حجازي أيوب

أراد حجازي أيوب أن يقرأ، ففتح مكتبة.

قرأ في مكتبة أبي العباس، ومكتبة البلدية بشارع منشة. استعار — أحيانًا — لقاء أجر من مكتبة النن بالموازيني. اقتصر اتصاله بالدنيا من حوله عن طريق الكتب. معظم وقته للقراءة. يقرأ في كل ما يجتذب انتباهه.

لاحظ أنه يُنفق الكثير من راتبه على استعارة الكتب والدوريات. نصح نفسه أن يفتح مكتبة. شجعه أن الدكان — الذي عُرِض عليه شراؤه — على ناصية الميدان وإسماعيل صبري. معظم سكان المنطقة من الموظفين وذوي المهن، وثمة كتاتيب ورياض أطفال ومدارس أولية وابتدائية.

فتح حجازي أيوب المكتبة قبل أن يجاوز الخامسة والعشرين.

اختار لها اسم الحجازية، نسبةً — ربما — إلى الحجاز؛ فمعظم كُتُبها في التراث العربي، أو أنه أراد أن ينسب اسم المكتبة إلى اسم صاحبها. يُمضي فترة الصباح إلى ما بعد الظهر في عمله بالمجلس البلدي. يتنقل بين عمليات تنسيق المتنزهات العامة وأشغال الطريق والكنس والرش والأعمال الصحية والوقاية من الحريق وتنفيذ عمليات البناء والتنقيب عن الآثار وعمليات الصيد ومراقبة الشواطئ وإسعاف الغرقى، ومراقبة المحال الخطرة. يفتح المكتبة بعد صلاة العصر.

في العصر يفتح المكتبة. يحرص أن يكون انفراج الباب على سعته. يدخل الهواء ليمنع الكتمة عن الكتب، يحاذر فلا تُطيل الشمس ارتماءها على الأوراق، فتؤذيها. يصنف الكتب، ويرتبها، وينظمها. يضع كل كتاب في الخانة التي جعلها لنوعيته.

لا يذكر مَن ناداه — للمرة الأولى: يا عم حجازي. حين فتح المكتبة، لم يكن في السن التي تُتيح مناداته بلقب العم. ربما قالها طالب بالمعهد الديني، أو طالب بجامعة فاروق الأول. صارت هي التسمية التي يناديه بها المترددون على المكتبة، حتى مَن يكبرون حجازي أيوب في العمر.

لم يحصل من المعهد الديني على الشهادة التي تؤهله لاستكمال دراسته في الأزهر، لكنه قرأ، وحصل ما جعله مرجعًا في مواد المعهد، وفي علوم أخرى. بسط له الله في العلم والمعرفة.

حفظ الكثير من أسماء الأعلام والأمكنة والبلدان والطوائف والقبائل، وأقوال الفلاسفة، واجتهادات الكتب الدينية، وقصائد الشعراء، ووقائع التاريخ، وكرامات الأولياء.

يشرِّق ويغرِّب في روايات، تبدأ ولا تنتهي، عن قصص الأنبياء … السيرة الهلالية … بردة البوصيري … الزير سالم … معاذ بن جبل … الأميرة ذات الهمة … حكاية السيد البدوي مع فاطمة بنت بري … سيرة عنترة … السيد البدوي وخضرة الشريفة … سيرة الظاهر بيبرس … رباعيات ابن عروس … النبي لما كلمته الغزالة … ألف ليلة ليلة: كنوز الملك سليمان وخادم الخاتم السحري ومصباح علاء الدين والزئبق الأحمر ومغارة علي بابا ورحلات السندباد البحري ومغامرات علي الزيبق.

كان لزوار المكتبة من أساتذة المعهد الديني بالمسافرخانة وجامعة فاروق الأول، والمدارس الثانوية، ومن الطلبة؛ أثرٌ — يُدركه — في تكوين ثقافته.

تثور — بمجرد قراءة العنوان — أسئلة، وأجوبة، ومناقشات قد لا يشارك فيها، لكنه يلتقط ما يراه مفيدًا، يودعه ذاكرته.

ربما تحدَّث المترددون على المكتبة في موضوع ما. يشارك في الحديث بمعلومات وآراء. يردُّ اللحن في اللغة، ويصوِّب الأخطاء، ويُبدي الملاحظات، وينصح، ويوجِّه. ربما أمسك قلمًا يخطُّ به تحت الأخطاء الطباعية فيما يقرؤه من كتب. يثقون أن علمه أكبر مما يملكون من المعرفة، هو علم بحجم ما تضمُّه المكتبة من كتب ومجلدات. إن قصده طالب في مبحث، يحرص أن يحيط بجوانبه المختلفة في المصادر والمراجع. قد يسأل المترددين على المكتبة من أساتذة الجامعة، وشيوخ المعهد الديني. يُفيد من ملاحظة، أو يتنبه إلى كتاب لم تُشِر إليه المراجع.

استأذن الشيخ جميل أبو نار إمام جامع أبي العباس. قلَّب في مخطوطات مكتبة الجامع، ما ظلت على حالها منذ نسخها مؤلفوها. انتقى ما قد يهمُّ الباحثين والدارسين، فأعاد نسخها، أودعها خزينة حديدية أسفل الطاولة المستطيلة في مقدمة المكتبة، يُفيد منها — دون إعارة — الأساتذة والطلاب، يرجعون إلى المعلومة التي يريدونها.

إذا تيسر وقتُ فراغ، فإنه ينشغل بنسخ المخطوطات، يُفيد من جودة خطه، يزيد من أعداد المخطوطات في المكتبة.

اتجه إلى طالب المعهد الديني أمامه بنظرة متسائلة: من الصعب أن تعرف أين كان يُقيم جمال الدين الأفغاني في أثناء إقامته بمصر، ولا أين كان يُلقي دروسه.

قال الطالب: ما قرأته كتبته في هذا المبحث. كان يُقيم في حارة اليهود، ويلتقي بتلاميذه في قهوة متاتيا.

وهو يُزيح بجانب يده ما على الطاولة من كتب، ليُتيح مساحة يُفرد عليها الطالب مبحثه: قد لا تكون المعلومة صحيحة. في الكتب معلومات أخرى، عن إقامة الأفغاني في خان الخليلي، وفي أماكن أخرى، وعن حلقاته الدراسية تحت أعمدة الأزهر، مع أنه لم يكن سيئًا.

ونفث تنهيدة: تعدَّدت الاجتهادات بحيث يصعب الوثوق بمرجع واحد.

ونزع النظارة الطبية، وقال: ما أعرفه أن السنوات الثماني والعشرين الأولى من سيرة الأفغاني هو الذي رواها، واختلفت الآراء — بلا سبب — في الأعوام التالية.

ثم في هيئة مَن يرفض أن يعطيَ المناقشة أكثر مما أخذت: عندما تتعدد الاجتهادات، فمن المهم أن تتعدد المراجع.

إذا طال الأخذ والرد حول كتاب غاب في أرفف المكتبة، حسم النقاش بالقول: أهل مكة أدرى بشعابها!

يُضيف للنظرة المتسائلة: المكتبة بيتي … وأنا أدري بكل ما فيها من عناوين!

اكتسب خبرة التعرف ما إذا كان الواقف أمامه يطلب عنوانًا محددًا، أم أنه يبحث عن أي كتاب في موضوع يشغله.

يضع الكتاب ذا العنوان المحدد على الطاولة، أو يسحب من الأرفف بضعة كتب، يضعها على الطاولة: ستجد فيها ما تبحث عنه.

من فصال الزبون، يُدرك إن كان في حاجة إلى الكتاب للقراءة، أم لمجرد الاقتناء. يُزيح الكتاب على الطاولة، ويعرض السعر، أو يظل ممسكًا بالكتاب. يرفض الفصال، أو يوافق على الخصم. ربما. إن عكست ملامح الطالب (لا بد أن يكون طالبًا) ظروفه الصعبة، أهداه عم حجازي الكتاب.

قلَّب الشاب الكتاب، وسأل عن الثمن.

علا حاجباه بالدهشة، وأعاد الكتاب.

الإشفاق هو ما دفع حجازي أيوب لأن ينسخ الكتاب، ويهديه إلى الطالب في زيارة تالية.

أصر الطالب على المقابل، فاكتفى حجازي بقيمة الورق: النسخ سبق الطباعة. لا بأس من استعادته!

أبدى خليل الفحام ملاحظة حول كثرة ما يُهديه من مستنسخات الأوراق. برر حجازي أيوب تصرُّفَه بأن الزكاة واجبة. زكاة الأوراق من نوعها، ما يقدمه للطلبة — دون مقابل — يُرضيه، وتُسَرُّ له نفسه.

قرأ في كتب اللغات القديمة. قلَّب كتبًا تهرَّأت أوراقها، ومخطوطات ضاعت صفحاتها الأولى والأخيرة. يتعرف على الكتاب الذي يطلبه، وسط رصات الكتب. على أرضية المكتبة، وفي الأركان، وفوق الأرفف، والطاولة الخشبية المستديرة.

عرف أنواع الورق: الجرائد والستانيه والأبيض بأوزانه المتعددة والكوشيه وأنواع الأغلفة.

أجاد فحص أوراق المخطوطات القديمة: العلامة المائية، نوع الحبر، وسيلة حياكة المخطوط، نوع الغراء، نوع الكرتون أو الجلد المستعمل للغلاف. يعالج المخطوط التالف، أو الذي ينخره السوس. يعقمه من الحشرات والفطريات.

لم يكن يفقد صبره في معالجة الكتب التي نخرها السوس، أو تسللت إليها العتة. إن أعياه علاج كتاب، لجأ إلى عم غراب مجلد الكتب في نهاية الموازيني. وكان يستنسخ الكتب التي يخشى ضياعها، لمن يطلب استعارتها.

إذا لم يكن الكتاب موجودًا، فإن عم حجازي يطلب مهلة يحدِّدها — لا تزيد عن ثلاثة أيام — لإحضار الكتاب. يأتي بالكتاب في الموعد الذي حدده. يكتفي للسؤال: من أين، بابتسامة محايدة. ربطَته صلات صداقة بأصحاب المكتبات بالمدينة، وصادق أصحاب المكتبات في حي الأزهر وشارع محمد علي وشارع الفجالة. يعرف ما لديهم، ويعرفون ما لديه. تطلب كلُّ مكتبة وقتًا للسؤال عن الكتاب المطلوب في المكتبات الأخرى.

يعرف نوعيات الكتب التي تُصدرها دور النشر. لكل دار مطبوعاتها ما بين كتب جامعية، وكتب في الاقتصاد والسياسة، أو تقصر نشاطها على مؤلفات الأدب. يستعيد اسم ناشر، أو ناشرين، إن لم يجد الكتاب المطلوب في أرفف مكتبته. قد يضطر إلى إغلاق المكتبة. يقضي الساعات في مكتبة أبي العباس، أو الجامع الأحمدي، أو مكتبة البلدية، أو دار المحفوظات بالقلعة، يراجع مخطوطة، أو يُضيف معلومة ناقصة.

لقرب المكتبة من جوامع أولياء الله الصالحين: المرسي أبي العباس وياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين وعلي تمراز، ضمت المكتبة الكثير من كتب الصوفية: نهج البلاغة، طبقات الصوفية، إحياء علوم الدين للغزالي، قوت القلوب لأبي طالب المكي، لطائف المنن لابن عطاء الله، المواقف للنفري، الرعاية للحارث المحاسبي، ختم الأولياء للترمذي، المولد للمناوي واليزرجي، الصلوات النورانية، مجموع الأوراد الأحمدية، مجموع مراتب الميرغني، أذكار الليل والنهار، الأنوار البهية في مدح خير البرية، رياض الصالحين، الفيوضات الربانية في المآثر القادرية، مجموع الأوراد الكبير للطريقة الرفاعية، نيل المنَى في التوسل بأسماء الله الحسنى، الرسالة القشيرية، تائية إبراهيم الدسوقي، اليواقيت والجواهر للشعراني، صلوات الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وغيرها.

لقرب المكتبة من معهد المسافرخانة، امتلأت الأرفف بكتب أصول الدين والفقه والتفسير والتراجم والمنطق والفلسفة والحديث واللغة، وما يُعَد رفضًا لأفكار الصوفية: مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية، لسان الميزان لابن حجر العسقلاني، رياض الصالحين للنووي، الكلم الطيب لابن تيمية، الوابل الصيب لابن القيم، الأذكار للنووي، مصرع التصوف لبرهان الدين البقاعي، تلبيس إبليس لابن الجوزي، العلم الشامخ للمقبلي، وغيرها.

جعل في ركن المكتبة ثلاثة أرفف، تضم المصادر والمراجع التي يُكثر من الرجوع إليها: المنهاج النووي، ألفية الإمام مالك، قواعد ابن هشام، متن أبي شجاع، سراج العقول للقزويني.

خصص رفًّا في المكتبة لترجمات كتب التراث العالمي: رباعيات الخيام، إلياذة هوميروس، كوميديا دانتي الإلهية، فردوس ملتون المفقود، الملحمة الإنجليزية بيوولف، رواية دون كيخوتة، تاريخ العالم لوزارة المعارف المصرية، مسرحيات سوفوكليس وشكسبير وموليير وراسين، روايات زولا وبلزاك وفلوبير وديستويفسكي وديكنز، ديوان أزهار الشر لبودلير، الأمير لميكافيلي، الأبطال لكارليل، تفسير الأحلام لفرويد، نظرية النشوء والارتقاء لداروين، الديكاميرون لبوكاشيو، الأمير لميكافيلي، جمهورية أفلاطون، دراسة التاريخ لتوينبي، قصة الحضارة لول ديورانت.

كتب الجان — وحدها — حرص حجازي أيوب أن تخلوَ منها المكتبة. لا صلة للأمر بتفاؤل أو تشاؤم. ما يُخيفه أن تنعكس تأثيرات ما بها على المكتبة. تُواجه أخطارًا بلا قسمات محددة.

اعتاد تردُّد مخبري قسم الجمرك على المكتبة، يقلبون الأرفف، يقرءون العناوين، يقلبون الصفحات، يسألون عن الكتب التي لم تحصل على إذن بالطباعة، أو الممنوعة، أو المصادرة. ربما قدموا له قوائم بكتب محظورة، يُرفقونها بتحذيرات من خطر التعرض للسجن، وإغلاق المكتبة. حدس أن غالبيتهم لا يعرفون القراءة. يدفعون له القوائم دون أن يتبيَّنوا ما بها من عناوين. حتى التقليب في الأرفف لم يَعُد يُقلقه، ولا تُقلقه النظرات التي تحاول العثور — في ارتباكه — على الخوف من كشف الكتاب المحظور.

كان يعتزُّ بكتب عليها إهداءات مؤلفيها. باعها ورثة مَن كانت الكتب بحوزتهم، وباعها له باعة الروبابيكيا.

اعتاد التنقل بين المكتبات الخاصة في المدينة. ينتقي ما يرى أن زبائن مكتبته يحتاجون إليه. قد يسافر إلى المدن القريبة، يشتري الكتب في حياة أصحابها، أو يشتري التركات. يدفع المقابل الذي يحدده الورثة. إن بدا مغاليًا يكتفي بالاعتذار، لا يفاصل، ولا يساوم. يخشى محاسبة الآخرة.

في اليوم الثالث لوفاة عبد الله أبي رواش، عرضَت ابنته على حجازي أيوب شراء مكتبة أبيها.

رفض الرجل. قد لا تُدرك الابنة قيمة المكتبة، أو ترضى بثمن بخس لمواجهة ظروف تخفى عنه.

ناقش العرض في إطار الحلال والحرام، والنار التي يأكلها مَن يأكلون أموال اليتامى.

اكتفى بأن ناقش الأمر بينه وبين نفسه.

أشد ما أحزنه، عندما أقدمَت ابنة أبي رواش على بيع مكتبة أبيها الراحل لبائع روبابيكيا.

قالت بلهجة مغتاظة: أنت رفضت شراءها!

– لو أن أباك عرضها للبيع في حياته لقبلتُ.

أطرق لحظة، ثم رفع رأسه: أمَا وقد مات، فالمكتبة ملك أيتام!

ثم وهو يثبت نظارته الطبية فوق عينيه: إذا أنقصت مليمًا عمَّا تستحقه، فلا أضمن حساب الآخرة.

اهتز فنجان القهوة في يده. أعاده إلى الترابيزة: لكنك تصرفت في المكتبة دون مقابل.

واتجه إليها بنظرة متسائلة: هل صحيح أنك رميت الكتب في الشارع؟!

اعتاد عبد اللطيف النشار أن يتردد عليه. يبدل طريقه بعد مغادرة سراي الحقانية. يميل إلى اليسار. يخترق شارع الميدان إلى المكتبة في البناية الواقعة على تقاطع الشارع وشارع إسماعيل صبري.

يتأمل حجازي أيوب — بطلب من النشار — أوراق الحقانية. يقلب كل ورقة، يتأملها، يدقق في سطورها، يلحظ بياض ما بين السطور. قد يلحق به ما يُفسد المعنى المطلوب، أو يدخل عليه مكروه. يحذِّر النشار من خطورة المساحات البيضاء. ينصحه بكتابة أوراق أخرى، أو يخط على البياض بيده، ما يحول دون التعديل، بالإضافة والحذف. يحذره من أن يكتب بغير القلم الذي يسوِّد به المحاضر والتقارير. إذا وجد سطرًا ناقصًا، ينصح النشار بأن يُكمله بخطه، وبالقلم الذي يستعمله. لا ينوِّع في الخط، ويكتب بالحبر خشية الطمس أو التزوير.

أسند مجموعةَ كتب على صدره، واتجه إلى سعيد العدوي بابتسامة مرتبكة. ذلك ما طلبه العدوي منه ليرسمه.

لما طالت الجلسة، أعاد الكتب إلى موضعها: حرام أن تصوِّرني والزبائن وقوف.

لما سأله عبد الله أبو رواش: هل قرأت كل هذه الكتب؟ … أظهر الضيق، وظل صامتًا.

قال أبو رواش: سألتك: هل قرأت كل ما في المكتبة؟

زفر في ضيقه: مللتُ هذا السؤال.

واتجه إليه بنظرة مستاءة: هل ينبغي على العطار أن يستخدم كل ما في دكانته؟!

وشاب لهجتَه عتاب: أنا أقرأ ما يهمني. هذه مكتبة لبيع الكتب لا ليقرأها البائع!

قال أبو رواش في لهجة معتذرة: سألتك لأني أعاني كثرة الكتب في بيتي … هل يُسعفني العمر بقراءتها؟

آخر ما فعله حجازي أيوب أنه أنشأ صلات بين المكتبة ودور النشر في العواصم العربية. تُرسل له قوائم كتبها. يبعث في طلب ما يقع عليه اختياره منها، أو ما يُشير الزبائن بطلبها.

•••

حين اشتد السعال في صدر حجازي أيوب، قال له بيرم التونسي: أنت — مثلي — تدفع ثمن بقائك في مدينة الملح والرطوبة.

رفع حاجبيه: هل أترك الإسكندرية؟

– لن تُشفَى من الحساسية إلا في جوٍّ جافٍّ.

لجأ حجازي إلى الحاج جودة هلال. كتب أحرفًا متفرقة على خوصة خضراء. وعد — إن علَّقها عم حجازي في عنقه — أن يزول السعال. اعتصم عم حجازي بصبر صياد السنارة، لكن السعال زاد، وهدَّ حيله.

قال الطبيب في مستشفى رأس التين: ربو.

أردف متسائلًا: صياد؟

– صاحب مكتبة.

– لعل تراب الكتب هو السبب.

نصحه الطبيب أن يُكثر من تناول البرتقال والليمون والفاكهة والخضراوات الطازجة.

جرع ما كتبه الطبيب من أدوية، لكن السعال لم يترك صدره. كلماته تختلط به. ينتزعها في وقفات متقاربة. قد يطول سعاله، ومعاناة التقاط أنفاسه، فيلوذ بالصمت.

قرأ في كتب التراث عن أدوية السعال والبلغم وكرشة النفس. لم تكن تسمية الحساسية موجودة في كتب القدامى. أعد بنفسه — وأوكل إلى جودة هلال — وصفات مما أشارت به الكتب، شرب قشر اللوز المغلي في الماء، قشَّر فصوص الثوم بعد تقشيرها، جعلها في قرص عجين، وضعها في الفرن حتى استوى العجين. نزعه من الثوم، وجعل الثوم في عسل. داوم على أكله، فلم يبرأ. ظل الحائط المسدود قائمًا. تناول — كل صباح، بنصيحة من الشيخ حسن الدروي مؤذن جامع طاهر بك — ملعقة عسل نحل ثلاثة أشهر، مضغ بعدها أقراص العسل يوميًّا، دون أن يطرأ تحسُّن على صحته. يستقبل النهار بنوبات متتالية من العطس، ترافقها — أو تلحقها — نفثات سعال. قد تفاجئ الأزمة صدره في أوقات لا يتوقعها من اليوم.

قال المعلم بدوي الحريري: أعرف أن رطوبة الإسكندرية تأتى بالربو. لم أكن أعرف أن الكتب تُسبب المرض نفسه!

– الربو نوع من الحساسية. أسبابها كثيرة.

عُنيَ حجازي أيوب بإزالة التراب من أرفف المجلدات. كثر إغلاقه للمكتبة، سعيًا لإبعاد الحساسية، أو تهدئتها. قنع أبناؤه الثلاثة بعملهم الوظيفي. لم يحاولوا الوقوف — بدلًا منه — في المكتبة، ولا أظهروا اهتمامًا بإغلاقه لها. أضاف إلى حزنه ما لاحظه من شراء الناس للصحيفة على حساب الكتاب. يجد الصحيفة على نواصي الطرق، أما الكتاب فلا بد أن يبحث عنه.

لاحظ الريس بدوي الحريري تقارب مواعيد إغلاق المكتبة. عرض على حجازي أيوب شراءها، يُحيلها إلى دكان لبيع الأسماك. هو الأنسب في شارع الميدان.

طلب حجازي مهلة أسبوعًا.

استيقظ — في اليوم الثالث — على رؤيا منامية بأنه يأكل كتبه. يصف أمامه كل ما في المكتبة من كتب ومجلدات، ويبدأ في التهامها. ما يُشبه الضباب التفت به المرئيات داخل المكتبة، وإن خلت إلا من انشغاله بالتهام الكتب.

تحدث إلى الحاج جودة هلال عن الرؤيا المنامية، وإن أغفل أنه هو صاحبها.

قال جودة هلال: أكل الكتب معناه الموت.

وفي صوت متلكئ: انصح صاحب المنام أن يُعِد نفسه للآخرة.

في نهاية الأسبوع، وافق حجازي أيوب على بيع المكتبة.

•••

انظر: بدوي الحريري، جودة هلال، خليل الفحام، سعيد العدوي، عبد اللطيف النشار، عبد الله أبو رواش، محمود بيرم التونسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤