من أنت للمرة الثانية؟

ماذا تعني عشر أو خمس عشرة سنة؟ عليك بالتفكير في الأبدية! لا أجد إجابة لكنني أعرف أن الأبدية هي كل دقيقة تمر!

نيقوس كازانتزاكي

***

سألت وأنا أتجول داخل الفصل: كم واحدًا منكم سيكون هنا الليلة؟

رفع معظمهم أياديهم وكانت تلك إشارة جيدة.

من سيكون هنا؟

ظلت أياديهم مرتفعة، ورفع البعض حواجبه، ثم رفع اثنان آخران يديهما أيضًا.

من الذي سيكون هنا؟

تحركت حواجبهم معبرة عن التجهم والعبوس.

من أنت؟ من أنت؟

لم يقل أحد منهم أي شيء.

من أنت؟ إنني أريد حقًّا أن أعرف.

ظلوا صامتين دون أن يجيب أحد بأي شيء، فبدأت أغني لجذب الانتباه لكنهم ظلوا على ما هم عليه، ثم حاولت مرة أخرى قائلًا: عندما تقرءون كتابًا أو تذهبون لقضاء نزهة أو للقيام بممارسة الحب، أو حتى حين تأتون إلى الفصل، من يكون الشخص الذي يقوم بتلك الأفعال فعليًّا؟

أجاب أحد الطلبة بخجل قائلًا: أنا.

ضحك بعض الطلبة الآخرين بما يعني موافقتهم على ما قاله زميلهم.

من يكون ذلك؟

قال آخر: أوه، لا، إنه يفعل ذلك الشيء حيث لا يهم ما تقوله، إنه يواصل توجيه الأسئلة إليك، عليك الفرار من أجل حياتك.

قلت: تلك هي المسألة، من الذي كان عليه أن يفر بحياته؟

أنا.

ساد مزيد من الضحك.

ولكن من أنت؟

لا إجابة.

قلت: أوه، أووه، إنهم لا يقدِّرون انطباعاتي، لقد تحدثنا كثيرًا في هذا الفصل عن سؤال الكينونة. منذ سنوات قليلة مضت قرأت كتابًا بعنوان «الأرض المنبسطة» للكاتب المعروف «إدوين أ. أبوت»، وقد وصف العالم في بعدين فقط مثل قطعة من الورق. إن النساء الذين يعتبرونهن أقل شأنًا في عالمنا يسرن في خطوط مستقيمة، ولدى الرجال جوانب أكثر، وكذلك أركان وزوايا أكثر اعتمادًا على تصنيفهم الاجتماعي، كلما امتلكت أركانًا وزوايا أكثر امتلكت تقديرًا اجتماعيًّا أعلى، فالأشكال الهندسية المخمسة تقابلها نظرات تقدير أعلى من المربعات، والتي بدورها يكون النظر إليها بتقدير أعلى من المثلث، إنه لشيء مثير حقا! إنهم يمتلكون البيوت والعلاقات التي من خلالها يتفاعلون بعضهم مع بعض، كما أنهم يمتلكون رؤيتهم الخاصة لكنهم لا يستطيعون فهم كل شيء وإدراكه فيما وراء ذلك، فإذا أردت أن تنصب وتدًا فإنهم لن يستطيعوا رؤية ارتفاعه لكنهم يستطيعون فقط أن يتجولوا حول حافته، ولا يقدرون على تحديد ارتفاع الوتد ولو بالتقريب؛ وذلك لأن فكرة ومفهوم الارتفاع في الحقيقة لم تخطر ببالهم، عندئذٍ يقوم بوصف خط الأرض حيث العالم برمته يتكون من خط، وكذلك الفراغات التي تشبه عالمنا أكثر، والعوالم بأبعاد أكثر من ذلك، غير أنني أريد التحدث عن نوع المخلوق المحدد الذي يمكنه العيش في تلك الأرض المنبسطة التي كانت عبارة عن نقطة سوداء صغيرة عندما تشكلت للمرة الأولى، ثم تحولت مع الوقت إلى دائرة أكبر، وتغير لون جلدها حتى وصلت إلى وقت معين فاكتسبت ألوانًا مختلفة، حتى أصبح شكلها مسدس الزوايا والأضلاع، وعند النهاية تحولت إلى الشكل الدائري مرة أخرى، وصلدة ومشرقة، عند الاقتراب من الموت تفقد ألوانها وتصير شاحبة وعليلة حتى تتلاشى وتصبح لا شيء.

راحوا يحدِّقون فيَّ، ربما لاعتقادهم بأنني كنت أعيد التمرين نفسه الذي توهموا فيه بأنني من كوكب المريخ.

قلت: نعم، وبالطبع فإنني أصف القلم وهو يتحرك فوق قطعة من الورق حيث يعيش شخص ما في الورقة ولا يدرك سوى بعدين فقط، إلا أنه يدرك الهدف كما يحدث مع الطفل، أو نسيان كل شيء كما يحدث في الشيخوخة، لكن الحقيقة هي أن كل ما كتبه القلم كان موجودًا طوال الوقت.

قال أحدهم متسائلًا: وما الهدف؟

الطفل الرضيع، النهاية الأخرى هي النهاية القديمة.

لا، ما الهدف من وراء قولك هذا؟

ماذا لو أننا نمضي في الطريق نفسه.

وهل تعتقد حقًّا في ذلك؟

بالطبع لا، كل شخص يعرف أن مكونات أجسادنا لا توجد حقيقة حيث نعيش، إن أجسادنا هي نوع من أنواع مستقبلات التليفزيون أو الراديو، وعليكم أن تتخيلوا بأنكم لم تشاهدوا التليفزيون أبدًا من قبل ثم سرتم داخل حجرة وفوجئتم به، فإنكم قد تعتقدون حينها أن أناسًا من ذوي الحجم الصغير يجرون بداخله، وأن بداخله مسرحًا صغيرًا وعالمًا صغيرًا.

وعلى الرغم من ذلك قلت مستطردًا: الغالبية لا تتذكر، ربما نحن لا نفكر في أجسادنا إلا حين استخدامها فقط، لكن أجسادنا عبارة عن أجهزة استقبال معقدة تستقبل طاقات في كل مكان، مثل موجات الراديو والتليفزيون التي تحيط بنا من كل اتجاه ولا نستطيع إدراكها إلا بعد أن تلتقي الموجات مع ترددات جهاز الاستقبال.

أتعني أن الفراغ يقودنا إلى الوجود؟

لا، ذلك يُعَد أمرًا سخيفًا، بل إن الحياة نفسها تتراقص وتتفجر من حولنا وعند التقاء الموجة الصحيحة مع الوعاء الدموي الصحيح فإنك تتحول إلى شخص حقيقي أو إلى شجرة أو ضفدعة وربما إلى صخرة، كلٌّ منا يظهر بطريقته الخاصة.

وهل تعتقد حقًّا في ذلك؟

بالطبع لا، وإنما الحقيقة تكمن في أنني شيء غير مرئي ولا وزن له، شيء يُسمَّى الروح، وتلك الروح تعيش في مكان ما خلف النجوم يطلقون عليه اسم الجنة، أبدأ بالتشكل على شكل جسدي كنوع من الاختبار لتحديد ما إذا كنت سأتبع القوانين التي شرعها الملك (وهنا لا أعني ألفيس بريسلي)، وإذا التزمت باتباع تلك القوانين فإنني سوف أعيش في الجنة إلى الأبد وأنا أعزف على آلة الهارب وأتناول طعامًا سماويًّا. يعتقد بعض دارسي الإنجيل بالمناسبة أنه يفرز مادة تقاوم الحشرات. أما إذا فشلت فإنني سوف أحترق للأبد، ولن أكون متأكدًا من الشيء الذي يحترق، هل هو تكويني الجسدي أم الروحي، وإذا كانت الروح فإنني أعتقد بأن النار أيضًا ستكون غير مرئية، خاصة وأن جدلًا كبيرًا حدث منذ آلاف السنين في الكنيسة الكاثوليكية عما إذا كانت نار الجحيم روحية أم جسدية.

ظل الجدل محتدمًا بين الطرفين، واتفق كلاهما على ألا يتفقا، وكان — ولا يزال — كل طرف على يقين بصحة رأيه.

لقد قلت بأنك لست مسيحيًّا، وهكذا يبدو لي أنك لا تعتقد في مثل تلك الأشياء.

وتساءل آخر قائلًا: هل قال بأنه ليس مسيحيًّا؟

توقفنا لحظة في انتظار أن ينهار المبنى أو على الأقل في انتظار أن تنقطع الكهرباء.

لا، أنا لا أظن أن ذلك سيحدث أيضًا، كلنا يعرف أن كينونتك هي الذات داخل حقيبة من جلد بشرتك، وحين أقف على أطراف أصابعي يصبح كل شيء داخل الحقيبة هو أنا، أو على الأقل معظم الأشياء إن لم تكن جميعها، فإذا ما أصابتني الإنفلونزا فإن فيروسات البرد ليست مني، ولن أكون متأكدًا إذا ما كانت البكتيريا في معدتي هي أنا أم لا، قد تكون كذلك إذا كانت مفيدة لي، وعندئذٍ تكون جزءًا مني، وإذا لم تكن كذلك فهي ليست مني.

وماذا عن الطعام الذي تناولته منذ ساعة مضت؟ هل ذلك الطعام هو أنا أم لا؟ أما الدم الذي يجري في عروقي الآن فهو دمي على ما أعتقد، ولكن إذا ما حدث لي نزيف فإنه ليس دمي، ومنذ لحظة بداية النزيف يصبح شيئًا لا ينتمي لي.

منذ سنوات قليلة مضت أزالوا جزءًا من أمعائي، وظللت أتساءل بعد ذلك عن الجزء الذي هو أنا، هل هي الأمعاء أم بقية أجزاء جسدي؟

إذا كانت بقية أجزاء جسدي هي أنا، فإلى أي مدى تكون أمعائي ليست جزءًا مني؟ ربما بعد أن أزالوا جزءًا منها، إذا ما اعتبرنا أن كل شيء في العالم خارج جسدي ليس مني، وبالمثل فإن أحدًا منكم ليس مني ولا أحد بينكم هو أنا.

قال أحد الطلبة: ولكن، ماذا عن ذكرياتك بشأننا؟ هل تكون تلك الذكريات جزءًا منك، وهل تكون هي أنت؟

أجبت قائلًا: نعم، أعتقد أنها كذلك فيما عدا تلك الذكريات عن بعض الناس التي تشبه كثيرًا تلك الفيروسات التي ذكرتها.

قال آخر: وماذا عن الهواء الذي أتنفسه ثم ألقي به خارج رئتي ثم تتنفسه أنت؟

قالت امرأة: أحيانًا أفكر أنا وأختي في الأشياء نفسها في لحظة واحدة، حتى حين نكون في أماكن مختلفة وبعيدة، كيف تفسر ذلك إذن؟

قال واحد من الرجال: إنها مجرد صدفة.

أضافت المرأة: لكن ذلك يحدث طوال الوقت.

قال آخر: ذلك لأنكما نشأتما معًا في بيت واحد ومكان واحد، وتشاركتما المفاهيم والخبرات نفسها.

قلت: مثل الآلة.

– نعم، حسنًا.

أضفت قائلًا: نسيت أن أقول لكم بأنني أفكر جديًّا في أننا لا شيء أكثر من آلات وماكينات تعمل على تكاثر الجينات، وأن أي شيء آخر إنما هو شيء ثانوي.

– أنت لا تعتقد في ذلك.

– أنت على حق، نحن فعلًا مجرد شبكة من العلاقات والتجارب والخبرات، إنني مجرد تقاطع لكل شخص في الفصل في هذه اللحظة من خلال كل شيء حدث لي ومن خلال كل نفس أتنفسه وكل كلمة أقولها وكل قطعة طعام أقوم بتناولها، إنني لست شيئًا على الإطلاق، إنني مجرد عملية، لا، ولست حتى كذلك، إن لغتنا لا تستطيع أن تصفني لأن الكلمات تتطلب اسمًا وفعلًا.

سألت امرأة أخرى: ماذا يحدث إذا قمت بممارسة الجنس واحتويت شخصًا ما بين جسدك؟ فهل يكون عندئذٍ جزءًا منك؟

قال آخر: لدي ذكريات لا تفارقني منذ قرأت لتلك المرأة التي كتبت كثيرًا عن الاغتصاب، لقد تأثرت بشدة وظلت التفاصيل عالقة بذهني، وما انفكت تطاردني كل يوم رغم أنني لا أريد لتلك الذكريات أن تكون جزءًا مني، غير أنني لا أستطيع.

قال الرجل الذي كتب عن الدجاج والبيضة: إذا مات ابني فإنني سأموت أيضًا، إنه جزء مني.

وقالت امرأة: لقد سمعت شخصًا يضحك في اللحظة التي ماتت فيها جدتي، وكانت هي عاشقة للضحك، وتعيش بعيدًا بآلاف الأميال، لكنني سمعت ضحكاتها، وكنت أعرف بأنها هي وأعرف بأنها ماتت.

انتهى الدرس وأسرع الطلبة بالرحيل ولم أكن في الحقيقة راغبًا لقول أي شيء إضافي طوال بقية الفصل الدراسي.

•••

مع بداية الفصل الدراسي التالي سأل الطالب نفسه قائلًا مرة أخرى: ما الهدف من وراء الدرس الفائت؟

ضحكوا جميعًا داخل الفصل، ثم فتحت عيني عن آخرهما وسألته: من أنت؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤