ماهر الصاوي

ميدان المساجد، تحيط به أهم جوامع الإسكندرية: أبي العباس، ياقوت العرش، نصر الدين، البوصيري.

يشغى الميدان معظم أيام السنة، بموالد الأولياء وحلقات الذكر والجلوات وليالي رمضان وخيام التواشيح ورواة السير الشعبية والأعلام والبيارق وألعاب المراجيح والقوة والنشان والزحام.

في شارع السعارنة المفضي إلى شارع الميدان وُلد ماهر الصاوي. تعلَّم في كُتَّاب رافع عبيد. ثم تعلَّم من الشيخ صالح السمنودي — قارئ أبي العباس — خصائص فن التجويد والترتيل والإلقاء والتنغيم. لاحظ الشيخ صوته الواسع، وأوتاره المرنة، ونطقه السليم الواضح. تمكَّن — بحفظ القرآن وإجادة ترتيله — من روح اللحن العربي. أتاحت القصائد الدينية تعمقه في أسرار الروح العربية الموسيقية.

الأصول الصحيحة للمقامات العربية، السيكا والصبا والراست والبياتي والحجاز والحسيني والعشاق وغيرها، تقوم عليها تلاوات القرآن، يمكنه أن يُفيد منها — فيما بعد — في الإنشاد الديني والابتهالات. يدلُّه على السماع المشايخ: أحمد ندا، محمود القيسوني، حسين الصواف، حنفي برعي، على محمود، إسماعيل سكر، البربري. يستعيد إنشاد القصائد والموشحات والمدائح. يُجيد المحاكاة في الصوت والأداء، لا يفوته حتى ما يبدو عفويًّا في الإشارات والتلميحات والإيماءات. يساعده أداؤه، على تعلُّم التنوع الهائل في الموسيقى والإيقاعات، وفي التحولات المقامية، وفي دقة التوقيت والمخارج والتنقيح والوضوح.

تقوَّى — بالتواشيح — على الطي والوصال. يُبرز التشديدات، يطمئن الغنَّات، ومداراة الحركات، ومراعاة المد والقصر والترقيق والتفخيم.

من الله ربي أرى كل خير
على خاطري كل صعب يهون
وما دامت الناس تحت الثرى
فمَن أنا في الناس أو مَن أكون

كان أداء سلامة حجازي لأذان الفجر — من مئذنة البوصيري — يطيِّر نومه. يُنصت — وهو مستلقٍ على السرير — إلى الأذان بصوت الشيخ. يتسلل إلى داخله بخدر غريب، لا يفهمه، وإنما يجعله صاحيًا إلى الصباح. يشرد في مخارج الألفاظ، وطريقة الأداء، والموسيقى التي يستنيم إليها.

هزَّ كتفَيه — بعفوية — لقول أبيه: هل يؤذِّن الشيخ سلامة أو يغنِّي؟

يستروح الصوت الجميل. يرقِّق قلبه، يحلِّق به في سماوات لا نهائية. وجد في الشيخ سلامة معلِّمًا يأخذ الغناء عنه، أصوله وقواعده ومقاماته. تَبِع الشيخ إلى كل مكان أنشد فيه. حفظ ألحانه، وطريقة أدائه. أنصت إلى ملاحظات الشيخ ونصائحه.

لكثرة الجوامع والمساجد والزوايا، وما يتصل بها من الأضرحة والمقامات والسرادقات والخيام، فقد أَلِف رؤية الموالد وحفلات الذكر وأكشاك الختان، والاستماع إلى المنشدين الدينيِّين، ورواة السير الشعبية والفقهاء والصييتة والمدَّاحين والموالدية، ومرددي الموال. درس الإيقاع والضروب والأوزان، وحفظ الكثير من القصائد ومنظومات الابتهالات والتواشيح والأدوار والبشارف والسماعيات والطقاطيق، وحفظ ما تيسر له قراءته وسماعه من قصص الأنبياء والصحابة وأولياء الله.

لم يعرف أي نوع من التعليم المنظم لفن الموسيقى. كانت الإسكندرية بلا معهد للموسيقى، أو مدارس للموسيقى. صار عليه أن يعلِّم نفسه بنفسه.

اقتصر — في البداية — على الإنشاد الديني. السحريات والفجريات والتسابيح في الثلث الأخير من الليل، التغنِّي بالمدائح النبوية والابتهالات والتكبير والموالد، القصائد التي تدعو إلى طاعة الله، وتتحدث عن الاقتداء بأخلاق الرسول، ويوم اللقاء. يحاكي المنشدين في رواياتهم لسِيَر الهلاليِّين وسيف بن ذي يزن وعنترة وبيبرس. أنشد القصص الدينية: زين العابدين، الملك الظالم، سالم وسالمة، عبد الله الصابر، الملك الظالم، فتح الشام، الغلام، هجرة الرسول، إسلام بلال، سيدنا يوسف، الكريم والبخيل، زكريا ويس، نهاية الصابرين، المبروكة، الزوجة الصابرة، عابدين وعبد الله، كامل وكمال، سامي وسامية، رضا، الملك والهجين.

تردد على قهوة الفنانين بشارع إسماعيل صبري. استمع إلى الشاعر الشعبي في قهوة الزردوني، وإلى الإنشاد الديني والتواشيح والمواويل في ميدان أبي العباس.

حفظ نداءات الباعة، وأغنيات الأفراح وحفلات الختان، وتعديد المآتم، وإنشاد الصوفية، والمواويل الحمر.

حين استمع إلى صوت سيد درويش — للمرة الأولى — على أسطوانة فونوغراف، لم يُخفِ دهشته. أجش، جاف، يخلو من القدرة على التطريب. صوت المغنية بدارة يُشعره برغبة في البكاء. يهزُّه الشجن في صوت بدارة، دون أن يُعطيَ انتباهه للكلمات أو اللحن.

عاش في القديم، تذوق طربه. عرف أسماء الأوزان الموسيقية، والفرق بين الصبا والسيكا والبياتي والنهاوند والعراق والحجاز كار. تعلَّم الإحكام وحسن التخريج.

تأثر بمشهد محمد عبد الوهاب في فيلم «الوردة البيضاء»، وهو يتابع — بعين الكاميرا — صور عبده الحامولي وسلامة حجازي وسيد درويش. أطال عبد الوهاب النظر إلى الصور المعلقة على الجدار، ثم قال لنفسه، للمشاهد، إنه يعتزم اتخاذ الغناء مهنة.

غادر ماهر السينما وقد اتخذ القرار نفسه: ولدت مغنيًا، ولن أكون غير هذا.

يقينه أنه سيصبح — ذات يوم — مغنيًا له شأن. تصل موهبته إلى مدن لا تعرفه. لا يقتصر غناؤه للصيادين والفواعلية وأرباب الحرف والصناعات، كما كان عليه حال سيد درويش، ولا يظل في دور «الصهبجي» الذي يؤدي المواويل والأغنيات الشعبية، ولا يكتفي في حفلاته على بحري وما حوله، مثلما كان عليه سلامة حجازي قبل أن يرحل إلى العاصمة. يغني على مسارح القاهرة، ومدن الوجه البحري والصعيد، ومدن الشام. تمنَّى أن يجعل من سلامة حجازي معلِّمًا له، يأخذ الغناء عنه. هو يحتاج إلى مَن يأخذ بيده، يعلِّمه، ويُصقل موهبته. من حقِّه على سلامة حجازي أن يساعده.

انتقل — بدافع في نفسه — من الإنشاد الديني إلى إنشاد الذكر السلطاني. بدأ بأداء الأغنيات والمواويل القصيرة. حفظها عن المطربين المعروفين، أو مطربي المناسبات الدينية. يقتصر الإيقاع على الطبول والدفوف والكاسات.

إذا سمع أغنية أعجبَته، حفظها بكلماتها وألحانها. حفظ الأدوار القديمة: يا طالع السعد، العفو يا سيد الملاح، محمد لابس سيفه. يُهمل ضرورة أدائها بالآلات النحاسية والخشبية وغناء التخت. لا يعرف من أسماء المقامات الموسيقية إلا «الراست»، و«البياتي»، و«السيكاه». ربما اكتفى بالدندنة.

عرف الطريق إلى سرادقات الموالد والمسيري وحمامة العطار. يغني مواويل الصبر وأدهم الشرقاوي والطير وحسن ونعيمة وشفيقة ومتولي وعزيزة ويونس، ومربعات ابن عروس.

اعتاد التردد على العواد نحنوح السروجي في قهوة الفنانين بشارع إسماعيل صبري، يعزف أمامه الألحان، فيأخذها عنه. فاجأه بألحان لم يكن قد قدَّمها لسواه من قبل. عن البحر والصيد والرزق والموت والمقدر والمقسوم. هو وحده يغنِّيها.

ربما شارك صيادي الجرافة عملَهم، وسط تآلف صوتي ذي إيقاع. الأغنيات المتصلة بالعمل: ركوب البحر، إلقاء الشباك، سحب الجرافة، فرز محصول السمك على الشاطئ.

أجاد العزف على العود، والنقر على الطبلة والطار والرق، وحذق فنون الغناء. يكرر المقاطع، يميل إلى الحرية في المد والتقصير، يُظهر قدراته في التحويلات والانتقالات المقامية. ينتقل من مقام إلى مقام آخر. يطابق بين نبرات الصوت وحركات المعنى. يمدُّ في الصوت ويُرجِّع فيه، يرفعه ويخفضه، يطرده ويقطعه، يُسرع به ويُبطئ. ينعكس أداؤه إعجابًا في الملامح والآهات.

أزعجه ما رواه الشيخ همام أبو السرور، إمام جامع البوصيري، عن الإمام الشافعي من تشبيهه للغناء بالباطل والمحال، وقوله إن من استكثر منه فهو سفيه تُردُّ شهادته.

قال شوقي أبو سليمان: إذا كنت تخشى عدم قبول شهادتك، فلا أحد يطلبها بالغناء أو بدونه.

– لماذا؟

وهو يضحك: الشهادة تُطلب من الناس المحترمين!

فترَت همته بموت الشيخ سلامة حجازي. اقتصر غناؤه للبحر وللصيادين.

صيد العصاري
يا سمك بني
يُعجبني صيدك
يا سمك بني
وجودك نادر
صيادك شاطر
بياعك ماهر
يا سمك بني

حين أنشد — منفردًا — للمرة الأولى في سرادق بالساحة المقابلة لدكان جودة هلال، عُنيَ بأن يمضيَ بأدائه إلى سكك غير مسبوقة. لم يتقيد بطريقة الأداء التي حفظها. غنَّى في الحب والهجر والوصال وكيد العزَّال والقسمة والنصيب.

استبدل بالبطانة عزف الفرقة الموسيقية.

غمرَته السعادة لما طلب الحضور إعادةَ ما غنَّاه. أضاف — مع إعادته — تجويدًا يحرص عليه.

عبَّر عن رأيه في عائلة هنو، قباطنة بحر، يقضي أبناؤها معظمَ أيامهم بعيدين عن الإسكندرية. ارتجل:

إن حزنوا يغنُّوا … وان غابوا يهنُّوا

عُنيَ بتعلم الغناء الحديث، إلى جانب القديم. حتى المونولوجات حاول أن يعرف — بإنصات متأمل — لماذا يحبها الناس؟ حفظ مونولوجات حسن فائق وعقيلة راتب وحسين المليجي وثريا حلمي والجيزاوي وطاقم المسيري وحمامة العطار. لكنه ظل على حبِّه لأسلوب السلطنة، والزخرفة اللحنية، والضغط على القفلات. وكان — في أحيان كثيرة — يميل إلى الارتجال، ومحاولة الابتكار في النغمات. أجاد ارتجال المواويل والليالي.

تبلورت أمنياته في أن يكون له تخت خاص، يقدم فيه ألحانه وصوته.

عاب عليه الحاج جودة هلال إدمان الجوزة. ميزةُ صوته بحة تسري فيه، لا بد سيضيعها الدخان.

قرأ له عم حجازي فصولًا من كتب، تتحدث عن زرياب وإسحاق الموصلي وابن جامع.

قال عم حجازي: الفن يطلب الموهبة أولًا، ثم تأتي الدراسة. وهو ما أحاول أن أدلَّك عليه!

لم يَعُد يستريح من سهرات الأفراح ليلة واحدة. امتدت لياليه إلى خارج بحري، وأحيانًا إلى خارج الإسكندرية. أحب الناس الطرب في أغنياته:

يا بنات إسكندرية
مشيكم ع البحر غية
يلبسوا الكشمير بتللي
والشفايف سكرية
يا بنات جوه المدينة
عندكم أشياء ثمينة
يلبسوا الشاهي بلولي
والقلادة ع النهد زينة
يا ملاح خافوا من الله
وارحموا العاشق الله
حبكم مكتوب من الله
قدرة المولى عليه

حين علا صوت ماهر بالغناء:

لعمل له حجاب … على ورق الخيار
يسهره بالليل … ويجننه بالنهار

عاب عليه الشيخ جميل أبو نار أن الكلام حافل بالإشارات والإيحاءات الشهوانية.

صار من أولاد الليالي، يغنِّي في الصهبات والسرادقات وحفلات عقد القران والزفاف والختان.

رُوي أنه كان يساعد — بغنائه — على اجتذاب الأسماك إلى داخل شبكة الجرافة. يخدرها جمال الصوت، لا تحاول حتى أن تفر من ثقوب الشبكة الواسعة.

سمع الملك فاروق بجمال صوته. استدعاه للغناء — ذات أمسية صيف — في سراي رأس التين. مدَّ ماهر صوته، ورجَّع فيه، وهو يغنى:

انت اللي شرفت الفنان ورعيت فنه
رديت له عزه بعد ما كان محروم منه

بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو، بدَّل ماهر الصاوي نوعية أغنياته. غنَّى: ما خلاص اتعدلت، إيدك في إيدي يا عم، شموا النسيم في كوم أوشيم، الاتحاد والنظام والعمل. لم يقتصر غناؤه لها على المناسبات السياسية، وإنما رددها في الموالد والسرادقات وحفلات الزفاف. حتى حفلات الختان، أنشد فيها أغنيات الثورة.

أدرك ماهر الصاوي تسجيلات الكاسيت. لجأ إلى مؤلفين وملحنين، يضعون له أغنيات خاصة. ترك لشركة التسجيلات اختيار ما يُشكل ألبومًا.

•••

حين ظهر المغني الجديد خيري حكيم — للمرة الأولى — في حفل زفاف بالحجاري، أغفل ماهر الصاوي ما تردد أمامه عن عذوبة صوت خيري حكيم، وإعجاب الجمهور به، واستعادتهم أداءه. ظن الأمر سحابة صيف عابرة. ثم أدرك خطورة منافسه بإحيائه لحفلات متوالية في بحري وأحياء الإسكندرية، عقد القران والزفاف والختان والوفاء بالنذور.

رفض أن يتردد على حفلات خيري حكيم. أهمل ما عرفه من أنه يحفظ السلَّم الموسيقي، وتكوين درجاته، وأن استخداماته جاوزت مقام راست ومقام سيكاه. يلجأ إلى استخدامات جديدة تجتذب اهتمام الجمهور وإعجابه. يغنِّي على آلات لم يفكر فيها الصاوي، ولم يكن يعرفها: التشيللو والأورج والبنجز وغيرها. يجدد في الألحان. يبدِّل الأشكال الموسيقية التقليدية. يغيِّر في طرق الأداء، وفي الأساليب. أضاف آلات موسيقية لم يستخدمها الصاوي ولا غيره من المغنين المفردين، أو المنضمين لفِرَق العوالم.

ظل ماهر الصاوي يعتمد في طريقة أدائه على ما توارثَته الأغنية العربية من ميل إلى التَّطريب والترديد والليالي وتطويل الحروف المتحركة واللازمات الموسيقية.

رفض أن تجرفه تيارات التجديد والاقتباس. أهمل ما لا ينسجم مع جمال صوته، ولا يتَّسع لقوته ومرونته. عاب على ملحني الفترة أنهم يخلطون بين العناصر الموسيقية، وأساليب التعبير الموسيقي، يُهملون عنصر الإيقاع، غياب وحدة التكوين الفني والتعبيري عن ألحانهم، فتفقد خصائص الموسيقى العربية.

قال: التجديد يستلزم هدم القديم!

فشل متعهد الحفلات الحاج صديق أحمد في أن يتعاقد له على حفلات يشارك فيها. اعتذر بالفرص القليلة أمام الموال والألحان القديمة.

لجأ إلى جاد أبي العز صبي الأبجر فتوة رأس التين. كان قد مضى زمن على اعتزال الفتوة … جعله مطيباتيًّا، يرافقه إلى الأفراح وحفلات الختان. يعلو صوته بالآهات، وطلب الإعادة. قد يتصدَّى لاعتداءات البلطجية على الحفل.

•••

لاحظ ماهر الصاوي نحنحة — حشرجة أحيانًا — تنتاب صوته وهو يغنِّي، أو وهو يتكلم، ربما فاجأته في الصباح عند تهيُّئه للاستيقاظ.

لم يَعُد تنفُّسه يعينه على أداء المواويل، أو المقاطع الطويلة من الأغنيات. يقطع الموال، أو الجملة الغنائية عدة مرات، ليلتقط أنفاسه.

عدَّد له الحاج جودة هلال فوائد شرب الزنجبيل، بأنه يفيد الأحبال الصوتية، إلى جانب هضم الطعام، وتليين البطن، وطرد الغازات.

شخَّص الطبيب مرضه بارتخاء في الأحبال الصوتية. طالبه بألَّا يتحدث كثيرًا، حتى لا يفقدَ صوته تمامًا.

ظل صوته يخذله، وخذلَته ذاكرته أكثر من مرة. يشير إلى الفرقة بأصابعه — من وراء ظهره — فتلحقه بإعادة العزف.

•••

انظر: أحمد المسيري، البوصيري، جودة هلال، حجازي أيوب، حمامة العطار، سلامة حجازي، فاروق الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤