السير فوق الماء

قاعدة عميقة، أساس راسخ، زخارف كثيفة. من مركز العالم ترتفع شجرة بلا أشواك، واحدة من تلك الأشجار تعرف كيف تقدم نفسها إلى الطيور، حول الشجرة ترقص الأزواج وتتموج على أنغام الموسيقى التي توقظ الأحجار وتشعل النيران في الثلج، وأثناء الرقص يزينون الشجرة ويخلعون عنها أوراقها بشرائط متموجة من كل لون، إن شجرة الحياة تعرف — مهما حدث — أن الموسيقى الدافئة الحميمية لن تتوقف من حولها أبدًا مهما سقط حولها من الموتى ومهما تدفق الدم، سيرقص الرجال والنساء على أنغام الموسيقى ما ظلوا أحياءً، وستحتويهم الأرض ولن تتراجع عن حبهم.

إيدواردو جلينو

***

كان الأسبوع الثالث وحتى الأخير من الفصل الدراسي في الجامعة حين أحضرت معي فيلمًا تسجيليًّا يحكي عن قصص قليل من أولئك الذين ماتوا بمرض الإيدز، عندما أضأت النور في الحجرة بعد ذلك رأيت أن كثيرًا من لاعبي كرة القدم في الفصل قد قاموا بخفض رءوسهم، وعندما رفعوها مرة أخرى كانت أكتافهم مشدودة وعيونهم حمراء.

بدأت الكلام متسائلًا: كيف سيتذكرونكم في حال موتكم؟

توقفت عن الكلام، لكن أحدًا لم يُجب أو يقل شيئًا.

بدأت مرة أخرى وقلت: أو بالأحرى فإنني أقصد القول بأنكم حين تموتون فأي شيء سيقوله الناس عنكم؟

كانوا صامتين وفي حالة من الهدوء، لكن كثيرًا منهم كان يفكر فقلت: أريدكم أن ترسموا خططًا لمناقشة موضوع الإيدز، وأنتم لستم مجبرين على الوصول إلى نتائج معينة، وإنما عليكم فقط بوضع الموضوع في الاعتبار.

ظل الفصل صامتًا حتى كسر أحد الشباب الصمت وقال بدون تفكير: أنا لن أقوم بعمل ذلك، فأنا لن أموت بمرض الشواذ.

كنت أعرف طوال الربع الأول من العام الدراسي بأنه شاب يعاني من الخوف وأنه يكره النساء، فلم أندهش مما قاله وقلت له: إن من يمارسون الجنس من الرجال والنساء بشكل طبيعي يموتون أيضًا، وقد يموت الناس في حوادث السيارات، أو من تناول الكحول، أو من ممارسة الرجل للجنس مع أربع نساء في وقت واحد، كما يموت الناس في حوادث كثيرة ومختلفة.

بدا أن كلماتي لم تشكل مشكلة بالنسبة له، فأضفت موجهًا حديثي للفصل كله: يمكنكم القيام بهذا التدريب بأنفسكم، ولكن من الأفضل أن تجعلوا شخصًا ما يكن لكم الحب يقوم بعمل ذلك نيابة عنكم؛ الوالدين أو الأخ أو الأخت أو العشيق أو الصديق.

قال أحدهم متسائلًا: أتعني أن نثق بشخص ما للقيام بما يجب أن نقوم نحن بعمله؟

أجبت قائلًا: يا لها من صفقة!

جاءوا في الأسبوع التالي بوجهات نظر محددة، وراحوا يتحدثون عنها، وكانت النقطة الأساسية في ذلك التدريب هي أن ثمة شيئًا كان مختلفًا عما يبدو في السطح، ولم يكن الهدف يتمثل في إجبارهم على التفكير في الموت أو في دمجهم معًا للإجابة على السؤال القديم نفسه، لقد كنت أسأل كل فصل السؤال نفسه: من أنتم؟

لم يكن الأمر كذلك لإضفاء جو من المرح، أو لنكون أكثر حميمية مع بعضنا البعض، على الرغم من أنني كنت أشعر بسعادة بالغة لأي من تلك الأسباب.

إن الهدف الأساسي هو منحهم الفرصة ليعبر لهم الناس الذين يحبونهم عن تلك الأحاسيس والعواطف وتعريفهم بالمميزات التي يحبونها.

•••

كنا على وشك الانتهاء من الفصل الدراسي، وكنا في طريقنا للتصويت، عندما كنت في الكلية سمعت إشاعات عن أن الذين يدرسون بجدية لا ينامون سوى ساعتين في الليلة، لكنني لم أصدق تلك الأقاويل، والحقيقة أنني لم أصدق بما يكفي، وعلى مدى سنتين ظللت أسجل وقت ذهابي للنوم وعدد الساعات التي أستغرقها في النوم (لم أستطع النوم قبل منتصف الليل لمدة عام كامل وحتى بعد الأول من أغسطس)، بالإضافة إلى عدد الساعات التي أقضيها في الدراسة والتحصيل في كل يوم. كان الأمر مثيرًا بالفعل. سمعت أيضًا بعض الأقاويل والإشاعات عن أولئك الذين يتناولون الخمور مرات كثيرة في الأسبوع، مع العلم بأن معظم أصدقائي لا يتعاطون الخمر.

كنا جميعًا — بما فيهم أنا — نتفادى الأسئلة المباشرة عن الجنس؛ لأننا كنا نشعر بأن الأمر قد يضايق البعض ممن بدءوا ممارسة الجنس في وقت متأخر من أعمارهم أو في وقت مبكر جدًّا، أو أولئك الذين لم يمارسوا الجنس أبدًا. كنا نعرف أيضًا أن الأصدقاء من الأولاد والبنات قد يكذبون في إجاباتهم عن الأسئلة المتعلقة بالجنس. وعلى أية حال كان من الأفضل ألا نتوجه بالأسئلة في ذلك الشأن، كما كان لدينا قاعدة واضحة ومحددة لا تسمح بالأحكام المطلقة أو محاولات الإقناع، وكان الهدف من كل الأسئلة هو معرفة ما يفكر فيه الطلبة من خلال تشجيعهم على سرد القصص التي توضح ما تنطوي عليه قصصهم.

التقطت قطعة من الورق من كُومة من الأوراق الملقاة أمامي.

كم ساعة تنام في الليل؟

كانت النسبة الغالبة للطلبة هي ست ساعات ونصف، ويقل بعضها إلى أربع ساعات، ويزيد البعض الآخر إلى إحدى عشرة ساعة.

إذا لم تقلق بشأن الجدول ومواعيد الدراسة فكم عدد الساعات التي ستنام فيها وفي أي وقت؟

عندما انتهيت من طرح ذلك السؤال ارتسمت فوق وجوههم نظرات حالمة، وانتابتهم حالة من الانتشاء، وراحوا يفكرون قليلًا قبل الإجابة التي تراوحت بين النوم الكثير، وعدم ضبط الساعة على وقت محدد للاستيقاظ، والنوم في أي ساعة من الليل أو النهار.

كم عدد الذين لم يتناولوا الخمور أبدًا أو قاموا باحتساء كأس أو كأسين من النبيذ مع العائلة طوال العام؟

رفع ربع الفصل تقريبًا أياديه.

كم عدد الذين شربوا حتى الثمالة مرة واحدة في الشهر؟

كان نصف الفصل تقريبًا.

وكم عدد الذين شربوا حتى الثمالة مرة في الأسبوع؟

ربع الفصل.

كم عدد الذين يقرءون كتابًا في الأسبوع غير كتب الدراسة؟

اثنان أو ثلاثة فقط.

وفي الشهر؟

الربع.

وفي أقل من عام؟

اثنان أو ثلاثة.

هل قام أحدكم بالغش والخداع في المدرسة الثانوية؟

أجاب الجميع بلا، ما عدا امرأتين؛ إحداهما أمريكية والأخرى صينية.

هل تم خداعكم في الكلية؟

بعد ضحكات قليلة توحي بالخوف والقلق، أجاب النصف بنعم، فطلبت منهم أن يدونوا أسماءهم بوضوح فوق أزرار قميصي.

قالوا: هل تخدعنا؟

قلت: يتوقف الأمر على كيفية رؤيتكم للخداع.

لم يوافقوا.

كنت أنقل الواجب المدرسي من زملائي طوال الوقت، وكنت أسمح لهم بالنقل عني، ولم يكن ذلك يشكل خداعًا أبدًا بالنسبة لي، كانت حالة سياسية وحالة من الرفض للمواقف التنافسية التي تشكل ثقافتنا، إنها حالة من التضامن مع زملائي الطلبة، ولا تتعدى كونها حركة في اتجاه النموذج الأكثر تعاونًا في التعليم.

ظلوا على حالتهم من عدم الموافقة.

كان من الأجدر ألا أخبركم بذلك لكنني قمت بتمرير عدد قليل من أوراق المدرسة الثانوية داخل فصول الكلية، وكان ذلك من أجل أغراض تعليمية بحتة، لقد أردت معرفة الفرق في التقدير بين المدرسة والكلية، تلك الأوراق التي تحصل على «أ» في المدرسة بينما تحصل الأوراق نفسها على «ب» في الكلية، أعتقد أن تلك معلومة مهمة وأنا أرحب بالتضحية من أجل كتابة تلك الأوراق وتمريرها عليكم الآن.

لم يوافقوا أيضًا.

لكنني قمت بالغش في الاختبارات مرتين، ولقد صُدمت في البداية وأصابني الهلع من طبيعة الغش العادي، وتعلمت درسًا في غاية الأهمية وهو ألا أهمية لحدوث عمل مشين في البداية لأنك سوف تعتاد عليه وستشم رائحته النتنة في النهاية، وعندئذٍ لن تشعر بالقلق أبدًا، إن الرائحة النتنة تفوح من أي شيء كالغش أو التقديرات، وحتى من الحضارة نفسها.

قال أحد الطلبة: قلت لنا بأنك قمت بعملية الغش مرتين.

قلت: كنت في اختبار الكيمياء في العام الأول من الجامعة، وفي واحدة من أكبر قاعات المحاضرات، وكنت قريبًا من نهاية القاعة، وكانت لدي مشكلة مع سؤال بعينه — كانت لدي في الحقيقة مشكلة مع عديد من الأسئلة — وحين كنت أجيب على السؤال السابع والعشرين نظرت إلى الساعة، وكان الشخص الجالس أمامي يرفع ورقته في الهواء في محيط رؤيتي، فعرفت أنه انتهى من إجابة السؤال السابع والعشرين فلم أصدق وقمت بتغيير إجابتي على السؤال حسب ما رأيته من ورقته، وقد عرفت بعد ظهور النتيجة أن إجابتي الأولى كانت هي الصواب مما جعلني لا أفعل ذلك فيما بعد.

أخبرتهم برغبتي في قول شيء آخر عن الغش، شيء ما تمنيت لو أنني عرفته حين كنت في المدرسة، إن المدرس يستطيع في الغالب أن يرى كل ما يحدث في الفصل، وبالتالي فإنك على خطأ حين تعتقد، بإخفائك ورقة وسط الكتاب، أن المدرس لا يعرف، وإنما الحقيقة أن ذلك المدرس لا يهتم، أو أنه سئم من التوجه إليك لإيقافك.

ذلك يطرح سؤالًا آخر: كم عدد الذين قاموا بالغش في هذا الفصل؟

أجابت امرأة وهي تهز أطراف جفونها: كيف لنا أن نغش في ظل نظام علامات الصواب والخطأ؟

أشرت إلى سلة المهملات.

قالت وهي تهز أطراف جفونها بشكل أسرع: أوه، لم أفكر في ذلك أبدًا.

ضحك الجميع، وطلبت منهم أن يكتبوا عددًا كبيرًا من الأوراق خلال ربع العام، من خمس إلى عشر مرات، كما يفعل الطلبة في فصول مبادئ التفكير والكتابة.

التقطت قصاصة أخرى من الورق، إذا شاهدتَ رجلًا من رجال الشرطة ولم تكن قد ارتكبتَ شيئًا ضد القانون، ولستَ في حاجة إلى شرطي، فبأي شيء ستشعر في الحال؟

ماذا لو شاهدت دورية من الخفر؟

كان التصويت خمسة بالسالب، وبدأ الناس في الحديث بأقوال خيالية عما يرغبون في فعله تجاه أولئك الخفر أو رجال الشرطة.

وكان السؤال التالي: هل كنت ستقوم بحلاقة رجليك وإبطيك إذا كنت امرأة؟ وإذا كانت أي واحدة منكن رجلًا فهل كانت ستواعد رجلًا لا يحلق رجليه وإبطيه؟

ثم سألت قائلًا: هل تؤمن بالله؟

وقبل الإجابة على ذلك السؤال علينا أن نتفق على سلسلة من التعريفات، هل الله يعني شخصًا كبيرًا بلحية بيضاء؟ هل الله عملية متعاقبة؟ هل هناك آلهة متعددة؟

انتهينا إلى مقولات متعددة، ووافق الكثير على وجود احتمالات كثيرة: المؤمن بإله واحد (في المسيحية والإسلام واليهودية)، والقائل بوحدة الوجود وأن الله والطبيعة شيء واحد وأن الكون المادي والإنسان ليسا سوى مظاهر للذات الإلهية، ثم أولئك المؤمنون بتعدد الآلهة وتعدد مبادئها، بما في ذلك احتمال وجود بعض الديانات الهندية من بينها، ثم أربعة أو خمسة من الملحدين، وثلاثة أو أربعة ممن يتبنون المبدأ القائل بأن وجود الله ومبادئه من الأمور التي يصعب الوصول إليها.

سألوني عما أومن أنا به فحكيت لهم القصة التي حدثت لي حين كنت في الطائرة وأخبرونا بأنه ثمة أعطال ميكانيكية في الطائرة، وكان علينا أن ننتقل إلى طائرة أخرى، انتقلنا بالفعل إلى طائرة أخرى، وجلست إلى جوار رجل كبير كان مستغرقًا في قراءة الإنجيل، وعندما كان المسافرون يمرون في طريقهم بالقرب منه كان يلقي بورقة تحتوي على نصوص من الإنجيل داخل جيوبهم، حاولت الإمساك بالكتاب الذي أقرؤه ورفعَه في المنتصف بيني وبينه على أمل أن يكون حاجزًا بيني وبينه، لكن محاولتي باءت بالفشل، وظل من وقت لآخر يصطدم بي بالمصادفة، ثم ما يلبث أن يقدم الاعتذار، وكان من الواضح أنه في انتظار قبول اعتذاره، وحين لم يجد قبولًا مني أمسك بركبتي وسألني: هل تعرف السبب الذي من أجله أصاب الله الطائرة الأخرى بأعطال ميكانيكية؟ وهل تعرف لماذا فعل الله ذلك؟

أجبت قائلًا: نعم، أستطيع أن أخبرك بكل شيء عن وحدة الوجود، وعن كيفية أن الله والطبيعة شيء واحد.

مال بعيدًا عني واتخذ من الإنجيل جدارًا بيني وبينه، وكانت الرحلة أقصر مما ينبغي أن تكون عليه.

سؤال آخر: هل توجد كلمات بذيئة لم تقلها؟

قال اثنان في وقت واحد باستخدام لفظة بذيئة: لا.

أصابتني الدهشة، فغالبية الناس لم يتلفظوا بالكلمات البذيئة، لكن معظمهم كان يستخدم إحدى تلك الكلمات في أحاديثه منفردًا، كما أصابتني الدهشة أيضًا أن امرأة متعصبة تجاوبت مع ذلك السؤال، رغم عدم تقبلها السؤال المتعلق بالإيمان والله، وقد قالت، عندما بدأ الرجل الأمريكي الهندي في شرح تجاربه الروحية: أوه، أنتم الهنود تعتقدون في الأشباح، أليس كذلك؟

توقف الرجل قليلًا ثم قال: هذا هو رأيك.

لم تستخدم المرأة أيًّا من الكلمات البذيئة، أو أي لون من ألوان السباب، ولم تهتم بالكلمات التي تناولها الآخرون في الحديث. وحتى حين بدأت أطرح السؤال ارتبكت بعض النسوة وشعرن بالخجل، وراحت واحدة منهن تصرخ وهي تغطي أذنيها.

قلت لرئيسي بأنني سوف أطرح ذلك السؤال، فأخبرني بالكثير عن علاقتنا، ثم تجهم وقال بجدية: كم مرة قلت لك يا «ديريك» ألا تذكر مثل تلك الكلمات البذيئة في الفصل؟

سألت الفصل: هل أنتم سعداء؟

معظمهم لم يكن كذلك، وبعضهم لم يعرف حتى مدى ما يشعرون به.

– هل تعتقدون بأنكم ستنعمون بالسعادة؟

أجاب كثير منهم بالنفي.

– أتعتقدون بأننا نحيا حياة ديمقراطية؟

ضحكوا وقالوا: بالطبع لا.

– هل من الأفضل للحكومة أن تولي اهتمامًا بالشركات والنقابات أم بالإنسان؟

ضحكوا مرة ثانية وقالوا: الشركات بالطبع.

– هل تعتقدون أن العالم سيكون أفضل بعد عشرين سنة؟

– لا.

– بعد أربعين سنة؟

– لا.

– مائة سنة؟

– لا.

– وإذن فما رأيكم في الوقت الذي ستصبحون بعده سعداء؟ وكم من الوقت سيمضي حتى يصبح العالم مكانا أفضل؟

إنهم لا يعرفون.

•••

قلت في الفصل الأول من الأسبوع التالي قبل الأخير: سأتقدم إليكم بمهمة أخيرة.

ظلوا صامتين في حالة من الترقب، ثم قلت لهم: أريدكم أن تسيروا فوق الماء.

كانوا ما يزالون في حال من الترقب ولم يستطيعوا إدراك المعنى الذي أقصده، فقلت متسائلًا: هل أنتم مستعدون للمضي قدمًا في مناقشة اليوم؟

أجاب أحدهم قائلًا: لا.

وقال آخر: ولكن …

قلت: أوه، يوجد شيء آخر بالطبع أريدكم أن تكتبوا عنه فيما بعد، وآسف للارتباك الذي أصابكم بسببي.

قال شخص ما: لن أفعل ذلك.

أجبت: سوف تفعل.

قال الشخص نفسه: ولكن ما الهدف من فعل ذلك؟

– سوف تعرف الهدف أيضًا.

حاولت أن أنجح مع الفصل وأصل معهم إلى نتائج محددة، غير أنهم لم يسمحوا لي بالوقت الكافي ولم يتجاوبوا معي، وظلوا يتساءلون عما أريد لهم أن يفعلوه، وظللت بدوري أجيب بالطريقة نفسها وأردد: أريدكم أن تسيروا فوق الماء ثم تكتبوا عن تلك التجربة.

فقدت امرأة صوابها ونفد صبرها أخيرًا ثم قالت مخاطبة الفصل: كل شخص هنا يعرف قصة سير المسيح فوق الماء، أليس كذلك؟ عن أي شيء كانت تتحدث القصة؟ إنها قصة شخص ما يقوم بعمل شيء ما يصعب القيام به أو فلنقل بأنه شيء مستحيل.

أجاب أحد الطلبة من ذوي التفكير البسيط والموضوعي: ولكننا لن نستطيع عمل ذلك إذا كان مستحيلًا.

قالت المرأة: ذلك هو الموضوع، فهو يريدكم أن تفعلوا المستحيل.

– ولكن …

قالت المرأة لتوضيح خدعة الحوار الجيد: إن كلمة «لكن» هذه هي السبب في عجزكم وعدم قدرتكم على الفعل.

قال واحد من معتنقي الديانة المسيحية: إن يسوع الرب هو الوحيد القادر على السير فوق الماء.

قالت المرأة: ليس ذلك نظامًا لاهوتيًّا جيدًا، وأقل كثيرًا من علم النفس، فالآخرون أيضًا يستطيعون ما داموا لا يشكون في قدرتهم على الفعل.

قال المسيحي: وما داموا يتطلعون دائمًا للمسيح ويطبقون تعاليمه.

– دعك من المسيح الآن.

– ذلك نوع من أنواع التجديف وعدم احترام المقدسات.

– إنني لست مسيحيًّا، ولذلك فإن كلمة تجديف لن تخيفني، فالمجاز من وراء القصة هو أنك في الوقت الذي تنظر فيه إلى داخل نفسك، وفي اللحظة التي تكتشف فيها ذاتك، وعندما تبدأ في الإيمان بقدراتك، فإنك ستجد نفسك قادرًا على إنتاج وخلق أعمال مدهشة لم تكن في السابق تفكر فيها أو حتى تتخيل حدوثها، كالسير فوق الماء.

نظرت المرأة نحوي وقالت: هل يمكن ذلك؟

أومأت برأسي وقلت ببطء: أعتقد …

قاطعتني قائلة: إنه شيء جيد لأنك في اللحظة التي تصل فيها إلى المكان الذي تستطيع فيه السير فوق الماء سوف تكتشف فجأة أنك فوق أرض صلبة وجامدة كنت تعتقد في السابق استحالة السير فوقها، بالإضافة إلى عدم وجود أي نوع من المساندة والدعم، إن ذلك الدعم لا يأتي منك وإنما من كل ما يحيط بك، وما إن تبدأ في الفعل فإن الكون بأكمله سيتعاون في مساعدتك ودعمك.

عاودت النظر نحوي ثم توقفت.

قلت مرة ثانية: أعتقد …

لكنها قاطعتني مرة أخرى وراحت تضيف بحماس قائلة: وهذا هو حقًّا ما نحتاجه، إن النظام بأكمله نظام فاسد وكل شيء فاسد، إنهم يقتلون الكوكب الأرضي ونحن نساهم في كل تلك الأعمال المؤسفة التي نمقتها والتي تتطلب من كلٍّ منا معجزة أو ملايين المعجزات، ذلك هو ما يطلبه «ديريك» ويريدنا أن نفعله، إنه يريدنا أن نخرج مما نحن فيه ونذهب لارتكاب المعجزات، ثم يريدنا أن نكتب عن تلك المعجزات، وأعتقد أن ذلك ليس كثيرًا، أليس كذلك؟

قلت مخاطبًا إياها: أستطيع القول بأنك فكرت في الموضوع قليلًا.

قالت: قليلًا فقط؟!

•••

كانت مقالاتهم وأبحاثهم جيدة، كان بعضهم من أعضاء نادي القلم، فكتب قليل منهم عن ملء البانيو بالماء بما يعادل ارتفاع بوصة واحدة ثم السير فيه، بينما كتب البعض عن السير عبر بركة متجمدة.

لكن كثيرًا من الطلبة كتبوا عن المعجزات. والطلبة في فصلي، بما فيهم أنا، لا نحتاج للتعلم ولكننا ببساطة نحتاج للتشجيع وللنمو من خلال قلوبنا، نحن لسنا في حاجة لأن تحكمنا أجندات خارجية، ولا لأن يخبرنا أحد بموعد احتياجنا للتعلم، ولا حاجتنا للتعبير، لكننا في حاجة لأن يوفروا لنا الوقت، وليس بالإجبار أو الإكراه، وإنما كعامل مساعد حيث نستطيع اكتشاف ما نريد ومعرفة من نكون بمساعدة الآخرين ممن يهتمون لأمرنا، ذلك أمر مهم وضروري، ليس بالنسبة لي ولطلبتي، وإنما لنا جميعًا، وحتى جيراننا من غير البشر، نحن نريد أن نحب ونجد من يحبنا، يجب أن نقبل الآخرين ونريد أن يقبلنا الآخرون، ونتمنى أن يتذكرنا الناس ونحب أن يدللونا، وينبغي أن نقبل ما نحن عليه، وذلك كله ليس بالأمر العسير، نستطيع ببساطة أن نكون كذلك.

•••

دخلت امرأة لتتحدث عما كتبَتْه، وراحت تقرأ لي بصوت عالٍ، كانت رسالة حصيفة موجهة إلى صديقتها العزيزة، وكانت الرسالة للوداع، فلم أعلق كثيرًا، لكنني سألتها عندما انتهت من القراءة قائلًا: كيف تشعرين بشأن رحيلها؟

بدأت في البكاء ثم راحت تتنهد بأنفاس سريعة ولم تستطع الإجابة على سؤالي.

قلت لها بعد أن هدأت قليلًا: اكتبي ما تشعرين به فوق الورق.

قالت: هل تعني أن نضع عواطفنا ومشاعرنا في أوراقنا؟

لم أقل شيئًا لكن ابتسامة رقيقة راحت ترتسم فوق وجهي.

•••

عادت في اليوم التالي برسالة جديدة، وحين بدأت في القراءة كانت تتوقف كثيرًا بين جملة وأخرى لأنها بدت متأثرة ومنفعلة بما تقرأ. ناولتني الرسالة وسارعتُ بقراءتها فوجدت نفسي أتوقف أيضًا بين حين وآخر، وعندما استطعت الكلام قلت: رسالة جيدة، إنها حقًّا كلمات جيدة ومعبرة.

قالت: لقد فهمت.

•••

كان اليوم الأخير حين فكرت لمدة طويلة فيما يجب أن ننتهي إليه ويكون كافيًا لمنحنا شرف المشاركة، كنت موجودًا داخل الفصل حين دخل الطلبة وظللنا نتحاور ونتبادل الأفكار حتى جاء وقت البداية، فوقفت ومضيت نحو السبورة ثم أمسكت ببعض الطباشير وحركت يدي وكأنني سألقى بالطباشير في اتجاه الحائط الخلفي ثم توقفت فضحكوا، بدأت أكتب كلمات وتعبيرات موجزة من وحي أشياء قمنا بها معًا، كتبت عن حفلة شواء الهامبورجر والسجق، وعن طعام النباتيين، ثم كتبت عن تلك الليلة التي قمت فيها بعرض أحد الأفلام، والليلة الأخرى التي شاهدنا فيها فيلم «طار فوق عش المجانين» بطولة «جاك نيكلسون».

قال أحدهم متسائلًا: أتلك أمثلة من السير فوق الماء؟

أجبت: ها قد أخرجت شخصًا ما من ذلك النمط المنظم من الحياة الاجتماعية ومن الأعراف والتقاليد المعروفة الساكنة.

قال آخر: القاعدة الأولى في الكتابة.

كتبت ما قاله فوق السبورة.

قالت واحدة من الفصل بصوت عالٍ: دع الأطفال يخرجون من دورة المياه.

ظللت أدور حول نفسي وألقيت بالطباشير ثم التقطت واحدة وكتبت ما قالته فوق السبورة.

– إنه الوقت الذي أجبرتنا فيه على كتابة الأشياء التي نفتخر بأننا قمنا بإنجازها في حياتنا.

– هي تلك الليلة التي حاول فيها الطلبة الآسيويون أن يعلمونا استخدام العصا في تناول الطعام.

قال واحد من الرجال: هل كانوا يعلموننا فعلًا أم أنهم كانوا يسخرون من عجزنا.

– والوقت الذي حاولنا فيه أن نجعل «ديريك» يمشي كالقمر.

– حاولنا. تلك هي كلمة السر.

– لعب الكرة بعينين معصوبتين.

– الطفل المشاغب.

– مرق الماشية.

– الرصاصة.

– تلك الليلة التي كتبنا فيها قصص الأشباح.

– العرف والتقاليد.

– أوه، يا إلهى، هل تتذكر الكعكة المحلاة برقائق الشوكولاتة؟

كنت أكتب بأسرع مما أستطيع وأتحرك من أول الحجرة إلى آخرها، وكانوا ما يزالون يتحدثون بصوت عالٍ، وكان الوقت يمضي.

كرر الرجل السؤال نفسه الذي اعتاد أن يسأله: وما الهدف؟

قمت بتسجيل السؤال فقال: لا، ما الهدف مما تفعله الآن؟

استدرت ناحيته ولم أعرف ما يمكنني قوله.

راحت المرأة التي كتبت رسالة الوداع إلى صديقتها فجأة تضرب بيدها فوق المقعد ثم صرخت قائلة: لقد عرفت الهدف، الهدف هو أنه لا يستطيع إخبارنا بالهدف، وإنما علينا أن نكتشفه بأنفسنا.

مضيت نحو مقعد شاغر بجوارها وجلست ثم وضعت قطعة الطباشير فوق مقعدها وقلت بهدوء ولكن بصوت عالٍ كي يسمع الجميع: لا يوجد شيء آخر يمكنني تعليمه لكم، حظ سعيد لكم واستمتعوا بوقتكم.

•••

إن مأساة التعليم الصناعي تكمن في صنع كل ما هو سيئ كالقابلات اللاتي يشرفن على مولد طلبتهم ومدرسيهم، واللاتي يتحملن مسئولية كبيرة ومرعبة، كثير جدًّا من المدرسين مثل كثير من الطلبة وكثير من العمال في كثير من الحقول الصناعية وكثير من الكتَّاب أيضًا وعدد لا بأس به من الساسة، وكذلك العديد من الناس، الذين استطاعوا الحفاظ على إنسانيتهم رغم نشأتهم في ظل نظام تعليمي بائس، وفي ظل القيام بأعمال لا يرغبون فيها، ومع وجود إغراء المال.

إذا كان الوصول بالناس إلى أن يكونوا أشخاصًا آخرين غير أنفسهم هو واحد من أكثر الخطايا، فلا ينبغي أبدًا أن نغفر لنظام التعليم الصناعي.

يوجد البديل على أية حال، أو بالأحرى هناك كثير من البدائل، ما دام يوجد كثير من الناس، وخاصة مع وجود الناس الذين يتحلون بالنشاط والحيوية، وعلى علاقة فكرية بمجتمعاتهم التي تشمل أساس حياتهم والأرض التي يعيشون عليها وينشئون بها، والتي تعمل على دعمهم ومساعدتهم.

سمعت أنه من خلال ثقافتنا المميتة تكون غالبية الأفعال الثورية التي يقوم بها أي شخص نابعة من القلب والعاطفة، يجب إذن أن تتبعوا قلوبكم، إن أكثر الأعمال الثورية والأخلاقية التي تستطيع القيام بها لمساعدة الآخرين هي أن تساعدهم على اكتشاف قلوبهم الحقيقية، أي اكتشاف شخصياتهم والعمل على تعريفهم بآرائهم ومواقفهم ومساعدتهم على اكتشاف أنفسهم، ذلك أمر أسهل كثيرًا مما يبدو.

الوقت قصير، إنه قصير بالنسبة لكوكبنا الأرضي الذي هو بيتنا وملاذنا، والذي يتم قتله بينما نحن لا نفعل شيئًا، وبالنسبة لكل أولئك الطلبة فإن الوقت أقصر مع حياتهم التي تنزلق منهم مع كل تكة من تكات الساعة الملتصقة فوق حائط الفصل.

كثير من العمل يجب القيام به فماذا تنتظرون؟ لقد حان وقت البداية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤