بين الغرب والشرق أو المادية والروحانية

كنت أقرأ في الكتاب القيم الذي أصدره حديثًا أخي الدكتور طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر»، فاستوقف نظري تخطئته لمن يقول: «إن الحضارة الأوروبية مادية مسرفة في المادية لا تتصل بالروح أو لا تكاد تتصل به، وهي من أجل ذلك مصدر شر كثير تشقى به أوروبا ويشقى به العالم كله أيضًا».

وقد رد على هذا الرأي «بأن الحضارة الأوروبية عظيمة الحظ من المادية، ولكن من الكلام الفارغ والسخف الذي لا يقف عنده عاقل أن يقال: إنها قليلة الحظ من هذه المعاني السامية التي تغذو الأرواح والقلوب … ومن الخطأ أن يقال: إن هذه الحضارة المادية قد صدرت عن المادية الخالصة، إنها نتيجة العقل، إنها نتيجة الخيال، إنها نتيجة الروح الخِصب المنتج، نتيجة الروح الحي الذي يتصل بالعقل فيغذوه وينميه. ويدفعه إلى التفكير ثم إلى الإنتاج ثم إلى استغلال الإنتاج، لا نتيجة هذا الروح العاكف على نفسه الفارغ لها، الفاني فيها، الذي تفسد الأثرة عليه أمره، فلا ينفع ولا ينتفع، ولا يفيد ولا يستفيد». إلى أن يقول: «هؤلاء الذين يخاطرون في الطيران، فيلقون فيه الموت شنيعًا بشعًا، ليسوا ماديين؛ لأنهم يضحون بحياتهم في سبيل تقدم العلم وبسط سلطان العقل على عناصر الطبيعة الجامحة … إن الحضارة الأوروبية المادية هي التي تضحي في كل يوم بكثير من الأنفس في سبيل العلم وفي سبيل السيطرة الطبيعية». إلخ.

•••

استوقف نظري هذا الفصل وأثار تفكيري وترددَتْ في نفسي هذه الأسئلة: هل الحق أن الحضارة الأوروبية مادية وروحية معًا أو هي مادية فقط؟ وهل الحق أن الشرق لا يمتاز بروحانية؟ وهل الحق أنه إن امتاز بروحانية فهي روحانية قليلة القيمة، باعثة على الفناء، تدور حول نفسها ولا تنتج شيئًا؟ وقلت: لعل وجه الصواب يتضح إذا نحن حددنا معنى المادية والروحانية، ثم نظرنا بعد في ضوء هذا إلى الشرق والغرب.

لقد قال كثير من الكتاب والفلاسفة: إن الشرق موطن الروحانية، والغرب موطن المادية، كالذي يقوله بُلْدوِينْ في كتابه «معجم الفلسفة» عند الكلام في الإسكندرية: «إن الشرق والغرب اختلطا في الإسكندرية، وامتزجت آراء رومة واليونان والشام، في المدنية والعلوم والدين، بآراء الشرق الأقصى في ذلك، فنشأت قضية جديدة، عمل على إيجادها بحث الغرب وإلهام الشرق»، فما الذي يعني بالمادية والإلهام أو الروحانية؟

من الواضح جدًّا أننا إن عنينا بمادية الغرب عنايته التامة فقط بالمادة التي يرمز إليها بالمال من ذهب وفضة وأوراق مالية ونحو ذلك، فهذا قول ظاهر البطلان كما يقول «الدكتور». فالمدنية الأوروبية مملوءة بالعواطف، من عاطفة حب تقوى أحيانًا حتى تصل إلى الانتحار، وعاطفة إعجاب ببطولة وإعجاب بجمال، وازدراء لنذالة وكراهة لقبح، وإحسان إلى فقير، وتضحية نفس ومال لوطن، ونحو ذلك من مظاهر العواطف التي قد يفوق فيها الغربيون الشرقيين، مع ما شهر به الأولون من مادية، والآخرون من روحانية. والمدنية الأوروبية كذلك مملوءة بالعقل، فالعلم يسير سيرًا حثيثًا في الحضارة الأوروبية، وهو يسبق الشرق فيه بمراحل. والغربيون الآن أساتذة الشرق في الرياضة والطبيعة والكيمياء. وكل فرع من فروع العلم، وليس هذا العلم مستعبدًا للمال ولكن يستغله المال، ولا بأس عليه من ذلك، بل نرى في هذه البيئات الأوروبية علماء كانوا المثل الأعلى للتضحية من أجل العلم، فمنهم من أعرض عن المال وداسه بقدميه في سبيل تجربة يستكشفها أو نظرية يحققها، بل منهم من ضحى بنفسه للعلم فمات شهيد اختبار يختبره أو فكرة يبرهن عليها. وأين ذلك كله من دعوى المادية في الحضارة الأوروبية؟

إن كان هذا هو معنى المادية فالدعوى — كما يقول الدكتور — ظاهرة البطلان، ولكن ألا يوجد معنى آخر يستقيم به الفرق؟

هناك معنى آخر قد يكون أقرب إلى الصواب، وهو أن معنى المادية تفسير ظواهر هذا العالم على أساس المادة من غير التفات إلى عالم آخر روحي وراء هذا العالم، وبناء كل وسائل الحياة وكل ظواهر المدنية والحضارة والثقافة على أساس المادة وحدها.

فليس العقل إلا شكلًا من أشكال المادة الدائمة التغير والتنوع، وليست أفعال الإنسان مهما دقت إلا نتيجة لمواد الجسم، وليست كل الظواهر النفسية من فكر وإرادة وعاطفة إلا نتيجة للمخ المادي من حيث عمله وحجمه وتركيبه. والعالم «كساقية جحا» تملأ من البحر وتفرغ في البحر. وكل مظاهر الكون من مظاهر السماء ومظاهر الأرض، وغنى من اغتنى وفقر من افتقر، وذكاء الذكي وغباء الغبي، وأدق الأمور النفسية والاجتماعية، ليس إلا نتيجة للمادة. هذا هو معنى المادية، وهو — كما يظهر لي — النظر المسيطر على الحضارة الأوروبية، فالمقدرة العلمية الهائلة في الحضارة الأوروبية اتجهت نحو المادة وأتت فيها بالعجب العجاب، ولا غرابة في ذلك فالمادة معبودها، فطبيعي أن تتجه نحوها بكل قواها، تستكشف فيها كل يوم استكشافًا جديدًا، وتخترع اختراعًا جديدًا، فكهرباء وبخار ولا سلكي ونحو ذلك مما لا يحصى ولا يعد.

ثم إن هذه الأشياء المادية كلها تستغل في الحياة المادية؛ في المنازل، في دور السينما، في الإقامة والسفر، في الجد والهزل، في كل مرفق من مرافق الحياة. بل والأخلاقُ الأوروبية الحديثة وضعت على هذا الأساس. فأهم الأخلاق ما أفاد هذه الحياة المادية، كالنظام، والمحافظة على الزمن، والاقتصاد، ومراعاة الصحة. وأما التواضع والحياة والتفكير في النفس ونحوها فتأتي في آخر القائمة، على أنهم في شك من قيمتها الخلقية، وهم على حق في ذلك ما دام الأساس هو الحياة الواقعية.

ثم الحياة الاجتماعية كلها نظمت على هذا الأساس المادي، من استمتاع باللذائذ ما لم يتأذ الغير. وبناء المعاملات كلها على أساس من الاقتصاد لا روح له، بل وأعمال الخير كلها من إحسان المحسنين وتبرعات المتبرعين، واكتتاب المكتتبين لبناء مستشفيات وملاجئ ونحوها، إنما أساسها كلها تحسين هذه الحياة الواقعة، ورفع البؤس عنها، وإيصال أكبر قسط من السعادة أو اللذة إلى أهلها، وهكذا.

•••

أما الروحانية فترى أن المادة وحدها عاجزة عن أن تشرح كل ما يحدث في العالم، بل لا يفسرها إلا القول بوجود شيء غير مادي، شيء روحاني وراء هذا الشيء المادي. فالفكر وظواهر العقل ليس نتيجة المخ المادي، نعم إن المخ آلة التفكير، ولكن يستحيل أن يكون الفكر الإنساني الذي يشعر بشخصيته وبحرية إرادته نتيجة لمادة لا تُحِس ولا تشعر مهما كانت حالتها من رقي تركيبها وحسن نظامها.

وأعمال الإنسان وظواهر الوجود والذكاء والغباء، وحدوث المألوف وغير المألوف، والغنى والفقر، وأحداث القدر والموت والحياة ونحو ذلك كله، لا يمكن تفسيرها تفسيرًا مقنعًا إذا اقتصر في هذا التفسير على المادة وحركاتها، بل لا بد أن ينضم إليها شيء روحاني.

فالإيمان بعالم روحاني بجانب العالم المادي من نفس وإله وعالم آخر، هو أوضح خصائص الروحانية.

وهذا النوع من النظر هو الذي يسود الشرق، فهو يؤمن بالإلهام الذي لا يعلل، كما يؤمن بالمنطق الذي يعلل، على حين أن النزعة المادية لا تؤمن إلا بسبب ومسبب، وعلة ومعلول، ومقدمة ونتيجة.

والشرقي — على العموم — أميل إلى أن يدخل في حسابه العالم الروحاني والعالم المادي معًا، يؤمن بالقدر خيره وشره، ويحسب ما بعد الموت كما يحسب ما قبل الموت، وإذا تطلب السعادة طلبها من ناحية إيمانه ومن ناحية تعديل نفسه، أكثر مما يطلبها من ناحية تعديل الظروف الخارجية، ولم يبن معاملاته على أساس اقتصادي مادي، بل يبنيها على أن فيها جانبًا كبيرًا لله أو نحو ذلك، وإذا أحسن فليس يدقق في حسابه ويتساءل: ما نتيجة هذا الإحسان في العالم المادي؟ بل يرضيه أن يكون قد أرضى ربه ونفسه، وإذا قوّم الأخلاق فلا يقتصر في تقويمها على النظر في نتيجة هذه الأخلاق بالنسبة للعالم الواقعي، بل نتيجتها في الدنيا والأخرى معًا، وليس يرى مبدأ «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، بل كل عمل فيه ما لقيصر وفيه ما لله.

وقد تغلب النزعة الروحية على بعض الأفراد، فترى أثر ذلك في التصوف والانقطاع إلى العبادة، ونظام الخانقاهات ونحوها. وهو أمر شائع في الشرق ونابع من الشرق.

ولعل سيادة هذه النزعة في الشرق جعلته مهبط الأديان. فالأديان الثلاثة الكبرى وهي: الإسلام، والنصرانية، واليهودية، ظهرت في الشرق، وانتقلت منه إلى الغرب.

•••

ولست أنكر أن في الغرب روحانية، وأن في الشرق مادية. ففي الغرب روحانيون قد يفوقون بعض روحاني الشرق، صفاء نفس. وقوة يقين، وتقديرًا للأعمال بميزان الروح؛ كما أن في الشرق ماديين قد يفوقون بعض ماديي الغرب إمعانًا في تقدير المادة، واقتصارًا على ميزان الأعمال بميزانها؛ ولكن الحكم في مثل هذه المسائل العامة لا ينبني إلا على الأعم الأغلب، لا على القليل النادر.

كما أني لا أنكر أن في الغرب دينًا، ودينًا كثيرًا، ونظمًا دينية دقيقة، وكنائس فخمة، ومعابد عظيمة؛ ولكني أدّعي — على ما يظهر لي — أن نظرة الغربي إلى الدين، على وجه العموم، تخالف نظرة الشرقي إليه؛ وقد يكون أهم هذا الخلاف من ناحيتين: إحداهما أنه يسود الغربي النظر إلى الدين كنظام اجتماعي، والثانية أن نظرة الدين لا تتغلغل في كل شيء عند الغربي تغلغلها عند الشرقي.

•••

هذه هي المادية والروحانية في نظري، والمادية بالمعنى الذي شرحت تلتئم مع ما نرى في الغرب من علم غزير وعواطف فياضة وتضحيات كثيرة، ولكن هذا كله لم يمنع من أنها صبغت الحضارة الأوروبية صبغة خاصة تخالف روحانية الشرق بالمعنى الذي أبنت.

ولقد غزا الغرب الشرق لا بسيوفه ومدافعه وطياراته فحسب، بل غزاه أيضًا بحضارته ونظراته إلى الحياة، وكان من الطبيعي — وقد انكسرت قوة الشرق الحربية أمام قوة الغرب الحربية — أن يظن الشرقي أن نظرة الغربي إلى الحياة خير من نظرته، وحضارته خير من حضارته، فاستسلم لها، وسار في طريقها وفتح لها صدره، وأسلس لها قياده، وباع روحانيته الشرقية الموروثة بالمادية الغربية الحديثة، وإن كانت الصفقة لم تتم بعد.

أما أن الخير للعالم أن تسوده كلَّه هذه النظرة الغربية، فلا يكون في العالم إلا حضارة واحدة، أو أن يحتفظ الشرق بروحانيته ويبني عليها حضارة جديدة، وأن يكون في العالم لونان: لون مادي تمثله الحضارة الغربية، ولون روحاني تمثله الحضارة الشرقية، ثم تتعاون الحضارتان كما يتعاون جسم الإنسان ونفسه؛ فذلك موضوع آخر له مجال آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤