حارة العشَّاق

١

تربَّع على الكنبة في هدوءٍ مُتوثب. تابعها بعينَيه وهي ذاهبة تحمِل صينية القهوة. تابعها وهي عائدة بجسمِها البض ووجهها المُمتلئ البدري. جميلة فاتنة! وتزداد مع الأيام نضجًا وفتنةً. ها هي تُلقي نظرةً على الحارة من النافذة الوحيدة في حجرة الجلوس. وها هي تجلس إلى جانبه على الكنبة الوسطى. وها هي الغبطة تَسيل من نظرتها وهي تقول: شكرًا للترقية!

وابتسمت بحبورٍ ثم قالت: بفضلها أهنأ بمُجالستك كل عصر.

تقلَّصت بعض عضلاته تحت جلبابه الأبيض الفضفاض وغمغم بألفاظٍ غير واضحة. جعلت تلحظه بعينَيها الصافيتَين. ستكتشِف عاجلًا أو آجلًا وجومَه. لعلها اكتشفته. هي شديدة الحساسية فطِنة، ولكنها في نفس الوقت مرِنة واسعة الحيلة. كم يُحبها! لم يتوقَّف عن حُبها بعد الزواج. لا يتصوَّر الحياة بدونها. قالت بنعومة: لمناسبةٍ ما ذكَّرتني صاحبة العمارة بأنَّنا نُقيم في هذه الشقة منذ خمس سنوات.

فصدَّق على قولها مُتمتمًا: أجل، خمس سنوات.

– خمس سنوات حقًّا؟ هل مرَّت خمس سنوات حقًّا؟

– خمس سنوات مرَّت على زواجنا، العمر يجري جريًا يا هنية.

فربَّتت على ظهر كفِّه وقالت بحنان: يبدو أنه يَطير طيرانًا في أحضان الحب السعيد.

تُرى هل اكتشفت وجومه؟ إنه على درايةٍ بتسلُّلها الناعم. قال: أجل، في أحضان الحُب يطير طيرانًا.

فامتلأت عيناها بالحنان وقالت: وطيلة النهار جعلتُ أتذكَّر وأغني لنفسي.

– ثمة ذكريات لا تُنسى.

– قُبيل الخطوبة وأنت تُخالسني النظر من مجلسك في القهوة.

فخفض من صوته وهو يقول: الحُب جنون!

– وكل ركن في هذه الشقة يستطيع أن يقوم ألف دليلٍ على حُبنا.

– ألف دليل ودليل.

– هكذا مرَّت السنوات الخمس فلم نشعُر بمرورها.

– أجل.

– بالرغم من أن مَتاعبك فيها لا يُمكن أن تُنسى.

فغلبته عواطف مكبوتة فقال: كانت متاعب سعيدة.

– بل كانت السعادة أقوى من المتاعب!

تنهَّد. تجلَّت في عينَيه نظرة حالِمة. قال: تلك الأيام! كنتُ موظف أرشيف خارج الهيئة، أعمل عملًا مُتواصلًا من طلعة الصبح حتَّى أول الليل، حتَّى الغداء كنتُ أتناوله تحت أرفُف الأرشيف، فقير كادح وزوج عاشق، حتَّى النسل أجَّلتُه لحين تتحسَّن الحال، لا وقت للتفكير، لا وقت للنظر، عمل عمل عمل، وأعود إليك مرهقًا ولكن بفؤادٍ حي مُشتاق، أجد الحمَّام مُبخرًا فأغتسِل وأرتدي جلبابًا مُزهرًا، نتبادل الحديث، نتناول العشاء، نسعد بالحُب، ننام النوم العميق، لا أفكار ولا أكدار، ثقة لا حدَّ لها بكلِّ شيء، بك وبنفسي وبالله، وإيمان لا حدَّ له بك وبنفسي وبالله، كل شيء ثابت الأركان مُدعم البنيان.

– أيام شاقَّة وسعيدة يا عبد الله.

– جريٌ بلا انقطاعٍ وراء لُقمة العيش، طمأنينة شاملة، حُب يُتبادَل بقوة تُضاهي قوة دوران الأرض!

أزاحت خصلةً سوداء تهدَّلت فوق عينها وقالت وهي تضحك في دلال: ولكنَّنا لم نكُن نهنأ بجلسةٍ سعيدة كهذه الجلسة في العصاري الطيبة.

فقال بحزنٍ لم يعُد يستطيع مداراته: فقد منَّ الله عليَّ بالترقية.

– أصبحتُ مُراجع وحدةٍ ينتهي عمله في تمام الثانية بعد الظهر مثل كبار الموظفين.

– وتهيَّأ لي من الفراغ ما لم أكن أحلم به.

ربَّتت على خدِّه وقالت بارتياب: ما لك؟

– لا شيء بي.

– خُيِّلَ إليَّ أنك لستَ كعادتك.

ابتسَم. ابتسَم. وهو يرنو إلى بشرتها الصافية. اعترف بأنه لا شيء يُمارس سيطرته على شيءٍ كما تُمارس سيطرتها عليه. عادت تسأله: ألستَ سعيدًا بالترقية والفراغ؟

– الحقُّ أن الفراغ خلقَني مِن جديد.

– وأنا كذلك.

– فقد رأيتُكِ في النهار طويلًا بعد أن لم أكن أراك فيه إلا خطفًا!

ضحكَتْ ضحكةً ناعمة منغومة فواصَل حديثه: ورأيتُ حارتنا في الضوء، عرفتُ المقهى، توثَّقَتْ علاقتي بالجيران خاصةً الإمام والمُدرس وشيخ الحارة.

هكذا الفراغ راحة ونعمة وتعارُف.

– وعرفتُ نفسي بعد أن كانت حواسِّي مشدودةً دائمًا إلى الخارج.

– يا لها من مكاسب لا تُقدَّر بمال.

– رأيتُ أهل حارتنا، لم أكن أتصوَّر أنهم بهذه الكثرة.

– ما أعجبَ ذلك وأجملَه!

فتفكَّر قليلًا ثم قال: ومنهم أناس أثاروا قلقِي.

– لِمَ، كفى الله الشر؟!

– يتَّخِذون في ركنٍ من المقهى مجلسهم، عصابة من الشبَّان، يتبادلون المزاح بأصواتٍ مُزعجة، لا يرحمون كبيرًا ولا صغيرًا من مزاحِهم، ويتهجَّمون على الأعراض بلا حياء.

– هكذا الشبَّان في كل زمانٍ ومكان.

– ألا يُزعجك ذلك يا هنية؟

– لا أُحب لك أن تنزعِج أنت!

– ولا يتركون فتاةً دون غمز، حتَّى السيدات المَصونات، حتَّى خُيِّل إليَّ أني أُقيم في عالَمٍ من الدعارة والانحلال.

– لا تستسلِم للأوهام السخيفة!

قام كأنما ضاق بمجلسه. وقف وراء النافذة دقيقة. رجع إلى وسط الحجرة ووقف مُستندًا إلى الخوان. قال بحنق: خُيِّل إليَّ مرةً أن أحدَهم رماني بنظرةٍ لم أرتحْ لها!

نضب المرح من صفحة وجهها وتساءلت: أي نظرة؟

– نظرة ماكرة ذات معنًى.

– أي معنى؟

– استفزَّني غضب وهممتُ بالقتال!

– يا لطف الله!

– وتنغَّص عليَّ صفوي فلم أسترِدَّه بعد ذلك.

قالت بقلقٍ واضح: إنك تُبالِغ يا عبد الله.

– الحق أني عانيتُ تجربةً جديدة كلَّ الجدة وهي الشك!

هتفت باستياء: الشك!

– كمَن صحا عقب نومٍ ثقيل على لسْع عود ثقابٍ مُشتعل.

قالت بامتعاضٍ وغضب: أطلِعْني على أفكارك أكثر.

– قلتُ إنه الشك وكفى.

فصاحت بغضب: لا أُصدِّق أنني أتلقَّى منك إهانةً صريحة!

– إني أسألكِ المعونة.

– غيِّر ما بنفسك قبل أن يفسد كل شيء.

فقال دون اكتراثٍ لتحذيرها: إنك تَخرُجين كل يومٍ للتسوُّق.

– لستُ في حاجةٍ إلى مَن يُذكِّرني بحياتي اليومية.

فقال بخشونة: وتذهبين إلى الفرن لابتياع الخبز!

– كما أذهب إلى البدال والقصَّاب والكوَّاء.

فقال بحنق: ولكن الفرَّان يستقبلك استقبالًا عجيبًا، يهتف دون مناسبة: أهلًا أهلًا ويُقبِل عليك كأنه صديق حميم.

– عبد الله!

– إني أصِف ما رأته عيناي.

– أكنتَ تتجسَّس عليَّ؟

– الشك له أسلوب لا مفرَّ منه.

– ولو بلغ الوقاحة؟!

– ولو!

– كيف خفِيَت عن عينيَّ حقيقتُك طيلةَ ذلك العمر؟

– كما خفِيَت عن عينيَّ حقيقةٌ أفظع!

– اقطع لسانك واخرس.

– رأيتُه وهو يكاد يأخُذك في حضنه.

صاحت به: لا أسمح لك.

– رأيتُ ذلك بعينيَّ كما رأيتُه قبل ذلك في عينَي الشابِّ بالقهوة!

– لن أسمح لك بإهانتي!

– هل لديك دفاع؟

– لستُ مُتَّهمة!

– هل لديك تفسير؟

– أنت مجنون.

– لا مفرَّ من المواجهة.

– كم أنك كريه أعمى!

– الشتائم غير مُجدِية.

– إني أشرف من أفكارك الوضيعة.

– هاتي دفاعك.

فصاحت بكبرياء وهي تَثِب قائمةً في غضبٍ جنوني: لا تُردِّد كلمة الدفاع، لا أسمح لك.

– يا للشيطان! .. هذا يعني أنك تعترفين.

– إني ذاهبة، بقائي مع شخصٍ مثلك مُستحيل!

ضرب الخوان بقبضته وهو يرتجِف غضبًا وصاح: تكلَّمي!

– إني ذاهبة.

غادرت الحجرة فصاح في أعقابها: تكلَّمي!

ثم ضرب الخوان بقبضته مرةً أُخرى وصاح بجنون: أنتِ طالق!

٢

جلس في حجرة الجلوس وحيدًا. لم يَحلق ذقنه ولم يُمشِّط شعره. زائغ البصر.

– إني وحيد، وحُر، واليأس إحدى الراحتَين.

وصمتَ مليًّا ثم قال: يجب أن أعترف بأنني غير سعيد وبأنني لا أجد لحياتي معنًى.

عاد إلى الصمت مرةً أخرى ثم راح يقول: ويجِب أن أعترف أيضًا بأنني أُحِبها، وبأنني أكرهها.

أطبق شفتَيه دقيقةً ثم قال: طلَّقتُها لأنه من غير الجائز أن أُبقي على زوجةٍ خائنة، أما الحُب فقلعةٌ منيعة مُستقلة — بذاتها وأبراجها — عن الشك والسلوك.

وقام ليذرَع الحجرة ذهابًا وإيابًا. ودقَّ جرس الباب فجأةً. فتح الباب فدخل شيخ بدينٌ قصير ذو لحيةٍ سوداء. تصافحا، قاده إلى الكنبة وهو يقول: خطوة عزيزة يا شيخ مروان عبد النبي.

جلس الرجل وهو يقول: أوحشتنا يا رجل!

– أهلًا بك، كيف أنت، وكيف الإخوان؟

– القهوة كلها مُشتاقة إليك.

– علم الله أني مُشتاق إليكم كذلك.

فرماه الشيخ بنظرة ارتياب وهو يقول باسمًا: لو أنك مُشتاق حقًّا لزُرتنا!

– الحزن يَطوينا على أنفسنا.

– ولكنه يتبخَّر عادةً بين الإخوان.

– لم تنفتِح نفسي لشيءٍ بعد.

– كيف؟ .. لِمَ؟

– أنت أدرى!

– خطر لي أنه من المُفيد أن نتعاون على مُحاربة ذلك العدو المدعو الحزن.

– أنت إمام وصديق وإنسان.

– إنه عدو خطير، له كلَّ يومٍ فريسة، ولا يجوز أن نلقاه مُتفرِّقين.

دعاه الشيخ إلى الجلوس إلى جانبه. ربَّت على منكبِه وقال مُستطردًا: وما دام سببه معروفًا فالاهتداء إلى سبيل الشفاء ميسور!

أطرق عبد الله مليًّا ثم قال باستحياء: كانت تجربةً قاسية عاصفة، وليس الشفاء منها بالأمر الميسور!

– إنك صادق في تعبيرك، ولكن لا يجوز أن تنسى أمرَين هامَّين.

وسكت ليخلق جوًّا مناسبًا لسماع نصائحه، ثم قال: لا تنسَ، الإيمان بالله هو الملاذ الأخير من جميع الأحزان.

وعاد إلى السكوت مرةً أخرى، ثم قال: ولا تنسَ أن تتثبَّت من حقيقة التجربة التي عصفَت بك!

– لقد رأيتُ بعيني رأسي.

– واقعة الفرَّان؟

– أجل، وقبل ذلك نظرة الشاب المُستهتِر إليَّ!

– دعْني أُصارحك بأنني لم أشاركك الاقتناع فيما اقتنعتَ به!

– لقد بُهِتَتْ فلم تستطع الدفاع عن نفسها!

– ولا تلك بحُجةٍ تُشرع ضدَّها؛ فللمرأة كبرياؤها!

– إني مُطمئن إلى الإجراء الذي اتخذتُه.

– ولكنك قضيتَ على نفسك بالسجن كأنما طلَّقتَ الدنيا في نفس الوقت.

– سوف يُدركني النسيان عاجلًا أو آجلًا.

فابتسمَ الإمام وقال بهدوءٍ وثقة: إني رجل من رجال الله، خادم بيت من بيوته، أعرف حارتنا وأحوالها ما ظهر منها وما خفي، أتوكَّل على الله في كلِّ فِكر أو عمل، ولا غرض لي في الدنيا إلا الخير، وأبعدُ شيء عن خاطري أن أسعى إلى ردِّ زوجةٍ خائنة إلى عصمة رجلٍ فاضل مثلك.

غض عبد الله بصرَه ليُداري نظرة رجاءٍ لاحت في عينَيه وتمتم: لا شكَّ عندي في ذلك كله يا شيخ مروان.

– يا صديقي عبد الله، لقد قرأتُ في وجهك رسالة، لا أجزم بصحَّة ما قرأتُ فصارِحْني؛ أيتعذَّر عليك نِسيانها؟

– الخيانة؟

– الزوجة!

فقال عابسًا: كل شيءٍ رهنٌ بوقته.

– الحُب ككل شيءٍ يجري مجراه بأمر الله، فلعلك تُحبها؟!

– لا أهمية لذلك.

– صدِّقني يا صديقي عبد الله إذا قلتُ لك إن زوجتك بريئة!

– بريئة!

– أجل بريئة مما رميتَها به.

فسأله باهتمامٍ بيِّن: كيف عرفتَ ذلك؟

– لا أدري من أين أبدأ، أأقول لك إن لرجال الله خواطرهم القلبية التي تفُوق في قُدرتها براهين العقول؟! ولكني أخاف ألا يكون إيمانك بالقوة التي تتخيَّلها، كثيرون يعتقدون أنهم مؤمنون ثم تراهم ينهارون لدى أول تجربة، المؤمن الحقيقي يا عبد الله يُحرِّك الجبل ويزلزل الحياة ويقهر الموت.

فتنهَّد عبد الله قائلًا: لا ينقُصني الإيمان يا شيخ مروان.

– ألم تُعاشرها خمس سنواتٍ كاملة بل يزيد؟

– لا يمنع ذلك من وقوع شر.

– حدِّثني عن قلبك لا عن الوقائع الخارجية!

– لا أُنكر أني اطمأننتُ إليها الاطمئنان كلَّه.

– ألم يتسلَّل إليك الشكُّ أبدًا؟

– كلَّا.

ثم مُستدركًا بعجلة: لم يكن لديَّ وقت للشك.

– لا أهمية للوقت في ذلك.

– بل هو كل شيءٍ يا شيخ مروان فأنا لم أنتبِه إلى ما يجري حولي إلا من خلال الفراغ الذي أُتيح لي عقب الترقية.

– ألاحظتَ تغيُّرًا في معاملتها لك؟

فتمهل قليلًا ثم قال: لا أظن!

– يا صديقي، إني أعرف حارتنا، رجلًا رجلًا، وامرأةً امرأة وصبيًّا صبيًّا، لا يغيب عنِّي شيءٌ من أسرارها، وأُشْهِدُ الله أنني لم أعرف امرأةً تتمتَّع ببعض الخصال الحميدة التي تَحظى بها امرأتك!

فقال مُتجهمًا: السلوك الحقيقي سِرٌّ من الأسرار.

– صدقتَ ولكن نَدُرَ أن استطاع خاطئٌ التستُّرَ على خطيئته إلى الأبد.

– لقد رأيتُ ولا يمكن الاستهانة بما رأيت.

– دعني أُحدِّثك عن الشابِّ الذي هيَّجتكَ نظرته، لقد حققتُ بنفسي مع الشبان الذين يُشاركوننا الجلوس في المقهى فثبت لي على وجه اليقين ألا أحدَ فيهم يُضمِر لك سوءَ ظنٍّ أو تقدير، فلعلك توهَّمتَ رؤية ما لا وجود له.

– لا يمكن أن نشكَّ في حواسِّنا.

– حواسنا؟! عليها اللعنة، تلك المرايا المُشوَّهة التي لم تُخلق إلا لتشهَدَ بكذِبِها بِصدْق حدس القلب.

– ولكننا نحيا بها يا شيخ مروان.

– نحن لا نحيا حقًّا حتَّى يمتلئ قلبُنا بالإيمان.

فقال بمرارة: كأني أيضًا لم أرَ الفرَّان وهو يفتح لها ذراعَيه!

فابتسم الشيخ مروان وقال: صدِّقني فقد ظلمتَه ورميتَه بما لا يجري له في خيال.

– لستُ أعمى.

– إنه رجل مسكين، وزوجُه تُشاركه في عمله ساعةً بساعة، وهي تستقبل الزبائن معه!

– كلَّا!

– هو الحق بالتمام والكمال!

أطرق عبد الله مُحاصرًا في ركنٍ مسدود فاستطرد الشيخ: وإلى ذلك فهو عجوز دميم يكاد يُقعِده الكِبَرُ!

قام عبد الله في تأثُّر واضطرابٍ وهو يقول: لا تَجرفني إلى هاويةٍ يا شيخ مروان!

– معاذ الله، إني لا أُقدِم على عملٍ قبل أن أستخير الله ذا الجلال، وكم من مرةٍ زارت مُطلقتك الضريح ورجتْني أن أدعو لك بالصحة والفلاح!

– حسبُك.

– لعنة الله على الغضب، لعنة الله على الحواس!

تراجَعَ عبد الله إلى الكنبة في الجناح الأيسر للحُجرة وتهالك عليها مُغمض العينَين فقال الشيخ: أصلِحْ خطأك، كفِّر عنه، استرد السعادة التي سلبَها الشيطان، تخلَّص من وحدتِك الغارقة في الحزن.

وتريَّثَ قليلًا ثم قال: ولكن عليك أن تُغير حياتك.

فقال عبد الله بتأثُّر شديد: دعْني آخُذ أنفاسي!

– إنك في صميم قلبك تُرحِّب بكافة الحقائق التي كشفتُها لك، لا تُنكر ذلك، إنك تُحبُّها، ولا غِنى لك عنها، إنك تنتظِر اللحظة التي أدعوك فيها إلى ردِّها إلى عِصمتك.

فتأوَّه الآخر قائلًا: اللهم عفوك ورحمتك.

– ولكن عليك أن تُغيِّر حياتك، فبادِر إلى الإنجاب بعد أن مَنَّ الله عليك باليُسر، وتردَّد على الزاوية في أوقات الصلاة المُتاحة، ولا يَفوتنَّك درسٌ من دروسي الدينية.

فقال عبد الله بحماس: بإذن الله لن يفوتني شيء مِن ذلك، والحقُّ أني لم أكن مقصِّرًا ولكن فترة الاستغراق في العمل أورثَتْني عاداتٍ سيئةً لا يتحرَّر منها إلا صادق العزم.

– فترة ذميمة!

فتردَّد عبد الله قليلًا ثم قال: ولكنني كنتُ قويًّا وسعيدًا!

– تلك جنة الحيوان، أما الإيمان الحقيقي فلا تكمُل أسبابه إلا بالتأمُّل والصلاة والدرس.

– سمعًا وطاعةً!

– آن لك أن تؤمِن كما يؤمِن الإنسان الكامل، وسوف تعرف الروحُ بهجتَها، ومعنى الحياة الزوجية ومَسرَّاتها الحقيقية، وستعرف إلى ذلك كلِّه كيف تهزِم الشيطان إذا تصدَّى لك بلعبةٍ من ألاعِيبه!

انتقل عبد الله إلى جانب الشيخ. قَبَّلَ جبينَه، ثم قال بامتنان: ربنا يكرمك يا شيخ مروان، لقد انتشلتَني من الظلماتِ وفتحتَ لي أبواب الهُدى والسعادة.

٣

دخلَت حجرة الجلوس وهي تُمشِّط شعرها. تبدَّى وجهُها موَرَّدًا رائقًا بعد الحمَّام. نظرت نحوَه وهو واقف في جلبابه وراء النافذة وتساءلت: ألا تستَعِد لحضور الدرس في الزاوية؟

لم يلتفِت نحوَها. لعلَّه لم يسمَعْها. جلست على الكنبة وما زالت تُمشِّط شعرها. قالت: أزِفَ ميعاد الدرس يا عبد الله.

أجاب باقتضاب: لن أذهب.

حدجت ظهرَه بنظرةٍ مُتسائلة ثم قالت بدهشة: لم تتخلَّف عن درس العصر مرةً واحدة طوال العام الماضي.

غادر موقفه إلى الكنبة في الجناح الأيمن وجلس وهو يقول في فتور: لن أذهب.

– ما لك؟!

– لا شيء.

جمعت شعرَها في ضفيرةٍ طويلة مليئة كالغُصن الريَّان وهي تتساءل: هل ثمَّة شيء ضايقك؟

فأجاب على غير توقُّع منها: بل أشياء.

تيقَّظَت تمامًا في قلقٍ واضح وسألَتْه: ماذا هنالك؟

فقال بامتعاضٍ ولكن بتهيُّب: ذلك الشيخ!

وأكمل مُتجنبًا نظرتها المُستطلِعة: أصبح مضجرًا!

– الشيخ مروان؟!

– نعم.

– إنه يكاد يستأثر بأوقات فراغك!

– ثبتَ لي أنه رجل مُضجِر!

– حدث بينكما شيء؟

– يُعيد ما يقول ويقول ما يُعيد، بطريقة رجلٍ يحفظ كلماتٍ مُعادة عن ظهر قلب، كالببغاء، كالآلة، ودائمًا بلا روح!

– شدَّ ما تحمَّستَ له يا عبد الله.

– لا أُنكر أنني كنتُ مبهورًا به، ولكنه مضى يتكشَّف لي على حقيقته، قاومتُ الملل شهورًا، انتظرتُ عبثًا أن يقول شيئًا جديدًا، ولكن لا جديد، رجل يؤدي وظيفته بلا روح، يُنادي على بضاعته كبيَّاع البطاطة.

– متى اكتشفتَ ذلك؟

فقال بنبرةٍ لم تخلُ من حدَّة: منذ زمنٍ قصير، ولكن ليس من اليسير أن نُجازف بإنكار ما تعوَّدنا الإيمان به!

بُهِتَت هنية. صرخ الذهول في عينَيها. قالت وهي تضبط انفعالاتها: ليكن، لا تذهب إلى الدرس إن يكن ذلك يُضايقك، وعلى أي حال فصداقتكما أكبر من الدرس وأبقى.

فقال بمرارة: هو ليس في المقهى بخيرٍ منه في الزاوية!

– ربَّاه، كيف أُصدِّق أُذني!

– حقًّا؟!

– عبد الله، لا تنسَ أفضاله علينا، من أجلها سمَّينا وليدَنا باسمِه، ولن تُنكر أنك طالما تغنَّيتَ بصداقته وسجاياه.

نفخ قائلًا بوجهٍ عابس: لم يعُد لي به ثقة البتة.

– يا ألطاف الله!

– على أي حالٍ كان صديقي أنا لا صديقكِ أنتِ!

– ولكنه صاحب فضلٍ على كِلَينا، فهو الذي جمع شملَنا من جديد.

– وتبيَّن لي بعد ذلك أنه غير جدير بالمركز الذي يشغله!

– بالله كيف؟

– كنتُ أضيق بعمِّ مراد عبد القوي شيخ الحارة إذا احتدَّ عليه في مناقشةٍ ما، وكان الشيخ مروان بدَوره يتَّهِم شيخ الحارة بأنه يعمل مُرشدًا للمباحث، ولكني بتُّ أومن بصِدق فراسة عم مراد!

قالت هنية بحُزنٍ واضح: لن أُناقشك ولكن فَسِّر ما غمض عليَّ من أمره.

فصمت قليلًا ليُرتِّب أفكاره ثم قال: لم تتكشَّف الحقيقة لي دفعةً واحدة، ولكنها جاءت كنقاط الماء التي تتجمَّع رويدًا لتصنع في النهاية بِركةً آسِنة!

– أودُّ أن أعرف كلَّ شيء.

– حسنٌ. أول ما نفَّرني منه تَهالُكه على تصيُّد الدعوات إلى ولائم التجَّار بالحارة!

ابتسمت هنية ابتسامةً فاترة فقال بحنق: اتَّضح لي أنه شَرِهٌ، وأنه في سبيل إشباع شراهته لا يتورَّع عن التودُّد المُهين.

– خصال لو نظرتَ إليها بعينٍ غير غاضبة لأمكنَ أن تمرَّ بها مرور الكرام!

فقال بسخرية مريرة: ما أجمل أن يسعد الإنسان بمحامٍ مُقاتل مثلكِ!

– عبد الله .. ما هذه النبرة؟!

– آلمتكِ؟

– إنها تُذكِّرُنِي …

وأطبقَتْ شفتَيها دون أن تُكمل كلامها فتساءل: بم تُذكِّرك؟

ولكنها تجاهلت سؤاله قائلةً: لكل إنسان عيوبه!

– ليس الإمام كبقيةِ الناس، وقد قال شيخ الحارة مرة: إنه عرف من الأئمة أناسًا فوق مستوى البشر!

– يمكن أن تَقبله كإنسانٍ عادي!

فقال بحدة: ومرةً ضبطتُه وهو يقرص الزهر في لُعبة النرد، الغشاش!

غمغمت بإشفاق: لا تحكُم عليه من خلال لعبة تسلية!

– الخُلُق ينعكس على لَهوِنا كما ينعكس على جِدِّنا!

تنهَّدت ولم تدرِ ماذا تقول فتساءل بحدة: ثم ألا تذكُرين كيف عاقب خادمته؟!

– قيل إنها سرقت.

– أيُبرِّر ذلك انهيالَهُ عليها بالضرب وطردها بوحشية؟ .. خُيِّلَ إليَّ وقتذاك أنني أرى وحشًا ينقضُّ على فريسته!

صمتت تمامًا وراحت تعبث بضفيرتها بقلقٍ بيِّن. وضحك هو ضحكةً ساخرة وقال: وكنتُ لمحتُ أشياء اعتدتُها في وقتها أوهامًا تافهةً فلمَّا تبيَّن لي من أمره ما تبيَّن عُدتُ إليها بعينٍ جديدة انحسرت عنها غشاوة التضليل.

تجلَّت في عينَيها نظرة مُتسائلة فقال: تذكرتُ أنني رأيتُ عينَيه أكثر من مرةٍ وهما يُتابعان نساء حارتنا باهتمامٍ غريب!

هتفت بانزعاج: كلَّا!

– ألا تُصدِّقين أم أنك لا تُريدين أن تُصدِّقي؟

– ماذا تعني؟

– لم أعُد أشكُّ في أنه كان يُطارد نساء حارتنا بعينَين فاسِقتَين!

– يا رب عفوك ورحمتك!

– إنه خدعة كبرى وزنديق خطير!

– رحماك اللهمَّ!

– رحماك يا هنية، لقد غرقتُ عامًا في بحرٍ من العمى والضلال!

– حسبك، صادِق مَن تشاء واهجر مَن تشاء.

فهتف مُتجهمًا بنبرة صارمة: ثمة أشياء لا يمكن أن تمرَّ دون حساب!

– ماذا تعني؟

– آن لي أن أُصارحك بما في نفسي.

– هذا ما ناشدتُكَ الله أن تفعله.

– لنَعُد إلى حادثٍ شهِدَه بئر السلم بعمارتنا!

– عمَّ تتحدث؟

فقال بصوتٍ مُمزق: كان ذلك منذ أشهرٍ مضت، رجعتِ ذات يومٍ من مشوار إلى عمارتنا وكنتُ أنا جالسًا في المقهى، أردتُ اللحاق بك لسببٍ لا أذكره الآن، صادف دخولك خروج الشيخ من شقته، رأيتكُما في بئر السلم، خُيِّلَ إليَّ …

صرخت هنية: ماذا تقصد؟

– رأيتُه يمدُّ يدَه …

قاطعَتْه بغضبٍ جنوني: ما من مرة قابلني حتَّى مدَّ يدَه إلى رأس الطفل ليُباركه وقد فعل ذلك أمام عينَيك مرارًا.

– خُيِّلَ إليَّ أن يدَه كانت تُبارك صدرك!

فصرخت ثائرةً: يا لك من مجنون قذِر!

وهو يضحك بجنون:

– ولكن وقتها كذَّبتُ عيني.

– وقح .. وقح.. وقح.

– استردَّت الصورة حياتها الحقيقية على ضوء ما تكشَّف لي بعد ذلك.

– اقطع لسانك يا مجنون.

– أدركتُ أنني كنتُ أعمى لا مجنونًا، وأدركتُ لِمَ سعى للإصلاح بيننا، وأدركتُ كم كنتُ لعبةً بلهاء في يدَيه!

انتترت قائمةً وهي تصرُخ: أنت وحش، حيوان، مجنون، لن أبقى في بيتك لحظةً أخرى.

وغادرت حجرة الجلوس وهي تنتفِض غضبًا. ضرب هو الأرض بقدَمِه بعُنف وصاح وراءها: في داهية .. ألف داهية وأنتِ طالق!

٤

عاد الصمتُ إلى البيت. صمت جاف نفَّاث للقلق. وطيلة الوقت ذرَع الحجرة من الكنبة إلى الكنبة. اختفت آهاتُ الطفل بشتَّى درجاتها المَنغومة وأنواعها الصوتية الملوَّنة بأطياف السخط والرضا. ولكن لم يبرح مخيلته جسمه الضئيل البُني المطروح على ظهره وأطرافه الأربعة الصاعِدة تتلاعَب في الهواء عارضةً أصابعه الصغيرة الدقيقة كالنقوش البارزة. وجعل يقول: تجنَّب الوحشة، فهي أنسب جوٍّ لتقطير الحزن والأسى!

وذرع الحجرة مرَّتَين ثم عاد يقول: تحرَّك .. انطلق .. حتَّى لا تبقى فريسة مُطاردة عاطفية محمومة.

وتجمَّع التصميم في زاويتَي فِيه وهو يُواصِل حديثه: الأُسرة فخ .. والرجل الحُر …

ودقَّ جرس الباب فقاطَعَه. فتح الباب فرأى الشيخ مروان أمامه. قطَّب في وحشيةٍ ولكن الشيخ لم يُباله. دخل وهو يتساءل: أحقٌّ ما سمعتُ يا عبد الله؟

فقال عبد الله بفظاظة: اغرُب عن وجهي.

– أتطرُدني من دارك؟

– شرَّ طردة!

– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

– إنك أنت الشيطان الرجيم.

فقال الشيخ وقد غلبَه الحزن: ربما كان لك عُذر أول مرة!

– اخرس، حذارِ من السفسطة، اذهب وإلا حطَّمتُ رأسك.

– يا لُطف الله، لقد أفسد عقلك الرجل الماكر.

– لا أريد أن أسمع صوتك، اذهب.

– المرشد الخبيث مراد عبد القوي، الذي يتَّخِذ من مَشيخة الحارة ستارًا لمؤامراته الشيطانية، إنه يشعر بأنني عدوه بالفطرة، فلا يتردَّد عن التشنيع بي وافتراء الكذب عليَّ، ولكن كيف هان عليك أن تُصدِّقه يا عبد الله!

– اذهب، إنه آخِر نذير أُنذرك به.

– صدَّقتَه، بِعتَ صداقتنا بثمنٍ بخس وخربت بيتك!

– أنت الذي خربتَهُ يا خنزير.

– وانقضَّ عليه يُريد أن يقبض على عُنقه. صدَّه الشيخ بذراعَيه. تلاحَما بشدَّة ما بين هجومٍ كاسر ودفاعٍ حكيم. وفي تلك اللحظة جاء مهرولًا رجل نحيل مُتوسط القامة فدخل بينهما حتَّى فصل بينهما، ثم هتف لاهثًا: يا للعار .. يا للخجل!

والتفت نحو الشيخ وهو يقول برجاء: تفضَّل الآن بالذهاب يا شيخ مروان.

وأغلق الباب وراءه ثم مضى بعبد الله إلى الكنبة مُتمتمًا: تمالك نفسَك أيها الأخ الكريم.

وضرب كفًّا بكفٍّ وهو يقول: أي شيطانٍ عبث بكما معًا!

وهتف عبد الله وصدره يعلو وينخفض: ذلك الداعر الخائن.

جلس إلى جانبه. طوَّق منكبه بذراعه بحنان وقال: علينا أن نستردَّ هدوءنا واتزاننا قبل كل شيء.

فتأوَّه قائلًا: إني حزين لدرجة اليأس يا أستاذ عنتر.

– أعلم ذلك يا أخي فأنت مُصاب في حُبٍّ كبير وصداقة وطيدة.

– لم تبدُ لي الحياة من قبلُ كريهة مُنفِّرة كما تبدو اليوم.

– بلى، حياة ذات مائة وجه!

ثم بصوتٍ مُنخفض: بيد أننا لا نعرفها على حقيقتها حتَّى نرى وجوهها جميعًا!

– قلبي غاصٌّ بوحشةٍ مُخيفة يتعذَّر معها الاستمرار في الحياة.

– قلبي معك يا صديقي ولكن لا تستسلم لليأس.

– إنها مِحنة بكل معنى الكلمة.

– وعلينا أن نخرُج منها سالِمين!

– يخيَّلُ إليَّ …

فقاطعه قائلًا: بين آلاف الضاحِكين في هذه اللحظة يُوجَد على الأقل شخصٌ واحد كان يُفكر في الانتحار منذ عام.

– لعلَّك لم تعرِف كل شيءٍ عن مأساتي؟

– بل أعرف كلَّ شيءٍ عنها، المُهم أن نتجاوز الحاضر إلى المستقبل.

– ما أسهل الكلام يا أستاذ عنتر!

– وليس العمل بالمستحيل.

وسكت الرجل قليلًا ثم استطرد: فكِّر جدِّيًّا في تجديد حياتك من جذورها.

استغرقته الأفكار فلم ينبس فسأله عنتر: هل خطر لك يومًا أن تسأل نفسك عن معنى حياتك؟

فرفع إليه عينَين ثقيلتَين فاترتَين فقال الآخر: ما معنى الحياة؟ ما معنى الإنسان وما معنى الحب؟ ما معنى الخيانة؟ أأدركت ما أعني؟

– كلَّا.

– لقد جرَّبتَ من الحياة جانبًا أقرب إلى البدائية ولكن تنقُصك الثقافة.

– وما علاقة ذلك بمأساتي؟

– أوْثَقُ مما تتصور.

– لا أدري كيف.

– فلنؤجِّل فَهْم ذلك إلى حين!

– ولكني رجل بسيط التعليم.

– غير أنك تمتلك أقوى قوةٍ في الوجود وهو العقل.

– إن ما يُهمني الآن أكثر من سواه.

فقاطعَه باهتمام: الثقافة أن تعرف نفسك، أن تعرف الناس، أن تعرف الأشياء والعلاقات، ونتيجة لذلك ستُحسِن التصرُّف فيما يُلم بك من أطوار الحياة!

– يا له من طريقٍ طويل!

– لقد ضيَّعتَ في الأرشيف عمرًا، وفي المقهى عمرًا، وفي الزاوية عمرًا، ومن حقِّ الثقافة عليك أن تَهَبَها بعض عمرك.

– يُخيل إليَّ أنني لا أُحب ذلك.

– سوف تُحِبه، وستجد مكتبتي تحت تصرُّفك، مكتبة مُتواضعة فما أنا إلا مُدرِّس، ولكن كُن على يقينٍ من أنك ستُحبه، أكان من الممكن أن تُحب زوجتك قبل أن تراها؟

– فصاح بحنق: لا تُرجِعني إلى تلك الذكرى.

– لا زلت تُحبها!

– أودُّ أن أقتُلها.

– هذا يعني أنك لا زلتَ تُحبها.

– ألم تسمعْني يا أستاذ عنتر؟

– الكراهية الحقيقية هي النسيان.

– يا له من حديثٍ بغيض.

– لا تنسَ أنني ها هنا لأنتشلك من الهزيمة، فلا يُجدي إلا الصدق.

– الصدق؟! .. أين الصدق؟

– إنه جوهرة قد تختفي أحيانًا تحت ركام الأوهام.

– من سوء الحظِّ أن مأساتي ليست وهمًا.

– مَن ذا الذي يستطيع أن يقطع برأيٍ في ذلك؟

– الضحية!

– بل البصيرة.

هزَّ عبد الله منكبَيه في فتورٍ فقال عنتر: فلنُناقش خيانة الشيخ مروان المزعومة.

هتف عبد الله بغضب: المزعومة!

لم يُعلِّق عنتر على صيحته فقال عبد الله: أجئتَ لتُدافع عن ذلك الوغد؟

فقال بهدوء: من أجل الحقيقة وحدَها جئت.

– لا يُلدغ مؤمنٌ من جُحرٍ مرَّتَين.

فواصل حديثه وكأنه لم يسمعه: لأني أُحِب الحقيقة ولأني أودُّ معاونتك.

– لم يعُد من السهل إقناعي!

– فلنجرِّب.

– إني أمقُت ذلك.

– صبرك.

– لقد رأيتُ بعيني وسمعت بأذني!

– لا تأبه بأدوات الخطأ.

ندَّت عن عبد الله ضحكةٌ جافة وقال: سمعتُ مثل ذلك من قبل، الوغد قاله لي!

– حقَّا؟

– لعن الحواسَّ وأشاد بالقلب.

– وإني ألعنُها أيضًا ولكن لِحساب العقل!

– لا دخل للعقل فيما رأيت.

– إني أعرف الشيخ مروان خيرًا منك.

– لا أحد يعرفه مثلي.

– هلَّا حدثتني باكتشافاتك؟

صمت عبد الله زهدًا في الحديث ونفورًا منه فقال عنتر برجاء: احترم رغبة صديقٍ يُحبك ويتمنَّى لك الخير.

فقال عبد الله بحنق: إنه رجل مُضجر، يعمل بلا روح، على خلاف ما يظن الناس.

فقال عنتر مُتودِّدًا: أُوافقك على رأيك في ذلك ولكن لا ذنب له فيما استشعرتَه.

– ذنب مَنْ إذن؟

– لا أهمية لذلك الآن، غيرُه.

– ذلُّه المهين حيال التجَّار من أهل الحارة.

– لا أُنكِر ذلك ولكنه من خلال علاقاته معهم أقنعهم بإنشاء المدرسة التي أنا مُدرِّس بها!

بُهِت عبد الله. ومضت عيناه حنقًا وهو يعثر بشرَك، فقال الآخر برقة: لا تغرَّنَّكَ المظاهر، إن التكالُب على الولائم عيب ولكنَّ ثمَّة خبرًا أكبر منه وأخطر.

فتساءل عبد الله بحذَر: ومُعاملته لخادمته؟ .. أنسِيتَ ذلك؟

فضحك عنتر طويلًا ثم قال: يا للرجل الضحية!

واستمرَّ في ضحكه حتَّى قال: الحق يا صديقي أن البنت حاولت إغواءه!

– هه!

– أجل، تلك حقيقة لا يعلَم بها أحد سواي، وأنا الذي اقترحتُ السرقة كعُذرٍ لطردِها صونًا لسُمعتها!

بُهِت عبد الله مرةً أخرى. عكست عيناه نظرة حذَر وخوف. تمتم: فلنُغلق باب ذلك الحديث.

– أوجَدْتَ رغبةً طارئة في الهرب؟

– الهرب!

– لعلك تخشى اكتشاف ضحايا أبرياء لك!

– أستاذ عنتر!

– لا تُوصِد باب السعادة في وجهك.

– هيهات أن أنسى ما رأته عيناي.

– تعني حكاية بئر السلم؟

فتنهَّد ولم ينبس.

– لِمَ لم تُصدِّقها في وقتها؟

– لكثافة الغشاوة فوق عينَي.

– ثم استرجعتَها بعينِ ذاكرةٍ حانقة غاضبة كارهة!

– لن أُقيم قصورًا على الرمال مرةً أخرى.

– راجِع عقلك وحدَه.

– كلَّا، الوغد الفاسق، طالما ضبطتُ عينَيه وهما يفسقان بنساء حارتنا!

ضحك عنتر ضحكة عالية وقال: الضحية المسكين، ألا تعرف أنه لا يستطيع أن يرى إلى أبعد من ذراعَين؟

– كلَّا، لم يَشْكُ ذلك قط.

– إنه لا يُحب الشكوى على الإطلاق.

فصاح عبد الله مُلقيًا بآخِر تحدِّياته وأخطرها.

– لقد رأيتُ يدَه في صدر زوجتي.

– لم يحصل يا صديقي عبد الله.

– حصل.

تنهَّد الرجل قائلًا: لا بدَّ مما ليس منه بد.

وسكت مليًّا، مُكفهِرَّ الوجه لأول مرة، ثم قال: لا مفرَّ من مُصارحتك بحقيقةٍ ما كان يجوز إعلانها.

تابعَه الآخر صامتًا ولكن باهتمامٍ متزايد فقال عنتر: الرجل مُصاب بعجزٍ جنسي منذ أكثر من عام!

انكتمت أنفاس الانفعالات المُحتدِمة تحت طنٍّ من التراب فسادَ الذهول. وارتفع صوت عنتر قائلًا: ذهبنا من طبيبٍ إلى طبيب ولكن لم يَعِدْنا أحدُهم بشفاءٍ عاجل!

لم يستطع عبد الله الخروج من صمته فقال عنتر: إن كنتَ في شكٍّ من قولي صَحِبتُك إلى الطبيب بنفسي.

ثم وهو يرفع رأسَه إلى أعلى: ليغفِر لي اللهُ ذنبي!

خلا كلٌّ منهما إلى نفسه. أغمض عبد الله عينَيه. على رغمه انسابت دموع من تحت جفنَيه. حانت من عنتر التفاتة إليه فرأى دموعه. تهلَّل وجهه وانبسط. تمتم بنبرةٍ مُتأثرة: صديقي عبد الله، ليحفظك الله من كل سوء، ليجعل لك من عقلك مُرشدًا.

٥

ضمَّت هنية وليدَها إلى صدرِها تُرضعه. أما مروان الصغير فكان يحبو أسفل الكنبة. عبد الله .. انفرد بنفسِه على كنبةٍ أُخرى يقرأ في كتاب. وسألته هنية: متى تستعدُّ للذهاب إلى القهوة؟

فأجاب دون أن يرفع رأسَه عن الكتاب: سأذهب إلى السينما مساء اليوم مع عنتر.

ومضى الوقت في هدوءٍ شامل حتَّى دقَّ جرس الباب. فتح الرجل الباب فدخل رجل طويلٌ نحيل في بدلة رمادية.

رحَّب به عبد الله قائلًا: أهلًا بشيخ حارتنا.

حيَّا القادم الزوجة وجلس حيث أجلسَه عبد الله إلى جانبه.

– زارنا النبي يا سيد مراد عبد القوي.

– انتظرتُك في القهوة ولكنك لم تحضر كعادتك؟

– سأذهب إلى السينما مع الأستاذ عنتر.

ابتسم شيخ الحارة ابتسامةً غامضة فقال عبد الله: هلَّا ذهبتَ معنا يا سيد مراد؟

فقال بهدوء: جئتُك لغرَضٍ آخر.

فنظر الرجل نحو زوجته نظرة خاصَّةً لتُغادر الحجرة ولكن شيخ الحارة بادره: لا تُزعِجها، ولعلَّه من المفيد أن تسمع حديثنا.

فتطلَّع إليه باهتمامٍ حتَّى قال بهدوئه المألوف: سيدور الحديث حول صديقنا الإمام والمُدرِّس!

دُهِش عبد الله. راقَبَ وجه الرجل الحاد باهتمام. ولمَّا طال السكوت قال: الحق أنه رغم صداقتكم فلا يخلو لقاء بينكم من مناوشاتٍ غير مُريحة.

– لا ضرر من ذلك.

– تُرى هل لانتصارك المُتكرِّر عليهما في الشطرنج دخلٌ في ذلك؟

– ليس ذاك بالتفسير المُقنع.

– بلى.

– ولكنك تعرف لذلك أسبابًا أخرى!

فلاح الارتباك في وجه عبد الله فقال شيخ الحارة: أعرف أنهما يُشِيعان عني أنني مرشد!

لم يخرج عبدا لله عن صمته فقال الرجل: ما عيب أن أكون مرشدًا؟ ما المرشد إلا عين من عيون المصلحة العامة.

– هذا حق.

– ولا يخافه إلا المُنحرِفون.

– هذا حقٌّ أيضًا.

فابتسم شيخ الحارة وقال: ما علينا يا سيد عبد الله، ماذا تعرف عن الرجُلَين؟

– كل خير يا شيخ الحارة.

وقالت هنية: نحن مَدينان لهما بسعادتنا.

وقال عبد الله: وباسمَيهما سمَّينا وليدَينا.

فقال الرجل بهدوءٍ كاد يكون برودًا: إنما أسأل عن الرجُلَين لا عنكما.

فقال عبد الله بحماس: هما ألصق الناس بي، ومنهما أستمدُّ العِلم والهداية والمودة.

– باسم الصداقة صارحني: ألك رغبةٌ حقيقية في خدمة المصلحة العامة؟

– أعتقد ذلك.

– أتفضِّلها عند المقارنة على العلاقة الشخصية؟

أجاب بعد تردُّد: أعتقد ذلك.

– حسنٌ، قلتَ إنهما ألصق الناس بك، كثيرًا ما تجمعكم سهرات طويلة في بيت الإمام أو المُدرِّس أو في بيتك هذا، ماذا ترى؟ .. ماذا تسمع؟ .. ماذا تلاحظ؟

– سهراتنا تمضي عادةً في مناقشات يَتخلَّلها شُرب الشاي والقرفة، وأنا شخصيًّا قليلًا ما أُشارك في الحديث إذ أنه يعلو عليَّ كثيرًا، ربما أطرح سؤالًا من آنٍ لآن، وهما رغم خلافاتهما الكثيرة ينتهِيان عادةً إلى نوعٍ من الوفاق.

– هل تستطيع أن تَمُدَّني بأمثلةٍ مما يدور النقاش حوله؟

فأجاب عبد الله باهتمامٍ مُنتشيًا بإحساسٍ بالأهمية: إنها موضوعات خطيرة حقًّا، مثل الحُرية والخُبز، الخير والشر، الخلود وهل يكون بالأرواح وحدَها أو بالأرواح والأجساد معًا، العفاريت وهل تُوجَد بالحقيقة أو بالرمز.

فابتسم شيخ الحارة ابتسامةً غامضة وقال: يا لها من مسائل خطيرة حقًّا!

– جدًّا.

– وهل بَرْهَنا على وجود للعفاريت حقيقي؟

– هذا ما يؤمن به الشيخ مروان أما الأستاذ عنتر فيتكلَّم عن ذلك بحذَرٍ شديد وإن قرَّر أن احتمال وجود كائنات غيرنا في العالَم مقبول عقلًا.

– وكيف برَّرا وجود الشر في العالم؟

– ما زال عقلي طفلًا ولكن عنتر يؤكد أن ما نعُدُّه شرًّا ليس بشرٍّ حقيقي إذا نُظِر إليه في موضعه من الصورة الكلية للكون.

فضحك شيخ الحارة ضحكةً مُقتضبة وقال: لا أظنُّه كذلك في نظر أيٍّ من المُرشدين.

فقالت هنية: ولا في نظرِنا يا سي مراد.

رحَّب شيخ الحارة برأيها بهزَّةٍ من رأسه ثم تحوَّل إلى عبد الله متسائلًا: ألم يتطرَّق الحديث إلى موضوعاتٍ أهمَّ؟

– أهمُّ من الخير والشر والخلود؟

فقال وهو يُداري ابتسامة: كالنساء مثلًا أو المُخدرات!

فهتف عبد الله: أعوذ بالله.

وقالت هنية: إنهما أفضل رجُلَين في حارتنا!

فسأله دون اكتراثٍ لاعتراضاتهما: ألم تُلاحظ في سلوكهما ما يدعو إلى التفكير؟

– كلَّا يا سيدي.

فرمقه بنظرةٍ ذات معنًى وقال: أذكُر أنه كانت لك جولات مع الإمام مُثيرة!

فقال عبد الله بيقين: لقد انقشعَتْ غمومها بفضل القلب والعقل.

وقالت هنية باستياء: كيف هان عليك أن تُذكِّرنا بذلك الماضي؟

– لا مؤاخذة، فإن عملي الدقيق عوَّدني على ألا أتورَّع عن شيءٍ في سبيل إتقانه.

ثم مُركِّزًا خطابه على عبد الله: رُئي الأستاذ عنتر عبد العظيم في ليلةٍ مُمطرة وهو راجِع إلى مسكنه حافي القدمَين، واضعًا في ذات الوقت حذاءه وجوربه تحت إبطه ملفوفَين بجريدة، ألم يدْعُك ذلك إلى التفكير؟

فضحك عبد الله وقال ببراءة: أبدى عن ذلك منطقًا غريبًا ولكنه لا يخلو من سداد، قال: إن القدمَين بغسلِهما يعودان إلى أصلهما، أما الحذاء والجورب فلو تعرَّضا للمطر والطين لأصابهما حتمًا تلَفٌ كبير أو صغير!

– أقتنعتَ بمنطقه؟

– اعتبرتُ الأمر كله فكاهةً لطيفة.

– ألم ترَ فيه تصرُّفًا غير لائق برجلٍ من رجال التربية؟

– الحق، إن احترامي له منعني من التفكير على ذلك النحو.

– ألم يكُن عُرضةً لأن يراه أحدٌ من تلاميذه؟

– يا شيخ الحارة إن أكثريتهم لا تستعمل الأحذية خارج أسوار المدرسة!

– ألا يعني سلوكه أنه يؤمِن بأن الإنسان يجِب أن يكون في خدمة الحذاء لا العكس؟

– اعتبرتُ الأمر فكاهةً كما قلت.

فتفكَّر مليًّا ثم سأله بلهجة ابتداء جديدة: صرَّح الشيخ مروان مرةً أنه يُفضِّل أن يعيش في ظلامٍ دامس على أن يُنوِّر مجلسه بمصباحٍ وارد من بلاد أعداء الله، ما رأيك؟

– بيته يا سيد مراد مضاء بالكهرباء!

– فما معنى التناقُض بين قوله وفعله؟

– ما هي إلا طريقة للإعراب عن إيمانه وأصالته!

– هل استشهد مرةً بقول الشاعر:

هل الله عافٍ عن ذنوبٍ تسلَّفَت
أم الله إنْ لم يعفُ عنها يُعيدها

– أجل يا سيدي ولكن كان ذلك من خلال إبداء بعض الآراء في النحو.

– إذن ليس لدَيك أية ملاحظات عن الرجُلَين؟

– بلى يا سيد مراد.

فقال الرجل وهو يهمُّ بالقيام: آنَ لي أن أذهب.

فقال عبد الله بحرارة: بودِّي أن أدعوكم جميعًا إلى جلسةِ مودَّة وتصفيةٍ في بيتي.

فقام شيخ الحارة وهو يقول: فات أوان ذلك!

– بل ثمَّة فرصة طيبة.

فقال شيخ الحارة بهدوئه البارد: لقد أُلْقِيَ القبض عليهما منذ ساعتَين!

ندَّت عن هنية آهةُ فزعٍ على حين صاح عبد الله مُنكرًا: لا!

– هي الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان.

هتفت هنية مُتسائلة: كيف يُقبَض على أشرف رجُلَين في حارتنا؟

– عِلمي علمك يا أمَّ مروان.

– ولكنها كارثة عظمى!

– بل أحداث عادية تقع كل يوم.

وأراد الرجل أن يمضي إلى الخارج ولكن عبد الله اعترض سبيله مُتسائلًا في هستيريا: لِمَ قُبِضَ عليهما؟

فأجاب بوضوحٍ وقوة: لا جواب عندي على ذلك.

وحيَّاهما وانصرف. خلَّف وراءه زوبعةً اجتاحت العقل والقلب. جعل الزوجان يتبادلان النظر في صمتٍ رهيب. قام بينهما حاجز مشحون بالنُّذر. وتمتمت هنية: أمرٌ لا يُصدِّقه العقل.

– أجل.

– كارثة حقيقية.

– أجل.

– انظر كيف تُهدَّد كرامة الأبرياء!

– نعم .. نعم.

– عقلي سيطير في الهواء.

– عقلي طار فعلًا.

– ما معنى ذلك يا عبدَ الله؟

– ما معنى ذلك!

– وشيخ الحارة لا يُريد أن يتكلم.

– مسئولية خطيرة!

– ولكنه يعرف كل شيء.

– ربما.

– ولعله المسئول عن كل شيء.

– جائز.

– أليس هو بصديقك؟

– ليس من السهل مناقشة عمله.

وحدجته بنظرةٍ قلقة وقالت: الحادث قلقلك!

– طبيعي.

– لقد انفعلتَ به أكثر مما يجوز.

– بل دون ما يجب.

– قلبي .. قلبي غير مرتاح.

– ولا قلبي!

وتبادلا نظرةً ثقيلة مُعتمة كالِحة.

٦

ترامت من الحارة أصواتٌ مُتلاطمة آخِذة في نقاشٍ مُحتدم. ترامت من وراء النافذة المُغلقة فقال عبد الله: أهل حارتنا يتبادلون الرأي في القهوة.

ومضى إلى النافذة ففتحها على مصراعيها فتدفَّقت الأصوات في قوةٍ ووضوح. ذهبت هنية بالطفلَين إلى حجرةٍ داخلية ثم عادت بمُفردها فجلست قبالة زوجها على الكنبة وراحا يرهفان السمع باهتمامٍ شديد.

•••

– شيخ الحارة، إنه شيخ الحارة!

– هو الذي دبَّر الإيقاع بهما.

– ولكن لِمَ؟

– الأسباب مجهولة.

– لعلها أسباب شخصية.

– ويتردَّد ذِكر أسبابٍ غريبة.

– أي أسباب غريبة؟

– أسباب لها علاقة بالسلوك!

– السلوك! معاذ الله.

– الإشاعات تتطاير.

– اضرب لنا مثلًا.

– كلام قيل عن المخدرات!

– المخدرات! .. مَن ذا يتصوَّر ذلك؟!

– بل حتَّى الاتجار بالمخدرات جرى به الهمس.

– يا ألطاف الله!

– وكلام آخر عن النساء!

– ليقطع الله ألسنتهم.

– الرجلان بريئان، وما هي إلا مكيدة قذِرة!

– أجل، مكيدة يقِف وراءها شيخ الحارة.

– ولكن شيخ الحارة رجل مُستقيم ما عرفْنا عنه من سوء.

– كالخطِّ المستقيم، كالماء النقي.

– ووسائل عمله وإن تكن مجهولة إلا أنها مؤكدة لا تُخطئ.

– هذه مُغالاة لا مُبرِّر لها، لا يخلو الرجل من ضعفٍ إنساني، ولا شكَّ عندي في أنه أوقع بهما لأسبابٍ شخصية!

– اتهاماته لا دليلَ عليها!

– كل واحدٍ يعرف أنه لم يكن يستلطفهما.

– إنه لا يستلطف آخرين فلِمَ لم يوقِع بهم؟!

– لكل إنسان مزاياه ونقائصه، هذا قانون ينطبق على الإمام والمدرِّس وشيخ الحارة، فشيخ الحارة ليس بالإنسان الكامل ولكن الأمر لم يكن يقتضي القبضَ على الرجُلَين المحترمَين.

– أنا أُصِرُّ على براءة الرجُلَين وكمالهما!

– وأنا أُصِر على امتياز شيخ الحارة.

– انتظروا، ستُعرَف الحقيقة عاجلًا أو آجلًا.

– لن يُغير شيء من رأينا في الرجُلَين.

– ولن يُغير شيء من رأينا في الرجل.

– يا لها من بلبلة، لن نتَّفِق على رأي.

– ولكن الحق واضح.

– الحق واضح.

– الحق واضح.

– لا اتفاق على رأي.

– والتعصُّب رذيلة غير مُجدية.

– ولكنه مُبرر في حال الرجُلَين فهُما مَرجع كل كلمةٍ طيبة أو سلوك حميد في حارتنا.

– وهو مُبرر كذلك في حال الرجل الساهر على أمن حارتنا وسعادتها.

– ولكننا حيال موقفٍ يُحتِّم علينا التفرقة بين الصواب والخطأ.

– لا يُمكن أن يخطئ الرجلان.

– ولا يمكن أن يخطئ الرجل.

– يا لها من بلبلة، لن نتَّفِق على رأي.

•••

ضاق صدر عبد الله بما ترامى إلى سمعه فقام إلى النافذة فأغلقَها بعصبيَّة. عادا يتبادلان النظرة المُعتمة الثقيلة. وتمتمت المرأة: إنها لَبلبلة حقًّا لا تستخلِص منها شيئًا.

– فقال بقلق: ولكنها تعصف بالقلب عصفًا.

– لكلٍّ رأيُه ولكن أحدًا لا يستسلم للعاصفة!

فقال وكأنما يُناجي نفسه: لا يمكن أن يُلقى القبض عليهما لغير ما سبب!

– سمِعنا كلَّ ما يمكن أن يُقال.

– الأمر يختلف فيما يتعلَّق بي!

وساد صمتٌ لم تجرؤ على خرقه حتَّى عاد يقول: فأنا لم أستقر على الطمأنينة إلا استنادًا إلى الثقة الكاملة بهما!

– لعلَّه من المُغالاة أن نُطالب بالثقة الكاملة.

– لولا ثِقتي الكاملة بالأستاذ عنتر لما عاودت الثقة بالشيخ مروان!

– ما أكثر الذين يؤمنون ببراءتهما!

– وما أكثر الذين لا يؤمنون!

– من الحكمة أن تبقى على ثقتك بهما ما دُمتَ لا تجد الدليل القاطع على إدانتهما.

– ولكنها حكمة قد تقضي عليَّ.

فتساءلَتْ بحزنٍ وأسى: ماذا تعني؟

لم ينبس ولكنه طالعَها بوجهٍ مُكفهر. وإذا بها تهتف بحدة: أصبحتُ خبيرةً برصْدِ وساوسك!

– وساوسي؟!

– وساوس التردُّد وضعف الثقة بالنفس!

فصاح بغضب: عليَّ أن أكون مُغفلًا لتشهدي لي بالقوة والثبات؟!

فقالت بوجهٍ مُتقلص بالعذاب: ها نحن نعود رويدًا إلى الجحيم!

– المهم أن يقوم صرح حياتي على حقيقةٍ واضحة.

– لعلَّ الأهم من ذلك أن تُنادي الحِكمة في المِحَن وأن تتذكَّر دائمًا أنك أب!

فقال بسخريةٍ مريرة: أجل، إني أبو مروان وعنتر.

– وهي حقيقة أهم مما عداها.

فقال بارتياب: بل تُوجَد حقيقة أخرى أكبر، وليست هي بالثانوية، وأنا أريدها كما هي في الواقع ولو دهمتني في هالةٍ من النيران المُتَّقِدة.

– أخشى أن يقتصر حظنا من السعي في النهاية على الاحتراق بالنيران المُتَّقدة!

فرماها بنظرةٍ متفحصة نافذة وقال بحنق: أنت وحدَك تعرفين الحقيقة الكاملة!

فقالت بإصرار: حسبي أن أعرف أنني زوجة أمينة كما ينبغي للزوجة أن تكون.

فتمتم كأنما يُناجي نفسه: زوجة أمينة كما ينبغي للزوجة أن تكون.

فقالت بتحدٍّ: أجل، هذا ما عنَيتُه.

– أتَرْثِين لي في صميم قلبك أم تسخرين منِّي؟

فقالت بحدَّة: علم الله أني أرثي لك!

– إذن فأنت زوجة وفيَّة.

– لشدَّ ما يؤلِمني تساؤلك!

– لا مَفرَّ من التساؤل حتَّى الموت.

فهتفت بغضب: اطرح أفكارك المريضة أو فلتذهب إلى الجحيم.

– ها أنا أتقدَّم من الجحيم بخطواتٍ ثابتة.

– فكِّر مرتَين، فكِّر مرات، فكِّر من أجل الطفلين.

– ما أحوجَني إلى ضوء شمعةٍ في هذه الظلمات المُتلاطمة!

– حذارِ من الخطأ.

– ما أحوجَني إلى ضوء شمعة!

– حذار من رمْي الأبرياء بالتُّهَمِ الباطلة.

– ضوء شمعة لا أكثر.

– إذا غادرتُ بيتَك للمرة الثالثة فتكون الثالثةَ والأخيرة.

– أتلجئين إلى التهديد لتمنعيني من التفكير؟

– إني أُحذِّرك وأُنبِّهك.

– هل رميتُك بتهمةٍ تكرهينها؟

– دعني أسألك، ألا زلتَ تؤمِن ببراءتي؟

فتنهَّد قائلًا: في مِحنتي الراهنة لا أجد قُدرةً على الإيمان بشيء.

– أرأيت؟! إني ذاهبة وعليك أن تحسم أمرك للمرة الأخيرة وإلى الأبد.

واندفعت خارجةً من الحجرة وهي تُردِّد: للمرة الأخيرة وإلى الأبد.

٧

جلسا جنبًا إلى جنب، عبد الله وشيخ الحارة. فرَغا من احتساء الشاي وشيخ الحارة يقول: خمَّنتُ من بادئ الأمر لِمَ دعوتني يا صديقي.

فقال عبد الله بحرارة: بالنسبة إليَّ فهي مسألة حياة أو موت.

فقال شيخ الحارة بامتعاض: تجنَّب من فضلك المُبالغات العاطفية.

– يُهمُّني جدًّا أن أعرف الأسباب التي أدَّت إلى القبض على الشيخ مروان عبد النبي والأستاذ عنتر عبد العظيم.

فلوَّح شيخ الحارة بيدِه مُتضايقًا وقال: عيب أهل حارتنا أنهم يَخلطون بين العلاقات الشخصية والأمور العامة!

– ليس الفضول على الإطلاق ما يدفعني إلى سؤالي!

– ليس الفضول وحدَه ولكن علاقتك الوطيدة بالرجُلَين.

– ولا ذاك أيضًا، ولكن لأن على الجواب تتوقَّف حياتي، حياة أُسرتي، سعادتي في هذه الحياة.

– لعلك تعني المُضاعفات التي أصابت حياتك الزوجية فيما مضى؟

– نعم.

– إنه موقف يُشاركك فيه كثيرون من أهل حارتنا!

فتساءل عبد الله بذهول: حقًّا؟

– هو الحق على وجه اليقين.

– أتعني …؟!

– أعني أن الرجُلَين بحُكم عملهما، اتَّصلا بأُسَرٍ كثيرة، ونزلا منها نفس المنزلة التي نزلاها من أُسرتك.

فقال عبد الله باهتمام: حدِّثني عما وقع لتلك الأُسَر؟

فقال بعدم اكتراث: منهم مَن خاب ظنه فيهما فطلَّق، ومنهم مَن أصرَّ على الثقة بهما فمضت حياتهم كما كانت تمضي من قبل دون أدنى تأثُّر.

وحدجه بنظرةٍ نافذة ثم واصل حديثه: ومنهم مَن لم يستقرَّ على رأيٍ فتردَّى في هاوية العذاب.

– يا له من مصير غير مُحتمَل!

– أجل.

– ولكن بوسعك أنت وحدَك أن تحسم الأمر.

– لا شأن لي بذلك.

– بل هو واجبك نحو أهل حارتك.

– يا صديقي إن مُهمتي تتعلق بأمن الحارة وسلامتها ولا شأن لي بحياة الأفراد.

– ولكن الحارة ليست إلا أهلها.

– الحارة شيء وأهلها شيء آخر.

– لا أفهم ذلك.

– ولكني أفهمه بكل وضوحٍ وبساطة، وتحت شعاره أعمل.

ثم قال بصوتٍ مرتفع الدرجة: الحارة كلٌّ لا يتجزأ وليس من العسير أن أعرف ما ينفعها وما يضرُّها، أما أهلها فأفراد لا حصر لهم، وتتعدَّد مشكلاتهم بتعدُّد أهوائهم.

– معذرة، يتعذَّر عليَّ أن أُسلِّم بذلك.

– دعني أضرب لك مثلًا، ثمَّة زوج يكرَه زوجته، وآخر يُحبها حتَّى العبادة، وثالث لا هو يُحبها ولا هو يكرهها، فهل تتصوَّر لهم موقفًا واحدًا من حادثة القبض على الإمام والمُدرِّس؟!

– ولكن كلَّا منهم يودُّ أن يتَّخِذ موقفًا على ضوء الحقيقة.

– لعلك تفترض فيهم شجاعةً قَلَّ أن تتوافر، وفي النهاية تتحكَّم الأهواء وحدَها.

ثم التفت نحوه باسمًا متسائلًا: أتحبُّ زوجتك؟

فلاذ عبد الله بالصمت فقال شيخ الحارة: لطيف أن تُحِب زوجتك هذا الحُب كله!

– أعترف بأنه لعنة تُطاردني.

– فماذا تُهمك الحقيقة؟

– هي كل شيء.

– خُيِّلَ إليَّ أنها لا شيء في مثل حالاتك.

– أي قيمةٍ لحُبٍّ يقوم على كذبة؟!

وتنهَّد عبد الله ثم استطرد: إني أتساءل دون توقُّف، هل أُطلِّق؟ هل أُغمض عيني؟ هل أُسلِّم للعبث والمجون؟ هل أنتحِر؟

– يا له من عذاب!

– أنت المسئول عنه.

فابتسم شيخ الحارة ساخرًا وقال: أنت وحدَك المسئول!

– ما أسباب القبض عليهما؟ .. باسم الرحمة والصداقة أجبني.

فقال شيخ الحارة بهدوء: كثيرون يتصوَّرون مسئوليتي في ذلك على غير حقيقتها.

– ولكنك قبضتَ عليهما.

– لم أقبض في حياتي على أحد.

– الكل يُجمِع.

فقاطعه بهدوء: دعنا مما يُجمعون عليه، إن مُهمتي تنحصِر في جمع المعلومات.

– إذن حدِّثني عن معلوماتك.

– المعلومات — كالوسائل التي أحصل بها عليها — سِر من أسرار عملي.

– أليس من المُحتمَل أن تكون خادعة؟

– إني أعرف عملي جيدًا.

ثم بشيءٍ من الكبرياء: ولا أثر فيه للهوى أو للأغراض الشخصية.

فقال بنبرة اعتذار: لم أقصد شيئًا يُسيء إليك ولكن حدِّثني عن انطباعك فهل تؤمن بأنهما مذنبان؟

– الحُكم بذلك يخرج عن حدود عملي.

– كيف ذلك؟

– إني أُقدِّم معلومات، أمَّا الحكم عليها فمن اختصاص غيري!

– ولكن لا شك أن لك انطباعك عن المعلومات التي تتجمَّع لدَيك؟

لا أستطيع الجزم بشيء، إني أعرف على سبيل المثال — أن «أ» قابل «ب» في الساعة «د» في المكان «ه»، الواقعة مؤكدة ولكن ماذا تعني عند أهل الاختصاص؟ .. قد يعقب ذلك القبض على «أ»، أو على «ب»، أو على «أ» و«ب» معًا، وقد لا يقع شيء البتة.

– فإذا تمَّ القبض فهذا يعني الإدانة.

– كلَّا.

– ولكن كيف؟

– قد يُفرَج عن المقبوض عليه بعد وقتٍ ما، وقد يتَّضح أن القبض على «أ» و«ب» كان بغرض الإيقاع بثالثٍ مجهول هو «و»!

– أي حيرة!

– هو الطريق إلى الحقيقة!

– ربما كان أفضل ما يتبع هو الانتظار.

– رأيٌ يبدو وجيهًا، ولكن الانتظار قد يمتدُّ عامًا أو عشرة أعوام، فهل تُطيق أن تترُك زوجتك في بيت أبيها هذه المدة دون حسم؟!

– إذن كيف يمكن معرفة الحقيقة؟

– لا أدري ماذا أقول، ولكن لا يكفي الاعتماد على الغير، لا بدَّ من استغلال مواهبك الذاتية وخبرتك الماضية.

تنهَّد عبد الله من الأعماق وقال: الحق أني كنتُ أجد عند الرجُلَين إجابات جاهزة وحاسمة ومُريحة كلَّما احتجتُ إليها.

– ولكن لا تنسَ أنك طلَّقتَ في رحابهما مرَّتَين!

– ربَّما كنتُ متسرعًا.

– وربما كنتَ على حق!

صمت مليًّا مُكفهرَّ الوجه، ثم سأله: بِمَ تنصحني فيما يتعلق بزوجتي؟

– أرجوك، لا شأن لي بالشئون الخاصة.

– ولكنها كل شيء!

– بالنسبة لك لا للحارة التي أنا شيخها!

– إني أسألك كصديق.

– أعترف بأن صفتي العامة قد غلبت على كل شيء، ولو أنني نصحتُك نصيحةً ثم ثبت بعد ذلك فشلها لحاسبتَني على ذلك بصفتي شيخ الحارة لا الصديق فحسب.

تنهَّد عبد الله مرةً أخرى ثم قال: إذن قد تثبت براءة الرجُلين وقد تثبت إدانتهما!

– أجل.

– ليس ثمة يقين؟

– بلى.

– مجرد احتمال!

– نطقتَ بالصواب.

– وما النسبة المئوية لكِلا الاحتمالَين؟

– لنقُل ٥٠٪!

– ٥٠٪.

– أيُهمُّك أمر الرجُلَين لهذا الحد؟

– يُهمني أمرُ زوجتي قبل كلِّ شيء.

فابتسم شيخ الحارة وقال: كم تُحب زوجتك! ولكن لا غرابة فأنا أُحِب زوجتي أيضًا.

فرمقه بنظرةٍ غريبة وسأله: ألم تُصادفك متاعب في حياتك الزوجية؟

فضحك شيخ الحارة لأول مرة وقال: لا يخلو بيت من ذلك، وقد وقفتُ مرة على عتبة الطلاق ولكن الله سلَّم.

– أكان لذلك أسباب مختلفة؟

– ثمة تَشابُه لدرجةٍ ما.

فسأله بلهفة: وكيف استرددتَ ثقتك بها؟

تفكَّر الرجل قليلًا ثم قال: الحق أن زوجتي تُعاونني فنحن لا نكاد نفترِق، ولا يجد الشك ثغرةً بيننا يمكن أن يتسلَّل منها.

نظر الرجل في ساعته. قام. قام عبد الله أيضًا. ومضى شيخ الحارة نحو الباب ولكنه توقَّف في وسط الحجرة، ثم سأله: بحُكم الفضول هلَّا أخبرتني بما أنت فاعل؟

فتفكَّر عبد الله وقتًا ثم قال: لئن تكن زوجتي مُذنبة بنسبة ٥٠٪ فهي بريئة في الوقت نفسه بنسبة٥٠٪!

– وإذن!

– ولأني أُحبها أكثر من الدنيا نفسها، ولأنه لا بديلَ عنها إلا الجنون أو الانتحار، فإنني سأُسلِّم باحتمال البراءة.

فابتسم شيخ الحارة ومضى إلى الباب. وتصافحا. ثم سأله وهو يهمُّ بالذهاب: وهل أنت سعيد؟

فابتسم عبد الله ابتسامةً لا تخلو من حُزن وقال: بنسبة لا تقل عن٥٠٪!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤