أبو حلاوة١

فرد أبو حلاوة أمام ناظر الوقف عبد الرحيم الشطبي رسمًا، عليه أختام وملاحظات وتأشيرات وخطوط أفقية ورأسية. مسجد تربانة في شارع فرنسا، بالقرب من شارع الميدان، معلق. الصلوات تقام بالدور العلوي. السقف محمول على أربعة صفوف من العقود، على ثمانية أعمدة رخامية، تنتسب إلى عصور قديمة، يونانية ورومانية. تحوَّلت الشرفة الداخلية إلى مصلًّى للسيدات. الدور الأرضي به دكاكين تُستغل إيجاراتها في الإنفاق عليه. شُيدت الجوامع القريبة منه على نسقه. الجامع الوحيد الذي أُنشئ في الطابق الأول سُمِّي «الجامع الأرضي».

رسم الشطبي الدهشة على ملامحه: هذا مسجد حكومي لا صلة للأوقاف الأهلية به.

قال أبو حلاوة: لماذا إذن تُصِر على أن إيرادات جامع الشوربجي لصالح وقف جوربجي الأهلي؟

ورماه بنظرة غاضبة: لماذا تستولي على إيرادات ملاحق الجامع؟

– لم أستولِ عليها. أُدير الجامع لوجه الله!

– وبقية التركة؟

– أنا ناظر لوقف عبد الباقي جوربجي … أُديره لصالح الورثة.

– ضممت إلى التركة ما هو حق لفرع واحد من عائلة جوربجي.

قال عبد الرحيم الشطبي في لهجة مبطنة بالتهديد: لا أتخذ قرارًا بدون موافقة جلالة الملك.

أخلى أبو حلاوة وجهه للدهشة: ما دخل الملك في قضية وقف؟!

رُوي أنه هجر تجارته في الخضر والفاكهة، وتفرَّغ لإدارة الوقف. ظل يعتز بالصفة التي اكتسبها من التعامل مع قصرَي المنتزه ورأس التين: متعهد القصور الملكية. يكتب الصفة على واجهة دكانه في شارع الميدان. لا يتقاضى — في المقابل — ثمنًا لما يُرسله إلى مطابخ الملك.

قال الرجل في لهجته المهددة: جلالة الملك يقاسمني تجارتي … ويقاسمني كل شيء!

•••

الوقف نوعان: خيري وأهلي، الخيري أُوقف نفعه لعمل الخير، والأهلي خُصِّص — فيما يُشبه الوصية — لشجرة العائلة التي يُعد الواقف جذرها.

الشوربجي هو الاسم الحالي للجامع المطل على شارع الميدان. اختاره الناس بدلًا من اسم عبد الباقي جوربجي، مُنشئِه في العصر العثماني. جوربجي اسم وظيفة تركي ذي أصل فارسي، يطلق على الضابط الانكشاري الذي يُشرف على مرجل المرق (الشوربة) في المعسكر، رُتْبته تعادل اليوزباشي، النقيب الآن.

الجامع ضمن عقارات وممتلكات بالإسكندرية، أوقفها الحاج عبد الباقي جوربجي على نسله. خص بميراثه الذكور دون الإناث، كما فعل قاضي البهار وغيره من المورِّثين.

تولَّى عبد الرحيم الشطبي نظارةَ الوقف بتوكيل من الورثة. أحفاد الحاج جوربجي، مَن تضمُّهم شجرة العائلة في تفرُّع أوراقها.

ما دفع أبا حلاوة إلى التحرك، أن تشعُّب فروع الوقف وأوراقه فرض الغربة على المستحقين. لا يعرف أحدهم الآخرين، ولا يعرفون طبيعة الوقف الذي يُديره الناظر، ولا قيمته المادية، وما إذا كان يُحقق عائدًا كبيرًا، أم أن الأمر لا يستحق سؤال التقصِّي؟

أمسك الشطبي بكل الخيوط، فغابت المحاسبة. تغيَّرت صورة الوقف عن الحجة الأصلية المودعة في وكالة الأوقاف. جعل لنفسه ربع العائد من التركة. هذا ما تُبيحه له المعاناة في تحصيل العائد. هو يُنفق على محامين وموظفين واستخراج وثائق وتصاريح. اختلطت صورةُ الميراث في ذهنه. تصوَّر أن ما ينبغي أن يرثَه الناس حقُّه الشخصي. هو ناظر الوقف، وهو الذي يجني ثماره.

•••

كانت حياة الحاج عبد الباقى جوربجي في بناء العقارات، وامتلاكها. يذكرها في وصيته (كان يغيِّرها بين فترة قصيرة وأخرى). من بين البنايات السكنية التي خلَّفها — كما تقول الوثيقة رقم ٢٣٨٤ أوقاف الإسكندرية: دار سكن الوقف، جميع الدور الصغرى التي تعلو الحاصل المعد لخزن التبن بالزريبة، جميع الدور الصغرى المجاورة لمكان سكن الوقف، جميع الدور المركبة على صهريج السبيل، جميع الدور الملاصقة للدار من الجهة الغربية، جميع بناء الغرفة الكائنة بوسط وكالة المرحوم مصطفى باشا الغزي، جميع الدار الكائنة داخل قلعة الركن، جميع الدار العلوية المعروفة بأولاد مطاوع، جميع الدار المعروفة — قديمًا — بالحاج سليمان.

أما المنشآت التجارية فهي — كما تذكر الوثيقة — جميع الحاصل الملاصق للدار الملاصقة لصهريج السبيل من الجهة القبلية، جميع بناء الحواصل الثلاثة الكبيرة القائم بناؤها على الأرض المحتكرة من وقف المرحوم مولانا الوزير سنان باشا، جميع الحوانيت الأربعة الملاصقة للحواصل المذكورة من قلبها، جميع الحوانيت التسعة، جميع الحاصلين الكائنين في وسط الحوانيت المذكورة الملاصقين للوكالة من غربيها، جميع بيت القهوة الملاصقة لمطهرة الجامع من بحريها، جميع الوكالة الكبرى بالنجع القبلي، بخط المنشية بالميناء الشرقية، جميع الوكالة الصغرى الملاصقة للوكالة الكبرى، جميع الحاصل الذي كان في الأصل حاصلين، ثم أصبح حاصلًا واحدًا، الحاصل المعد لخزن الجلود بالقرب من سوق أبي زيان، الحاصل المعروف بالحاصل البحري. أما البنايات التي وهبت للمنفعة العامة فهي: جميع الصهريج بالقرب من دار سكن الواقف من الجهة البحرية، لخزن الماء العذب المسبل على انتفاع عامة المسلمين، جميع صهريج السبيل تحت تخوم الأرض، جميع الصهريج الملاصق للصهريج المذكور.

أما البنايات الصناعية فهي: جميع الطاحون الجوز الفارسي الملاصق لمكان سكن الواقف، الطاحون الفرد الفارسي ذات الدار الواحد، الحانوتان المعدَّان لعمل الحياكة، المدابغ الأربعة المعدَّة لدبغ الجلود. وثمة قطعة أرض براح خالية من البناء.

•••

لم يكن الجامع المطل على شارع الميدان، والملاحق التي تتصل به، ضمن الأوقاف التي ذكرها الحاج جوربجي في وصيته، خص بها فرعًا وحيدًا، ينتسب إلى سيدة اقترن بها في أخريات أيامه. قلة النسل في الفرع أدَّت إلى قلة الورثة. من عقارات الوقفية جامع الشوربجي (آلت ملكيتُه إلى وزارة الأوقاف) ووكالة في شارع فرنسا، وإسطبل في شارع السيالة، وبناية من ثلاثة طوابق بميدان أبي العباس.

الجامع — كما تقول وثيقة الحاج عبد الباقى جوربجي — يقع في الحي التركي، وهو ما سُمي — فيما بعد — بحي الجمرك. منطقة عمِّرت بعد الفتح العثماني، بها بعضُ آثار العثمانيِّين، مثل سوق ووكالة جوربجي، ومسجد الحاج إبراهيم تربانة. شيد الجامع بالنجع القبلي الأوسط بخط الميدان، وأماكن شنوان، بالقرب من أماكن الخواجة تربانة، ووكالة الشيخ حمزة. الجامع معلق، ركبت أرضه على بعض حواصل الوكالة التي أنشأها باني الجامع. تشغل الحواصل الآن عدة دكاكين، تحتل القسم الأسفل لواجهتَي الجامع الشرقية والجنوبية، حيث شارعَا الميدان والشوربجي.

للواجهتَين مدخلان، أولهما في النهاية الشمالية للواجهة الشرقية، من ناحية شارع الميدان، وثانيهما في النهاية الغربية للواجهة الجنوبية من ناحية شارع الشوربجي.

يحيط بالجامع من جهاته الشمالية والشرقية والغربية ثلاثةُ أروقة، سُميت في الوثيقة «خرجات». بسقف كلِّ رواق منها سقف خشبي، ويُطل الرواق الشرقي على شارع الميدان ببائكة، ويُطل الرواق الغربي — في جزئه الأوسط — على وكالة عبد الباقي جوربجي ببائكة أيضًا، تتألف من أربعة عقود، ترتكز على ثلاثة أعمدة، يصل ما بينها أحجبة خشبية.

بالإضافة إلى ذلك، ثمة المنارة التي تهدَّمت فلم يبقَ منها سوى معلومات تناولَتها الوثيقة، وحدود الجامع الأربعة، والمطهرة المشيدة من الرخام الأبيض والأحمر، والحجر المصري، والأسقف الخشبية، والساقية — التي كانت — المعدة لنقل ماء المطهرة إلى فسقية بجوارها تخزن الماء، والمراحيض السبعة يتوضأ فيها المصلون. وثمة المحراب، والمنبر، والدكة، والسبيل، والكتَّاب.

رتب له الفرش النفيسة وقناديل البلور والشموع والزيوت الطيبة، وما يزيد عن حاجته من الأئمة والقرَّاء والمؤذنين والمبلِّغين والبوابين والفرَّاشين والسقايين والخدم وغيرهم. خصص من إيرادات الوقف الثابتة رواتب لإمام الجامع، يؤم المصلين في الصلوات الخمس، ويكون قارئًا عالمًا بما تصح به الصلاة، وحسن الصوت والهيئة. ومؤذن ملازم للصلوات الخمس، عالمًا بصحة الأذان وأركانه، حسن الصوت والهيئة كذلك، وخطيب للجمعة والعيدين، قارئًا عالمًا بما تصحُّ به الخطبة والصلاة، حسن الصوت والهيئة كذلك، وميقاتي لأوقات الأذان الخمس وتوابعها، عالمًا بالنجوم والكواكب وما به في دخول الأوقات، وثلاثة أشخاص لأذان الجمعة وإقامتها، وللعيدين، وحافظ للقرآن لقراءة عشر منه قبل صلاة العصر في كل يوم من أيام الأسبوع، على كرسي من الخشب، أمام المحراب، أربعة أشخاص من أهل القرآن لقراءة سبع منه من السحر إلى طلوع الفجر، كل ليلة من ليالي الأسبوع. بواب لفتح الأبواب وإغلاقها في كل الأوقات، وفراش ووقاد للسراج وللفرش، وخادم للسبيل ومالئ للقلل، ومزمل، وتخزين الماء في السبيل، وخادم للمطهرة، وكاتب يُقيد المصاريف والإيرادات.

يرأس هؤلاء، ويُشرف على أعمالهم، ويعطيهم أجورهم، ناظر للوقف يتقيد بمصالحه، ومصالح الأماكن الملحقة به، وينظر في ذلك — بنور الله تعالى — من بعد وفاته.

آلَت حلقات سلسلة نظارة الوقف إلى من أحسن تدبيرها، وإدارتها.

لمَّا تولَّى عبد الرحيم الشطبي إدارته، عاب عليه الورثة — بينهم وبين أنفسهم، وفي الهمسات التي تبادلوها — أنه جعله لحسابه، يتصرف فيه كما لو أنه ملكه الشخصي. أبو حلاوة هو الذي دفعَته الجرأة لكي يواجه الشطبي برأيه.

شرَط الواقف — في الوثيقة — أنه أوقف جميع أملاكه من الأماكن والعقارات على نفسه مدة حياته، ثم — من بعده — أبنائه، وأحفاده من الظهور دون البطون. فإذا انقرضت أولاد الظهور بأسرهم، يقتصر الوقف على أولاد البطون وذريتهم، وأحفادهم. فإذا انقرضت أولاد البطون، ولم يبقَ منهم أحد، يقتصر الوقف على الجامع.

قاوم محمد أبو حلاوة إصرار ناظر الوقف لكي يُدخل ميراث فرعه ضمن وقف الحاج جوربجي. يُديره، ويحصل على عائداته، يبيع مفردات الوقف ويشتريها، يوزع الأنصبة بتكاثر فروع شجرة عائلة جوربجي منذ بداياتها. مصلحة فرع أبي حلاوة أن تقتصر العقارات التي ورثها على الأوراق التي يضمها. جعل محمد أبو حلاوة عنايته إثبات نسَب فرع عائلته على وثائق مكتوبة، وأخبار الأعيان والآحاد.

جلس إلى مؤرخين وعلماء اجتماع ومحامين ونُظَّار وقف وموظفين مهمين، سابقين، في وزارة الأوقاف. سأل، وأجابوا عن أسئلته، أفاضوا في شرح ما يجب فهمه، دلوه على ما قد يكون مخفيًّا من ظروف الوقف، وأحقية الورثة. أفاد مما كتبه خليل الفحام في تسجيله لعائلات بحري، وما يضمُّه الحي من بنايات وجوامع وميادين وشوارع وأزقة. رجع إلى وثائق الأوقاف والمحكمة الشرعية، على ناصيتَي شارع فرنسا وشارع سوق السمك القديم، آلاف الوثائق الخاصة بالمواريث، والقوانين، والأحكام، والإجراءات القضائية.

طال الأخذ والرد.

أُثيرت القضايا، وارتفعَت الدوسيهات والوثائق والمستندات والمذكرات والطعون ومحاضر الشرطة والشروح والملاحق والتفسيرات والالتماسات والسوابق القانونية والأحكام التي يُعتد بها. بدَت تلالًا صغيرة.

عاود زيارة الشطبي، يتقافز في ذهنه قول قنبر عبد الودود: أنت لن تحصل على حقك من شخص تكتفي بإشاحة وجهك عنه.

قال: بماذا تنصحني؟

– دافع عمَّا ترى أنه حق لك.

يعرف أنه يستظل بشجرة هائلة الفروع والأوراق، وأن جذورها تمتد في باطن الأرض. الشاطبي بلا نسب مؤكد يتصل به. ما سجله في الأوراق لم يراجعه فيه أحد، ولا اطمأنَّت التوقيعات الممهورة عليه إن كان حقيقة، أم أنه من اختراع الشاطبي.

شرح الأمر من بداياته.

قال الشطبي وهو يُبطن صوته بالود: اترك الأمر لي.

ولانَت ملامح وجهه: سأحاول بيع الوقف وتوزيع الأنصبة العادلة على الورثة.

علا صوتُه بالانفعال: ما صلة الجامع بذلك؟

– اسمه باسم صاحب الوقف كله.

– لكنه قصرَ عائدَ وقفِ ملاحق الجامع على فرع واحد من العائلة.

أعاد الشطبي قوله، ربما ليُنهيَ المناقشة: اترك الأمر لي.

•••

اسمه محمد إبراهيم أبو حلاوة.

أجمعت الروايات على أن والده كان يشغل وظيفةً في ديوان محافظة الإسكندرية، وإن لم تتفق هذه الروايات حول طبيعة تلك الوظيفة، وما إذا كانت مهمة، أم أنها وظيفة دنيا. أما أمه فقد أنجبت — في سِنِي زواجها — ثمانيةَ أبناء؛ ثلاثة أولاد، وخمس بنات، وانشغلت برعايتهم.

عمل محمد أبو حلاوة موظفًا بشركة أقطان كفر الزيات. تنقل بين الدائرة الجمركية، والمخازن وعمليات كبس القطن في القباري، والمحالج في كفر الزيات. ثم استقر موظفًا بأرشيف محافظة الإسكندرية.

قالت الأم: هذا الوقف وهم. سمعت عنه من قبل أن تولد.

– تعرفين أنه حقيقي.

– عرفت لما استولى الرجل عليه.

– ما فائدة المحاكم؟!

ثم وهو ينظر إلى نقطة غير مرئية: إنه مخرجي الوحيد.

الدوامة القاسية، العنيفة، فاجأَته، دارَت به فلم يدرِ كيف يتصرف: دعاوى التبديد، والاختلاس، والابتزاز، والاعتداء بالضرب، والبلاغات الكاذبة، والتهديد بالقتل، وبيع المخدرات … ما شغله حتى عن أمور حياته اليومية.

اعتاد التردد على أقسام الشرطة، والمحكمة الشرعية، والمحكمة الوطنية بالقرب من ميدان المنشية، ومبنى حي الجمرك، والشهر العقاري، ووكالة الأوقاف بشارع فرنسا. يتأمل — بلا مبالاة — الفسقية الساكنة وسط الفناء المربع، من حولها دكاكين أقمشة وذهب وساعات وحلوى.

يدخل من الباب الخشبي الضخم. يصعد الدرج الرخامي إلى الطابق الثالث. يمضي — في هيئة من ألف المكان — إلى الحجرة الثانية، على يمين المدخل.

•••

بعث ناظر الوقف شيخ الحارة شوقي أبو سليمان إلى أبي حلاوة. اشترط أن يسبق حصوله على حقِّه في الوقف، تنازله عن القضايا التي رفعها.

أومأ ناظر الوقف بتهديد مبطن، لكنَّ أبا حلاوة اشترط الحصول على حق فرع عائلته أولًا: لا أقدر على مناقشة الناظر وهو يضع سكينًا على الطاولة.

وفي لهجة مثقلة بالأسى: أقسى الأشياء أن يُطيعَك الناسُ خوفًا من الأذى، لكنهم لا يحبونك.

أوعز الشطبي لكثيرين، عرفوا منه أمر الوقف. رفع — بدلًا منهم — مصاريف الدعاوى بأحقيتهم في التركة، أرفقها بعرائض ومذكرات والتماسات. تتسع شجرة العائلة، وتكثر أوراقها، وتتشابك، يطعن الورثة الحقيقيون بالتزوير، يتوالى إرجاء النظر في توالي الدعاوى، حتى يملَّ أبو حلاوة، أو تبدو الدعاوى — أمام القاضي — بلا نهاية.

إذا ظلت القضية في وضع السكون، إذا لم يُبَتَّ فيها، فإن الشطبي يُفيد من الريع، يحصل عليه بمفرده، يُومئ بما جرى لباقي الورثة، يُدركهم اليأس قبل أن يُخامرهم الأملُ.

عمل الأبجر على حماية عبد الرحيم الشطبي من مؤاخذات الورثة، ومحاسباتهم. ربما تصدَّوا له يطالبون بحقوقهم.

لمَّا نفَّض الأبجر يدَه من الأذى، لجأ الشطبي إلى حميدو شومة، ليدرأَ عنه ما يتهدده من أذًى. كان حميدو قد جعل نفسه — بتحريض من الشيخ عبد الستار — في خدمة الغلابة والمنكسرين.

أدرك الناظر ما ينتظره لو أن حميدو فطن إلى حقيقة ما حدث.

حاول أن يلجأ إلى فتوَّات الأحياء الأخرى، لكن حميدو شومة تصدَّى لهم، وأوضح له أن الخطر قد يلحقه!

تردَّد الورثة على وكالة الأوقاف. أعادوا تقديم الوثائق والمستندات والعرائض، بما يُثبت أحقيتهم في الوقف. سحبوا توكيلاتهم من عبد الرحيم الشطبي، فلا يحصل على ما ليس من حقه، لكنه مزَّق الأوراق دون أن يطَّلع عليها.

لجأ الشطبي إلى المحامي سامي بهاء الدين، في مكتبه المطل على ميدان محطة الرمل.

طلب بهاء الدين مهلة للاطلاع على الأوراق.

قال للشطبي: حق الرجل واضح.

استطرد لنظرة الاستياء في عينَي الشطبي: نستطيع أن ندور حول الموضوع بما يؤذيه.

أومأ له الشطبي يستحثه على الكلام:

قال بهاء الدين: نلجأ إلى المحكمة الشرعية لتصدر قرارًا بالحجر على أبي حلاوة للعته.

– هل هو معتوه بالفعل؟

– هذه مجرد حيلة.

وومضَت عيناه بمعانٍ تريد أن تُعلن عن وجودها: إذا أثبتنا ذلك — ولدينا الشهود — فسنحرم أبا حلاوة من أن يتصرف حتى فيما عنده من أموال وعقارات.

وهزَّ قبضته: إنها وسيلة مؤكدة النتيجة.

وجرى على المكتب بخطوط ومربعات ومستطيلات ودوائر: بُطْء التقاضي هو ما قد نُعانيه.

ترك الشطبي لشوقي أبي سليمان تدبيرَ الأمر من بداياته. استدعى أبا حلاوة لأمر طارئ.

ذهب أبو حلاوة إلى دكان أبي سليمان بألفة الدعوة، يسأله عن الموقف التجنيدي لشبَّان، أو صيادين يصيدون دون تصاريح، أو راكبي بحر خلفوا المياه الإقليمية وراءهم، دون أن يحملوا جوازات سفر.

قال شوقي أبو سليمان في نبرةِ ودٍّ: أريدك في مشوار مهم.

بدَت شوارع السيالة الضيقة هادئة، يعمق وقع أقدامهما من سكونها. طالعهما البحرُ من ناحية حلقة السمك. مالَا إلى اليسار في اتجاه الأنفوشي.

اخترقا القزق ببلانساته، وقواربه، والهياكل الخشبية، والمناشير الهائلة، وقِطَع الأشجار التي لم تُقطَع. وعلى رمال الشاطئ تناثرَت زجاجات فارغة وأعقاب سجاير وزجاجات كازوزة وعُلَب سجاير فارغة وأوراق ممزقة وأشواك سمك وصناديق كرتون وقِطَع خشبية وبقايا لعب أطفال وعلب صفيح ونفايات وبراز، وثمة كابوريا تجري بسرعة نحو جحرها في أسفل الكورنيش الحجري.

– أنت!

لم يكن ثمة مجالٌ للأخذ والرد. ناظر الوقف من حوله أربعة رجال يرتدون زيَّ الصيادين. لم يعرفهم أبو حلاوة، ولا التقى بهم، أو رآهم، من قبل.

قبل أن ينطق بالسؤال والدهشة والخوف، كان الرجال قد دفعوه في القارب الذي توسط البحر واليابسة.

فكُّوا الحبل من الخابور، ومضَوا بالقارب في قلب البحر.

جرى ما جرى بسرعة لم يتوقعها. تبدَّل الهدوء الذي مشى بخطواته نحو دكان شوقي أبي سليمان، وسار به وراء الرجل في اختراقه شوارع السيالة، وعبر الطريق إلى الكورنيش الحجري، ونزل الشاطئ الرملي نحو ما لا يتبيَّنه.

غمغم بآلية: لماذا؟

فاجأته الصفعة، اندفس لها وجهُه بين كتفَيه. توالَى اللطم والركل واللكم والدفع والبصق.

أدرك قسوة ما ينتظره: سأتنازل عن حقي، فلا تؤذني!

صرخ الشطبي: لماذا يكون لك حق؟ ولماذا تتنازل عنه؟

وأشار إلى الرجال الأربعة: أُفضِّل ألَّا تكون أصلًا!

فكَّر في إغراقه.

لو أنه أبقى على حياته، لو أنه أذعن لمطالبه، فسيتبعه مَن لزموا الصمت من فرع عائلته.

ترامى الصوت في هدأة الليل محذرًا: أنت تؤذي نفسك عندما تؤذي غيرك.

وخالط الصوتَ نغمةٌ حزينة: إذا مات أبو حلاوة فهو شهيد، وإذا تألَّم من الضرب فهو ضحية. أما أنت فلن تُفلت من عقاب الآخرة!

لا يدري إن كان ما رآه في حلم أو كابوس. صراخه أيقظه من النوم، لكن المشهد ظل في باله. الموجات العالية، الهادرة، المكتسحة، تندفع ناحيةَ أبي حلاوة. يتماسك في وقفته. تصطدم الأمواج بجسده، وتُواصل اندفاعها نحو الشاطئ.

ترامى الصوت، لم يتبيَّن مصدره: إذا كان أبو حلاوة قد استطاع أن يصدَّ بجسده العفي توالي الأمواج، فإن الأمواج لن تهدأ، ولا بد أن تخذله عافيتُه!

ترامى السؤال: هل يسقط؟

– لا بد أن يسقط!

أزمع أن يتركَه وحيدًا في موضع، جزيرة، أو صخرة، خارج البوغاز، بعيدًا عن الإسكندرية.

قال — وهو يدفعه في البلانس — إنه سيذهب به إلى جزيرة غير مسكونة، يظل فيها، لا يرى أحدًا، ولا يراه أحد، حتى يُدركه الموت.

فكَّ حبال الصاري. أوثقه بها. لفَّها حول صدره وذراعَيه وساقَيه. صعب على أبي حلاوة مجرد التنفس.

لم يكتفوا بتقييده. توالَت لكماتهم وركلاتهم. يضربون ما تَصِل إليه أيديهم من جسده، لكمات وركلات لا تتخير موضعها. يشغلها الإيذاء. أهملوا الدماء التي غطَّت رأسه ووجهه وجسده.

انطلق اللنش بعيدًا. لم يَعُد إلا الأفق من كل الجوانب.

شعر أبو حلاوة أنه يحترق بالشمس التي تحرق الصاري. سخونة الصاري أشد قسوة من أشعة الشمس على جسده، كأنه قطعة مشتعلة من النار، قُيِّد فيها، صارًا جسمًا واحدًا مشتعلًا!

همس بألم الحبال حول صدره وعنقه وذراعَيه، وبألم الضربات القاسية: يا رب … المدد يا سيدي الأنفوشي!

لم يلحظ الشطبي، ولا الرجال الذين معه، أن اللنش غيَّر وجهتَه. الصوت الجميل الذي تناهَى من ناحية الصخرة، صمتَت — لجماله — الأفواه، وتدلَّت الأذرع على الأجساد، وغلب الشرود على النظرات الساكنة. كأن مغناطيسًا يشدُّهم إلى الصخرة، كأن قوة سحرية امتصَّت الزمان والمكان، فلا يعرف ناظر الوقف ورجاله أين يقف اللنش، ولا أين يتجه؟

انحرف اللنش عن اتجاهه تمامًا. اندفع بلا قدرة من الرجال في السيطرة عليه. انطلق — بقوة الاندفاع — نحو الصخرة. لم يَعُد للدفة فائدة، ولا للشراع، ولا حتى محاولات الرجال لتعديل مساره.

تنبَّه ناظر الوقف على سقوط قطرات لزجة على رأسه ووجهه.

اضطرَّ لأن يخفض رأسه بمجرد أن حاول تبيُّنَ ما إذا كان البلل من قطرات مطر، أو رذاذ أمواج.

استغرب للُّزوجة، فجرى بأصابعه عليها. الحمرة القانية أذهلَته، أخافَته.

مال بجانب رأسه.

كان سرسوب الدم المنبثق من الصخرة، قد تحوَّل إلى شلَّال صغير يتخلل الصخرة. يتطاير منه ما يُشبه الأمواج الصغيرة المتدافعة.

غطَّى رأسَه بيدَيه، يتقي الدم المتساقط كانهمار المطر.

أغمض عينَيه، وامتدَّت يداه تُفتشان في الفراغ. تحوَّل المطر إلى سيلٍ غطَّاه تمامًا.

أغرقه.

•••

انظر: الأبجر، حميدو شومة، خليل الفحام، سامي بهاء الدين، شوقي أبو سليمان، فاروق الأول، قنبر عبد الودود.
١  اعتمدتُ في هذا الفصل على الجهد التوثيقي المهم الذي أوردَته د. آمال أحمد العمري في كتابها «مسجد عبد الباقي جوربجي بالإسكندرية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤