الثورة

لا بد أن تتحمل المسئولية عن الكيفية التي تتعامل بها مع الوقت، غير أنك في المدرسة لا تكون مسئولًا عن ذلك، فمن الواضح أنهم في المدرسة يساعدونك على تبديد الوقت، ومن هنا نستطيع القول مرة أخرى بأن المدرسة مثل الجيش أو السجن، ما إن تدخل إليهما حتى تجد نفسك في مواجهة كل أنواع المشاكل، ليست الحرية من بينها.

جيري فاربر

***

أرسلت لي إحدى صديقاتي في الأسبوع الماضي رسالتين بالبريد الإلكتروني موضحة فيهما وجهة نظرها في تفاصيل العملية التعليمية، وعبرت في الرسالة الأولى عن وجوب الإبقاء على نظام التعليم العام حتى المرحلة الرابعة، وقالت: أستطيع تذكر ذلك اليوم الأول وخوفي الكبير من ذلك السجن الذي لم يخبرني عنه أحد، والذي أمضيت في جحيمه ثماني سنوات، وما زلت أشعر بقوة أن وجوب الإبقاء على تلك السنوات المبكرة من التلقين كان دائمًا أحد أعظم أسباب قوتي.

أما الرسالة الثانية فقد قالت: كان لديَّ قليل من المدرسين الذين جعلوني أتراخى عن مباشرة أعمالي الإبداعية بطريقتهم البائسة، وبالعمل من خلال مؤسسات تعليمية منهارة لم تكن تعرف شيئًا عن التعليم الحقيقي، ولقد فقدت ثقتي مرات عديدة بذلك النظام الذي نشأت على كراهيته، وبالطبع فإنني أشعر بامتنان كبير لمعرفتي بأنني أكرهه، ولقد أحببت التعليم من المنزل دون الذهاب إلى المدرسة حيث لا توجد مثل تلك الضغوط، وتعجبت كثيرًا — وما أزال — من أولياء الأمور الذين يبعثون بأطفالهم للدراسة في تلك المنظومة المتهالكة وهم لا يدركون، وكان تبريرهم لذلك هو ما أثار عندي مزيدًا من الدهشة والتعجب، بالإضافة إلى أنهم كانوا يسلمون أطفالهم طواعية إلى من يسيئون إليهم، وذات صباح ذهبت مع صديقة لي لتوصيل ابنها إلى المدرسة، وكان ابنها في المرحلة الأولى، وأثناء عودتنا قالت لي بأنها شاهدت كثيرًا من الأمهات وهن يبكين لترك أطفالهن في المدرسة لأول مرة، إن الأمهات جميعًا يعرفن ذلك الألم.

قلت: ولماذا تبكي كل الأمهات في رأيك؟

لم تجبني على سؤالي.

يقود كل ذلك إلى سؤال أحاول أن أتجنبه وألا أطرحه في هذا الكتاب وهو: هل لا بد من التعامل مع ذلك النظام الفاسد أم علينا التمرد على كل شيء؟

تلقيت اليوم رسالة أخرى بالتزامن مع الرسالتين السابقتين، وكانت هذه الرسالة من صديقة أخرى، وكانت عن التعليم أيضًا، وقالت في رسالتها: من المهم النظر بعين الاعتبار إلى العملية التعليمية لأنها علاقة نجد أنفسنا جميعًا مجبرين على الدخول فيها، ويمكن رؤيتها على أنها مجاز أو قالب يصب في خدمة كل علاقاتنا الأخرى في السيطرة والهيمنة.

فكرت في ذلك كثيرًا في الفترة الأخيرة لأنني في العامين الأخيرين كنت أجلس في مقعدين؛ أحدهما في صف طلبة الدراسات العليا الراغبين في الحصول على الدكتوراه، وفي صف المدرسين الذين يعملون بطريقة رديئة، وأدركت أننا حين نتحدث عن التعليم أو الثقافة فإنما نتحدث في الحقيقة عن تعطيل وإبطاء علاقة السيطرة، وكنت أحاول جاهدًا في كل يوم أن أجد بعض الطرق التي تجنبني الشعور بالحزن، لكن ذلك لم يكن ممكنًا، وكذلك حاولت ألا أقمع روح التحدي، غير أنني لست أدري مدى نجاحي في تحقيق ذلك الأمر. حاولت في الفصل ألا أنفعل وألا أجبر طلبتي على فعل ما لا يرغبون مستحضرًا في ذهني السؤال الذي يتحدث عن الفرق بين القيادة والإجبار أو الإكراه، وعندما حاولت تفويض الطلبة ومنحهم السلطة نجحت في بعض الأحيان، وفشلت في أحيان أخرى، وخاصة في الفصول الأصغر. كنت أستطيع أن أكون نفسي تمامًا وكنت أقوم بعملية التدريس بالطريقة التي أُومن بها، وكنت أستطيع العمل على جعل الفصل فصلًا حقيقيًّا، ونجحت في جعل الطلبة يحبون ما يتعلمونه أو يعرفونه عن أنفسهم، لكنني اكتشفت أن كثيرًا من طلبتي، وبخاصة ممن هم في المراحل المتقدمة، لا يشعرون بالراحة تجاهي ويتعاملون معي بطريقة غليظة، إلا في الحالات التي أمارس فيها السلطة، وكان بعضهم يفهم انفتاحي على أنه ضعف، ورقتي في التعامل معهم على أنها نوع من التنازل، كثير من الطلبة كان يتوقع مني أن أقودهم وأتعامل معهم مثلما اعتادوا من قبل في كل مراحل حياتهم، وفي الحقيقة فإن لديهم الكثير من الطرق لحدوث ذلك، مما يذكرني بتلك العلاقة القديمة مع أحد أصدقائي المقربين الذي نظرت إلى وجهه بعد أن صرخت فيه فوجدته متأنقًا ونظيفًا وبدت عليه السعادة، وعرفت من تعبيرات وجهه أنه في النهاية نجح في دهاء بإجباري على التصرف بالطريقة التي يريدني هو أن أتصرف بها، فقررت أن أنهي تلك العلاقة، وأعتقد بأنه يجب القول، نحو مزيد من الدقة، بأنني تركت ذلك النموذج من العلاقات القائم على الإجبار. يحدث مثل ذلك النوع من العلاقات كثيرًا، إن نظام السيطرة يتخلل كل أوجه الحياة، وتستطيع أن تجده في كل علاقاتنا، كما توجد الآلية التي تفجره في كل جزئيات حياتنا، عندما يدخل ذلك النظام من العلاقات في علاقاتنا المقدسة، في علاقة الجسد والقلب، فهو ليس في حاجة للمزيد، لكنه بالطبع لا يتوقف عند هذا الحد، ويصبح السؤال كالآتي: كيف نسن قانونًا للعلاقات لا يكون قهريًّا، من خلال نظام لا يؤيد القهر؟ إن الأمر معقد إلى حد بعيد.

أعرف أن طلبتي يتمردون على خبرات الظلم والاضطهاد الذي يتعرضون له، وأعرف أنني أول من يواجه ذلك التمرد، كما يوجد بعض الطلبة ممن تعرضوا للأذى من قِبل والديهم، أو من قبل المدرسين وأشكال السلطة المختلفة، غير أنني لا أستطيع مساعدتهم والوصول إليهم لأنهم لا يستطيعون سماعي، فماذا يمكنني أن أفعل بشأنهم؟

في نهاية العام الماضي مثلًا قام أحد الطلبة الأفظاظ بإلقاء خطاب طويل عن إحساس الأطفال الذين يتعرضون لإساءات عاطفية، لكنني لم أستطع إدراك ما يعنيه لأنه كان فظًّا، ثم فهمت — فجأة — السبب، وشعرت بالندم، وأعتقد أن كل ذلك يندرج تحت أسئلة ثلاثة:
  • (١)

    هل المادة التي تأتي من تفوق الجنس الأبيض الاستعماري تستحق التدريس على وجه الخصوص؟

  • (٢)

    أعرف أن الغرض من التعليم الحقيقي هو السماح للناس أن يتعلموا عن أنفسهم وعن العالم الأكبر الذي يحيط بهم، فهل يستحق التعليم بشكل دائم؟

  • (٣)

    كيف يمكن لذلك النظام أن يعمل؟

لم أستطع الإجابة على الأسئلة، وما أعرفه أنني أكره الحضارة الصناعية لما تتسبب فيه من ضرر للكوكب، وما تفعله من تأثيرات سلبية في المجتمعات، وما تقوم به من أضرار للكائنات غير الإنسانية؛ المتوحشة منها والقابلة للترويض، وكذلك لما تفعله للإنسان الفرد؛ سواء كان متوحشًا أو أليفًا. إنني أمقت كذلك النظام الاقتصادي القائم على استئجار العمالة؛ لأنه يسبب، أو فلنقل، لمزيد من الدقة، أنه يُجبر الناس على بيع حياتهم وعلى عمل أشياء لا يحبونها، كما أنه يكافئ بعض الناس لما يقومون به من إيذاء لبعضهم البعض وتدمير لقناعاتهم. أكره كذلك التعليم الصناعي؛ لأنه يرتكب واحدًا من الخطايا التي لا يمكن الصفح عنها، إنه يقود الناس إلى العزلة والانفراد، ويساعدهم في الابتعاد عن بعضهم البعض، ويقوم بتدريبهم على أن يصبحوا عمالًا، ويعمل جاهدًا على إقناعهم بأنهم في أفضل حالاتهم ليسوا سوى عبيد أوفياء، كما أنه نظام يقوم على إكراه الناس على اصطحاب كل من يقابلونه إلى القاع، وأنا عن نفسي أشارك في هذه العملية عندما أقوم بالعمل على جعل المدرسة مقبولة ويمكن احتمالها، والقيام بإضفاء روح المرح عليها، في الوقت الذي يتدرب فيه الطلبة على القيام بأدوارهم في التدمير المتواصل للكوكب، والقيام بأدوارهم الثانوية في الآلة الصناعية العملاقة.

إن التعليم الصناعي يقتل في الحقيقة الروح وليس الجسد، وذلك ما يجعلني دائم الرفض له، كما أنني لا أتوقف عن لوم نفسي لأنني واحد من المشاركين في أكبر العمليات التي تدمر وتشوه الإنسانية.

نحو مزيد من الوضوح، ولكي نكون متيقنين من قدرتنا على الإفلات من ذلك الشَّرَك، فلا بد أن نعي بأن الحضارة الصناعية تساهم بقوة في تدمير الكوكب، وأن كلًّا منا يقوم بدوره في ذلك التدمير، وكان من الممكن تجنب حدوث ذلك لو توقفنا عن المشاركة، فالمهندسون يقومون باكتشاف الغاز الطبيعي في الصحراء، وشركات الإعلان تواصل إعلاناتها عن شركة فورد للسيارات، ويتبادل ركاب الطائرات حبات الفول السوداني في رحلاتهم العابرة للقارات، كما يساعد الأطباء العمال والمديرين على الحفاظ على صحتهم، ويقوم علماء النفس بمساعدة مرضاهم على العيش بشكل أفضل، ويواصل الكتاب إبداعاتهم؛ كي يقرأها الناس في أوقات فراغهم، ويساعد المدرسون أولئك الكتَّاب على الكتابة بطريقة لا تجعلهم يشعرون بالملل. ذلك النظام المميت والقاتل يحتاج إلينا جميعًا.

لقد أظهر التعليم في السجن ذلك الأمر بوضوح أكثر، فكنت في كل مرة أسير خلالها عبر البوابات أساهم في المساعدة على دعم أنظمة السجون في العالم، والوقوف إلى جانب العنصرية التي لم يحدث مثلها حتى أثناء نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، ولكنني أعرف في الوقت نفسه أن كثيرًا من طلبتي أخبروني بصراحة وفي مرات عديدة أن دروسنا هي ما يتطلعون إليه طوال الأسبوع، وأن تلك الدروس هي الشيء الوحيد الذي يقيهم الجنون.

•••

في الأسبوع السابع من كل فصل دراسي كنت أسأل نفسي السؤال نفسه: ما الذي ينبغي أن نتحدث بشأنه ما دام الطلبة هم الطلبة أنفسهم في الفصول المتعاقبة وفي نصفي السنة؟

كنت أصل تقريبًا إلى الإجابة نفسها في كل فصل من فصول السنة الدراسية، فإذا ما كان الفصل الأول عن الليبرالية يكون الثاني عن المسئولية، كل شخص يحتاج للتعلم وللخبرة، لكن سؤال الليبرالية والمسئولية لا يتم طرحه في فصول السجن؛ لأن الظروف المحيطة بالطلبة داخل السجن مختلفة، فهم يعرفون احتياجاتهم، وأسئلتهم الموجهة لي مختلفة، كما أن المسموح لي بتقديمه لهم مختلف أيضًا.

كان الأسبوع الثامن بعد بداية العام الجامعي حين حدث ما يشبه الثورة، وراح كثير من الطلبة يضايقونني، فقال أحدهم: أنت تتحدث عن الليبرالية وعن كيفية أن نكون نحن القادة في الفصل، وتريدنا أن نتولى الأمر بالعناية بتعليمنا، لكن كل ذلك لا يتعدى قيامك بدورك.

قال آخر: قلت إنك لا تريد التقييم على أساس الدرجات، لكن نظام الدرجات ما يزال إجباريًّا!

وقالت إحدى الطالبات متسائلة: وماذا لو أنني لم أرغب في كتابة أي شيء؟

قلت: أعتقد أنك سترسُبين.

قالت: دائمًا ما كنت أعتقد بأنك أفضل من بقية المدرسين، لكنكم جميعًا الشيء نفسه.

تناقشت معهم ولكن ليس بالقدر الكافي، ثم خضعت لوجهات نظرهم.

ثم أضافت الطالبة نفسها: أنا لا ألومك، فأنا معجبة بطريقتك، كما أنك رائع، لكنك تحاول دائمًا أن تكون مثاليًّا، وتحاول تعليمنا كيفية أن نكون مثاليين من خلال نظام يرتكز أساسًا على الإكراه والإجبار، وذلك أمر مثير للسخرية.

شعرت بألم خفيف قلل من فرحتي، فقلت: وماذا يجب أن أفعل عندئذٍ؟ هل ترغبين في تغيير طريقتي في التدريس؟ هل تريدينني أن أعتمد على نظام الدرجات؟

قالت بفزع: لا.

– وإذن فماذا يجب أن أفعل؟

– عليك بتغيير النظام كله.

– كيف أفعل ذلك؟

فكرَتْ لحظة قصيرة قبل أن تجيب بأفضل الإجابات الممكنة وقالت: أنت شخص ذكي وتحتاج لتحقيق ذلك بمفردك، ولكن يجب أن تعرف بأنني عانيت كثيرًا من المتاعب في حياتي الخاصة لأنني كنت وحيدة أمام نظام بأكمله.

إنني أحب ذلك العمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤