كيفية عدم القيام بعملية التدريس

دخلت إلى الفصل في اليوم الأول وأنا أرتدي سترة البدلة القديمة الوحيدة التي كنت أمتلكها، وكان القسم حينها يتطلع إلى الفوز بمدرسين مساعدين جدد يتسمون بقدر من الحرفية، كانت سترة البدلة قديمة جدًّا، وقد ارتديتها وأنا شاب مراهق صغير في يوم زفاف أخي، ومرة أخرى أثناء حضوري إحدى الحفلات الراقصة في الكلية، ثم لم أفكر في ارتدائها مرة ثانية بعد ذلك؛ لأنها كانت مثيرة للضحك بالفعل، كما أنها جعلتني أشعر بإحساس ثقيل طوال عَقد من الزمان (أوه، حسنًا، أذكر أن ذلك هو ما أحسست به أول مرة)، لكنني الآن لا أقوم بتثبيت الأزرار، وفور دخولي الفصل فإنني أسارع بخلع السترة، ثم أضعها فوق ظهر المقعد، وبعد ذلك أبدأ في النظر إلى طلبة الكلية. كان البعض منهم شبابًا صغارًا، ولا تبدو عليهم المعاناة أو العمل في الفلاحة، حيث كانت الكلية تقع عند الحافة الشرقية لأجمل مزرعة. كان معظم الطلبة الأجانب من آسيا، وكان بعض الطلبة أكبر مني سنًّا، وكانوا جميعًا يجلسون أمامي في صفوف، كانت الصفوف تصيبني بالصداع وتشعرني بالورطة. كنت أتجول ببصري في أرجاء الحجرة فأرى سبورة النشرات المصنوعة من الفلين بجوار الباب، كانت السبورة مليئة بالإعلانات عن تأشيرات السفر وبطاقات الائتمان والإجازات الخاصة، فمشيت — ذات يوم — حتى وصلت إلى آخر الحجرة دون أن تتوقف أعين الطلبة عن ملاحقتي، وقلت فجأة: ليس هذا مكانًا للإعلانات.

سحبت الإعلان من فوق الحائط، وألقيت به داخل سلة القمامة، ثم تقدمت نحو الأمام وسط أعين الطلبة التي ما زالت تلاحقني، ابتسمت، وكان أول سؤال وجهه لي أحد الطلبة وهو يشير إلى بقية الإعلانات: ألَا يجب أن تلقي بكل ذلك في سلة المهملات؟

•••

منذ سنوات مضت لم أكن دائمًا أشعر بارتياح في مواجهة الطلبة، وكان الخوف ينتابني في البداية، وعندما بلغت الثالثة والعشرين من عمري، وأوشكت على التخرج، وأصبح باستطاعتي مواصلة التقدم والحصول على عمل مناسب، حدث كسر في قدمي فلم أستطع العمل، أخبرني واحد من المدرسين بالجامعة الذين أعرفهم أنه يستطيع مساعدتي، وكان من المفترض أن أعمل مساعدًا له في تعليم فصلين من الطلبة في مرحلة ما قبل التخرج، ولكن قبل موافقتي وجدت نفسي أبحث في القاموس عن معنى كلمة sinecure (وتعني الوظيفة العاطلة أو المنصب الذي لا يقوم صاحبه بأي عمل، أو يقوم بعمل لا يتناسب مع راتبه الكبير)، والتي لم أكن قد سمعت بها من قبل.

عرفت أن الكلمة نفسها تعني أيضًا مكتبًا يربح بدون موظفين؛ أي مكتب أو منصب يقدم المكافآت دون أن يسألك القيام بأعمال كثيرة، ودون أن يكلفك بأقل المسئوليات، وعندئذٍ راقت لي الفكرة، والأفضل من ذلك أنني اكتشفت أن الكلمة هي وصف دقيق ومعقول لحالتي، كما أنها تناسب احتياجاتي.

كنت معتادًا على الجلوس في آخر الفصل لمراقبة ذلك المدرس وهو يتولى مهام التدريس، وحدث أنني توجهت مرتين إلى مقدمة الفصل، حيث لم أتردد في التحدث إلى الطلبة والتفاعل معهم، وكنت دائمًا ما أتبادل الأحاديث مع المدرس بعد انتهائه من الفصل المسائي لفترات طويلة، عرَفت من خلالها بأنه لم يكن سعيدًا مع زوجته، كما أنه لم يكن يبدي اهتمامًا كبيرًا بمناقشاتنا الفلسفية ما دام هو بعيدًا عن بيته، وكنت — أثناء تلك الأحاديث الممتدة — أتقدم أحيانًا ببعض الآراء النقدية.

كان الوصف المناسب لمحاضراتي هو أنها محاضرات كارثية، وكانت حدة الكارثة تزيد أو تقل قليلًا بين محاضرة وأخرى، حيث كنت أتمتم وأتلعثم في الكلام. وفي محاولة مني لاستعادة الأحداث الماضية، والسيئة منها بالتحديد، فإنني لا أستطيع أبدًا نسيان تلك الطريقة التقليدية في التدريس التي قمت بها كما تعلمتها من أساتذتي، والتي لا تتخذ من التفكير منهجًا، والتي بدا أن الطلبة قد تأثروا بها قليلًا كما تأثرت أنا بها من قبل، لكنني انفجرت غاضبًا — ذات مرة — وأخبرت الطلبة بعدم وجوب استخدام حروف الجر دائمًا عند نهاية كل جملة. وأذكر أنني تحدثت مرة أخرى عن تهجئة الحروف دون أن يثمر حديثي أي فائدة، فعرفت في النهاية أنك لا تستطيع أن تعطي شيئًا لا تملكه، وأن واجب المدرس الحقيقي والوحيد، وبخاصة المدرس الذي يقوم بتدريس الكتابة، هو مساعدة الطلبة على اكتشاف ذواتهم، أما فيما عدا ذلك فلا يتعدى كونه تسلية ولهوًا، أو نوعًا من أنواع الخبل، أو شيئًا شبيهًا بالنافذة المزينة في أحسن الأحوال.

قلت من قبل في كتابي The Language Older Than Words «اللغة أقدم من الكلمات»: إن كلمة «تعليم» هي اشتقاق من الكلمة اللاتينية e-ducere، والتي تعني التقدم للأمام أو الانطلاق، والكلمة نفسها تشير في الأصل إلى معنى القابلة التي تشرف على الولادة. وحين رحت أقارن بينها وبين جذور كلمة seduce بمعنى يغري أو يغوي، والتي هي أكثر قربًا من المعنى، ولكن مع اختلاف ملحوظ، وجدت أن كلمة educe تعني أن يستنبط الإنسان فكرة أو يستخرج معنًى من المعاني، وهي بذلك تعني التقدم للأمام. أما كلمة seduce بمعنى يغري أو يغوي فتعني التضليل. وكنت أرغب لو أنني تحدثت عن ذلك مع أولئك الطلبة منذ سنوات مضت، كما تمنيت لو اقترحت عليهم التفكير في ذلك الاختلاف في نهاية الأسبوع وهم يتحدثون مع أقرانهم من الجنس نفسه، ولربما عبر أحدهم عن رغبته في استنباط ما بداخل الآخر الذي يرد بدوره قائلًا: ابتعد عني.

رغبت أكثر لو أنني اقترحت (لو أننا أمناء مع أنفسنا بما يكفي) أن نسمي أقسام التعليم لدينا بأقسام الإغراء؛ لأن ذلك ما يفعلونه بالفعل، إنهم لا يعلموننا اكتشاف ذواتنا بقدر ما ينجحون في إبعادنا عن أنفسنا.

ومن ناحية أخرى قد يكون من الأفضل أنني لم أتحدث في ذلك الشأن، فلقد عانيت كثيرًا من المشاكل أثناء حديثي عن حروف الجر وعن التهجئة، فمن يعرف نوع المشاكل التي كنت سألاقيها إذا ما كنت قد بدأت الحديث عن العلاقة بين ما يحدث في حجرات الدرس وبين الإغراء.

•••

إن أكثر أجزاء التكنولوجيا أهمية في أي فصل دراسي هي عقارب الساعة، إنهم يسعون — دون وعي منهم — في تعليم ملايين الطلبة الطريقة نفسها في التوسل وهم ينظرون إلى عقارب الساعة قائلين: «نبتهل إليك يا إلهي أن تجعل عقارب الساعة تتحرك بسرعة أكبر.»

•••

أصبحت بعد سنوات قليلة من تخرجي مدرسًا خصوصيًّا ذائع الصيت في «كلية إيداهو الشمالية» North Idaho College؛ لأن الثقة بالنفس تلعب الدور الأهم في التقدم في العمل وفي إحراز الشهرة بطريقة تفوق ما يحدث في الألعاب الرياضية، وإذا لم تؤمن بقدرتك على التقدم في عملك فأنت في الغالب لا تريد، وإذا كنت مؤمنًا بتلك القدرة فسوف تتقدم حتمًا، وإذا كنت ما تزال راغبًا في عدم التقدم فعليك أن تعرف بأن وعيك الذاتي قد تلاشى. لقد اعتمد عملي بالتدريس تقريبًا على الإطراء والثناء، وهذا لا يعني أبدًا أنني لم أقدم النصيحة الفنية، ولا يعني أنني كنت مبدعًا وحسبُ في كيفية تقديم النصيحة، لكنني كنت حريصًا على التأكد من أن كل ما نتحدث عنه في الدرس كان يحمل الرسالة نفسها؛ وهي أنك متسلق بارع. وعلى سبيل المثال فإنني لم أقل أبدًا: «إن طريقة تفكيرك منافية للأخلاق أو الذوق أو المألوف.» في حين أنني كنت أقول مثلًا: «إن قوة قدمك مدهشة لأنك ترفعها بقوة في الهواء، وحالتك الجسدية والعقلية لا تساعدك، ولكن عندما تتناسب حالتك العقلية مع قوة قدمك فإن أحدًا لا يستطيع عندئذٍ أن يقهرك.»

لكنهم راحوا يركزون على قوة أقدامهم بدلًا من التركيز على ما يتمتعون به من عقل.

وأنا بالطبع لم أكذب أبدًا، إن خدعة التدريس من خلال الإطراء هي التي لا ينبغي أبدًا أن تقوم بها، فلقد اعتاد الناس كثيرًا على النقد ولم يعتادوا على الإطراء والثناء، حيث إن الإطراء يصيبهم بالارتياب، كما أنهم يشمون رائحة الكذب بسرعة، وإذن فإنه من الأفضل كثيرًا، ونحو بذل مجهود أقل، أن تبحث ببساطة عن الأشياء المقنعة والحقيقية، وتتبنى من خلالها دروسك بدلًا من المحاولات المضنية في إعادة بناء المصداقية التي تم فقدها أثناء عملية الإطراء والمديح الزائفة التي تحتاج إلى إثبات، بالإضافة إلى أن قول الحقيقة الإيجابية يساعد في التركيز على الأشياء المهمة التي تخص الطلبة ومهاراتهم، مما لا يحدث في حال نقص مصداقيتك.

لقد منعت طلبتي من الحديث عن أي شيء سلبي في أي مجال من المجالات، وكنت أقوم بإغرائهم بالسؤال مثلًا عن كيفية حبهم لحالة الطقس في أيام شهر مارس المليئة بالرذاذ، وعندما كانوا يقدمون الشكوى ويعترضون على منعي إياهم من الحديث عن الأشياء السلبية، كنت أسمح لهم بالتعبير عما يريدون، وكانوا يخبرونني عن الذي يحبونه في حالة الطقس.

كانوا يحتجون في البداية على زيف ذلك المنع الواضح مما جعلني أحاول تعليمهم مرة أخرى عدم البوح بشكواهم إلا حين نكون خارج قاعات الدرس، لكنني كنت أعرف أن ذلك الطقس البائس دائمًا ما أصابني بالصداع، ومثل كل زملائي حينئذٍ كنت أتذمر من البرد والرطوبة وعدم قدرتي على تثبيت أقدامي فوق الأرض، ومن الناحية الأخرى كان طلبة كلية إيداهو الشمالية يتحدثون عن المميزات التي يتمتعون بها أثناء ذلك الجو، كانوا يركزون على الجوانب الإيجابية.

كانوا يتقدمون أيضًا بشكل جيد، وكان كل طلبتي المنتخبين مؤهلين لتمثيل بلدهم، وأصبحوا جميعًا أمريكيين بامتياز أو أمريكيين محترمين، كما أصبح أحدهم بطلًا قوميًّا.

•••

سألني شخص ما ذات مرة أثناء الحديث عن السبب وراء إصراري على ذكر الجوانب الإيجابية عند الحديث مع طلبتي، رغم أنني ناقد بلا حدود لأولئك المشرفين على إدارة أمورنا الثقافية الذين يقتلون كل شيء جميل في كوكبنا، فأجبت في الحال قائلًا: القوة، إذا ما امتلكت القوة أو السلطة التي تستطيع بها السيطرة على الناس، فإن مسئوليتي عندئذٍ تجبرني على استخدام هذه القوة في مساعدتهم فقط، ويصبح من واجبي أن أقبلهم وأثني عليهم وعلى ما هم عليه، لكنني إذا رأيت شخصًا يسيء استخدام القوة ويقوم بإيذاء شخص آخر فإنه من صميم مسئوليتي في مثل تلك الحالة أن أعمل على إيقافه باستخدام كل الوسائل الممكنة والضرورية.

•••

سارعنا بعد فترة وجيزة بالانتشار داخل الفصول الخالية من الطلبة، وقمنا بنزع كل ما أمكننا رؤيته من إعلانات أو ملصقات، كما قام الطلبة على مدى أسابيع تالية بغلق المغلفات البريدية؛ تمهيدًا لإعادتها إلى أصحاب الإعلانات، وفي النهاية امتلأت سلات المهملات عن آخرها.

•••

بعد سنوات كثيرة، عندما دخلت الفصل بصفتي مدرسًا حقيقيًّا، وليس تابعًا، في جامعة واشنطن الشرقية، قمت بتغيير اسم المنهج من «مبادئ التفكير والكتابة» إلى «التحرر الروحي والفكري والفلسفي واكتشاف أروع ما في الإنسان»، ثم عملنا على تغيير نظام المقاعد وقمنا بترتيبها على شكل دائرة بدلًا من الصفوف المتراصة، وكنت كلما مشيت في الفصل لا أتوقف عن سؤال الطلبة والطالبات عن الأشياء التي يحبونها، وقد أخبروني عن حكايات تخص عائلاتهم، وحكوا لي عن الزراعة وعن الفن وعن حبهم للرياضة، فتعلمت أكثر مما تعلمت من تفاصيل حياتهم أنهم حكاءون ورواة بطبعهم، فلم يكونوا حقًّا في احتياج لتعليمهم كيفية الحكاية، لكنهم كانوا بالأحرى في حاجة لمن يساعدهم في أن يكونوا ما هم عليه بالفعل، ولقد أدركت أيضًا، وبسرعة، أن طلبتي ممن يدرسون الكتابة لا يحتاجون كثيرًا لمن يعلمهم فن الكتابة بقدر احتياجهم أن يصبحوا ما هم عليه داخل أنفسهم. إنهم يعرفون كيف ومتى يبدعون القصة، وكيف يسردون التفاصيل المناسبة في الوقت المناسب، كما يعرفون أهمية أن تثمر القصة بعض النتائج والأفكار، وكل ذلك كان واضحًا في حكاياتهم الأولى التي أخبروني بها عن الأشياء أو الأشخاص الذين أحبوهم. وكان من الواجب أن يدركوا المواهب التي يمتلكونها، وأنا لم أستطع اكتشاف مواهبهم من فراغ، ولكن يمكنني القول بكل بساطة وعن يقين أنهم موهوبون بالفعل، ولم تكن مساعدتي لهم سوى نوع من التوجيه.

•••

في أول يوم أعمل فيه بالتدريس، بصفتي محترفًا، أخبرت الطلبة عن مدرس الاقتصاد الذي كان يدرس لي في يوم من الأيام، وعما أخبرنا به قائلًا: «لا تصدق أبدًا أي شيء تقرؤه، ولا تصدق إلا النادر جدًّا مما تفكر فيه.»

قلت لهم أيضًا بأنه كان واحدًا من أفضل المدرسين الذين تعلمت منهم، ثم توقفت لحظة وسألتهم: هل قام أحدكم طوال عمره بنزهة فوق خطوط السكك الحديدية؟ وهل واصل السير حتى عرف بأنه بعيد جدًّا عن المدينة؟ وهل أخرج ساعته بعد ذلك من جيبه ووضعها فوق الطريق؟ وهل — بعد أن خطا خطوات كثيرة — ما زال يسمع تكات الساعة بينما يتدفق الدم من أذنيه؟ وهل يتنحى جانبًا عندما يقترب القطار تاركًا للرياح فرصة العبث بشعره دون أن يتوقف عن الارتعاش من شدة الخوف وعدم القدرة على التنفس حتى تمضي آخر عربة من القطار؟

هل رأيت النجوم أو القمر في الصحراء؟ هل نمت عاريًا فوق الأرض المبللة؟ ومتى كانت آخر مرة سِرْت فيها حافي القدمين فوق الجليد وأنت تراقب تساقط النجوم، أو وأنت تستحم في نهر بارد وسريع الجريان؟ متى كانت آخر مرة استمعت فيها إلى المزمار في لحظات الفجر، كان أصحاب تلك الأسئلة هم أمهر وأفضل المدرسين الذين قابلتهم.

لكنني سأخبرك بالأفضل، لقد اعتدت أن أصطحب معي كلبًا صغيرًا مدللًا، كان الكلب سريع الحركة، وكانت أذناه ترفرف ولسانه يتحرك أثناء جريه الدائم في كل مكان، ولم يكن ذيله يتوقف عن الحركة أبدًا مهما كان يفعل، ولقد اعتاد على أن يتجاهلني. وكان الدرس الذي تعلمته من الكلاب هو الاعتراف بصحة القواعد، ثم تجاهلها وعدم الالتزام بها، إن كل شيء يفعله الكلب إنما يفعله بحيوية وحماس، وبطريقة مبهجة ومفعمة بالحياة، حتى إنني لا أستطيع أن أتخيل مدرسًا أحسن من ذلك.

التقط الطلبة أنفاسهم بعمق بعد أن استمعوا لي، ولم يستطيعوا التأكد من استيعاب ما سمعوه مني، كما أنني أيضًا لم أستطع أن أفهم ردود أفعالهم.

قلت: إن العاطفة والحب والكراهية والخوف والأمل هي المصادر الرئيسية التي تثمر كتابة أفضل، كما أن الحياة نفسها تتشكل من تلك المعاني والانفعالات، وهكذا فإننا نستطيع أن نتساءل قائلين: وماذا تعني الكتابة بدون الحياة؟ الكتابة والحياة والحياة والكتابة، كلاهما يشكل المادة التي تصنع الآخر.

كنت كذلك أحذرهم قائلًا: إذا كنتم قد جئتم إلى هنا من أجل السمعة الطيبة، ولأجل الافتخار بانتمائكم للجامعة، وللبحث فقط عن الجمل البلاغية والنقاط الفاصلة، ومجرد تدوين المقالات القصيرة، فلتعلموا أن هذا الفصل سيكون مصدرًا كبيرًا للتخلف لي ولكم، وعائقًا لأي نوع من التقدم، وإذا لم يكن لديكم الاهتمام الكافي والرغبة في الوصول إلى حافة الخيال الصعبة، حيث الموهبة والشعور بالنشوة، فلن تقدروا على التحرر من قيود الزمن ومن الأوهام المترسبة داخل وعي وإدراك كلٍّ منكم، وفي هذه الحالة فإنه يمكنني القول بكل أمانة إنه من الأفضل لكم أن تبحثوا عن فصل آخر، وإذا حدث هذا يكون كلانا قد قدم خدمة كبيرة للآخر، ولكنني أرجوكم ألا تسارعوا بالذَّهاب إلى مكتبِ رئيسي؛ لأنني متفق معه على السماح لي بأن أفعل ما أريد داخل الفصل، على أن يضمن لي نقلكم إلى فصل آخر إذا لم تعجبكم طريقتي في التدريس، أعرف أن طريقتي لا تروق لكل شخص، والحقيقة أن كونها كذلك لا يعني بالضرورة أنها تمثل انعكاسًا لحالتي أو لحالتكم، وإنما الأمر لا يتعدى كونه مثل امتلاكك لكتابين فوق رف المكتبة؛ أحدهما أحمر اللون، والآخر أخضر، إنهما فقط غير متناسقين، ولكن إذا أردت أن تركب الموجة، وإذا سمحت للموجة أن تركبك، وإذا أردت أن تكتب من أعماقك ومن داخل روحك، فعليك أن تمد يدك بعمق إلى فراء النمر والإمساك به بقوة؛ لأننا جميعًا في حاجة لجولة مليئة بالمخاطر.

لم يتحرك أحد من مكانه.

عرَفت من خلال خبرتي، وكما كتب «كارل روجرز»، أن التعليم الوحيد الحقيقي يتمثل في اكتشاف الذات وفي التعليم المناسب للذات. إن وظيفتي لا تعني القيام بتعليمك أي شيء، وإنما كيفية خلق الجو المناسب الذي تستطيع من خلاله أن تعلِّم نفسك.

إن إحدى المهارات الضرورية في أيامنا هذه المليئة بالأساطير البالية والمفرطة في العنف، هي اكتساب القدرة على التفكير الناقد، ومساءلة السلطات، والشك في كل شيء.

قالت صديقتي جانيت أرمسترونج: «لدينا جميعًا أنظمة من السلوك الثقافي المكتسب قد أصبحت مع مرور الوقت جزءًا لا يتجزأ من اللاوعي عندنا، وتلك الأنظمة تلعب دورًا مهمًّا في الطريقة التي ننظر بها إلى العالم، كما أنها تؤثر في تصرفاتنا، وفي طريقة كلامنا، وفي لغة أجسادنا، والكلمات التي نستخدمها، وأيضًا في الطريقة التي نستجمع بها أفكارنا. ولا بد لنا من العثور على طرق عديدة للوقوف أمام استمرار ذلك الدور الذي تلعبه أنظمة السلوك هذه، لكن أصعب الأشياء التي يجب أن نفعلها هو أن نرى الأشياء من منظور مختلف.»

استطردت صديقتي قائلة: «يجب أن أعلِّم نفسي باستمرار تفكيك وتحليل ما أعتقد فيه، وجعله على الطريقة التي يجب أن يكون عليها، وأن أعمل باستمرار على تحرير عقلي مما أعتقد فيه، ويجب دومًا ألا تتوقف معلوماتي عند حد معين حتى تزيد رقعة المعرفة والإدراك عندي. وأستطيع القول بكلمات أخرى إنك لن تكون راضيًا أبدًا لأنني راضية، مما يجعلني أبدو مستاءة، لكن الأمر لا يعني ذلك، وإنما يعني أنك لن تكون راضيًا أبدًا وأنت تفكر بأنك عرَفت نتيجة الأشياء، وأن تسأل دائمًا ما يدور في رأسي أنا. إنني دائمًا أقول لطلبتي الذين يدرسون فن الكتابة أن يبدءوا، بل ويتمسكوا بموقفهم عندما يقولون كلمة «هراء» للتعبير عن استيائهم، بأي شيء، وأن يكونوا فرحين وسعداء وهم يعبرون عن أنفسهم بترديد تلك الكلمة؛ لأنه في معظم الأوقات يصبح من المخيف أن نتبنى التصرفات والسلوكيات القديمة أو الخلافات القديمة التي يجب ألا نعمل بها ونعتقد فيها، وإنما علينا معرفتها، وهكذا نتواصل مع تلك الأنماط والسلوكيات لأنها مألوفة.»

قلت: من المقبول جدًّا والرائع أن تختلف معي، ومن الجميل أن تختلف مع أي شخص، وعليك فقط أن تكون مقبولًا ومحبوبًا وتحظى بالاحترام طوال الوقت بالطريقة التي توافق أنت عليها، يجب أن تكون رأسك مليئة بالأفكار، وأن تكون حكيمًا في رفضك.

سادت حالة من الصمت، قلت بعدها: أيريد أحدكم أن يسألني فيما قلت؟

رفع أحد الشباب يده فأشرت له بالحديث فقال: قلتَ كلمة «هراء» في الفصل.

– نعم.

– هل تقولنَّها مرة أخرى؟ فأنا لم أسمع مدرسًا يقولها من قبل!

قلت بلا تردد: «هراء».

•••

منذ سنوات مضت استغرقت في حديث طويل مع عازف جيتار كثير الأسفار، وكان يعمل مع فرقة موسيقية هي الأفضل كما قال. وبالعودة إلى الستينيات نجده قد وقف على خشبة المسرح مع كثيرين؛ بدءًا من «كارلوس سانتانا» إلى «راندي كاليفورنيا» إلى «جيمي بيج»، لكنه قال بأن عازف الجيتار الذي علمه معظم تقنيات العزف كان عجوزًا وأستاذًا في موسيقى الأغاني الزنجية، وقد قابله عندما كان طفلًا قائلًا له: أرغب في أن تعلمني العزف على الجيتار.

فأجابه الرجل: أستطيع أن أعلمك كل شيء أعرفه في خمس عشرة دقيقة، ثم عليك بعد ذلك أن تعود إلى بيتك لتمارس ما علمتك إياه طوال خمسة عشر عامًا.

أصبح من الواضح جدًّا بالنسبة لي أن كلمات العازف العجوز تنطبق تمامًا على الكتابة، وعلى كل من يرغب بالتفوق في عمله، كما أنها صالحة ومناسبة للحياة نفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤