من أسلاب الضعفاء قصرًا جعلوه ميدانًا لألعاب الخسة والفسوق، يا شيخ عمَّار هلمَّ إلى ساحة الغدر والجريمة والعنف.

٦

– الحال خطيرة، وستزداد مع الأيام خطورة!

قال الشيخ عمار ذلك للشيخ محمود وهما يقِفان مُستقبلَينِ الحديقة في ساعة الأصيل. تجاهل الشيخ محمود قوله رانِيًا إلى الحديقة ثم قال: ما أهدأ ساعة الأصيل! .. كأنها الوقفة الصامتة بين الشهيق والزفير!

– لن تعرف حارتنا الهدوء بعد اليوم.

فقال الشيخ محمود بحدَّة: لم يبدأ الشرُّ مِن جانبنا.

– هذا حقٌّ ولكن وقع اعتداء على بعض رجالنا الطيبين.

– شرٌّ لا مَفرَّ منه أمَّا الأبالسة فقد اجتاحتهم العاصفة.

ابتسم الشيخ عمار قائلًا: عليهم اللعنة، ولكن هل تأذن له يا مولاي؟ لقد تركناه ينتظِر طويلًا!

– إني أمقُته ولكن فليحضر!

غادر الشيخ عمار بهوَ الاستقبال وما لبث أن دخل علي عويس. جاء بوجهٍ مُتجهِّم فلاقاه الشيخ بنظرةٍ جافة باردة. حيَّاه الشاب بالسلام فردَّ الشيخ بغمغمة ولم يمدَّ يدَه. قال الشاب: لقد جئت.

ولكن غلبه الانفعال فسكت. تركزت عليه النظرة الجافة الباردة دقيقةً كاملة ثم سأله: ماذا تريد؟

– أنت أدرى بما دفعَني إلى المجيء؟

– لا تُضيِّع وقتي بالألغاز.

– رجالُكم يتحرَّشون بنا في كل موضع.

– أكنتَ تتوقَّع عاقبةً أخرى؟

– كنا نتوقَّع مناقشةً تُهيئ للجميع توازنًا ونقاءً!

– أصبح في كل بيتٍ شقاق، وأنتم أصل البلاء والفتنة.

– ما أردْنا إلَّا.

فقاطعه بحدَّةٍ وازدراء: لقد عرفتم منِّي جانبًا لينًا ولكني أملك جانبًا آخر وعرًا.

– سيدي …

فقاطَعَه للمرة الثانية وبعُنفٍ أشد: إن مَن يتحدَّى المقدسات مثلك لا يليق به أن يكون جبانًا!

– لستُ جبانًا وليس فينا من جبان!

– إن مَن يدس إلى الناس نشرةً ملأى بالافتراءات جبان.

– ليس فينا مِن جبان، وإذا تمادى رجالُكم في التحرُّش بنا فقد تعصف بحارتنا مأساة مؤسفة!

– أتُهدِّدني؟! افعل ما بدا لك، وستنال التأديب الذي تستحقُّه.

– ليس نشر الحقائق جريمة، ونحن لم نقصد بنشرها إلا الخير!

– اخسأ أيها الوغد الكذَّاب!

– لقد اكتشفها رجال من طريقتكم يُعَدُّون من الأئمة.

– لم يكونوا إلا أوغادًا مِثلكم ومنذ قديمٍ وأُسرتنا هدف للقلوب السوداء الحاسدة.

– لا تنظر إلى الخلاف من هذه الزاوية.

فقال بكبرياء وحنق: اعرف نفسك واعرف مَن تُخاطب.

– أتُعيِّرُني بأبي؟

– افهم ما تشاء.

– كان رجلًا شريفًا.

– كان رجلًا حقيرًا.

هتف الشاب بغضب: لم يرتكب جريمة.

– لعله كان أحقر من ذلك.

– ولم يلوِّث الدنسُ بيتَه.

جُنَّ جنون الشيخ. هَمَّ بضربه. كبح جماح غضبه مُتراجعًا في اللحظة الأخيرة. قال: في بيته الحقير ترعرعت جريمة الكفر.

– أشياء تُسمَّى بغير أسمائها.

– وفي بيته أيضًا دنس خفي لم يجد مَن يُعنى بنشره لحقارته.

صاح الشاب: لا تتهجَّم على الشرفاء.

أعماه الغضب تمامًا فصاح بدَوره: ما أبعدَكَ عن الشرف! .. سل أُختك عن معنى الشرف!

فصرخ علي عويس: أُختي أشرف من أُسرتك!

وقبل أن يتمَّ جملته هوت على صدغه لطمة. قبض على يد الشيخ. تلاحَما بعُنف غير مُتوقَّع. صاح الشيخ: أتعتدي عليَّ في داري؟!

وإذا بالشيخ عمار يندفع داخلًا متبوعًا بعددٍ من الخدم فانقضوا على الشاب، قبضوا عليه، وأسكتوا مقاومته، ساقوه إلى الخارج وهم ينهالون عليه ضربًا.

وأخذ الشيخ يُسوِّي هندامه وهو من الغضب في نهاية. وجعل يذهب ويجيء ويُحدِّث نفسه لاعنًا مُتسخِّطًا. وحانت منه التفاتة نحو مدخل البهو فرأى زينب! تسللت الدهشة إلى بركان غضبه. رماها بنظرةٍ قاسية. اقتربت مُتمهِّلة في إشفاقٍ حتَّى وقفت في وسط البهو. لم يردَّ لها تحيَّة ولم يَدعُها إلى الجلوس.

– معذرةً .. لقد اندفعتُ إلى الداخل بغير استئذان.

سألها بجفاءٍ من خلال غضبه المُشتعل: ماذا تُريدين؟

– علمتُ بمجيء أخي فقررتُ أن ألحق به.

– أرأيتِهِ وهم يُخرجونه؟

أجابت بقلق: كلَّا .. ماذا حدث؟

– أكنتِ تتوقَّعين لقاءً أفضل بيني وبينه؟

– كلَّا. ولكن لا بدَّ من كلمةٍ تُقال.

– تتكلَّمين هذه المرة بأدبٍ يقطع بشعورك بالإثم.

– لا بدَّ من كلمة تُقال.

– أيُّ كلمة.

– أعني بسبب الأحداث المُحتدِمة في حارتنا.

– بسبب سفاهتهم شبَّت النار في كل بيت.

– ولذلك لا يجوز السكوت.

– ماذا تُريدين؟

– ينعقد الرجاء الآن على الحكمة.

– فات أوان ذلك ولم يبقَ إلا التأديب والردع.

قالت زينب بإشفاق: إنه يعني الهلاك للجميع!

– بل الهلاك للمجرمين وحدَهم.

ترددت ثم قالت: ولكنك …

وتوقَّفت لحظاتٍ كأنما تُعاني ضيقًا، ثم قالت غاضَّة البصر والصوت: ولكنك الأب الروحي للجميع!

تجلَّت في عينَيه قسوة بالِغة وقال: تنطقين عن كذبٍ وضيع، إني أحتقر جُبنَك!

خرس لسانها تحت وطأة الضربة المُهينة فقال بسخرية: كأنما تعترفين بجريمة مُخزية!

جمعت أطراف شجاعتها لتقول: ولكن مركزك التقليدي في الحارة حقيقةٌ لا يمكن إنكارها!

– لا تتمادَي في الكذب دفاعًا عن أخيك.

– لعلَّ الأمر أصبح أكبر من ذلك.

– لا تُصِرِّي على الكذب، لا يُهمك إلا أمرَه وحدَه، ألم تَطَّلعي على نشرته المُسودة بمداد الحقد؟

لم تنبس بكلمةٍ فقال بحنق: إنك وراء ذلك كله كالدمل الكامن وراء أورامٍ خبيثة.

– ليكن ظنُّكَ ما يكون، ولكن نصف الحارة يتحرَّش بنصفها الآخر، وثمة عواقب وخيمة تتجمَّع في الأفق.

– إني مؤمن بأنك وراء كل مقتٍ في هذا الخصام الوبيل!

– لقد ذهب سوء الظن بك بعيدًا.

– لا أشكُّ في أنه ورث حقده الأعمى عليَّ من حقدك الأبدي.

– فليُسامِحك الله.

ضرب الأرض بقدمِه وهتف: ليس من حقك أن تلعبي دور الضحية البريئة، لم تكوني ضحيةً قط!

ثم رماها بنظرةِ تحدٍّ وهو يقول: لقد كان ما كان وأنت في كامل اختيارك!

فتساءلت بفزع: ماذا يُرجعك إلى ماضٍ مضى وانقضى؟!

إنكم تُهاجمون الأعراض وتنسَون أنفسكم، فدعيني أُذكِّرك بما كان، وبأنك لم تكوني ضحيةً لأحد، ولكنك تصرَّفتِ كما يجدُر بامرأة مُستهترة!

فهتفت: يا لك من رجل لا يُفرِّق بين أنبل المشاعر وأحطها!

فتمتم بحقدٍ وغضب: مُستهترة، أجل، مُستهترة!

فغلبها الغضب على حلمها وصاحت: يا لك من رجل حقير!

– مزِّقي ستار الأدب الزائف، واكشفي عن الحقد المخزون في أعماقك، يا بئس الصغيرات اللاتي يتلقَّين العِلم على يديك!

– مُجرم عريق في الإجرام!

– ارجعي إلى بيتِك، وانزوي في ركنٍ مُظلم مُتلفعة بعارك.

– أيها الوغد.

– اعترفي لأخيك بعارك ليكُفَّ عن الخوض في سيرة الأعراض!

– لقد جننتَ أو أنك على وشك الجنون، هي النهاية ولا رادَّ لها.

– لقد حزَّ في نفسِك يومًا أن أرفض الوقوع في فخ الزواج الذي نصبتِهِ لي، حزَّ في نفسِك أن تنفردي بعارِك كامرأةٍ عانس، ولعلك توهَّمتِ أنك تثأرين لنفسك بنشر الأكاذيب عن أعراض الشرفاء.

– ليت مُريديك يرَونك وأنت على هذه الحال!

– ليتَهم رأوكِ وأنت ترسمين الخطة الحمراء لتكوني زوجةً لخليفة الأكرم.

– ماذا أقول لرجلٍ لم يشعُر قلبه بقيمةٍ نبيلة قط؟ ماذا أقول لرجلٍ يستمدُّ معارفه عن النساء من دنيا الساقطات المُحترفات؟! ماذا أقول لرجلٍ خسيس يخطر في لباس شيخ طريقة؟!

لبث يرمِيها بنظرةٍ قاسية مُتشفِّية، ونوازع الشر المُتضاربة تُقلقل عينَيه. وأخيرًا قال كمَن يودُّ التخلُّص منها: اغربي عن وجهي، حتَّى أخوك كان دونك وقاحة.

فغرقت في صمتٍ ثقيل لا تنبس بحرف: اغربي عن وجهي!

تنهَّدت وقد تملَّكت مشاعرها، وقالت: ماضينا لا يهمُّ سوانا، أما الهلاك فإنه يُهدِّد الجميع!

– عودي إلى بيتك.

– لنرجِع إلى الحديث الأهم.

– عودي إلى بيتك.

فقالت بهدوءٍ نِسبي: لم أجئ أصلًا للشجار، ولكنك أنت الذي دفعتني إلى الجنون.

– هو خير على أي حال من الكلمات الخانعة ذات الطلاء الكاذب.

– أسأتَ فَهم مقصدي.

– لن تُهدَر حياتي بلا ثمن، ألم يقُل أخوك إنني بلا أصل ولا شرف؟ حسنٌ، سأُعامِله كما يليق برجلٍ لا أصل له مِثله ولا شرف له مثل أخته!

أحنَتْ رأسها في حزنٍ شديد. غلبها الإعياء فاضطرَّت إلى الجلوس الذي لم تُدْعَ إليه. هزَّ منكبيه باستهانةٍ وهمَّ بالذهاب إلى الداخل وهو يقول: خُذي راحتك ثم اذهبي.

غالبت ضعفها الطارئ فقامت قائلةً: انتظر.

فتحرك وهو يقول: لا وقتَ عندي لمهاترات النساء.

– آجلًا أو عاجلًا ستوعِز بقتله.

– قلتُ لا وقت عندي.

– أعلم أنه في مقدورك أن تقتُله وأنت آمِن.

ولمَّا لم يتوقف اعترضت سبيله قائلةً: انتظر.

– ابعدي عن طريقي.

– أصغ إليَّ.

– كفاك ثرثرة.

ونحَّاها جانبًا وسار نحو الباب الداخلي فهتفت: إيَّاك أن تمسَّه بسوء، أتسمعني؟ إنه …

وغصَّت بعبرةٍ ولكنها صاحت بصوتٍ خشِن مُتهدِّج مُختنق: إنه ابنك! من لحمك ودمك.

٧

تسمَّر الرجل في مكانه. استدار بعُنف. عنف غاضِب دارى به فزعًا لم يستطع إخفاءه. تراجعَت المرأة إلى الديوان فارتمَتْ فوقه ثم استسلمت لموجةٍ عاتية من النحيب. تبِعَها مهرولًا. وقف أمامها يُحملق فيها يودُّ أن ينفذ إلى أعماقها.

– ماذا تقولين؟

ولكن البكاء المُتدفِّق لم يُمكنها من النطق.

– ماذا قلتِ؟ أجيبي من فضلك!

رغم مُغالبتها للبكاء لم تغلِبه بعد، فعاد يتساءل بنفادِ صبر: ابني! .. ماذا قلت؟

حركَّت رأسها بالإيجاب دون أن تنبس.

– أي قول؟! .. أية لعبة؟!

مضت تُجفِّف دموعها. اعتدلت في جلستها. لم ترفع عينَيها عن الأرض.

– ابني؟!

همست: نعم.

– كلَّا.

•••

– إنني …

– لم تُشيرين إلى بطنك؟ آه .. كلَّا.

– بلى.

– ألَم تأخُذي حذرَك؟

– رغم ذلك حصل.

– تصرَّفي .. إنك أدرى بهذه الأمور.

– إني خائفة يا محمود.

– تصرَّفي وإلا ساءت العاقبة.

– لا تكن قاسيًا.

– لستُ قاسيًا ولكن عليكِ أن تتصرَّفي.

•••

– لكنها الحقيقة.

– قول يخرق المعقول، إنه أخوك، فكيف أُصدِّق أنه ابنك؟!

– ولِمَ أدَّعي ذلك اليوم بعد سكوت عشرين عامًا؟

قال بارتياب: لعلكِ تتصوَّرين أن …

فقاطعته قائلةً: إنه ابنُك وكفى، لن يُغير جدلٌ من هذه الحقيقة!

– هل علِم بذلك؟

– كيف تتخيَّل ذلك!

– ولا أحد غيره؟

– كلَّا، وقعتُ في المأزق عقب وفاة أبي بأيام، أعلنتِ المرحومة أُمِّي أنها حُبلى، أقمْنا زمنًا عند جدَّتي بالمرج حتَّى وضعتُ، ثم عُدنا إلى حارتنا وهي حاملة ابني باعتباره ابنها هي.

تنفَّس بعُمق وهو لا يُحوِّل عنها عينَيه وتمتم مذهولًا.

– ابنك وابنها!

– لم أتصوَّر أنني سأبوح بسرِّه إلى أحدٍ ولكنك دفعتني إلى ذلك دفعًا.

– أأنت في كامل قواك العقلية؟

– ليتك كذلك؟

– أتُريدينني على أن أُصدِّق أنه ابني وأنني أبوه؟!

– هي الحقيقة التي لا مفرَّ منها.

رفع الرجل رأسه هاتفًا: ما أعجب هذه الحارة! .. تنام أعوامًا نوم الأموات ثم تتفجر بها شواظ العجائب كالشهب المجنونة في ليلةٍ واحدة بغير حساب!

– لا مفرَّ من الحقائق، ستُطاردنا اليوم أو غدًا.

– لا شيء هو هو، السماء فوقنا وتحتنا في آنٍ، ماذا يجدُر بنا أن نفعل؟

قالت مُتأوِّهة: لم يجرِ لي في خاطرٍ أنه سيقِف أمامك يومًا مُتحديًا ولا أنك ستُجيبه مُهددًا بالموت!

– لقد ترامت إليَّ قذائفه قبل أن أسمع باسمِه.

– شدَّ ما أرعَبَني ذلك.

قال وكأنه يُخاطب نفسه: كم حيَّرتْني عيناه! كم عانيتُ من تناقُض العواطف في أول لقاء، ولكن .. ربَّاه، حذارِ من الخداع يا زينب!

– أُفٍّ .. تخلَّ عن شكوكٍ سخيفة لا مُبرر لها.

فهزَّ رأسه مُغمغمًا: إذن هو ابني!

ثم واصل هزَّ رأسه قائلًا: وأنا أبوه.

وتنهَّد من الأعماق وقال: فلأُسلِّم بهذه الحقيقة، سيلزمني دهرٌ لهضمها، ولكن عليَّ أن أسلِّم بها.

والتفت نحو المرأة مُتسائلًا: كيف ولَّدْتِ الكراهية في قلبه نحوي؟

– لا أدري.

– لعله لم ينشأ نشأةً دينية صادقة؟

– نشأ مُتدينًا ولكنه …

– ولكنه …

– عانى وما زال يُعاني حياة فقيرة مريرة.

– هو حال الأكثرية الساحقة في حارتنا.

– ولكن يحدُث أن يتنبَّه إلى الفوارق في المدرسة، ثم تُصادفه كلمات هنا وهناك فيقرؤها باهتمامٍ يفوق الحد، ويُكثر من التساؤل والنقاش، ثم يُلقي نظراتٍ غريبة على البيت الكبير، ثم تُزلزَل الأرض ويُخلَق شخصٌ جديد!

فتفكَّر مليًّا ثم تساءل: ترى هل ينقلب إذا وجد نفسه فجأةً في البيت الكبير؟

فسألته فزعة: فيمَ تُفكِّر؟

– إنه محض سؤال!

– حسنٌ، عهدتُه يفكر في الآخرين أكثر مما يُفكِّر في نفسه، أو قُل إنه لا يُفكر في نفسه إلا من خلال الآخرين.

فقال بكآبة: براءة مُؤقتة تنطوي مع الشباب الأول!

– لا أظنُّ ذلك.

– يالله، إنه يهزأ بجميع القِيَم التي يلتحِم بها بنيان حارتنا.

– لا أدري الكثير عن ذلك!

ضرب كفًّا بكفٍّ قائلًا: وقد دمَّر نفسه تدميرًا وهو لا يدري.

فحدجته بنظرةٍ حزينة مُتسائلة فاستطرد: شدَّ ما اجتهد اجتهادًا عبقريًّا ليُثبت للملأ إجرام جدِّه، وهوان بيته، ودعارة أهله!

– زعم أنه ينشر حقائق يجب احترامها!

– أساذجة أنتِ أم ماكرة؟! ليست المسألة محض عبادة للحقيقة، ولكنها ذات عواقب محتومة، فلا ضمان للنذور بعد الأخذ بها، وسرعان ما ترتفِع الأصوات مُطالبة إيَّانا بالأموال المُكدَّسة وريع العمارات!

فقالت بعد تردُّد وفي إشفاق: لا شك في طيبة نواياهم!

– بل لمستُ في حديثهم الحقد والحسد والرغبة في الاعتداء.

– إن ما دفعني إلى المجيء إلى هنا هو أن أضرع إليك لتُغلِّب الحكمة.

– أخشى أن تكون الفرصة قد أفلتت.

– حتَّى بعد أن علمتَ بما علمتَ؟

– الصراع الناشِب اليوم أقوى من أي علاقةٍ شخصية.

وذرع المكان ذهابًا وإيابًا في اضطرابٍ واضح ثم عاد إلى موقفه أمامها وهو يقول: الصراع اليوم أقوى من أيِّ علاقةٍ شخصية، وفضلًا عن ذلك فسوف يظلُّ جاهلًا بحقيقة نسَبه، ولن يكفَّ — وأصحابه — عن عنادهم المَقيت، ومِن الناحية الأخرى فإن كبار رجالنا قد أخرجهم الغضب عن جادَّة الاعتدال.

– ولكن الحكمة تستطيع أن تُقدِّم خيرًا.

– أين يمكن أن تُوجَد الحكمة في حارتنا التي زُلزِلت أركانها؟!

– أستحلفك بالله ألا تيئس.

– صدِّقيني لقد اختلَّ ميزان كل شيء، خرجت النجوم عن أفلاكها، والكلمات عن منطقها، وتمخَّضت قباب الأضرحة عن أوثان!

– ثمة طريق للنجاة؟

– مَن أدراكِ؟ .. لقد سدَّتْه الزبانية!

– ولكنك رجل مُحنَّك ذو نفوذ شامل.

فضحك ضحكةً هازئة وقال: كنتُ مُستندًا إلى عراقة أصلٍ وامتياز بيتٍ وكرامة أُسرة، أين كل أولئك؟ أين؟

– الذين يؤمنون بك لا حصر لهم.

– مع الزمن سيرى الناس فيَّ رجلًا غارقًا في الخطايا مُلوَّثًا ضائعًا، شيَّد من أموالهم بفساد ذِمته بناءً ضخمًا.

– أكثر الناس ليسوا أفضل من ذلك.

– ولكنهم لا يَدَّعون ولايةً ولا يُطالبون أحدًا بطاعة.

فرفعت إليه عينَين دامعتَين وقالت: تُرى هل أفشيتُ سرَّهُ بلا ثمن؟ .. بلا فائدة؟

فقال بامتعاض: للأسف لن يرِث عني إلا الخطايا وربما ضِعنا في الصراع معًا!

– حسنٌ أن تُفكر فيه بعطفٍ لأول مرة.

– ألم تُفكري قطُّ في البوح له بالسر؟

– لو فعلتُ لحطمتُه تحطيمًا.

عاد يذهب ويجيء وهو يقول: اللهم ألهِمْني الصواب، اللهم بدِّد جيوش الظلمات.

ورجع إلى موقفه وقد تضاعف تجهُّمه، ثم قال: كدتُ أنسى! لقد دفعني الغضب إلى طريقٍ وعر.

– أجل فقد اعتدى عليه بعضهم.

– هنالك ما هو أفظع من ذلك!

حدجها بارتباكٍ ثم عاد يقول: لقد عرَّضتُ بشرفِه!

– شرفه! .. ماذا تعني؟

– أشعل غضبي لحدِّ الجنون، عيَّرني مُتحديًا فصحتُ به إن بيته ليس أشرف من البيوت التي يُعرِّض بها!

– خبر أسود!

– ذكرتُك بطريقةٍ ما.

هبَّت قائمةً في فزع هاتفةً: كلَّا.

فأجاب بأسًى: بلى!

– أنت؟!

– دفعني إلى حافة الجنون.

– ربَّاه .. هل لمَّحتَ إلى ذلك التاريخ القديم؟

– كلَّا ولكنه غادر بيتي فاقد العقل ولا شكَّ أنه يجدُّ الآن في البحث عنك.

– إنه يظن الآن أنك تسعى إلى فضحِه انتقامًا منه، يا للكارثة.

– أكِّدي له أنها محض أكاذيب لم أُردِّدها إلا رغبةً في الانتقام منه.

– تُرى أيُصدِّقني؟

– سيُصدِّقك، إننا نُصدِّق ما نُحب أن نُصدِّقه.

– وإن طاردني بشكوكه؟

– أصرِّي على رأيك، ما عسى أن أقول أكثر من ذلك؟ إني غارق في مُحيط من المشاكل التي تبدو لا حلَّ لها.

شملهما صمت. تبادلا نظرةً طويلة. بدا شاحبَ اللون غائر النظرة كما بدت دميمةً من أثر البكاء والغم. وتساءلت بلهفة: أأرجِع إلى بَيتي بلا بارقة أمَل؟

فقال مُتنهدًا: لا أعِد بشيءٍ لا سيطرة لي عليه، يلزمني وقت أخلو فيه إلى نفسي.

– وكيف أذهب ولا شيءَ في يدي غير الخواء؟

– لقد عرَّيتِ مزيدًا من الحقائق، حسبك هذا.

– ولكنه لم يُغيِّر من القضاء فيما يبدو؟

– لقد أُتْخِمْتُ بالحقائق المُفزعة ويلزمني وقت أخلو فيه إلى نفسي.

– دعني أُكرِّر عليك أن الحكمة تستطيع أن تُقدِّم خيرًا.

– لا طافة عندي لسماع جديد.

– أذهب؟

– بسلامة الله.

همَّت بالذهاب ولكنها عدلَت. تردَّدت مُتفكِّرة. ثم قالت: لقد رمَيتني بشتَّى التُّهَم. تصورت أن أي حقدٍ تحدَّاك إنما يُستمَدُّ من حقدي الأبدي، دعني أقول لك قبل الذهاب، دعني أقول لك .. إنك .. مُخطئ!

نظر إليها بعينَين مُتعبتَين وتساءل: ماذا تعنين؟

فقالت وهي تمضي إلى الخارج: أستودِعك الله.

أتبعَها عينَيه حتَّى اختفت. تساءل ماذا تعني. سرعان ما شدَّته الهموم إلى دوَّامتها. جلس على الديوان وأغمض عينَيه. دخل خادم فأضاء النجفة والمصابيح ثم ذهب. استشفَّ جفناه الضوء فانقبض قلبُه لمقدم الليل. ترامى إلى أُذنَيه وقع عصا على أرض الحجرة. فتح عينَيه مُلتفتًا نحو الباب فرأى الشيخ تغلب الصناديقي.

٨

قام الشيخ محمود إلى القادم وهو يقول: أهلًا بك يا شيخ تغلب.

ومضى به إلى الديوان والعجوز يقول: هاتف دعاني إلى لقائك.

– أهلًا بك وشكرًا لك.

فسأله برقَّة لأول مرة: كيف حالك؟

– النار أرحم من رأسي وقلبي.

– وأرحم من الغضب الذي يجتاح حارتنا.

– يا له من موقف يا شيخ تغلب.

– وماذا يقول رجالك الكبار؟

– صدق عزمهم على مقابلة التحدي بمثله.

– لا غرابة أن يُدافعوا عن مصالحهم!

فتساءل الشيخ محمود غاضبًا: والآخرون ماذا يُحرِّكهم؟

– إنهم بحُكم سِنِّهم أقرب إلى البراءة.

– فات وقت الجدل.

– ولكن ثمة مجال للعمل، بِمَ طالَبَك أبوك قبل وفاته؟ ابدأ اجتهادك في الطريق وسوف يقودك من خيرٍ إلى خير.

نفخ الرجل قائلًا: رأسي مُزلزل!

– أفقَدْت إيمانك بالله؟

– كلَّا، صدقني، ولكن رأسي مُزلزَل.

– ألا تؤمن بالطريق؟

صمتَ مليًّا ثم قال: إذا تهاوى بناء شامخ فما جدوى أن تسأل عن حجرةٍ من حجراته؟!

– إذن تريد أن تُواصِل حياتك كشيخ طريقةٍ بلا طريقة.

– أعترف لك بأن ذلك لم يعُد مُمكنًا.

– اعتراف سعيد ولكن خبِّرني، أكان في نيَّتك أن تستمر في ذلك إلى الأبد؟

تفكَّر الشيخ باسمًا في أسًى: كنتُ دائمًا أؤجل البدء، إنه الكسل وعشق الحياة، وأعترف لك بأن ثمةَ نكدًا كان لا يكفُّ عن مُطاردتي.

– اعترافٌ سعيد ثان!

– من السخرية أن تذكر السعادة في هذا الجحيم.

– ظننتُ أن عواقب الكسل ستضيرك وحدَك ولكن ها هي تعصف بالحارة كلها.

– مُرتكبة ما يخطر بالبال وما لا يخطر!

قال العجوز باستبشار: في صوتك نغمةٌ جديدة لعلَّ سرَّها هو الذي دعاني إليك.

– لا تُبادر إلى التفاؤل بلا مُبرر!

– توكَّل على الله واتخذ قرارًا!

– كيف لقلبٍ مُزلزَل أن يتَّخِذ قرارًا؟

– اتَّخِذ قرارًا.

– يُخيَّل إلي أنني لستُ كجدِّي الأول إن صحَّ ما يُقال عن اجتهاده العجيب.

– تقول إن صح؟

فقال بحدة: أجل، فمن يُدريني أن اجتهاده لم يكن إلا أسطورة كما كان أصله وبيته وكما كانت أُسرته؟

فهتف الشيخ تغلب: حذارِ من الشك!

فقال الرجل بامتعاض: لقد زرَعْتَه في قلبي يا شيخ تغلب.

– ثمة جوهر حقيقي باقٍ تحت ركامٍ من أوهامٍ لا قيمةَ لها.

– أنت نفسك لم تعُد تؤمن بمعجزات الأكرم.

– أُكرِّر القول بأن مُعجزته الحقيقية هي أنه رغم خطاياه قد بلغ المراد باجتهاده.

هزَّ الرجل رأسه بمرارةٍ فقال الشيخ تغلب: اعزم، العمل يقتُل الشك، النجاح يقتلِعه من جذوره، في وسْع أي إنسانٍ أن يكون نافعًا للناس، على ضعفي وعجزي كنتُ القوة التي أقنعت كثيرين من أولياء الأمور بإرسال أبنائهم إلى المدارس!

ضحك الشيخ محمود بمرارةٍ وقال: أرسلتُهم في الطريق الذي قوَّض أركان إيمانهم!

– الإيمان يتجدَّد تحت مظاهر شتَّى خلال الزمن.

– ما جدوى المناقشة ونحن على وشك القتال؟! وقد يقتُل الأبُ ابنه أو يقتُل الابن أباه؟!

فقال العجوز برجاء: ما كان بِوسع أحدٍ أن ينالك بأذًى لو أنك …

فقاطعه بضيق: لكنهم يُزيحون مَلِكًا مُغتصِبًا عن عرشٍ زائف!

– معذرةً يا بُني فإني لا أنطق إلا عن صدق، وأردتُ القول بأنه لو أنك مارستَ حياة الطريق الشاقة الطاهرة لما تعرَّض لك أحدٌ بسُوء أو لَما بالَيْتَ بما يتعرَّضون لك به.

قام الرجل متوترًا. مضى نحو باب السلاملك، وجعل يرنو إلى الحديقة التي ذابت تفاصيلها في أمواج الظلام فتبدَّت أشجارُها كالتلال حينًا وكالوحوش حينًا آخر. ومن موقفه جاء صوته قائلًا: يُخيَّل إليَّ أنه لم يعُد لي مقام ها هنا!

هتف العجوز بجزع: مولاي!

– لعلَّ ذلك يحلُّ الأزمة المُستعصِية.

– لكن الأزمة لا تُحلُّ بالهرب.

استدار نحوَه مُقتربًا وهو يقول: ثمة خواطر مُغرية تدعوني إلى طرح المتاعب أرضًا واستقبال حياةٍ بسيطة سعيدة!

– حياة بسيطة سعيدة؟!

– لي من المال ما يُيسِّر لي ذلك!

– معذرةً مرةً أخرى عن قول الصدق، لا مال لكم إلا ما جاءكم من المُريدين!

– إنه مالي أمام القانون وكفى.

نظر نحوَه بارتيابٍ وسأل: أتؤمِن بما تقول؟

لم يُجب على سؤاله ولكنَّه قال: ثمة حياة بسيطة سعيدة لا تعقيد بها ولا نزاع.

– والطريق الذي خُلقتَ له؟

لم يُجِب على سؤاله أيضًا ولكنَّه قال: فلنُحِب الحياة كما يُحِبها أكثر الناس.

فقال بثقةٍ أو برجاء: إنك لا تعني ما تقول، ولكنك تُردِّد الأفكار التي تُناقِشها وأنت خالٍ إلى نفسك.

– لم لا؟ .. فلْأذهب إلى مكانٍ قصيٍّ، إلى أوروبا كما فعلَتْ عمتي، ولأترُك لك الطريقة فأنت خير مَن يقودها.

– ردِّد ما يُناوشك به الشيطان في نفسك.

– لِمَ لا يا مولاي؟!

– لقد عشتَ حتَّى اليوم عيشة الاستهتار واللذَّة ولكن الأمل معقود بالعذاب الذي تبِعَك في مغامراتك الليلية كالظل.

فقال بسُخرية مريرة: عند ذاك يهدأ جيل الأبالسة المُتمرِّدين!

– نحن في حاجةٍ إليهم كما أنهم في حاجةٍ إلينا.

– لدَيهم العِلم والأفكار الشيطانية التي تُصوِّرنا في صورة نفاياتٍ سامَّة يجِب التخلُّص منها بأسرع ما يمكن صونًا للصحة العامة.

فقال العجوز بإصرار: على ضوء ذلك يتحدَّد لنا هدف جديد.

– لعلَّها مُهمة قديس!

– ها قد بدأنا نتقارب.

– ولكن عليه أن يُقنع الناس بقداسته قبل البدء.

– بل عليه أن يُقنع نفسه بقداسته قبل ذلك.

– ها نحن نحلم بالطيران ونحن غرقى في الأوحال.

– القديس لا يكترث للأوحال.

فتنهَّد الشيخ محمود من الأعماق وقال: فلنُحِب الحياة كما يُحبها أكثر الناس، ولا خوف من العذاب الذي أرهقَني ظلُّه فيما مضى بعد أن ثبت لي أنني جدير بها كما أنها جديرة بي.

قال الشيخ تغلِب غاضبًا: شاهدتُ في حياتي حقراء لا حصر لهم ولا عدَّ ومع ذلك فلم يُمحَ من قلوبهم التقزُّز من القبيح والتهليل للحق.

رفع رأسه إلى فوق وراح يتكلَّم وكأنما يُناجي نفسه.

– عاصفة تجتاح رأسي، أحداث تُطاردني فلا تدع لي فرصةً لإنعام النظر، من أسفل يُلح نداء ومن أعلى يُلح نداء، وأنا مُمزَّق القلب، كأني مُطالَب بتنظيم الوجود وأنا مُحاصر في ركنٍ ضيق يُهدِّدني الموت!

فقال الشيخ تغلب باسمًا: وصف مُوجَز للحياة لا بأس به.

– ما أجمل أن أرمي بنفسي بين أحضان اللهو.

– استمِرَّ في محاورة نفسك!

فهتف: ليتني بلا ضميرٍ كهذا الجيل الساخر!

– صدِّقني إنه أمل لحارتنا.

– لا إيمان لهم بشيء.

– حُب العِلم ما هو إلا لغة إيمانٍ جديدة.

وتردَّد الشيخ محمود مليًّا ثم سأله: أعرفت المدعو علي عويس؟

أجاب الرجل بعد تذكُّرٍ قصير: نعم، شابٌّ ممتاز، قلتُ له مرة إذا طعَّمت علمك بالحِكمة فأنت خير حفيد للأكرم!

هتف الشيخ محمود فزعًا: حفيد الأكرم؟!

– لا تنزعِج فإن حفيد الأكرم الحق هو خير من يُعيد سِيرته، ويعكس صميم روحه.

ولزم الرجل الصمتَ وهو واقف على حين أطرق العجوز. سبحَت الأفكار في الصمتِ محمومة مُتلاطمة. سقطت فراشةٌ ثمِلة بالضوء على لِحية الرجل السوداء المُدبَّبة فهشَّها بعصبيةٍ فتهاوت عند قدمَيه. وندَّت تنهُّدة بصوتٍ مسموع ثم تساءل الرجل: ماذا تفعل لو كنتَ مكاني يا شيخ تغلب؟

فرفع الرجل رأسَه كمن يصحو بعد غفوة وقال: لا تسَلْ عن جوابٍ أنت خير مَن يعرِفه!

– أريد أن أسمعه!

– كلَّا، إن الحياة تتموَّج أمام بصرك، الأركان تتهاوى، أوهام تتبخَّر، حقائق تنقضُّ كالقنابل، عناصر تتحلَّل مُطالبةً بتركيبٍ جديد، أصوات جديدة تُحطِّم جدران الخرَس وترتفِع، أناس يتلاحَمون، قوى تنطلِق من مَخابئها، والنفس تُطالب صاحبها باتخاذ موقف، اثبت .. اهرب .. احيَ .. مُت .. تَعقَّد .. تَجدَّد .. ولكن لا حلَّ إلا أن تخوض أمواج الظلمات وأن تشقَّ طريقك إلى بَرِّ النور.

وقام الرجل العجوز مُعتمدًا على عصاه فقال الرجل: لتبقَ قليلًا يا شيخ تغلِب.

– لقد قلتُ ما عندي وقلتَ ما عندك.

تصافَحا. مضى معه إلى باب الخروج والعجوز يقول: الليل يمضي، وقلبي يُحدثني بأنه سيتمخَّض عن أمورٍ هامة.

وبينا كان يُوصِّله تسلَّل من باب السلاملك علي عويس. ألقى على المكان نظرةً حذِرة ثم مضى إلى الديوان فتوارى وراءه فيما يلي الجدار المُطل على الحارة. رجع الشيخ محمود فذهب إلى باب السلاملك مُتلقيًا نسائم الليل. زحف الشابُّ نحو الباب فأغلقه بهدوء. تنبَّه الشيخ إلى حركةٍ فالتفت وراءه فرأى الشابَّ وهو يتَّجِه نحوَه. ذُهل الرجل وقد قرأ الشرَّ في عينَيه وسأله: من أين جئت؟

تقدَّم دون أن ينبس فسأله: ماذا تريد؟

قال الشاب وهو منه على بُعد ذراعَين: كدتُ أُقتَل بيد رجلٍ من رجالك.

– احذر أن ترتكب حماقة.

– وتُريد أن تُشهِّر بشرَفي؟!

– محض أوهام سخيفة.

ولكنه وجَّه إليه لكمةً شديدة. قبض الرجل على ذراعِه قبل أن تصكَّه الضربة. تلاحما بعُنف؛ الشابُّ يُريد أن يصرَعه وهو يُقاومه بكلِّ ما أُوتي من قوة.

– كُفَّ وإلَّا دعوتُ رجالي!

– سأنالك قبل أن يأتوا!

ودفعَه دفعةً قويةً فتراجَع الرجل مُترنحًا ولكنه أسند ظهره إلى الجدار.

– كُفَّ قبل فوات الفرصة.

– إنك شرٌّ يجب أن يزول.

– دعنا نتكلَّم!

– مكيدة جديدة؟

انقض عليه بوحشيةٍ وانهال عليه ضربًا. وجعل الآخر يدفعه بقوةٍ ولكنه لم يستطع أن يتفادى من ضرباتٍ صادقة أصابَتْه في صدره وكتفِه. وأخذ الضعف يَعتوِره وتُحاصره اللكمات حتَّى استشعر دنوَّ الانهيار.

– حسبُك .. أمسِك.

ولكن الآخر ضاعف له الضرب فهتف: كفاية .. ستقتلني.

– إلى الجحيم!

فهتف مُتوجِّعًا: ستقتل أباك!

فصاح به: كفَّ عن الهذيان يا مُجرم.

فقال بصوتٍ مُتحشرج وقد بدأ دفاعه يضعُف ويتلاشى: ستقتُل أباك، ألا تسمع؟ .. ستقتل أباك .. إني أبوك!

ولمَّا يئس من إدراكه وشعر بدنو النهاية صاح بأعلى صوته: إليَّ .. إليَّ .. شيخ عمار.

في الحال اندفع خدَم من باب السلاملك. فُتِح الباب ودخل الشيخ عمار وبعض الرجال يُهرولون. انقضُّوا على الشاب فقبضوا عليه وشلُّوا حركته. مضى الشيخ مُترنحًا نحو الديوان وتهالك عليه وهو يُتمتم: اقبضوا عليه .. لا تمسُّوه بسوء.

أخرجَ منديلًا وراح يُجفِّف به دمًا سائلًا من أنفه وفيه، طارحًا رأسه على المسند في إعياءٍ شديد. وتمتم مرةً أُخرى وهو يقرأ في الوجوه غضبًا أسود: لا تمسُّوه بسوء.

سأله الشيخ عمار بصوتٍ مُتهدِّج: ماذا نفعل به يا مولاي؟

– صبرًا!

– أندعو الشرطة؟

– كلَّا.

مرَّت فترةٌ لم يُسمَع فيها إلا تردُّد الأنفاس. في أثناء ذلك جيء للشيخ بقارورةِ وردٍ فغسل وجهه، اعتدل في جلسته مُتأوهًا. التفت إلى رجاله قائلًا: اتركوه!

فرفعوا أيديهم عنه في ذهول، فقال: تفضلوا بالذهاب.

لم يتحرَّك أحد منهم فقال بلهجةٍ آمِرة: اذهبوا!

غادر الرجال البهو ذاهِلين. تردَّد الشيخ عمار ثم ذهب في أثرهم. وقف الشاب خافضَ الرأس لا يفهم شيئًا. وقال الشيخ: تذكَّر أنك واقع تحت رحمتي ولم أمسَّكَ بسوء.

وجعل يتحسَّس بعض مواضع تُؤلِمه ثم قال: عارٌ عليك أن تستغلَّ قوتك في الاعتداء على رجلٍ في مثل سِنِّي، يجب أن تخجل من نفسك.

قال الشاب دون أن يرفع رأسه: إذا كنتَ تُدبر أمرًا فنفِّذه بلا إبطاءٍ لا ضرورة له.

فسأله بعد وقفةٍ قصيرة: ألم تسمع ما قلتُ لك؟

لم يُجِب ولم يفهم.

– قلت لك .. ستقتل أباك.

فرفع إليه عينَيه دون أن ينبس.

– لمْ تُصْغِ إليَّ، كدتَ تقضي على أبيك، ألا تُدرك معنًى لقولي؟

حرَّك رأسه في حيرة، فقال الرجل في هدوءٍ واستسلام: ذلك أني أبوك وأنك ابني!

انتصبت قامته فجأةً واتَّسعت عيناه وتساءل: ماذا تقصد؟

– ليس لقولي إلا معنًى واحد وهو أني أبوك وأنك ابني، لقد رميتَني بحقائق عسيرة الهضم وها أنا أردُّ التحية إليك، ولو عاصَرَنا أبو العلاء لعثرْتَ على نفسك في مخطوطه، أراك لا تُصدق، حسنٌ، سنبعث في طلب الشخص الوحيد القادر على إقناعك .. ثم علينا بعد ذلك أن نُوطِّن النفس على مواجهة الحقائق.

٩

كان الشيخ يجلس على الديوان وقد ضمَّد جراحاته. وعلى كنبةٍ قبالته جلست زينب وعلي. وبدت نظراتهم ثقيلةً بما حملت من حقائق وما تخايَل لها من عواقب. وقال الشيخ: ها هي الحقيقة عارية!

ثم ردَّد عينَيه بينهما حتَّى ثبَّتَهما على الشاب وقال: عرفناها معًا في ليلةٍ واحدة، ها هو الماضي يُعانق الحاضر فيكوِّنان معًا كُلًّا لا يتجزأ.

وابتسم في أسًى ثم مضى يقول مُخاطبًا الشابَّ أيضًا: لقد وزَّعتَ على الناس نشرة تكشف عن أعجب الحقائق عن جدِّك وبيتِه الكبير وأُسرته، ولكن فاتك أطرف ما فيها وهو هذا الفصل الأخير.

نظر الشاب نحو أُمِّه فوجدها تُجفِّف عينَيها فتمتم: الفصل الأخير! .. أي حقيقة؟! .. لن أعجب بعد الليلة لو رأى الناس بآذانهم وسمعوا بأعيُنهم!

فقال الشيخ: هكذا دار رأسي أيضًا بلا توقُّف، ولكن علينا أن نحسم أمرَنا فلم يبقَ على الفجر إلا ساعة.

قالت زينب: من حقِّنا أن نُمهِّل لمزيدٍ من التفكير.

فقال الشيخ: لا وقتَ للانتظار، فالحارة مُهدَّدة بالانفجار بين ساعةٍ وأخرى.

– والعمل؟

– علينا أن نختار سبيلًا من اثنَين، فإما أن نهرُب بأموالنا أو بمعنًى آخر بأموال الناس، وإما أن نبقى لنُواجِه الحقيقة ونتحمَّل عواقبها.

تنهَّدت زينب بصوتٍ مسموع وقالت: حدِّثنا برأيك.

فنظر الرجل إلى ابنه وسأله: أودُّ أن أسمع رأيك أولًا.

انتفض الشابُّ كمن يستيقظ من نومٍ وقال: رأيي؟! .. أمهِلني حتَّى أستعيد تَوازُني.

– لا وقت لذلك، دعْني أُساعدك، ماذا أردتَ أنت وزملاؤك؟

تفكَّر مليًّا ثم قال: أردْنا الاحتكام إلى الحقائق وإزهاق الأباطيل والخرافات، مُؤمِّلين من وراء ذلك أن تُرَدَّ أموال الناس إليهم وأن تُنفَق في سبيلهم، وأن تُرفَع عن كواهلهم الوصاية والسيطرة.

– هذا حسَن ولكنه ليس بكلِّ شيء، الحقيقة لا تتجزَّأ، وإن يكن ثمَّة خير في أن يعرف الناس الأكرم على حقيقته فمِن الخير أيضًا أن يعرفونا على حقيقتِنا، لا نستطيع أن نبدأ من جديدٍ ونحن نتستَّر على آثامنا الماضية، على الاعتراف أن يكون كاملًا وصريحًا ليكون التكفير كاملًا وصريحًا، ولنبدأ حياةً نقية بالمعنى الحقيقي.

تساءلت زينب بإشفاق: ماذا تقصد؟

فأجاب بإصرار: يُخيَّل إليَّ أنَّني لن أتورَّع عن شيء!

– وأي عواقب تتوقَّع؟

– لا أدري، قد يُعيدنا ذلك إلى مجد الأكرم وقد يَردُّنا إلى تشرُّده!

– زِدني تفصيلًا!

– إذا اعترفتُ بكل شيء، إذا بلغتُ الغاية في الأمانة، فلن يتردَّد عن مُحاربتي أخلص الناس لي اليوم وهم المُنتفِعون بأموالنا، أما المُريدون فسيقَعون حيارى بين إيمانهم القديم والحقائق الجديدة، ولا يبعُد أن ينقسِموا بين مُرتدٍّ عني ومؤيدٍ لي حتَّى النهاية.

– يا لها من صورةٍ غامضة!

– رجْمٌ بالغيب أن أحدُس المصير.

– هي احتمالات وخواطر، ولكن ما الذي تُضمره في قلبك؟

التفت نحو الشابِّ وهو يقول: أودُّ الآن أن أسمع رأيك؟

لم ينبس الشاب مُستغرقًا في تفكيره.

– إنك تبدو شاحِب اللون يا بُني؟

– ليس هذا ممَّا يُهم.

– لا بدَّ من الإدلاء برأيك.

– أظنُّني أفصحتُ عنه فيما يَخصُّني.

– ثمَّة ما يخصُّك ولا يقلُّ أهميةً عن ذلك إذ إنه يتعلق بكرامتك وسُمعتك؟

فتمتم بهدوء: يُخيَّل إليَّ.

وانطبقت شفتاه فتساءل الشيخ: يُخيَّل إليَّ؟

فقال بحدَّة عصبية: إنني لن أتورَّع عن شيء.

– أتُدرك ماذا يعني ذلك؟

– أجل.

– أنت شُجاع، وسوف يتقرَّر مصيرنا على ضوء ما يرى الناس فينا.

– ليكُن ما يراه الناس.

– سأُعيد إليك اسمك، أما الثروة فستعود إلى أصحابها، ستجيئنا بكتُبك ولن تجد عندنا إلا كتُبًا!

– ليكن.

وتساءلت زينب بذهول: أيُمكنك مواجهة الناس بذلك؟

– سأدعوهم إلى البيت الكبير صباح الغد.

– ألا يلزمُك وقتٌ للمزيد من التفكير؟

– لا تَدرين كم فكَّرت!

وابتسم وهو يرنو إليها بنظرةٍ ثقيلة: لم أكفَّ عن التفكير لحظةً واحدةً مُذ انهالت على رأسي المطارق!

ثم وهو يتنهَّد: وكان عليَّ أن أختار؛ فإما الدعارة وإما القداسة.

وابتسم في هدوءٍ ثم استطرد: وقد اخترتُ سبيلي، فاضت من قلبي قرارات عنيدة غير مُتوقَّعة كضربات المطارق المُنهالة على رأسي اكتسحت نداءات الدعارة اللزِجة اللَّينة، فرفضتُ الهزيمة ومَججتُ الهناء السهل، والظاهر أن إيماني بجوهر جَدِّي كان أكبر من إيماني بمعجزاته.

وردَّد بصرَه بينهما وهو يقول: فلنستمتِع بآخِر هدوءٍ يُتاح لنا!

فقال علي: أمامنا حياة عسيرة.

– ولكنك تودُّ مواجهتها؟

فقال بتصميم: بلا تردُّد.

– حسنٌ، لقد تعلمتُ منك أشياء وأودُّ أن تتعلَّم مِنِّي شيئًا!

فقالت زينب: ولكن النزاع لن ينتهي في حارتنا.

فقال الشيخ: بلى، ولكننا سنكون في الموقع الأفضل.

وتفكَّر مليًّا ثم قال: لا شكَّ أن جدَّنا اعترضته نفس المتاعب وهو يتحوَّل من الجريمة إلى الولاية!

وقام في نشاطٍ حي وقال: لقد أورثنا مثلًا لا يجوز أن يُنسى.

ودنا من مدخل الحديقة المُستكنَّة في سكينة الفجر وقال: تلك كانت المعجزة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤