أبو الحسن الشاذلي

هو القطب الغوث الفرد الجامع السيد أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن حاتم بن قصي. تمتد الأسماء إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب.

وُلد في قرية «غمارة» القريبة من سبتة بالمغرب. عُرف بالشاذلي، نسبةً إلى قرية شاذلة بالمغرب، مع أنها لم تكن مسقط رأسه.

طلب العلم بالارتحال إلى مصادره في تونس ومصر والشام والعراق. التقى في عاصمة الرشيد أبا الفتح الواسطي، الشيخ الرفاعي الكبير. قال أبو الحسن: لمَّا دخلت العراق، اجتمعتُ بالشيخ الصالح أبي الفتح الواسطي، فما رأيت بالعراق مثله. وكان بالعراق شيوخٌ كثيرة، وكنت أطلب القطب. فقال لي الشيخ أبو الفتح: تطلب القطب بالعراق وهو في بلادك. ارجع إلى بلادك تجده. فرجعتُ إلى بلاد المغرب، إلى أن اجتمعتُ بأستاذي الشيخ الولي العارف الصديق القطب الغوث أبي عبد محمد عبد السلام بن مشيش، الشريف الحسني. فلما قدمتُ عليه، وهو ساكن مغارة برباطه في رأس الجبل، اغتسلتُ في عين أسفل الجبل، وخرجت من علمي وعملي، وطلعتُ إليه فقيرًا، وإذا به هابط عليَّ. فلما رآني قال: مرحبًا بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار، وذكر لي نسبي إلى رسول الله . ثم قال لي: يا علي، طلعت إلينا فقيرًا عن علمك وعملك، فأخذت منَّا غنَى الدنيا والآخرة … فأخذني منه الدهش، وأقمت عنده أيامًا، إلى أن فتح الله على بصيرتي.

الشيخ عبد السلام بن مشيش أستاذ أبي الحسن الشاذلي — في تأكيدات أقطاب الشاذلية — مقامه بالمغرب كمقام سيدي الإمام الشافعي بمصر المحروسة.

سلك الشاذلي طريقَ ابن مشيش في جمعه بين الشريعة والحقيقة: «الزم الطهارة من الشرك، كلما أحدثت، تطهرت من دنس حب الدنيا، وكلما ملتَ إلى الشهوة، أصلحت بالتوبة ما أفسدتَ بالهوى، وعليك بمحبة الله على التوقير والنزهة، وأدمن الشرب بكأسها مع السكر والصحو، كلما أفقتَ أو تيقظت، شربت، حتى يكون سكرك وصحوك بالله، وحتى تغيب بجماله عن المحبة، وعن الشراب والشرب والكأس، بما يبدو لك من نورِ جماله، وقدسِ كمال جلاله.»

بعد أن تعلَّم على يد ابن مشيش، ووصل إلى مرتبة المشيخة، جلس فيها، وحمل الراية البيضاء، راية أولياء الله الصالحين.

قال ابن مشيش لتلميذه الشاذلي: يا علي، ارتحل إلى إفريقية، واسكن بلدًا بها تسمَّى شاذلة، فإن الله — عز وجل — يسميك الشاذلي، وبعد ذلك تنتقل إلى تونس، ويؤتَى عليك بها من قِبَل السلطنة، وبعد ذلك تنتقل إلى أرض المشرق، بها تَرِث القطبية.

قال أبو الحسن — بعد أن تهيَّأ للرحيل — لأستاذه ابن مشيش: أوصني.

قال الشيخ: يا علي، الله الله، والناس الناس، نزِّه لسانك عن ذكرهم، وقلبك عن التمايل من قِبلهم، وعليك بحفظ الجوارح، وأداء الفرائض، وقد تمت ولاية الله عندك، ولا تذكِّرهم إلا بواجب حق الله عليك. وقل: اللهم ارحمني من ذكرِهم، ومن العوارض من قبلهم، ونجِّني من شرِّهم، وأغنني بخيرك عن خيرهم، وتولَّني بالخصوصية من بينهم، إنك على كل شيء قدير.

مضى أبو الحسن — بنصائح أستاذه — إلى تونس، ومنها إلى الإسكندرية. عرف أن بالمدينة وليَّ الله أبا الفتح الواسطي. وقف الشاذلي بظاهر المدينة، واستأذن في دخولها.

قال أبو الفتح: طاقية لا تسع رأسَين!

ومات أبو الفتوح في الليلة نفسها.

أمضى أبو الحسن — بعد زيارته الإسكندرية للمرة الأولى — ما لفت انتباهه من معالمها: المنارة، عمود السواري، المسلَّات، القصور، المساجد، الكنائس، القلاع، الأسوار العالية، وما يتخللها من أبراج وحصون وأبواب. ظل في الإسكندرية وقتًا، ثم عاد إلى تونس.

التقى بأبي العباس المرسي، أهم مريديه وتلاميذه وخليفته بعد رحيله، ثم سار إلى مصر، يصحبه تلميذُه أبو العباس المرسي، وشقيقه أبو عبد الله جمال الدين محمد، وأبو العزائم ماضي، ومحمد القرطبي، وغيرهم. نزلوا — وقت الغروب — عند عمود السواري. سبقهم كتابٌ من قاضي تونس أبي القاسم بن البراء إلى والي الإسكندرية «إن الواصل إليكم شوَّش علينا بلادنا، وكذلك يفعل في بلادكم.»

كان أبو الحسن قد ناقش ابنَ البراء في الشريعة، وخالفه في الرأي، فأضمر النَّيل منه. اعتقل الوالي أبا الحسن وصحْبَه، ثم أطلق سراحهم — بعد أيام — لتبين الحقيقة.

أقام أبو الحسن وصحبُه في بيت بالقرب من كوم الدكة. جعل جامع العطارين — أعوام إقامته — موضعًا لإلقاء دروسه في الوعظ والتفسير، عقد حلقات الذكر، لقاء طلبته ومريديه. تنقَّل بين دمنهور والمنصورة ودمياط والقاهرة وبعض مدن الجنوب. ارتحاله في الإسكندرية ناحية البحر، يجتذبه الأفق، والتأمل، والمعاني الجميلة. إن ركب يمشي الفقراء والأغنياء حوله، وتُنشر الأعلام والبيارق على رأسه، وتُضرب الكاسات بين يديه، وتعلو الأصوات قائلة: مَن أراد القطب، فعليه بالشاذلي.

قدَّم أبو الحسن (عام ١٢٤٨م) تلميذَه أبا العباس خليفةً له في الطريقة. أذن له بإلقاء الدروس على تلاميذه، وتفقيههم في أمور دينهم.

لما اقتحم الصليبيون أرض مصر — في العام التالي — بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، شارك أبو الحسن المصريين جهادَهم في معركة المنصورة، حيث أُسر لويس التاسع.

وهو يُعِد نفسَه للسفر إلى البيت الحرام — كعادته كل يوم — عن طريق الصعيد، قابله الخضر عليه السلام.

قال الخضر: يا أبا الحسن. أصحَبكَ الله اللطف الجميل. وكان لله صاحبًا في المقام والرحيل.

أدرك أبو الحسن أنه اقترب من لقاء الله.

قال لنقيبه: اصطحبْ معك كفنًا ومكتلَ ماء وحنوطًا وفأسًا.

قال النقيب: لماذا؟

اكتفي الشاذلي بالقول: سوف نرى.

مضى الشاذلي إلى الحج في موعده المعتاد. فاجأه المرضُ في ميناء عيذاب على البحر الأحمر. عندما أحسَّ القطب بدنو أجله، أوصى أصحابه بالطريقة التي ينبغي — بعد رحيله — أن يسيروا فيها.

لما أسلم الروح، صلَّى عليه أصحابه، وواروه التراب في بلدة «حميثرة» بصحراء عيذاب، جنوب شرقي مصر. وواصلوا السير إلى مكة.

خلف أبو العباس المرسي أستاذَه الشاذلي في مشيخة الطريقة الشاذلية.

•••

دُفن الشاذلي حيث تُوفي. عشرات الألوف يزورون ضريحه، وبخاصة في أيام مولده.

جُدد بناء مسجد الشاذلي في حميثرة، منذ أعوام قريبة.

•••

وصفه ابن عطاء الله بأنه «قطب الزمان، والحامل في وقته لواء أهل العيان، حجة الصوفية، علم المهتدين، زين العارفين، أستاذ الأكابر، زمزم الأسرار، ومعدن الأنوار، القطب الغوث الجامع أبو الحسن علي الشاذلي، رضي الله عنه.»

•••

قال الشاذلي: كنت أنا وصاحب لي قد أوينا إلى مغارة، نطلب الوصول إلى الله، فكنَّا نقول: غدًا يفتح لنا. فدخل علينا رجل له هيبة. قلت له: مَن أنت؟ قال: عبد الملك. علمنا أنه من أولياء الله. قلنا له: كيف حالك؟ قال: كيف حال مَن يقول: غدًا يفتح لي، بعد غد يفتح لي، فلا ولاية ولا فلاح. يا نفس لا تعبدين الله إلا لله. قال: فتفطَّنَّا من أين دخل علينا، فتُبْنا واستغفرنا، ففتح لنا.

•••

رأى أبو الحسن الشاذلي كأنه في المحل الأعلى. قال: إلهي، أي الأحوال أحب إليك؟ وأي الأقوال أصدق لديك؟ وأي الأعمال أدل على محبتك؟ وفِّقني واهدني.

قيل لأبي الحسن: أحب الأحوال إلى الله تعالى، الرضا بالمشاهدة، وأصدق الأقوال لديَّ قول لا إله إلا الله على النظافة، وأول الأعمال على محبتي بغضُ الدنيا، واليأس من أهلها مع الموافقة.

•••

قال أبو الحسن الشاذلي: إن للقطب خمس عشرة علامة: أن يُمَدَّ بمَدد العصمة، والرحمة، والخلافة، والنيابة، ومَدد حملة الوشي العظيم، ويُكشَف له حقيقة الذات، وإحاطة الصفات، ويُكرم بكرامة الحلم، والفصل بين الموجودين، وانفصال الأول عن الأول، وما انفصل عنه إلى منتهاه، وما يثبت فيه، وحكم ما قبل وما بعد، وحكم مَن لا قبل له ولا بعد، وعلم الإحاطة بكل علم ومعلوم، ما بدا من السر الأول إلى منتهاه، ثم يعود إليه.

•••

قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: ما رأيت أعرف بالله من أبي الحسن الشاذلي.

•••

همس أبو الحسن الشاذلي — يومًا — بالسؤال: يا رب، لماذا سمَّيتني الشاذلي ولستُ من شاذلة؟

تناهَى صوتٌ علوي، غاب مصدره، وإن أدركه الشاذلي: يا علي، ما سميتُك بالشاذلي. إنما أنت الشاذلي — بتشديد الذال المعجمة — أي المفرد لخدمتي ومحبتي.

•••

يصف أبو العباس الطريقة الشاذلية، بأنها المداومة على ذكر الله، وترك الغيبة، وترك سوء الظن بعباد الله؛ فمَن واظب على ذلك، رزقه الله من حيث لا يحتسب.

لم يُعنَ أبو الحسن بالتأليف، ولا ألَّف كُتُبًا. كان يقول: كتُبي أصحابي. وكان يقول: أخذت ميراثي من رسول الله ، فمُكِّنت من خزائن الأسماء؛ فلو أن الجن والإنس يكتبون عني إلى يوم القيامة لكلُّوا وملُّوا.

اقترب من الإمام الغزالي في الأخذ والتعبد بالكتاب والسنة في كل أحواله وأموره. وكان أصحابه كثيرين، حافظوا على تعاليمه ونصائحه، وحفظوا الأحزاب المنسوبة إليه: حزب البر، حزب البحر، حزب النصر.

فسَّر أقربُ مريديه ارتداءَه للصوف الرقيق، بأنه وصَلَ إلى مقام اللطافة. كان يلبس أغلى الثياب، ويُحسن لباسه ومظهره، ويحب العطر الفواح، ويأكل الأطعمة الفاخرة في أواني الصيني، ولا ينتقل إلا راكبًا، ويأخذ زينته عند كل مسجد. لا يرى في اليقين الديني باعثًا لإهمال الهندام والمظهر. يكره الثياب التي تَشِي بسرِّ صاحبها: اعرف الله، وكن كيف شئت!

رأى في النوم صائحًا يهتف من جو السماء: وإنما تُساق لرزقك، أو لأجَلك، أو لمَا يقضي الله به عليك، أو بك، أو لك، وهي خمس لا سادس لها. فاتق الله أينما كنت، ولا تعدل بالتقوى شيئًا؛ فإن العاقبة للمتقين، فالحق يحبُّهم ويحبونه ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. أعوذ بالله من سوء القضاء، ومن جزع النفس عند ورود البلاء، ومن الفرح والحزن والهم والغم في الشدة والرخاء.

قال الشاذلي: كنت مريضًا بالقيروان، فرأيت النبي . فقال لي: طهِّر ثيابك من الدنس تُحفَظ بمدد الله في كل نفس. قلت: وما ثيابي يا رسول الله؟ قال: إن الله كساك حُلَّة المعرفة، ثم حُلَّة المحبة، ثم حُلَّة الإيمان، ثم حُلَّة التوحيد، ثم حُلَّة الإسلام؛ فمَن عرف الله صَغُر لديه كل شيء، ومَن أحب الله هان عليه كلُّ شيء، ومَن وحَّد الله لم يشرك به شيئًا، ومَن آمن بالله أمن من كل شيء، ومَن أسلم لله قلَّ ما يعصيه، وإن عصاه اعتذر إليه قبل عذره. قال أبو الحسن: ففهمتُ من ذلك معنى قوله: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وقال الشاذلي: خرجت إلى البستان مع أصحاب لي بمدينة تونس. ثم عدت إلى المدينة، وكنَّا ركبانًا على الحمير. لما وصلنا قريبًا من المدينة — وكان طينًا — قالوا: يا سيدي، انزل هنا. قلت: ولمَ؟ قالوا: هذه هي المدينة، ونستحي أن ندخلها على الحمير. قال أبو الحسن: فثنيت رجلي، وأردت موافقتهم، فإذا النداء عليَّ: إن الله لا يعذب على راحة يصحبها التواضع، ولكن يعذِّب على راحة يصحبها الكبر.

كان يتحدث في الزهو، وعليه أثواب جميلة، وبردة يمانية. الرفاهية والنعيم والعز حقوق المؤمنين، المتعبدين، المخلصين في التوجه إلى الله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا.

لماذا يحرم المرء نفسه من النعم التي أنعم بها الله عليه؟

محبة الله لا تمنع المرء من أن يأخذ حظَّه من الدنيا، مثلما يأخذ حظه منها إلى الآخرة. لم يأخذ الرسول نفسه بقسوة لا مبرر لها. صلَّى، وصام، وقام، ونام، وتزوج النساء، وجلس إلى الأصدقاء والجماعة، ونزل الأسواق.

تساءل فقير في المجلس — بينه وبين نفسه: كيف تكلم الشيخ في الزهد وعليه هذه الكسوة؟ أنا الزاهد في الدنيا.

اتجه إليه الشاذلي بنظرة فاهمة: يا هذا … ثيابك هذه ثياب الرغبة في الدنيا، لأنها تنادي بلسان السعة والفقر، وثيابنا تنادي بلسان الغنى والتعفف.

قام الفقير من مجلسه. قال: أنا والله المتكلم بهذا في سري يا سيدي، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه.

قال الشاذلي: فاحرص على أن تكتسيَ كسوة طيبة.

يقين أقطاب الصوفية — بقراءات واجتهادات وصدق إدراك — أن أبا الحسن الشاذلي مختار من اللوح المحفوظ. سَبَحَ في بحر الصفات الإلهية. غاص في الأعماق، حيث ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أُعطيَ سجلًا من الحضرة العلية، فيه — إلى مد البصر — أصحابه وأصحاب أصحابه، حتى يوم القيامة، عتقًا لهم من النار.

•••

قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: ما رأيت أعرف بالله من أبي الحسن الشاذلي.

•••

بعد أن عرَف أبو العباس الشاذلي، كتب لأصحابه في تونس يقول: «فإني صحبتُ رأسًا من رءوس الصديقين، وأخذتُ منه سرًّا لا يكون إلا لواحد بعد واحد، والشرح يطول، وبه أفتخر، وإليه أُنسب رضي الله عنه، وهو أبو الحسن الشاذلي. وكان لا يصحبه أحد إلا فُتح له في يومين أو ثلاثة، فإن لم يجد شيئًا بعد ثلاثة أيام فهو كذاب، أو يكون صادقًا، لكنه أخطأ الطريق. دليله من كتاب الله عز وجل قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا

•••

جلس — في داخل خيمة بالمنصورة — سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام. من حوله الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، والشيخ مجد الدين علي بن وهب، والشيخ مجد الدين الإخميمي، والشيخ أبو الحسن الشاذلي.

كانت رسالة القشيري تُقرأ على الحضور. وكانوا يعلقون عليها بعبارات إعجاب وملاحظات، بينما ظل الشاذلي صامتًا.

قال الشيوخ لأبي الحسن: يا سيدنا … نريد أن نسمع منك شيئًا.

قال الشاذلي: أنتم سادات الوقت وكبراؤه، وقد تكلمتم.

قال المشايخ: لا بد أن نسمع منك شيئًا.

تكلم الشاذلي بالأسرار العجيبة والعلوم الغريبة.

قام الشيخ عز الدين عبد السلام. فارق موضعه إلى خارج الخيمة، وهو يقول: اسمعوا هذا الكلام القريب إلى الله تعالى.

•••

صلى أبو العباس الصبح — ذات يوم — وراء الشاذلي. تلا أبو الحسن من آيات القرآن يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا.

قال أبو العباس: وقع في نفسي شيء من ذلك المعنى. فلما سلَّم الشيخ من الصلاة، التفت إليَّ، وقال: يا أبا العباس، يهب لمن يشاء إناثًا العبادات والمعاملات، ويهب لمن يشاء الذكور الأحوال والعلوم والمقامات، أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا، يجمع ذلك فيمن يشاء من عباده، ويجعل من يشاء عقيمًا بلا علم ولا عمل.

تعجبت من ذلك، فقال الشيخ: والله ما وقع في خاطر أحد شيءٌ إلا وأطلعني الله عليه في تلك الصلاة أو غيرها.

•••

قال أبو الحسن لبعض الأولياء: إنه لينزل عليَّ المدد، فأرى سريانه في الحوت في الماء، والطير في الهواء.

قال الولي: أنت القطب إذن؟

قال الشاذلي: أنا عبد الله … أنا عبد الله.

وقال أبو الحسن: لولا لجام الشريعة على لساني، لأخبرتكم بما يكون في غد، وبعد غد، إلى يوم القيامة.

•••

قال الشيخ أبو الحسن الجزيري — من أصحاب الشاذلي: كنت — ليلة — عند الشيخ أبي الحسن، وكان يقرأ على كتاب «ختم الأولياء» للترمذي الحكيم، فرأيت رجلًا جالسًا لم يكن بصحبتنا، ولم يكن مع الشيخ عند دخوله، فسألت أحد أصحابي عن هذا الرجل، فقال: ما نرى غير مَن دخلت معهم.

فسكت. وعلمتُ أنه لم يرَه. فلما انصرف الجمع، قلت للشيخ أبي الحسن: رأيت رجلًا لم يكن معنا، ولم يكن عند دخولنا.

قال: ذاك أبو العباس المرسي، يحضر كلَّ ليلة من خط المقسم بالقاهرة، ليسمع الدرس عندنا بالإسكندرية، ثم يعود في ليلته إلى مكانه.

•••

دخل أبو الحسن الشاذلي على وليٍّ من أولياء الله بالقناطر، اسمه خليل. توضأ عنده، ثم أخذ قوسًا، فجرَّها ثلاثًا.

قال الولي: يا سيدي، مَن هو الخليفة من بعدك؟

قال الشاذلي: مَن يأتيك إلى هنا، ويتوضأ نحو وضوئي هذا، ويجر هذا القوس ثلاثًا، فهو الخليفة بعدي.

وانصرف الشاذلي. وجاء من بعده أصحاب الشيخ خليل، فلم يفعلوا ما تحدَّث عنه الشاذلي. ثم دخل أبو العباس، وتوضأ مثل وضوء الشاذلي. فلما أبصر القوس معلقًا، قال للشيخ: ناولني هذا القوس.

وتناولها، وجرَّها ثلاث مرات، ثم قال: يا خليل، جاءك وعدُ الشيخ!

•••

قال أبو العباس: لما نزلتُ بتونس — وكنت أتيت من مرسيه — وأنا إذ ذاك شاب، سمعت بذكر الشيخ أبي الحسن الشاذلي. فقال لي رجل: تمضي بنا إليه.

قلت: حتى أستخير الله!.

نمت تلك الليلة، فرأيت كأني أصعد إلى رأس جبل. فلما علوت فوقه، رأيت هنالك رجلًا، عليه بُرنس أخضر، وهو جالس، وعن يمينه رجل، وعن يساره رجل، فنظرت إليه، فقال: عثرت على خليفة الزمان!.

فانتبهت.

فلما كان بعد صلاة الصبح، أتاني الرجل الذي دعاني إلى زيارة الشيخ، فسِرْت معه. فلما دخلنا عليه، رأيته بالصفة التي رأيته بها فوق الجبل. دهشت، فقال لي: عثرت على خليفة الزمان … ما اسمك؟

ذكرت له اسمي ونسبي، فقال لي: رفعت لي منذ عشر سنين!

•••

فقد أبو الحسن بصرَه بعد أربع سنوات من وصوله مصر. رُوي أنه لقيَ بعض الأولياء في ساحة، فعرض عليه كلامًا في التوحيد. صاح الرجل لمَا قاله الشاذلي، وشهق شهقة الموت.

تناهَى إلى أبي الحسن صوتٌ سماوي: يا علي … لمَ فعلت؟ … لتعاقبنَّ بذهاب بصرك!

ظل الشاذلي على يقينه الديني، وإخلاصه، وتبصير الناس بأمور دينهم.

قال لتلميذه أبي العباس: يا أبا العباس، انعكسَ بصري على بصيرتي، فصرتُ كلي مبصرًا، بالله الذي لا إله إلا هو، ما أترك في زماني أفضل من أصحابي، وأنت والله أفضلهم.

واتجه إليه بالسؤال: ما عمرك يا أبا العباس؟

قال أبو العباس: ثلاثون سنة.

قال الشاذلي: بقيَت عليك عشرةُ أعوام، وتَرِث الصديقية من بعدي.

•••

قال أبو الحسن: رأس النفس إرادتُها، ويداها عملها، وعقلها ورِجلاها تدبيرُها واختيارها. وقال الشاذلي: خمس مَن لم يكن منهن فيه شيء، فلا إيمان له: التسليم لأمر الله، والرضا بقضاء الله، والتفويض إلى أمر الله، والتوكل على الله، والصبر عند الصدمة الأولى. وقال: إن من أعظم القربات عند الله مفارقة النفس بقطع إرادتها، وطلب الخلاص منها بترك ما تهوى لما يرجَى من حياتها، وإن من أشقى الناس مَن يحب أن يعامله الناس بكل ما يريد، وهو لا يجد من نفسه بعض ما يريد، وطالِب نفسك بإكرامك لهم، ولا تطالبهم بإكرامهم لك، لا تكلِّف إلا نفسك. وقال: إن أردت السلامة من الغرور، فأخلص العمل لله بشرط العلم، ولا ترضَ عن نفسك بشيء. وقال: لا يشم رائحة الولاية مَن لم يزهد في الدنيا وأهلها. وقال: للصوفي أربع صفات: التخلق بأخلاق الله، وحسن المجاورة لأوامر الله، وترك الانتصار للنفس حياءً من الله، وملازمة البساط بصدق الفناء مع الله. وقال: البصيرة كالبصر، أدنى شيء يقع فيه تعطل النظر، وإن لم ينتهِ الأمر به إلى العمى. وقال: أَثبتْ لي ما هو حق لي، أُثبت لك ما هو حق لك، ثم آخذك عمَّا هو حق لك، وأُبقيك عمَّا هو حق لي. وقال: المحبة سرٌّ في القلب من المحبوب، إذا ثبت قطعك عن كل مصحوب. وقال: أبواب الحق أربعة: التوحيد والمحبة والإيمان والرضا. وقال: بسط الكرامة أربعة: حبٌّ يشغلك عن حبِّ غيره، ورضًا تَصِل به حبك بحبه، وزهد يُحققك بزهد رسوله، وتوكُّل يكشف لك عن حقيقة قدرته. وقال: كان لي صاحب، وكان كثيرًا ما يأتيني بالتوحيد، فرأيتني في النوم أقول له: يا أبا عبد الله، إن أردتَ التي لا لوم فيها، فليكن الفرق في لسانك موجودًا، والجمع في سرِّك مشهودًا. وقال: حرام عليك أن تتصل بالمحبوب، ويبقى لك في العالمين مصحوب. وقال: أرحمُ الناس بالناس عبدٌ يرحم مَن لا يرحم نفسه. وقال: أحسن الناس منزلة، مَن بخل بالدنيا على مَن لا يستحقها، فكيف بمن بخل بها على مستحقها؟ وقال: قد أيستُ منفعة نفسي لنفسي، فكيف لا أيأس من منفعة غيري لنفسي؟ ورجوت الله لغيري، فكيف لا أرجوه لنفسي؟ وقال: من انقطع عن تدبيره إلى تدبير الله، وعن اختياره إلى اختيار الله، وعن نظره إلى نظر الله، وعن مصالحه إلى علم الله، لملازمة التسليم والرضا، والتفويض والتوكل على الله، فقد آتاه الله حسن الطلب، وعليه يترتب الذكر والفكر، وما وراء ذلك من الخصائص. وقال: إذا منعك مما تحب، وردَّك إلى ما يحب، فهي علامةُ صحبتِه لك. وقال: العبودية هي امتثال الأمر، واجتناب النهي، ورفض الشهوات والمشينات على الشهود والعيان. وقال: كرامة الله في الرضا تُلهيك عن المصائب إلى يوم اللقا. وقال: نمتُ ليلًا في سياحتي، فطافت السباع من حولي. سمعتُ لها طنينًا ومناجاة وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. وقال: اجعل زادك التقوى في الدنيا. وقال: اتخذ التقوى وطنًا، ولا يضرك مدحُ النفس ما لم تُصِرَّ على الذنب، أو ترضَ بالعيب، وتسقط عنك الخشية. وقال: لا تُسرف بترك الدنيا فتغشاك ظلمتُها، وتنحل أعضاؤك لها، فترجع لمعانقتك لها بالهمة، وبالإرادة، والحركة. وقال: إن أردتَ ألَّا يصدأَ لك قلب، ولا يلحقك همٌّ ولا كرب، ولا يبقى عليك ذنب، فأكثِر من الباقيات الصالحات. وقال: مَن أحب ألَّا يُعصَى الله تعالى في مملكته، فلا أحب ألَّا تظهر مغفرته ورحمته. وقال: أَكرِم المؤمنين، وإن كانوا عصاةً فاسقين، وأقم عليهم الحدود، واهجرهم رحمةً بهم. لا تفزز عليهم، ولا تقتدِ بمن يتورع بما تناولَته أيدي المؤمنين، ولا نتورع مما مسته أيدي الكافرين، وقد علم ما نال الحجر من مس أيدي المشركين، فاسودَّ لذلك.

•••

جمع أبو الحسن أصحابه ليلة الرحيل. أوصاهم بحزب البحر. قال لهم: حفِّظوه أبناءكم فإن فيه اسمَ الله الأعظم.

ثم خلا بالمرسي أبي العباس، وأوصاه، واختصه بما خصه الله — سبحانه — به من البركات. وقال لأصحابه: إذا أنا متُّ فعليكم بأبي العباس المرسي، فإنه الخليفة من بعدي، وسيكون له مقام عظيم بينكم، وهو باب من أبواب الله تعالى.

قال أبو العباس: بات سيدي أبو الحسن، متوجهًا إلى الله تعالى تلك الليلة، ذاكرًا، متضرعًا. وكان يردِّد: إلهي … إلهي.

لما جاء وقت السحر، صمت. ظننا أنه نام. كلمناه فلم يتكلم، حركناه فلم يتحرك. عرفنا أنه مات. غسَّلتُه بنفسي، وصليت عليه مع تلاميذه، ودفنَّاه بحميثرة.

•••

قال ابن عطاء الله السكندري: «أخبرني بعض أصحابنا، قال: رأى إنسان من أهل العلم والخير، كأنه بالقرافة الصغرى، والناس مجتمعون يتطلعون إلى السماء، وقائل يقول: الشيخ أبو الحسن ينزل من السماء، والشيخ أبو العباس مرتقب لنزوله، متأهب له. فرأيت الشيخ أبا الحسن قد نزل من السماء، وعليه ثياب بيض، فلما رآه الشيخ أبو العباس، ثبت رجليه في الأرض، وتهيَّأ لنزوله عليه، فنزل الشيخ أبو الحسن عليه، ودخل من رأسه حتى غاب فيه، واستيقظت.»

رُوي أن أبا الحسن، حين مات، إنما غاب في أبي العباس، تواصل فيه، تحقق له الامتداد.

قال أبو العباس: إن الله تعالى قد أعطاني لسان شيخي أبي الحسن الشاذلي. صار أبو العباس هو لسان الشيخ، وصار هو هو. وقال أولياء العصر: فنيَ أبو العباس في أبي الحسن، ثم فنيَ في الدعوة إلى الله بعد أبي الحسن، فلم يكن عنده فراغ للحديث عن نفسه.

•••

لم يولد أبو الحسن الشاذلي في الإسكندرية، ولم يدفن فيها، لكنه أحب المدينة، فهو يحرص — بكرامات لا آفاق لها — على أن يزورها في أوقات متقاربة. يسير في الشوارع والأسواق، يقف على شاطئ البحر، يزور المقامات والأضرحة، يطمئن على أحوال مريديه وأتباع طريقته. يستطيب الجلوس إلى تلاميذه في الساحة الترابية الخالية أمام ضريح سيدي الأنفوشي، بساطهم الزهد، والعبادة، وحب الله، وحب عباده. يتساءلون الوقائع، يناقشون الإلهيات، وخلق العالم، وأمور الغيب، وحقيقة الوحي، وعصمة الأنبياء، وفرق المكانة بينهم وبين الأولياء، وأحوال الدين والدنيا، وغياب مصالح الناس. يتأملون ما تنطوي عليه الحياة من عِبَر. يستعيدون سير الأنبياء والرسل والأولياء والصحابة والتابعين، وما كان عليه الزمان في بحري، وما أصبح عليه. ربما استضاف المجلس أقطابًا من مواضع خارج بحري، وخارج البلاد كلها: أحمد البدوي، إبراهيم الدسوقي، أحمد الرفاعي، محمد الشافعي، ذا النون المصري، علي الخواص، محمد المنير، أبا اليزيد البسطامي، إبراهيم بن أدهم، وغيرهم.

يترامى — من وراء قلعة قايتباي — هديرُ الأمواج، وتُحلق الطيور، وصافرات البواخر في الميناء الغربية، وما يشبه الموسيقى الهادئة، الغائبة المصدر.

•••

انظر: أبو العباس، الخضر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤