إبراهيم سيد أحمد

لم يكن إبراهيم سيد أحمد قد أعدَّ نفسَه للخدمة في جامع المرسي. تردَّد على الجامع لأداء صلاة الجمعة، وما يستطيع لحاقَه من الصلوات الخمس. جعله ركوبُ البحر بعيدًا عن الإسكندرية أيامًا بطولها. سافر على امتداد الشواطئ بين الإسكندرية ورشيد ودمياط وبورسعيد وطرابلس الغرب. اصطاد الأسماك بالجرافة، وبالطراحة، حلقة الغزل تضيق وتتسع، يحيط الفلين بدائرتها، يجذبها بمفرده، أو يجذبها الرجال معه، يطلعون بالرزق من ثمار البحر.

يتحدث بخبرة مَن اقتصرت حياته على اليابسة والبحر.

حرص على أن يسكن بجوار البحر، فلا يتنفس غير هوائه. يكتفي بالتنقل بين البيت والبلانس. يعبر الطريق ما بين الساحة الترابية بموازاة شارع قصر رأس التين وشاطئ الأنفوشي. يعرف اتجاه الريح، وارتفاع الأمواج، وأماكن الدوامات، ومناطق الوفرة والجدب، ومواضع الخطر. يتجنب المواضع العميقة والصخرية. يتعرف عليها من صفاء الأمواج ودُكْنتها. يتبيَّن عمق المنطقة في البحر من النظر إلى الموج. الأعماق الضحلة بيضاء، قليلة العمق خضراء، العميقة بلا قاع شديدة الزرقة. لا لون آخر في بحر الإسكندرية.

هل تعكس السماء تعدُّد الألوان، أو أن الألوان انعكاسٌ لما عليه ألوان السماء، من الزرقة الصافية، إلى الزرقة الداكنة الأقرب إلى البُني؟

يعتزُّ بأنه قد عمل في كل المواضع التي بها أسماك داخل مصر. من السلوم في أقصى الغرب، حتى العريش ورفح في أقصى الشرق، وبحيرة السد العالي في الجنوب، وسواحل البحر الأحمر بامتداد أكثر من ألفَي كيلومتر من السويس حتى حلايب وشلاتين، وبحيرة قارون الواسعة، الممتدة في الصحراء الغربية. حتى النيل والبحيرات: مريوط، إدكو، البرلس، المنزلة، البردويل، مارسَ الصيدَ فيها سنواتٍ من عمره. وتعدَّدت رحلاته — في أعالي البحار — بسفن صيد حديثة.

البحر كلُّ شيء، البدء والمنتهى، الجو الطياب والنوة والحياة والموت والرزق والصبر واليأس والخوف والتحدي ولقمة العيش ومداومة التطلع إلى الأفق. ما يقضيه في البحر أضعاف ما يقضيه في البر. أيام البحر متواصلة، تقطعها، وتَصِلها، أيام البر. لقلتها فهو يذكر أحداثها وناسها.

يمتلك قدرًا هائلًا من أسرار البر والبحر. يعرف — بالاسم — النجومَ التي تتحكم في العواصف والنوَّات. يُجيد مخاطبةَ كلٍّ منها بالأدعية والابتهالات التي تُحرِّضها على الاستجابة لطلب الغوث.

كان الصيادون يلجئون إليه، قبل أن يركبوا البحر. يحدِّد المكان الذي يقصدونه، والمدة التي يرحلون فيها، ويعودون قبل مواعيد النوَّات.

أهمل ريس الصيادين يوسف رزقة تحذيرَ إبراهيم سيد أحمد من ركوب البحر في أيام شتوية: إذا سافر البلانس غدًا، فلن يعود.

خرج البلانس إلى البحر.

واجهَ في العودة — في اليوم التاسع — ريحًا عاصفة لم يُعِدَّ ركَّاب البلانس أنفسهم لها. أمالت البلانس على جنبه، حتى غَرِق.

أذهله — في رحلته الأولى على البلانس الجديد «رحمة» — أن الريح كانت تُعاكسه في كل الاتجاهات التي حاول أن يمضيَ إليها. صنع تلاقي الرياح من حول البلانس ما يُشبه الدوامة.

كان البلانس في موضع يبعد — بمسافة — عن الأماكن التي يترصد فيها المارد للسفن المارة. تأكَّد من أن البلانس ليس مسكونًا. يسكنه راكبٌ غريق، أو قتيل في حادثة. يصبح طيفُه جزءًا من حياة البلانس، يظهر في الأوقات التي يختارها.

حدس أن ما يحدث هو من فعل الأرواح الشريرة، أو من تدبير أصحاب البلانسات القديمة. لجئوا إلى الحانوتي شحاتة عبد الكريم. صنع ما لا يعرفه من وسائل السحر ليقضيَ على البلانس في أولى رحلاته عليه.

أعاد التيقُّن ما إذا كان ما يراه بشرًا، أم مخلوقًا غريبًا لم يسبق له رؤيتُه. كان المارد قد مضى عليه أيام قليلة في سكنه الجديد خارج البوغاز.

ألقى بنفسه في المياه.

وضع كلَّ قوَّته في ساعدَيه، يسبح في اتجاه الساحل.

عاد إلى البر — يحيا على ذكريات ما جرى — يروي الحكايات عن معاناته مع النوَّات والأمواج والمخلوق الغريب.

في مولد السلطان، اجتذبَته حلقةُ ذكرِ الطريقة الأحمدية الشاذلية. اندسَّ في داخلها، علا صوتُه مرددًا ما علَت به أصوات الذاكرين من الأوراد والأدعية والابتهالات. كرَّر الوقفة، وهزَّة الرأس، وتأوُّد الجسد، وترديد الأذكار، في الحلقة اليومية — عقب صلاة العشاء — أمام جامع سيدي البوصيري.

اعتاد التردد على ميدان المساجد والجوامع المحيطة.

يحرص على صلاة الجماعة. أكثرُ تردُّدِه على جامع أبي العباس. يؤدي الصلوات في أوقات العيش في بحري، يستند إلى عمود في الصحن الواسع، يتلو من المصحف آياتِ القرآن، ينظر — بعين مطمئنة — إلى قُصَّاد المقام من طالبي البرء والشفاعة والمدد، ينزل لطلب البركة من أضرحة السلطان وأبنائه أسفل مبنى الجامع، يتردد على مكتب الإمام — أيمن الباب الرئيس — يطلب النصيحة والموعظة.

أوكل إلى نفسه خدمةَ الجامع: يؤذن للفجر، يؤدي دورَ المبلِّغ في صلاة الجمعة، يرتِّب حجرة الإمام، يشارك في كنس صحن الجامع، وغسله، أنا أدفع مهر الحور العين بكنس تراب الجامع، يطمئن إلى سلامة الإضاءة والميكروفون، يُعيد فرش السجاد والحصير.

رأى الشيخ إبراهيم سيد أحمد — ذات ليلة — سيدنا الخضر يجالس أولياء الله الصالحين، من المقيمين في بحري. يغادرون أضرحتهم في لقاءات أشبه بجلسات الديوان الذي ترأسه السيدة زينب كل خميس. أعضاء ديوان أم العواجز: سيدي إبراهيم الدسوقي، سيدي أحمد البدوي، سيدي محمد الشافعي، سيدي أحمد الرفاعي. ربما شارك بالحضور بعض آل البيت ممن لهم مقامات في مدن مصر.

جلساء سيدنا الخضر أقطاب الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة والمقامات في حي بحري. جلساتهم في رحاب أضرحة أبي العباس وابنَيه وتلاميذه أسفل الجامع. القبة الغربية تعلو ضريحَ أبي العباس وولدَيه. القبة البحرية تعلو أضرحةَ ابن أبي شامة وابن الحاجب والفكهاني وابن اللبان والخزرجي. قد يستظلون بالليل في الجلوس تحت شجرة بحديقة سراي رأس التين. أكثر جلوسهم في الساحة الصغيرة المقابلة لضريح سيدي الأنفوشي. يتحدثون بأصوات خاشعة هامسة في أمور علوية.

أراد الشيخ إبراهيم تبيُّنَ ما يقال.

التقطَت أُذُناه كلمات: البحر، الصيد، الذكر، الأوراد، الخلوة، الشفاعة، الجنة، الصراط.

لم يدرِ كيف، ولا مَن نقله — في لمح البصر — من موقفه أعلى الباب المفضي إلى أضرحة السلطان وأبنائه أسفل الجامع.

رأى نفسه وحيدًا على رمال الأنفوشي. الناس — من حوله — يتحركون، ويقعدون، ويستحمون، ويعملون في ورش القزق، ويتكلمون. لا يبدو أنهم لاحظوا متى جاء، ولا الوسيلة التي لا يعرف هو نفسه كيف جاء بها.

عُنِيَ — من يومها — بالحياة الروحية. انشغل بالنفس، رياضتها، ومجاهدتها. آثرَ الانقطاع عن الناس، والتعبد لله سبحانه. استغنى بالحق عن جميع البشر. تقطعَت الأسباب بينه وبين كلِّ مَن حوله.

مال إلى حضور مجالس العلم والوعظ، والتذكير بالموت والآخرة، والتبشير بالجنة، والتخويف من عذاب النار.

قرأ سِيَر الأولياء وأعمال المتصوفة وكتب التصوف. صدقَت إرادتُه، وصفَت همَّتُه، وجاهد النفس بالجوع والسهر، والصمت عن الكلام. يعرف أن الله يراقبه في جميع أحواله. روَّض نفسه على المكاشفة والرياضة والمشاهدة. أيقن من قدرة الله، ومشيئته، وعظمة سلطانه، وعظمة أسمائه وآياته.

تصاعد — في داخله — شعورٌ مبهم بأنه لم يُخلق للحياة التي يحياها، وأنه خُلق لشيء آخر لا يعرفه تمامًا. اعتصم بالصبر والتقوى والورع والمعرفة واليقين. استقام قلبُه في حضرة الإيمان.

جاهد نفسه، فلا تهزمه مصادرُ الغواية، أو تدفعه إلى التعلق بالدنيا. أحكم إغلاق قلبه، فلا يتلوث بمحبة الدنيا. نافذة القلب الوحيدة مفتوحة على محبة الحق تعالى. أسقط من اعتباره أوهامَ الحياة الدنيوية، إلى آفاق العيش الأبدي في رحاب العرش الإلهي. أخلص في العبادة، وتصفية الباطن، وخرج عن زخرف الأكوان. أكثر من الصلوات والصيام والذكر والدعاء والتسابيح. كابدَ الهوى ووسوسة الشيطان. سجد — بالخشوع — على سجادة الامتثال لأوامر الحق ونواهيه. عُنِي بالحرث والبذر والإرواء في أرض العبادة. وبالتجليات الإلهية في نفسه، وفيما يرنو إليه.

حرص على أن يقتديَ برسول الله، ويهتديَ بهديه، ويستنَّ بسنته.

درس آيات القرآن جيدًا. عرف أحكام الشريعة. قرأ في مذاهب المتقدمين. أحاط بطرق القياس ومراتب الأدلة، وبناسخ الآيات ومنسوخها، عامِّها وخاصِّها، وتفسير المجملات، والعلم بالصحيح من الأخبار والسقيم، وأسباب الجرح والتعديل، والإفادة من صفات الإثبات.

استكمل — في حضرة المرسي — تأهيله الروحي في دنيا الصوفية.

رقيَ مدارج التصوف على جناحَي المحبة، والإخلاص لله، حتى فنيَ عن نفسه، وجميع ما حوله، وبقيَ بالحق تعالى.

لم يَعُد ثمة ما يحجب نفسه عن رؤية النور الإلهي. يومض — في لحظة ما — كالإشراقة الهائلة. يغمره النور في لحظة أو أقل، ومضة ما تلبث أن تختفيَ، لعلها تكون غير مسبوقة، بما يدفعها إلى التحرك في داخله، وتختفي بلا سبب محدد.

•••

رفض أن يتردد على مجلس الست صبيحة.

قال: لن أتحمل سماع عورة.

استطرد في لهجة تأكيد: هذا هو صوت المرأة.

وسرَت في صوته نبرةُ استياء: المصيبة أنها — كما علمت — تتحدث فيما ينبغي أن يقتصرَ على الرجال.

ميَّز الإسلام الرجل على المرأة بإباحة تعدُّد الزوجات للرجل دون أن يُبيحَه للمرأة، وتمييز الرجل عن المرأة في الميراث، واعتبار شهادة الرجل مساوية لشهادة المرأتين، والسماح للزوج بضرب زوجته، ويزيد الرجل على المرأة بحق الطاعة.

شدَّد على أن تترك الفتوى لأهلها. كلٌّ ميسَّر لمَا خُلق له، وما جعل الله لامرئ من قلبَين في جوفه.

الرجال — حسب الشرع — قوَّامون على النساء. لا تتولَّى النساء ما يجب أن يقتصر على الرجال. أمر الدعوة والفقه والتفسير شأن الرجال. حرام أن تتولاه ناقصات عقل ودين. مَن يرجع إلى الكتاب والسنة، مَن يزعم أنه يرجع إليهما، عليه أن يرجع إلى فتاوى العلماء المجتهدين. هؤلاء هم مَن يجب الاقتداء بهم.

استدل على رأيه بأن حلقات الذكر لا تضمُّ في داخلها امرأة، وأن تقاليد مجالس الأذكار لا تُبيح مشاركة النساء. مَن يخالف — ولو بالنية — يعترض على الله ورسوله، ويطعن في شريعة الإسلام. مثلُه يُستتاب، وإلا اعتُبر مرتدًّا، ونال عقاب المرتدين.

•••

لَزِم بيتَه في شارع الفرماني، لا يغادره إلا لأداء صلاة الجمعة في جامع المرسي، أو لطلب البركة من صاحب المقام. يُكمل — كل ليلة — حزبًا من القرآن. في الصباح، يصلي ركعتَي الوضوء، ويتهيَّأ لاستقبال زُوَّاره.

كان يترك القاعة — في الطابق الأرضي من بيته — لأهل بحري، والأحياء المجاورة.

تكاثرَ المعجبون به، المكبرون له. ومن حسن اعتقادهم فيه، ازداد أتباعُه ومريدوه.

اعتادَت الساحة الترابية أمام البيت تناثر العشرات — وقوفًا وقعودًا — على أمل خلو موضع بين الأجساد المتلاصقة في قاعة الدرس. يرتدي العمة البيضاء الكبيرة، والجبة والقفطان والكاكولا، والمداس المغربي. يَهَب إنصاتَه لمريديه وزُوَّاره. يسألون عن أمور روحية، يتلقون الوعظ والإرشاد. يُضمِّن أحاديثَه أقوالًا للشاذلي وأبي العباس وياقوت العرش والبوصيري وابن عطاء الله. يلجأ إلى الكناية والتشبيه والاستعارة والجناس والتورية والإشارات والدلالات الروحية. يستعين بصيغة السؤال، فيظل المريدون على انتباههم.

قصر دعوتَه على طاعة الله ورسوله، وتحليل ما أحله الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله.

تعدَّدَت مساجلاته ومناظراته، وطالت، مع أهل الصوفية ممن ينتسبون إلى مذاهب متباينة. أعادهم إلى الحق، والعمل بالكتاب والسنة. ما أوجبه الله ورسوله، واجب على جميع الثقلين: الإنس والجن.

أثابه الله سعة الصدر، فعفا عن الذين حاولوا الإساءة إليه، والانتقاص من قدره.

انضمَّ إلى مريديه رجالٌ مهمون: الشيخ جميل أبو نار إمام جامع أبي العباس، المحامي سامي بهاء الدين، الحاج جودة هلال، المعلم عمران الخولي، دعبس النحاس رسيم ذكر البوصيري، شيخ الحارة شوقي أبو سليمان. حتى البكباشي حمدي درويش، تردَّد على مجلسه في فترات متباعدة. أخلَى الشيخُ أُذُنَه لهمساتٍ خصَّه بها البكباشي، وانعكسَت على ملامحه اهتمامًا وتأثُّرًا.

امتلأت القاعة، والساحة أمام البيت بسائر أهل بحري، والزوَّار والقاصدين بركاته وشفاعته. قدموا من مدن الوجه البحري والصعيد. ربما قَدِمت أعدادٌ من السودان والأقطار العربية، يسعَون للقاء ولي الله، والانتفاع بعلمه.

لم يَعُد يقصر مجلسه على أهل الطريقة الشاذلية، ولا على العابدين أصحاب المراتب الكاملة.

أذن بالجلوس في حضرته لمريدي الطرق الصوفية الأخرى، ولمن يبدءون خطواتِ الطريق الأول، والعاجزين عن الخوض في الأحوال الصوفية العالية، أو حتى العامة الذين ربما تغيب عنهم أحكام الصوفية في صورتها الصحيحة.

شكر الله على مريديه الذين تحابُّوا — معه — في الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطَون بها، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. صنَّف مريديه بأنهم الفئة المؤمنة، والمسلمة، والناجية من النار، يُضيء حسنهم أهل الجنة، كما تُضيء الشمس لأهل الدنيا.

ذاع أمرُه، وكثر تلاميذه من الأتقياء، والعبَّاد، والزهاد، وأهل النظر، وأهل الوسائل. حتى أهل التخليط في الأقوال والأفعال، أَذِن لهم بالانتساب إليه. هم مَحاسيبُه ومريدوه، وإن لم يُحسنوا التعبير عمَّا في نفوسهم.

أَذِن للنساء، يجلسنَ خلف الحجب والأستار. يُنصتنَ إلى أحاديثه، يتابعنَها، يسألنَ فيما غمض، أو ما يشوب صفوَ الحياة. شرط الحضور ألَّا تنشغل النساء بأحاديث جانبية، أو يظهرنَ الفرحة أو الحزن، أو تعلو أصواتهن لأي سبب، فتصل إلى المريدين والأتباع في مجلس الشيخ.

لمَّا عرض عليه مريدوه أن يُنشئ طريقة، يضع قواعدَها وآدابها، رفض أن يجاوز معنى محبة الله في ذاته بلا واسطة ولا منصب. أن يكون قطبًا، أو شيخَ طريقة، أو إمامًا يُقتدى به.

ابتعد بنفسه عن تحزبات الطرق الصوفية. وافق على أن يسلك كلُّ واحد من أتباعه السبيل الذي يناسبه، وإن شدد على أصحابه ومريديه ليجمعوا على محبته.

لم يَعُد يربط نفسه بأي مذهب، ولا أية طريقة. يقينه الديني مبعثه القرآن والسنة. يأخذ من المذاهب ما شاء، ويدع ما يشاء، كلُّها اجتهادات، وعليه أن يجتهد، كما اجتهد سواه من الأئمة.

عاب على بعض المتصوفة أن الشيخ هو الأصل عندهم، يُهملون ما يصح في السنة الشريفة.

قال إن سلف الأمة وعلماء الحديث، عُنُوا بحفظ السنة النبوية، الرجال والإسناد، ضوابط علم الجرح والتعديل. الإسناد هو الذي حفظ السنة من الروايات الكاذبة، والأقوال المخترَعة.

وجد في المذاهب الفقهية الأربعة، وفي مذهب الشيعة، ما يدعو إلى الأخذ منها. ووجد في كل الطرق ما يصلح للأخذ منه. هي دروب إلى اليقين الإلهي، تختلط، تتقاطع، تتشابك، لكنها تلتقي في الطريق الواحدة.

اعتمد على القراءات والعِبَر والتأمل والاجتهادات التي يُشفق على نفسه ومريديه أن تُخطئ، ويأمل أن تُصيب. اعتبر المجادلات الفقهية واختلافات الطرق إنكارًا للدين.

وضع لمريديه آدابًا، نصحهم أن يلتزموا بها. أمرهم أن يكفُّوا عن أداء بعض الطقوس التي تقضي بها هذه الطريقة أو تلك. تقريب المسافة لا توسيعها هو المعنى الذي يجب أن ينشغلوا بتحقيقه، ما يناقض صحيح الدين، ما يهمل القرآن والسنة، والاعتراف بما أدَّاه الخلفاء الأربعة وآل البيت والصحابة والأولياء والتابعون.

فرَّق بين شريعة القرآن والسنة، وفقه العلماء والأقطاب. الشريعة لله، ولرسوله. الفقه لبشر مثلى ومثلك، يُخطئون ويصيبون.

لماذا لا نلجأ إلى ما نثق في صحته؟

وجد في الكتاب والسنة مصدرَين حقيقيَّين لما تواضع عليه الزهاد والصوفية من قواعد الرياضة والمجاهدة والذوق والوجد والكشف والمشاهدة، ومحاولة الاتصال بالذات العلية.

قال: إن الأشياءَ كلَّها فيضُ وجود الله سبحانه. وقال: الشريعة هي القرآن والسنة، أما الفقه فبإمكاننا تخطِّي قضاياه لأنه تفسير للشريعة، وهو من صنع البشر. وقال: إن الناس مأمورون بأن يلتفُّوا حول مَن يدعو إلى الطريق الحقيقي لله. وقال إن أمرًا ما يشغل المسلمين لن يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، وصلاح الأول لن يأتيَ إلا بإصلاح النفوس. وقال: مستحيل على العبد أن يمضيَ في طريق الحق وهو مكبَّل بذميم العادات والشهوات. وقال: ترفض الملائكة الوقوف على باب الرحاب الإلهي، إلا لمن تطهرَت نفسه، وأخلص التوبة من هفواته. وقال: إذا انسقتَ وراء مغريات الدنيا، فاطلب لحظة التوبة قبل فوات الأوان.

لم يكن يستعيد كراماتِه، أو يتحدَّى بها. قال إن العلماء بشر، معرَّضون لكل ما يتعرض له الإنسان من قصور. وقال إنه لا يبتغي بما يقوله أو يفعله وجاهةً ولا مظهرية، ولا حتى رضاء الناس، إنما هو تجرُّد للخير العام.

وقال في لحظة اتصال بالملكوت: إذا أردتم نشرَ طريقتي فاذكروا بركاتي بحول الله.

أحبَّه مريدوه.

جعلوه كالمحيط في سرِّه وعمقِه وخيراته. لا يسمع إلا آيات الله، ولا ينطق إلا بالثناء على الله، ولا يتحرك إلا في خدمته، ولا يجتهد في غير طاعته. يحرص أن يكون في غاية القرب من الله، فهو وليٌّ له، يُعينه — بسابغ عطفه — على أن يخرج من الظلمات إلى النور أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

بالغوا في قدرته.

خصُّوه بجماع الأسماء والصفات والأنوار والأخلاق. اختلقوا الأحداث والأفعال والكرامات، نشروها خارج بحري. تناقلَتها المجالس في أحياء الإسكندرية، وفي العديد من مدن الدلتا والصعيد.

نسبوا إلى وليِّ الله من المعجزات والخوارق ما لم يحدث، ويصعب تصديقُه. أعادوا إنكاره إلى تواضعه، أو ضعف ذاكرته. أصرُّوا على أنَّ ما تكلموا عنه قد حدث.

تحدَّث المريدون عن ركوبه الغيوم، تنقله إلى أقصى الأماكن في لحظة أو أقل، دورانه حول الأرض في ومضة، أو لمحة بصر.

قالوا إن العصا التي يتوكَّأ عليها، ليست مثلَ أيِّ عصًا، لكنها فرع من شجرة في الجنة. صحا الشيخ — ذات صباح — فوجد العصا إلى جانبه. أسند راحتَه على قبضتها، وتحرَّك بها دون أن يبينَ على ملامحه تساؤل أو دهشة. رأى الملائكة — في منامه — يقطعون الفرع من الشجرة. عُنُوا بتحويره حتى أخذ شكلَ عصًا برأس مستدير، ووضعوا العصا إلى جانبه. مَن يُلامسه الشيخ بها يبرأ مما به من أمراض. قد يذهب المرض بمجرد النظر إلى موضع الإصابة.

روى المريدون أن وليَّ الله تنبَّأ بالأزمة الاقتصادية سنة ١٩٣٠م. قال لتجار شارع الميدان: ضعوا حسابًا لأزمة قاسية تأتي بعد ثلاثة أعوام.

كان ذلك في عام ١٩٢٧م، عقب وفاة سعد زغلول. أسقط غالبية التجار تحذيرَ وليِّ الله. ثم استسلموا للندم حين اقتحمَت الأزمة حياتهم.

تحدَّثوا عن قدرته على وضع البركة في الطعام والشراب، وكشف النيات، وما تُخفيه الصدور، وتنبُّئِه بالآتي، وعن سَيره فوق موج البحر، وطيرانه في الهواء، ومخاطبته أولياء الله في أضرحتهم، ومخاطبة أسماك البحر، وطيور السماء، والحيوانات والزواحف والأشجار الساكنة.

أُصيب فهمي مهنا، لاعب فريق الطلبة — أثناء اللعب — بكسر في ساقه، صَحِبه أحمد خليل إلى وليِّ الله. مسح الشيخ بيده على موضع الكسر، فزال بإذن الله. عاد فهمي مهنا — في اليوم التالي — إلى لعب الكرة.

فسَّروا شروده — في جلسته مع مريديه — أنه يشاهد الملائكة، وأرواح الأنبياء. يتابع أحاديثهم مع بعضهم البعض، ويتحدث إليهم. يتلقَّى عنهم، ويُعطيهم من علمه. ولمَّا رأى في منامه أنه يطير فوق قبر النبي بالمدينة المنورة، دل ما رآه على قُرْبه من حضرة المصطفى، وكمال ولايته، وأنه بلغ مرتبة تلقِّي الأمر: كن، فيكون.

رآه مريدوه رؤيةَ العين وهو في حالات من التضاؤل والتعاظم الجسدي. يتضاءل جسدُه حتى لا يكاد يزيد عن الشبر. يتعاظم، ويرتفع في الهواء، يُزيح مَن يجلسون إليه، حتى يكاد ينفرد به المكان. يعلم المريدون — في حال التضاؤل — أنه يخاطب القوى النورانية، ويعلمون — في حال التعاظم — أنه يواجه قوًى شريرة، تردعها مظاهرُ القوة. وكان إذا سار في طريق مظلم، أخرج سواكه من جيبه، وجعله شمعة، تُيَسِّر خطواته.

تحدَّث إلى مريديه عن الحور العين في الجنة، خُلق أسفلهن من المسك، وأوسطهن من العنبر، وأعلاهن من الكافور، وشعورهن وحواجبهن سواد خُطَّ من نور. يتحدَّثنَ بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها. إذا أطلعت إحداهن سوارها من العرش، فسيُطفئ السوار نور الشمس والقمر. لو بصقَت في البحر، فسيُصبح ماءُ البحر كله عذبًا. حور عين خالدات البكارة، كلما عاشر الرجل صاحبته، عادت إليها البكارةُ مرة ثانية. هكذا، إلى غير نهاية. لكل حورية ألف وصيفة لحاجتها. يفرغ الرجل — في الليلة الواحدة — إلى مائة منهن. ينتقل — عقب كل مضاجعة — من سرير إلى آخر. ذكور لا تمل، وفروج لا تحفَى، وشهوات لا تنقطع.

كان في طريقه من بحري إلى ناحية المكس، يصحبه الحاج جودة هلال. إذا خرج إلى مسافة من الطريق — قلَّت أو اتسعت — لا يحمل معه نقودًا ولا زادًا. يكتفي بالتوكل على الله، وإلقاء نفسه بين يدَي نعمائه ورحمته.

لمح في عينَي جودة هلال قرصةَ الجوع.

قال: قد نجد بعد تسعين خطوة ما يسدُّ جوعنا.

عدَّ جودة تسعين خطوة، وجد بعدها شجرةَ تين، تدلَّت ثمارها. التقط منها الشيخ إبراهيم ثمرة، وأكل جودة هلال حتى شبع.

اتجه بملامح الحيرة إلى الشيخ إبراهيم: هل سرتم يا سيدي في هذه الطريق من قبل؟

قال الشيخ: بل هي أول سيري كما تعلم.

– كيف عرفت إذن بأمر هذه الشجرة؟

– أنبأني مَن أصدِّقهم.

أدرك جودة هلال أن وليَّ الله لا يترك الملكوت، وأن ملائكة الأجواء العلوية يحيطون به، لا يفارقونه.

لمح تشكُّكًا في ولايته، في عينَي الشيخ رافع عبيد. تأخر الشيخ في الإجابة عن سؤال، فهجسَت الوساوس في صدر رافع عبيد.

فطنَ الشيخ إلى ما يُعانيه الرجل. قال: علمي من عند الله فلا ينسخه. أما أنت فما أسهل على عبدٍ فقير مثلي أن ينسخ علمك، فانظر نفسك!

أدرك رافع عبيد — في غمضة عين — أن كلَّ ما حصَّله من معارف وعلوم قد تطاير من نفسه كأوراق خريفية.

قال رافع عبيد: تسلَّلَت إلى ذهني وسوسةُ شيطان، أستعيذ بالله منها.

ومال على يدَي الولي وقدمَيه، يقبِّلُها في تذلُّلٍ: أتوسل إليك أن تُعيد إلى ذهني ما كان به من معارف!

لأن وليَّ الله كان يعرف أن الشيخ رافع لن يجلس أمام تلاميذ الكُتَّاب دون علم، فقد أعاد إلى الرجل — بالإشفاق — ما كان قد مسحه من صدره.

وكان جماعة في مقهى الزردوني قد قصروا حديثَهم على الانتقاص من قدر الشيخ إبراهيم سيد أحمد ومكانته، والإنكار عليه.

انشق حائطُ المقهى عن وليِّ الله. واجهَ جلسةَ النميمة بقوله: إذا بال أحدُهم في البحر، هل يُقضَى على طهارته؟

ورفع سبَّابته في وجوههم: هذا هو عائد كلماتكم.

وعلا صوتُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ.

عاد وليُّ الله من حيث أتى.

لمَّا أظهر الشيخ عبد الستار — إمام جامع علي تمراز — خوفَه من رؤيا جهنم في منام ولي الله، مال الوليُّ إلى المعنى المغاير، وهو الولاية الكبرى.

قال إنه تآلف — ومريديه — بالعِشْرة والصداقة، واجتمعوا على الطهارة والفضيلة، والسعي للفوز برضوان الله. وقال إنهم وضعوا مذهبًا يسعَون — من خلاله — إلى تحقيق ما يريدون.

هو القطب. بلغ مرتبةً متفردة بين أولياء عصره. سمَّى مريديه نقباء، ونجباء، وبدلاء. درجاتُهم متفاوتة، لكنهم أتباعُه المخلصون.

طالب مريدوه الناسَ أن يجاوزوا الاعتقاد فيه، والإيمان بقدراته، إلى الإيمان بتميُّز قطبيته، وأنها تتحرك في مساحة من الكرامات لا نهاية لها.

ذاعَت شهرتُه، وكَثُر أتباعُه ومريدوه. شكَّلوا له حماية تكفيه للبوح بما يعد من الأسرار.

جعل الأتباعُ للطريقة أعلامَها وشاراتها المميزة. ألَّفوا العديدَ من المؤلفات عن سيرةِ وليِّ الله وخوارقه ومعجزاته. ذكروا أن الأجنة هتفَت باسمه في بطون أمهاتها، وهتف المواليد بالاسم الغالي لحظة خروجهم إلى الحياة. قالوا إن أنفاسه تتضوع في مجلسه بأريجٍ عَبِق، وقرأ الناسُ اسمَه على أصداف البحر وأوراق الشجر. أطلق الكثير من أهل بحري اسمَه على المواليد الجدد.

حين وجد بين أتباعه ومريديه اختلافًا فيما اتخذ فيه قرارًا — بينه وبين نفسه — تخلَّى عمَّا عوَّدهم عليه من المشاورات والمناظرات، وتقديم كل مريد حججه وبراهينه سعيًا إلى الرأي الصواب.

الشورى لازمة، لكن تبعات القرار تظل عليه وحده.

•••

روى مَن أدوا صلاة الجمعة — ذلك اليوم الشتوي — في جامع المرسي أبي العباس، أن الشيخ إبراهيم سيد أحمد مضى — عقب أذان الخطبة الأول — إلى المنبر.

سبق الإمام بخطوات قافزة. فرَدَ طولَه، مال بصدره إلى الوراء، استردَّ أنفاسه. حمد الله، وأثنى عليه، ومجَّده. تحدَّث عن رحلته الطويلة مع صحيح الدين. أفاض في الكلام عن القائم بالحجة، لا تخلو منه الأرض إلى أوان الانتهاء. تناثرَت في خطبته كلمات: البيعة، الشورى، الخلافة.

اتجه للمصلين بنظرة صارمة: لم تَعُد هناك طرق صوفية غير ما ندعو إليه.

وربَّت صدره براحته: أنا قطب الأقطاب.

•••

انظر: أبو العباس، أبو الحسن الشاذلي، البوصيري، الأنفوشي، جودة هلال، حمدي درويش، الخضر، رافع عبيد، سامي بهاء الدين، شحاتة عبد الكريم، صبيحة الدخاخني، عبد الستار، عمران الخولي، غريب أبو النجا، ياقوت العرش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤