روبابيكيا

١

كالعادة كل صباح كان أول طارئ على الطريق. مع أول شعاع للشمس تنفرج عنه السحب. أورقت الأشجار فترامت خُضرتها على المدى فوق كورنيش النيل. مشى على مهلٍ مُفعمًا بأنفاس الربيع وعيناه تنظران إلى بعيد. تنظران في لهفة. وكالعادة أيضًا، وقريبًا من منتصف الطريق لاحت لعينَيه قادمة. تلاقَيا تحت شجرة الأكاسيا فتصافحا باسِمَينِ. تساءل: نجلس فوق السور؟

– لا بأس.

وجلسا ظهراهما للنيل ووجهاهما للطريق الخالي.

– صباح سعيد أن أُصبح على وجهك.

– شكرًا.

– ورغم أننا لم نتعارَف إلا أمس فإنني أشعر بأنني أعرفك منذ زمن بعيد.

– طالما جمَعَنا الطريق كل صباح.

– كل صباح سعيد.

– مشوار ضروري لي لتجنُّب الترهُّل.

– ألفتُكِ، كالنسمة الرقيقة والسحابة البيضاء، ونفذتِ إلى أعماقي بقوة مُدعمة بالزمن.

– لعلك تساءلت كثيرًا عن سِرِّ مَسيرتي الصباحية؟

– كثيرًا جدًّا، خاصةً وأن مظهرك لا يُوحي بأنكِ مُوظفة، قلتُ لعلَّها تتمشى في منطقتها السكنية لأسبابٍ جمالية.

– ولكن ماذا عن خواطرك الأخرى؟

– الأخرى؟

– أي نوع من النساء ظننتَني؟

– سيدة جميلة بقدْر ما هي قوية، نظرتُها جريئة ورزينة ومليئة بالثقة، وتسلَّل بصري …

– وتسلَّل بصرُك؟

– إلى أصابعك فلم أرَ خاتمًا!

– ولست في الوقت نفسِه بنتًا من البنات، أليس كذلك؟ ماذا قلتَ؟

– قلتُ لعلَّها أرملة أو …

– مُطلقة، وفيمَ فكرتَ؟

– لم يخطر ببالي عبث …

– توكَّد لديَّ ذلك عند تعارُفنا أمس.

فتفكَّر قليلًا ثم قال: ولكن عليَّ أن أُصارحكِ بأني أُحبك.

– تعني أنك مُعجَب بي؟

– أكثر من ذلك، أنا أُحبك بكلِّ معنى الكلمة.

– ولكنك لم تعرِفني بعد.

– ثمَّة حُب يجيء بعد المعرفة، وحُب يسبق كل شيء.

– الآخر كثير الأعباء.

– الحق أني أُحب المغامرة.

فضحكت ضحكةً رقيقة وقالت: أتُحب الصراحة؟ .. تخيَّلتُ حديثنا هذا من قبل!

فقال بفرحة: هذا يعني أني خطرتُ ببالك.

– ألا يشهد هذا الطريق على قديم زمالتنا؟

– وشهد أيضًا مصيري وهو يتقرَّر حتَّى من قبل أن أدري.

– ولكن ألم تنقضِ مدةٌ طويلة قبل أن ينطق الحُب الذي تزعم أنه سبق كل شيء؟

– كان اللقاء يمرُّ في سرعة الضوء.

– جواب غير مُقنع تمامًا.

– وأول الأمر كنتُ في غفلة، واعتقدتُ فترة أخرى أنك سيدة متزوِّجة!

– وربما كنتَ مرتبطًا بعلاقةٍ ما؟

– ربما.

– أي نوع من العلاقة من فضلك؟

– عابرة.

– عظيم!

ولاذا بصمتٍ قصير حتَّى خرقه الرجل قائلًا بنبرة جديدة بعض الشيء: يحسُن بي أن أُقدِّم ما خفي من شخصي؛ مِهنتي صائغ، في الثلاثين من عمري، مركزي المالي على ما يُرام.

– وأنا مطلَّقة، قدِّر عمري كما تشاء، ويحسُن بي أن أُصارحك بأني جرَّبتُ الزواج أكثر من مرة!

– ما أجمل الصدق!

– ألم يُخِفْك ذلك؟

– كلَّا!

– من حقكَ أن تقلق ولكن صدِّقني أني كنتُ وما زلتُ بريئة!

– وأنا أُحبك.

– إذن فأنا سعيدة أكثر مما أستحق.

– أأفهم من ذلك أنك …؟

– إني أشارِكك عواطفك!

– ما أسعدَني من عاشق!

وحدجته بنظرةٍ ثاقبة وهي تسأله: ألم تتحرَّ عنِّي؟

– كلَّا.

– أمَّا أنا ففعلت.

فضحك طويلًا ثم تساءل: وهل نجحتُ في الامتحان؟

– أعتقد ذلك.

– بأي مقياس تحكُمين؟

– العجز هو ما أكرهه في الرجل.

– العجز؟!

– أُحبُّه قويًّا قادرًا، رذائل القوة أحبُّ عندي من فضائل الضعف.

– إنكِ واضحة وقوية.

– ماذا تكره أنت في المرأة؟

فتفكَّر قليلًا ثم قال: القبح والانحلال.

– الانحلال؟

– أظنُّه لا يحتاج إلى تفسير.

– أأنت مِمَّن يهتمون بالماضي؟

– كلَّا.

– ماذا تقصد بالانحلال؟

– الاستهتار، مثل إنشاء أكثر من علاقة في وقتٍ واحد، أو التسليم بلا حُب!

– ولكن ذلك مرَض؟

– ربما.

– لا تُوجَد امرأة خائنة أبدًا.

– هذا صحيح بصفةٍ عامة.

– يُخَيَّلُ إليَّ أننا مُتفاهمان؟

– وعلينا أن نُعِد أنفسنا للزواج بأسرع ما يمكن.

٢

مضت في الطريق ووقف يُتبِعها ناظرَيه. بقلبٍ كله هيام. ثم انتبه إلى حركةٍ ما. التفت نحو السور. وهو يقترِب منه ظهر رأس رجل. لعلَّه كان جالسًا أو نائمًا. ها هو يقف الآن أمامه في الناحية الأخرى من السور التي تلِي شاطئ النيل. تُرى هل سمع حديثه مع المرأة؟ وطالَعَه الغريب بوجهٍ شاحب، بارز العظام، غائر العينَين، وذقنٍ غير حليق. سوَّى جلبابه المُتسخ فوق جسده الهزيل ثم عبر السور فصار على كثبٍ منه. لص؟ مُتشرِّد؟ ليكُن ما يكون. همَّ بالذهاب ولكن استوقفه صوته وهو يقول: الحُب! .. ما أجمل الحب!

رمقَه باشمئزازٍ وهمَّ بالسير مرةً أخرى، ولكن الرجل خاطبه قائلًا: لدَينا حديث مُشترك فيما أعتقد.

فسأله بتقزُّز: أتُخاطبني؟

– لم يعُد يُوجَد سوانا في الطريق.

– ولكني لا أعرفك؟

– ولا أنا أعرفك!

– إذن لا تُخاطبني.

– ولكن لدَينا حديث مُشترك.

– مَن أنت؟

– تاجر روبابيكيا.

– وأي حديثٍ تعني؟

فأشار بيدٍ معروقة شبه سوداء من القذارة نحو الناحية التي سارت فيها المرأة وقال: بخصوص السيدة.

– وما شأنك بها؟

– كنتُ آخِرَ زوجٍ لها!

– هه؟!

– تكلمتُ بوضوحٍ فلا داعي للتكرار.

فتفحَّصه بذهولٍ وتمتم: أنت مجنون بلا شك.

فضحك قائلًا: لم يُنعم الله عليَّ بالجنون بعد.

– لعلك تهذي!

– لعلك تتساءل كيف آل أمري إلى ما ترى!

فلم يُجِب الرجل فقال تاجر الروبابيكيا: كنت تاجر غلال ناجحًا.

ثم بنبرةٍ ساخرة: ثم أفلست!

وضحك قائلًا: ولكني ما زلتُ تاجرًا على أي حال، وهاك عربتي.

وأشار إلى عربة يدٍ مُنزوية وراء جزع شجرةٍ فوق الطوار. هزَّ الرجل منكبَيه استهانةً، أو تظاهُرًا بالاستهانة وهمَّ للمرة الثالثة بالسير، ولكن التاجر سأله: والحديث المشترك؟

فسأله بحدَّة: أيُّ حديثٍ مشترك؟

– حديثنا عنها، أي حديث عنها فهو هام بالنسبة إليَّ، الحق أني ما زلت أُحبها.

– ما زلتَ تُحبها؟

– بكل جوارحي.

– ولمَ طلقتَها؟

– نتيجة حتمية للإفلاس.

– ولكن الزوجة المُخلصة …

فقاطعه: لا يُمكن أن تكون زوجةً لتاجر روبابيكيا.

– ألم تكُن .. ألم تكُن تُحبك؟

– أجل فيما أعتقِد.

– كيف تغيَّر قلبها فجأةً؟

– لا لوم عليها في ذلك.

– لعل إفلاسك جاء نتيجةً لأخطاء لا تُغتفَر؟

– اعتقدتُ أنا أن إفلاسي وقع بسببِها واعتقدتْ هي أنه جاء نتيجةً لعجزي.

– عجزك؟

– وهي تكرَه العجز كما قالت لك من دقائق!

– زِدني إيضاحًا.

– لا أهميةَ لذلك.

– ولكنه مُهم في رأيي.

– إنك تُحبها ومن حقِّك أن تُجرب حظك.

– ولكنك أثرتَ موضوعًا وتركته مفتوحًا.

– لا تقلق فهي امرأة مُمتازة بكل معنى الكلمة.

– لا تُحاول خداعي.

– لا سمح الله.

– إنك تعني اتهامها.

– أؤكد لك أنها على خلق عظيم.

– لعلَّها لم تكن تُحبك؟

– ها أنت تتَّهِمها بأنها تزوَّجت من رجلٍ من غير أن تُحبه.

– أعني أنها لم تُحبك الحبَّ الكافي.

– جعلَتْني أؤمن بخلاف ذلك.

– المرأة المُحبَّة الفاضلة لا تتخلى عن زوجها.

– أنا الذي تخلَّيتُ عنها!

– بسبب إفلاسك؟

– أليس ذلك كافيًا؟

– ألم تختبر استعدادها للوفاء؟

– كلَّا، لدى تسليمي بعجزي عن إسعادها هربتُ بالطلاق.

– بذلك يُصبح الأمر واضحًا.

– لا شيء واضح في هذه الدنيا المُعقدة.

– ولكن ما قُلتَه واضح جدًّا.

– جرِّب حظك، جرِّب أن تبلُغ الوضوح بنفسك.

– يُخيَّل إليَّ أنك تُداور وتُحاور لتُلقي بذور الشك في نفسي.

– أنت تقول ذلك.

فهتف بغضب: إذا كان لدَيك ما يستحق القول فقُله وإلا فاذهب بغير سلام.

– المتاجرة بالأشياء القديمة علَّمتني السماح.

– الحديث المشترك؟

– لا شيء بعد.

– أتهزأ منِّي يا صعلوك؟

– أبدًا، ولكني أُحب الحبَّ كما أحبُّ المُحبين.

– كنت تتجسَّس علينا؟

– أبدًا، ولكني أنام على شاطئ النيل في الربيع.

– كذَّاب.

– الربيع الذي يُجدِّد حياة الشجر ويعجز عن تجديد حياة البشر!

– لا ألوم إلا نفسي على الاستماع إليك.

– لن تندم على ذلك أبدًا.

– عُد إلى القبر الذي خرجتَ منه.

– سمعًا وطاعةً، أما مجلسي المختار فهو قهوة سوق الكانتو، وشُهرتي هناك «الملعون».

– عليك اللعنة!

– إلى اللقاء.

٣

أمام المرآة وقفت ترنو بإعجابٍ إلى العُقد المُطوِّق لجيدها. ترنو بصفةٍ خاصة إلى اللؤلؤة المُدلَّاة من واسطته. ونظرت من خلال المرآة أيضًا إلى صورة الرجل المُتربع فوق الديوان وراءها يتسلَّى بمشاهدة النيل من النافذة. وقالت وهي تتَّجِه نحو الديوان: في أصابعك معجزة.

نزع بصرَه من النيل كمن يصحو من غفوةٍ وتساءل: ماذا قلتِ يا عزيزتي؟

– مَن يُبدع هذه اللؤلؤة فهو مُعجزة!

– المعجزة حقًّا مَن تُصنع اللؤلؤة من أجله.

فجلست إلى جانبه فوق الديوان وهي تقول: جميل أن أسمع منك غزلًا رقيقًا حتَّى اليوم.

– حقًّا؟ .. ما وجه العجَب في ذلك؟

– المألوف أن الغزل يُوارى كلَّما أوغل المرء في الزواج.

– ولكنكِ نبع للحُب لا ينضب أبدًا.

فمسحت على شعر رأسه بنعومةٍ وقالت: حقًّا؟!

– أيُداخلك شكٌّ في ذلك؟

– كلَّا ولكنك لم تعُد كما كنت.

فتردَّد قليلًا ثم قال: لا علاقة لذلك بحُبنا.

– لا تُخفِ عنِّي شيئًا فإني أشعر بكلِّ شيء.

– أردتُ دائمًا ألا أجُرَّكِ إلى متاعبي.

– ستجِدُني دائمًا في صميم متاعبك، لا تُخفِ عني شيئًا.

فتنهَّد قائلًا: الحق أني مُحاصَر بالقلق.

– أرأيت؟!

– أُقاوِمه بكل ما أوتيتُ من قوةِ الانحدار إلى الهاوية!

– وأخفيتَ عنِّي كل شيء.

– لم أكفَّ دقيقةً واحدة عن الكفاح.

– والجميع يضربون المَثل بسعادتنا.

– الحق أني أندفع نحو الخراب.

– الخراب؟!

– اختلَّ ميزان العمل في يدي ولا سبيل إلى ضبطه.

فقالت بحُزن حقيقي: أي لعنة، أي لعنة، أي صحوةٍ مُباغتة من سعادةٍ وهمية!

– بل كانت وما زالت سعادة حقيقية.

– أي لعنة تُطاردني! لم أضنَّ بعطاء، هيأتُ لك عشًّا ذهبيًّا، ما رأيك في عشنا؟

– جنة.

– وأصدقائنا؟

– جذَّابون كالسحر.

– ورحلاتنا وليالينا؟

– جمال في جمال.

– أينقُصنا شيء؟

– أبدًا ولكني أنفق المال بجنون!

– إنك صائغ عبقري ولا حدود لقُدرتك.

– لو كان مال قارون لنفد.

– لا تقُل ذلك يا حبيبي.

– ولكنها الحقيقة.

– وأي طعمٍ للحياة بغير مباهجها الحقيقية؟

– أنا مُهدَّد بالخراب العاجل.

– لا تُخيِّب أملي فيك.

– ولكنها الحقيقة.

– لا تُعلن عجزك.

فقال بجزع: كل شيءٍ له حدٌّ لا يجوز أن يتجاوزه.

– إنما تُهمُّني النتائج، أنا أُحب الحياة الحلوة بقدْر ما أُحبك.

– أنتِ جميلة، أنت فاتنة، أنت عطر الحُب وروحه، ولكنك تتعلَّقين بمسرَّات يمكن الاستغناء عنها.

– لا تقُل ذلك أبدًا.

– الحُب أغلى من أي شيءٍ سواه.

– ولكن أزهاره لا تُنوِّر إلا في خمائل المسرَّات.

– ظننتُه غنيًّا بنفسه عمَّا عداه.

– لعلَّ حُبك فتر.

– يا له من حُكمٍ جائر!

– عندما يفتُر الحب ينشط التفكير والتدبير.

– أبدًا، ليس الأمر كذلك.

– عندما يفتُر الحُب يبدأ الندم على السرور البريء.

– أنت تعلمين أن حُبي لكِ لا يفتر أبدًا.

– بل ولَّيتني ظهرك أمس واستغرقتَ في النوم!

– بسبب انشغال البال لا فتور الحب.

فهزَّت رأسها في ارتياب فقال: ما أنا إلا إنسان ذو طاقة محدودة.

– لم تكن كذلك في أيامنا الحلوة.

– أنت سيدة ناضجة وتُدركين من حقائق الأمور ما يقصُر عن إدراكه غيرك.

فقالت بحدة: لم أُحب هذا القول.

– ما قصدتُ سوءًا قط.

– ولكني كرهته.

– إني أعتذر، وإني أُحبك، وأقرُّ بأنني إنسان ذو طاقة محدودة!

– إنك تُرعبني.

– حتَّى الحُب تلزمه استراحات قصيرة.

– إنك تُحمِّلني ذنوب الآخرين.

– لا يَعنيني الماضي قط.

– إني امرأة بريئة، لا عيب فيها إلا أنها تُحب الحياة حبًّا لا يعرف الحدود.

– ولكنَّه حُب لا يتأتَّى لرجلٍ إشباعه.

– الحق ما أنا إلا ضحية لعجز الرجال.

– يا حبيبتي علينا أن نحرص على حياتنا المشتركة.

فقالت بكبرياء: لم أستطع ذلك في الماضي ولا أستطيعه الآن.

– أليس ذلك أيضًا نوعًا من العجز؟

– كلَّا، لا تُسَمِّ الأشياء بأضدادها.

– أنتِ اليوم في عز نُضجِك.

فهتفت غاضبة: لست عجوزًا بعد.

– معاذ الله أن يخطر لي ذلك المعنى.

– ولكنه خطر، ورمَيتَني بما هو فيك.

فتنهَّد يائسًا وقال: لا فائدة، أفلست في كل شيء.

ها هي اللعنة تُطاردني من جديد.

– ليبعد الله عنا اللعنات!

– ها هي تطاردني من جديد!

ونهضَت غاضبةً فغادرت الحجرة.

٤

تذكَّر فجأةً تاجر الروبابيكيا. حاجة ملحة دفعته إلى البحث عنه لمناقشته. ولم يجد صعوبةً تُذكَر في العثور على القهوة القابعة تحت البواكي بسوق الكانتو. وقف يُجيل البصر في الجالِسين ولكنه لم يظفر بطلبتِه على حين تطلَّعت إلى منظره الأبصار في دهشة. ورأى وراء النصبة رجلًا يقوم بكل شيءٍ فقدَّر أنه صاحب القهوة فاقترب منه، حيَّاه، وسأله: أين تاجر الروبابيكيا الشهير بالملعون؟

فحدجَه الرجل بنظرةٍ أشعلها انتباه طارئ وقال: لا أدري.

– ألا يجلس عادةً في هذه القهوة؟

– ولكني لم أرَه من مدة.

– وأين يمكن أن أجِده من فضلك؟

– لا أدري.

– هل يُوجَد أمل في رؤيته إذا انتظرتُ بعض الوقت؟

– مَن يُدريني؟!

وقف الرجل في وسط القهوة مُتردِّدًا. وإذا برجلٍ يدنو منه حتَّى يقف أمامه ثم يسأله: أتريد مقابلة الملعون؟

– أتعرف مكانه؟

– اتبَعْني.

قال ذلك ومضى إلى الخارج. تبِعه بأملٍ جديد في مُقابلة الرجل. كان المغيب يُضفي على الدنيا ظِلاله، ولفحات هواء رطيب تتردَّد بأنفاس الخريف. سار وراء الرجل في زقاقٍ ضيق.

– أنحن ذاهبان إلى بيته؟

فلم يُجب الرجل وواصل السير. ولدى أول مُنعطفٍ يُصادفهما هوَتْ ضربة على رأسه فشهق ثم سقط مُغمًى عليه. ولمَّا أفاق وجد نفسه مُلقًى فوق مقعدٍ خشنٍ كأنه أريكة في ظلامٍ دامس لا يُرى فيه شيء. جلس في حذَرٍ وهو يتساءل: أين أنا؟!

وأجال يدَه في الظلام وهمَّ بالوقوف وإذا بصوتٍ غليظ يقول بنبرةٍ آمِرة ومُهدِّدة معًا: لا تتحرَّك.

فصدع بالأمر وهو يرتعِد وسأل برجاء: ما معنى هذا من فضلك؟

– لا تسأل ولكن عليك أن تُجيب.

– سل عما شئتَ ولكني لم أُسئ إلى أحد.

– اخرس.

فخرس وقلبه يدقُّ فعاد الصوت يسأل: ما مِهنتك؟

– صائغ.

– وعمرك بالسنة الهجرية؟

– لا أعرف.

– أنصحك بأن تتجنَّب الكذب.

– ممكن معرفته إذا أُعطيتُ ورقةً وقلمًا ونورًا!

– أيختلف عمرك الهجري عن عمرك الميلادي؟

– طبعًا.

– هل أفهم من ذلك أنك مُصاب بانقسام الشخصية؟

– أنا سليم والحمد لله.

– إذن لِمَ ذهبت إلى قهوة سوق الكانتو؟

– لمقابلة تاجر الروبابيكيا الشهير بالملعون.

– ما علاقتك به؟

– لا علاقة لي به.

– تجنَّب الكذب حرصًا على سلامتك.

– أنا لا أكذب وليس ثمَّة ما يدعوني إلى الكذب.

– ما علاقتك به؟

– تقابَلْنا مرةً في الطريق.

– أُكرِّر تحذيرك من الكذب.

– بالحق نطقت.

– أي طريق؟

– طريق النيل.

– متى؟

– منذ عام وبضعة أشهر.

– لأي مناسبة؟

– صادَفَني في الطريق فتبادلنا حديثًا عابرًا.

انهالت عليه السياط في الظلام كالنيران. اجتاحه ألمٌ حادٌّ فصرخ من الأعماق. توقف الضرب ولكن صراخه لم يتوقَّف. تُرِكَ يصرخ ويتوجَّع بلا مُصادرة لحريته في ذلك. حتَّى همد وسكت. عاد الصوت يقول: حذرتُك من الكذب.

فقال بصوتٍ مُمزق: أنا لا أكذب.

– ماذا كانت مناسبة المقابلة؟

– كنت أُجالس خطيبتي على سور الكورنيش فلمَّا ذهبت ظهر لي الرجل من وراء السور، وقال لي إنه كان آخر زوجٍ لخطيبتي.

– السوط أخف أدوات التأديب هنا.

فقال بجزع: ولكني أقول الصدق.

– ومَن كان أول زوجٍ لها؟

– لم أسأله عن ذلك.

– وماذا دار بينكما أيضًا؟

– حدَّثني عن حياته حديثًا غامضًا وفي النهاية أخبرَني عن مجلسه المختار بقهوة سوق الكانتو.

– لِمَ؟

– لا أدري.

– ولِمَ ذهبت تسأل عنه اليوم؟

– شعرتُ برغبة في محادثته.

– في أي موضوع؟

– فشل زواجه.

– لِمَ؟

– ربما لأن زواجي أنذر أيضًا بالفشل.

– ماذا توقَّعتَ أن تجد عنده؟

– لا أدري، ولكن اليأس جعلني أتخبَّط.

– حذرتُك من الكذب.

فهتف في رُعب: ما قلتُ إلا الصدق.

– أُمهِلك دقيقةً واحدة.

– أُقسِم على ذلك بكلِّ غالٍ.

– دقيقة واحدة.

– أي شيء يدعوني للكذب؟!

– أي شيء يدعوك إلى الكذب؟

– لا شيء ألبتة .. صدقوني.

– لم يبقَ إلا ثوانٍ.

– الرحمة!

– انتهت الدقيقة.

وانهال عليه العذاب في الظلام. لم ينجُ منه رأس ولا قدم.

٥

تراءى الملعون في الجانب الأيسر من قهوة سوق الكانتو وهو يُدخِّن البوري. تلاقت عيناهما مرةً ولكن الملعون بدا مُستغرقًا في البوري. تقدَّم منه حاملًا كرسيًّا وضعه أمامه وجلس. رمقه الملعون بنظرةٍ غير مُرحِّبة وسأله: ماذا تريد؟

– ألا تذكُرني؟

– مَن أنت؟

– ألا تذكُر الصائغ؟

فانقلبت سحنة الملعون من السخط إلى الذهول وهتف: الصائغ؟

– بلحمه ودمه!

– ولكن لا لحمَ هناك ولا دم.

– أجل!

– غير معقول.

– هي الحقيقة كما ترى.

– أعوام انقضت ولكنها لا تكفي لتبرير هذا التغيُّر الشامل!

– أجل.

– كأنك خارج من قبر.

– كأني خارج من قبر.

– ماذا حدث لك؟

– ذاك تاريخ طويل.

– ولكن زواجك فشل؟

– أجل.

– ووقع الطلاق؟

– لا أدري.

– وكيف تلاشى شكلك الآدمي؟

فتردَّد قليلًا ثم سأله: ألك أعداء؟

– ليس لي أصدقاء.

– سأقصُّ عليك قصتي، فمنذ …

وتوقف حائرًا ثم تمتم: الحق أنه لم يعُد لي عِلم بالزمن.

– أهمِلْه كما يُهملنا.

– جئتُ يومًا أسأل عنك في هذه القهوة، خُطِفْتُ، جرى معي تحقيق غريب، عُذِّبْتُ، سُجنتُ في الظلام زمنًا لا أدريه، ثم وجدتُني ملقًى في الخلاء!

ضحك الملعون وقال: مررتُ بمحنةٍ مماثلة في زمنٍ ماضٍ.

– أنت أيضًا؟!

– أنا أيضًا.

– نفس الظروف والأسباب؟

– تقريبًا.

– ومَن هم أولئك الشياطين؟

– علمي علمك!

– كيف يمكن أن تقع تلك الأحداث؟!

– كما يقع غيرها.

– أمور تُجنن.

– لا تشغل بالك بما لا حَلَّ له.

– لا حلَّ له؟

– أجل، بما لا حلَّ له وحدِّثني عن زواجك.

– لم أجِد أثرًا لدُكاني التي ضاعت في التنظيم.

– حدِّثني عن زواجك.

– ذهبتُ إلى بيتي، بيت الزوجية، فوجدتُه مأهولًا بأغراب!

– ضاع كل شيء؟

– كل شيء.

فقال الملعون باسمًا: ولكن زوجتنا ما زالت ترفل في حلل السعادة.

– ألدَيك معلومات عنها؟

– هل في وسع عاشقٍ أن ينزع عينَيه من معشوقه؟!

– جاء دوري لأسألك.

– ما أكثرَ أخبارها وما أقلَّها، حدث واحد يتكرَّر إلى ما لا نهاية، زواج طلاق، زواج طلاق، زواج طلاق، زواج …

– ما أعجبَ ذلك!

– ما أعجب ذلك!

– يا لها من امرأة!

– يا لها من امرأة!

– لكنها طعنت في السن؟

– جمالها في عيني غير قابل للزوال!

– سيجيئ يومٌ فيجري عليها ما جرى علينا.

– أشكُّ في ذلك.

– لكل شيءٍ نهاية.

– ليس كل شيء له نهاية.

– أنت تمزح ولا شك.

– لِمَ قصدتني في ذلك اليوم المشئوم؟

– أردتُ أن أناقش معك أسباب الفشل.

– أكنتَ بدأتَ تُعانيه؟

– أجل.

– هي أسباب واحدة.

– حقًّا؟

– ما العجب في ذلك؟

– إذن فهي امرأة مريضة.

– الأصح أن تقول إننا نحن المرضى!

– لن يوفَّق معها رجل.

– لعلَّه لم يُخلَق بعد.

– ولن يُخلق أبدًا.

– لا تحكم على المجهول.

– إنه شيء يفوق الخيال.

– كما أمكن أن تُوجَد هي فمن المُمكن أن يُوجَد هو.

فتنهَّد في قنوطٍ وقال: دُلَّني على عنوانها.

– لِمَه؟

– أرغب في مقابلتها.

– لكنها لن تعرفك.

– أُذكِّرُها بنفسي فتعرفني كما عرفتني أنت.

– وما فائدة ذلك؟

– أجل، وما فائدة ذلك؟!

– خير من ذلك أن تفكر في عمل تحصل به على رزقك.

– كنتُ أبرع صائغ.

– دعنا من كان وكنَّا.

– ماذا أعمل؟

– ممكن أجد لك عملًا في الروبابيكيا، ولكني من زمنٍ أُفكِّر في مغامرة تعود علينا بالرزق الوفير.

– ما هي؟

– مشروع لم أجد الشريك الثقة له.

– وهل أصلُح له؟

– سأجد لك غرفةً للإقامة فوق سطح عمارة في حيٍّ راقٍ.

– وبعد؟

– ومن خلال علاقاتي الكثيرة بالبيوت والناس سأشيع أنك من رجال الأمن السريين الدُّهاة.

– رجال الأمن؟

– وينتشر الرُّعب في المساكن التي لا يخلو واحد منها من نقطة ضعفٍ يخاف عليها من القانون.

– وماذا نجني من وراء ذلك؟

– أُمثِّل دور السمسار الخاص لك وأتلقَّى الهبات والهدايا!

– يا له من مشروع خيالي!

– هو أكثر من واقعي، ستنهال علينا الأموال، لن نستردَّ قوانا الضائعة ولكنَّا سنعيش في رفاهية كالأحلام.

– أتمنَّى أن تتحقَّق الأحلام.

– وإذا تحققت أمكن بفضل الرفاهية أن نجد الوسائل الكفيلة بالعزاء والنسيان.

– نسيان المرأة وعشقها؟

– أجل، ولدَينا فُرص لا حصر لها لتكرار التجربة في أحياء كثيرة.

– لو تحقق ذلك فهو المعجزة!

– أجل .. المعجزة!

٦

في بهوٍ فاخر جلس الشريكان. بينهما مائدة حفلت بما لذَّ وطاب من طعامٍ وشراب. بهوٌ كأنه متحف. وكانت أعينُهما تلتمِع بالنشوة حين قال الصائغ وهو يرفع كأسه: صحَّة الضعف البشري.

– وليدُم إلى الأبد!

– أصبح الآن من الممكن أن ننسى.

– صدقتَ ولكنَّنا لم ننسَ بعدُ تمامًا.

– كلما رجعنا إلى الإفاقة رجعت الذكريات كالزنابير.

– يا ويلَنا من الإفاقة.

– ولكن لدَينا ما يشغلنا، لدينا الطعام والشراب والتحف النادرة وأدوات الترَف والحدائق والملاهي الليلية.

– لدَينا حقًّا ما يشغلنا ولكنها تخطر على القلب في الإفاقة.

– ما دامت وسائل النسيان مُتوفِّرة فلا خوف علينا.

– فلنغرق فيها حتَّى الأعماق.

– إنها تُطاردنا ولكنها لن تقبض علينا.

– نجَونا من الجنون.

– يا له من جنون!

– عليها اللعنة.

– صحتك.

– صحتك!

– عليك أن تحصل لنا على عُملةٍ صعبة من السوق السوداء لنغزو السوق الحرة.

– سيتم ذلك على خير وجه .. وأظن آن لي أن أذهب.

– مصحوبًا بالسلامة.

ودَّعَه حتَّى الباب. وجعل يذرع البهو وهو ينظر في الساعة. حتَّى دخل الخادم وهو يقول: جاءت السيدة.

فقال بلهفة: أدخِلها.

دخلت المرأة تخطف الأبصار بجمالها وبريق اللؤلؤة فوق صدرِها. دعاها للجلوس وهو ينحني لها تحيَّةً، ثم قال: شرَّفتِ الدار.

– شكرًا.

– كنتُ في انتظارك لتسليمك القرض كما تمَّ الاتفاق عليه مع زوجك.

– ولولا المرض لجاء بنفسه.

– أعرف ذلك، شفاه الله، ولكن اسمحي لي أن أُقدِّم لك كأسًا.

– شكرًا.

وتنهَّد الرجل وقال بأسًى: إذن لم تعرفيني بعد؟

فحدجته بنظرةٍ غريبة فقال: أكثر من مرة تقابلنا بحضور زوجك، ولكنك لم تعرفيني للأسف.

لم تُحوِّل عنه عينَيها فقال: لم تتغيَّري، أمَّا أنا …

هتفت: أنت؟!

– أجل!

– أي مفاجأة!

– لا تَعجبي فأنت العجَب.

ولاذت بالصمت دقائق ثم سألته: أين كنتَ طيلة ذلك الدهر؟

– الحق أني لا أدري.

– غير معقول.

– هو غير معقول حقًّا ولكنه واقع.

– كنتَ في مكانٍ ما ولم تُعنَ بالاتصال بي.

– كنتُ في مكانٍ ما واستحال عليَّ الاتصال بأحد.

– أين كنت؟

– في الظلام.

– لا أفهم.

– وليس عندي ما أقوله أكثر من ذلك، دعينا مما مضى وانقضى.

– إنك لا تدري مدى تلهُّفي على معرفة ذلك.

– وأنا عاجز عن إشباعه!

وتبادلا نظرةً كئيبة حتَّى قال: وطلبتِ أنتِ الطلاق.

– اضطررتُ إلى ذلك.

– وتزوَّجتِ مرةً بعد مرة.

فلاذت بالصمت، فقال: لكِ كمال مُروِّع لا يُحتمَل.

فقالت بتبرُّم: دعنا من سيرته.

فتنهَّد قائلًا: لذلك لا أجد فائدةً في منح القرض!

– ولكنك وعدتَه!

– لن يُغير من المصير المُقرَّر.

فسكتت مُتجهِّمة فقال: لا أشك لحظةً واحدة في أنك تؤمِنين بقولي كل الإيمان.

فقالت بحزن: لن أنعم بالاستقرار فيما يبدو!

– لذلك أقترح عليك أن تعودي إليَّ فعلى الأقل ستجدين عندي ثروةً لا تنفد!

– غير ممكن، أنت تؤمن بذلك أيضًا.

– وقد تحدُث معجزة!

– معجزة؟!

– إني أنتظر طبيبًا يُعد في هذه الشئون معجزة!

فلاحت في وجهها خيبة واضحة فقال: لا توصدي باب الأمل وانتظري.

وطبع على يدِها قبلةً حارة وهو يودِّعها.

٧

وجاء الطبيب في ميعاده. جاء يحمل حقيبةً وعصًا غليظة. رحَّب به بحرارة، ولكن شيئًا في منظره جذب انتباهه فجعل ينظُر إليه بدهشةٍ حتَّى سأله: ما لك تنظُر إليَّ هكذا؟

– الحق أني أعجب للشَّبَه العجيب بيننا!

– حقًّا؟

تساءل الطبيب وهو ينظر في وجهه بإمعانٍ فقال مُستدركًا: أعني أيام شبابي.

فابتسم الطبيب فقال الرجل: نفس الصورة والقوة!

– كل شيء مُحتمَل.

– أكاد أرى فيك نفسي الذاهبة.

– سيُيسِّر ذلك من مهمة العلاج.

– يُسعدني ذلك.

وجال الطبيب بعينَيه في أنحاء البهو الفخم الجميل ثم قال: حدِّثني عن دائك.

– لحظة واحدة حتَّى أُفيق من الدهشة.

وتريَّث قليلًا ثم قال: سمعتُ عن براعتك الكثير فهل حقًّا تستطيع أن تُعيد الشباب؟

– ذاك أيسر عليَّ من التنفُّس.

– يا للسعادة!

– ولكن لِمَ ترغب في استرداد شبابك؟

– يا له من سؤالٍ يا دكتور!

– يُهمني أن أعرف جوابك.

– ولكن الرغبة في الشباب لا تحتاج إلى تبرير.

– أليس لِحكمة الكهولة عشَّاقها؟

– لا أظن.

– خبِّرني على الأقل ماذا فعلت بشبابك؟

– ولكن ألا يُعَد ذلك خروجًا عن الموضوع؟

– بل هو في صميمه.

– حسنٌ، استثمرته في كافة وجوهه.

– أبدًا، بدَّدتَ شطره الأكبر في الظلام.

– أعرفت ذلك؟

– أجل.

– كيف عرفته؟

– هو بعض عملي.

– طبيب أنت أم قارئ غيب؟

– هما شيء واحد.

– على أي حالٍ لم أكن مُخيَّرًا.

– ومَن قال إنه غير مُخير فقد أهدر شبابه.

– كانت قوةً مجهولة لم أعرف كُنهها حتَّى اليوم.

– أي جهدٍ بذلت لتعرِفها؟

– قلتُ إن البُعد عنها غنيمة وسلام.

– وهكذا أهدرتَ شبابك للمرة الثانية.

وتبادلا نظرةً طويلة ثم قال الطبيب: أصابك ما أصابك نتيجة لعجزٍ مُحقَّق.

– عجز؟!

– أجل، في العمل والحُب.

– أعرفت ذلك أيضًا؟! إنك مذهل حقًّا!

– قلتُ إنه بعض عملي.

– أشهدُ بأنك عرفتَ حُبي وعملي وضياعي.

– وأكثر من ذلك.

– أكثر من ذلك؟

– أعرف أنك دجَّال لص!

تراجع الرجل مُنذعرًا فقال الطبيب ضاحكًا: تاجرتَ بالخطايا، وحوَّلت ثروتك الهائلة إلى تُحَف نادرة كما أرى.

اصفرَّ وجه الرجل وارتعشت أطرافه فقال الطبيب: لا تخف، أنا طبيب لا شرطي.

– سيدي.

– أفندم!

– ماذا تروم من وراء معرفتك اللانهائية؟

– أروم الشفاء لمرضاي.

– أما زلتَ تنوي علاجي؟

– بل بدأته منذ رأيتُك.

– أتردُّ إليَّ شبابي؟

– بلا أدنى شك.

– وتصون الأسرار التي عرفتها؟

– إنه واجب الطبيب الأول.

فقال بابتهاج: لستَ مرعبًا كما قد يتبادر إلى الذهن.

– سيعود إليك شبابك الحق.

– متى؟ .. متى يا دكتور؟

– قبل أن أُغادر بيتك!

– إنك لساحر.

– ولكنك ساحر أيضًا؟

– أنا؟!

– استعضتَ عن الحب بالثروة ثم حوَّلت الثروة إلى طعام، وشراب وتحف.

– هي الرغبة في النسيان.

– ولكنك كنتَ تخاف النسيان بقدْر ما تتمنَّاه.

– ربما!

– حسنٌ، سيعود إليك الشباب.

وقبض على عصاه بشدَّة وهو يقول: آخر خطوات العلاج هي أصعبها.

وبسرعة جنونية راح يهوي بعصاه على كل ثمينٍ في البهو. لم يُبقِ على شيءٍ من التحف والصور والمصابيح والثريَّات والحُلِي. ولم تكفَّ يدُه عن توجيه الضربات حتَّى أصبحت الجواهر أكوامًا من الشظايا. وانزوى الرجل في أثناء ذلك في أحد الأركان وهو يرتعِد رُعبًا ويصرخ بصوتٍ مبحوح. وتنهَّد الطبيب في ارتياحٍ وقال بهدوء: عملية من أشقِّ ما صادفَني في حياتي الطبية.

فصاح الرجل: أنت مجنون.

– أصدق التهاني.

فصاح الرجل: خربتني الله يخرب بيتك.

– أُكرِّر التهنئة.

– أنت مجنون.

– يُسعدني أن أسمع أسلوب الشباب يجري على لسانك .. وتناول حقيبته ومضى نحو الباب وهو يقول: عليك الآن أن تصون شبابك بعد أن رجع إليك بمعجزةٍ وأن تُنفقه فيما يليق بروعته، وإذا حدثت مضاعفات غير مُتوقَّعة فتلفِنْ إليَّ من فورك.

٨

رقد ذاهلًا بين الخرائب. ضاعت الحبيبة وهلك ما يمكن أن يتسلَّى به عنها. لم يبقَ إلا الفقر والتشرُّد والهيمان المحروم. كان يُفكر في ذلك عندما تناهى إليه صوتٌ أجشُّ وهو ينادي «روبابيكيا». نهض مُتثاقلًا فناداه من النافذة. جاء الرجل فنظر في أنحاء البهو بدهشة، ثم نظر إلى صاحبها مُتسائلًا ولكن هذا قال له متجاهلًا تساؤله الصامت: افحص هذه البقايا واختر ما يصلح لك منها.

– أوقَع زلزالٌ في مسكنك؟

فقال واجمًا: اختر ما يصلح لك.

– الشظايا لن تنفعني بطبيعة الحال، ولكني آخِذٌ ما يمكن إصلاحه أو تهيئته بطريقةٍ ما.

– ليكن.

وانكبَّ التاجر على بقايا التُّحَف المتناثرة يأخُذ واحدة من بين كل عشرين وسرعان ما كفَّ وهو يقول: لم يبقَ شيء ذو قيمة.

– منذ لحظاتٍ كان كل شيءٍ مُحتفظًا بقيمته.

فنظر إليه التاجر في ارتيابٍ وسأله: هل زارك الطبيب؟

فسأله بدوره داهشًا: مَن أدراك بذلك؟

– قصته أصبحت مشهورة.

– وأنا الذي دعوته بنفسي!

– هو على أي حالٍ لا يزور إلا مَن يدعوه بنفسه.

– ولا فائدة من الندم!

– ولا فائدة من الندم.

– لعلك دُعيت إلى بيوتٍ أخرى خرَّبها وذهب؟

– يكاد عملي هذه الأيام يقتصر على شراء مُخلفاته.

– الحق أني في مسيس الحاجة إلى نقود.

– لن تحصُل على شيء يُذكَر.

– افحص من جديد.

– لا فائدة، ولكن هناك فكرة لا بأس بها.

فتساءل الرجل بلهفة: ما هي؟

تُوجَد تحفة قديمة لم يُصبها التدمير.

– أين هي؟

فأشار إليه قائلًا: هي أنت!

– أنا؟ .. أجُننت؟

– هي التحفة القديمة الوحيدة التي لم تُمسَّ.

– أتريد أن تشتريني كالأشياء القديمة؟

– خير من الموت جوعًا.

– يا لك من مهذار!

– لا أعرف الهذر في العمل.

– اغرُب عن وجهي.

– خير من أن تموت جوعًا.

– سأبدأ من جديد.

– لعلك تأمُل في مساعدةٍ من شريكك الغني؟

– أتعرِفه أيضًا؟

– حكايتكما ذائعة في سوق الكانتو!

– هلكنا!

– كلَّا، فإن أهل المهنة الواحدة لا يخون بعضهم بعضًا.

– إذن فلأنتظره.

– ولكنه قُبض عليه في السوق السوداء.

– يا للكارثة!

– لم يبقَ لك إلا أن تُوافق على رأيي.

– إني أحتقر رأيك.

– سأُنفِّذه أردتَ أم لم تُرِد!

– أتركَنُ إلى القوة اطمئنانًا منك إلى ضعفي وشيخوختي؟

– إني أتعامل عادةً مع الأشياء القديمة.

– سأُقاوِمك والويل لك.

– افعل إن استطعت.

وتقدَّم منه بثباتٍ فرفعه إلى كتفه كطفل، ومضى به إلى الخارج غير مُبالٍ بحركاتِ ساقَيه ولا بقبضاته الواهنة المُنهالة فوق ظهره.

٩

دفع التاجر العربة والرجل راقد فيها بين الأشياء القديمة. وكان يصيح بصوته الأجش بين آونةٍ وأخرى «روبابيكيا». وبلغ طريق النيل لدى هبوط المغيب. وبدا الرجل مُستسلمًا ولكن عينَيه تحوَّلتا تلقائيًّا نحو كورنيش النيل. وخطف بصرَه شيء يلمع. أحدَّ بصرَه فرأى اللؤلؤة تتراقص فوق صدر المرأة الفاتنة. كانت تسير على مهلٍ كأنما تبحث عن رجلٍ جديد ودبَّت فيه حيوية مِن لا شيء فانتظر اقترابها على لهف. ولكنها حاذته ومرَّت به دون أن تلتفِتَ نحو العربة. مضت في الاتجاه المُضاد تضيء لؤلؤتها قتامة المغيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤