دمعُ العين

لقد حدثتك قبلُ — أيها القارئ الكريم — كيف اهتم أدباء العرب بالعيون، وأكثروا من التأليف فيها والحديث عنها، وعرضت لك كتاب «سحر العيون» وما فيه من دقة وجمال.

واليوم أعرض لموضوع في العيون أطرف، فقد رأى مؤلف آخر ظريف أن العيون موضوع واسع لا يصح أن يؤلف فيه كتاب واحد، بل إن كل شيء للعيون جدير أن يؤلف فيه كتاب؛ فلئن كان أطباء العصر الحاضر قد بلغ مدى تخصصهم في الطب أن يجعلوا للعين بجميع أجزائها طبيبًا خاصًّا، فأُدباء العرب في العصر الماضي عز عليهم أن يؤلفوا في العين على اختلاف مظاهرها وفتنتها كتابًا واحدًا، فافتنُّوا في وضع الكتب للعين، هذا في سحرها وهذا في دمعها.

وصاحبنا اليوم صلاح الدين الصَّفَدي الأديب المؤرخ المشهور (٦٩٦–٧٦٤هـ)، وضع كتابًا سماه «تشنيف السمع بانسكاب الدمع»؛ ولست أدري أكان موفقًا في هذه التسمية أم غير موفق! إنما الذي أدريه أنه كان موفقًا في فكرته، موفقًا في تأليفه.

لقد لحظ فكرة النشوء والارتقاء، فتتبع أقوال الشعراء كيف بدءوا يذكرون الدمع ذكرًا ساذجًا، كالذي قال امرؤ القيس:

«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»

ثم أخذوا يبالغون فيه شيئًا فشيئا، فتقدم شاعر آخر خطوة، وقال: إنه فيض، فقال قيس بن ذَرِيح:

هَل الحبُّ إلا زَفْرَةٌ ثم عَبْرَةٌ
وَحرٌّ على الأَحْشاء ليْس له بَرْدُ
وَفيْضُ دموعٍ تُسْتَهلُّ إذا بدا
لنا عَلَمٌ من أرضكم لم يكن يبدو

ثم جعلوه مطرًا كالذي يقول:

أَظهرَ الكبرياءَ زهوًا وتيهًا
فتلقيتُه بذلِّ الخضوع
وَحبَاني ربيعُ خدَّيه بالورْ
د فأمطرته سحابَ دموعي

ثم خطوا خطوة أخرى فجعلوه سَيْلًا:

ولما أبَى الواشُونَ إلا فِراقَنَا
وما لَهمُو عندي وعندَك من ثار
غزَوْتَهُمُ من مقليتك وأدمُعي
ومن نَفسي بالسيف والسَّيل والنار

ثم جعلوه نهرًا:

أحبابَنا إن نأَتِ بي عن دياركمو
دار وفارقْتُ أوطانًا وأوطارا
فإن لي نُصْبَ عيني من جمالكمو
رَوْضًا نضيرًا ومن عينيّ أنهارا

ثم بحرًا:

عرق النومُ في بحار دموعي
رحم الله سَلْوتي وهُجوعي
وأتى الطيف زائرًا فرآني
بين بحرىْ مدامعي ونجيعي

•••

هذا من نايحة الكَم، وأما من ناحية الكَيف فقد جعلوه بدل الماء دمًا:

ولما وقفْنا للوَداع عشية
وقد خَفَقَتْ في ساحة القصر رايات
بكيْنا دمًا حتى كأنَّ جفوننَا
بِجرْي الدموع الحُمر فيها جراحات

وقال آخر:

وقد صرتُ أبكي كل شيء بمثله
لأنِّيَ فرْدٌ في الصبابة والوَجْدِ
فثغرك أبكيه بأبيض أدمعي
وأحمرها أبكي به خدَّك الوردي

ثم جعلوه عقيقًا أو مَرجانًا:

لست أنسى ساعةَ البِيْنِ وقد
وَجَمَ الشائق منا والمشوقْ
ورجوعي بدموعي عاثرًا
لست أدري بعدهُم أين الطريق
كلما أمَّ العقيق امتَزجتْ
أدمعي فهي جُمَانٌ أو عقيق

•••

قد كان دمعي أبيضًا حتى إذا
رحلوا غَدَا للهَجْر أحمرَ قانِ
يجري بمجرى وجنتيّ فيمتلي المَرْ
جانِ من عينَيّ بالمرجان

•••

ثم إذا كان الدمع أبيض فهو نجوم:

عيناي مذ شظَّ المزارُ بكمْ
تحكي سما والدمعُ أنجمها

أو لؤلؤ ودرٌّ:

هو ذلك الدرُّ الذي ألقيتُمو
في مَسمَعي ألقيتُه من أدمُعي

•••

وسالت على خدَّيَّ من لوعة الجَوَى
سيولُ دموع خُضْتها ثم عُمْتُها
لآلئُ دمعٍ من لآلِئ ثغرها
ففي وقت لثمي كنتُ منها سرقتُها

•••

ثم ادّعوا أن الدموع نفِدت بأحمرها وأبيضها، ولم يبق إلا ما يذوب من النفس، كالذي يقول:

وليس الذي يجري في العين ماؤها
ولكنها نفس تذوب وتقْطُرُ

وخطوا خطوة أخرى فزعموا أن العين ذهبت ولم يبق لها أثر:

أبكي وتبكي الحَمَامُ لكن
شَتانَ ما بينها وبيني
تبكي بعَينٍ بغير دمعٍ
ولي دموعٌ بغير عَين

•••

وليس هذا الاستعراض كل ما في الكتاب؛ فهناك ناحية أخرى بديعة، هي تتَبُّع الحالة النفسية التي تنتج من الدمع أو تصحبه، فهو فاضح السر وكاشف الستر:

لا جزى الله دمعَ عيْنيّ خيرًا
وجزى الله كلَّ خيرٍ لساني
ثمَّ دمعي فليس يكتُمُ شيئًا
ووجدْتُ اللسانَ ذا كِتمان

وهو شاهد الحب:

أنَا صبٌّ ومَا دمعيَ صبٌّ
وأسيرٌ، من الضَنى في قيودِ
وشهودي على الهوَى أدمُعُ العيـ
ـن ولكنني قَذَفت شهودي

ثم إن الدمع يتحير في الجفون مخافة الرقباء:

وقفنا والعيونُ مُثَقَّلاتٌ
يغالبُ طرفَها نظرٌ كليلُ
نهتْه رِقبةُ الواشين حتى
تعلقَ لا يَغيضُ ولا يَسيلُ

ثم في الدمع تخفيف الهم، وتلطيف الحزن، وفرجة الكرب:

لا تلمْ في البكاء فالدَّمْعُ لو لم
يَجر في الخدِّ كان في القلب جَمْرا

•••

أرْسِل دموعَك يوم البَين إن بانوا
إن الدموع على الأحزانِ أعْوانُ

•••

دعُوني ودمعي عسى فَيْضُهُ
به تنطفي نارُ قلبي المَرُوعْ
فمن شُؤْمِ حظِّيَ في الحب أن
أرَى رَاحتي في انسكابِ الدموع

ثم إن الدمع انتقام عادل من العين، إذ هي التي جرّت على القلب ما جرّت:

لأعذبَن العين غير مُفَكّر
فيما جرَتْ بالدمعِ أو سالتْ دَما
ولأهجرنَّ من الرقادِ لذيذهُ
حتى يعودَ على الجفون محرَّما
هي أوقعتني في حبائل فتنةٍ
لو لم تكنْ نَظَرَتْ لكنت مُسَلَّما
سفكتْ دمي فلأسْفحنَّ دموعها
وهي التي بدأتْ فكانت أظلما

ولكن آخر يأمر العين بالكف عن البكاء رحمة بها، وأملًا في سلامتها حتى ترى محبوبها:

سأُضْمرُ في الأحشاء عنكمْ تحرُّقًا
وأُظهرُ للواشين عنكم تجلُّدا
وأمنعُ عيني اليومَ أن تُكْثر البكا
لتَسْلَم لي حتى أراكمُ بها غدا

ثم إن للدمع معانيَ ودلالات؛ فدمع ضاحك، ودمع باك:

رأتْ دموعي فقالتْ عينكَ ابتَسمَتْ
عن لؤلؤ بسلوك الجَفنِ جَذْلانُ
وغالطَتْنيَ في جعل البكا ضَحِكًا
واستخونتْ. أيُّنا يا مَيُّ خوَّانُ؟

ودمع حزن ودمع دلال:

أبكي وتبكي غير أنّ الأسَى
دموعه غيرُ دموع الدلال

•••

شكوتُ حتى لان من قسوةٍ
ورحت أبكي وهو لي مساعدُ
وقال: ها نحن سواءٌ في البُكا
لا يا حبيبي ما بكانا واحدُ
لا يستوي دمع على جمرِ الغضَا
إذا جرَى ودمعُ عينٍ باردُ

ودمع سرور، ودمع رحمة:

رُحتُ يومَ الفراقِ أضحَكُ حُزْنًا
ولفيضِ السرور يبكي المَرُوعُ
وكذا في اللقاء أبكي هناءً
ولفرط السرور تَهْمِي الدموعُ

•••

وقفت في الروض أبكي فَقْدَ مُشْبهه
حتى بَكَتْ بدموعي أعينُ الزَّهَر
لو لم أُعِرْها دموعَ العين تسفَحها
لرحمتي لاستعارتْهَا من المطر

•••

وأخيرًا فرغ الشعراء من بكاء العين، فتخيلوا البكاء من غيرها، فالسحاب يبكي:

رُبًى شَفَعتْ ريح الصَّبا لرياضها
إلى المُزْنِ حتى جادَها وهو هامعُ
كأنَّ السحابَ الغُرَّ غَيَّبْنَ تحتها
حبيبًا فما تَرْقَا لَهُنَّ مدامِعُ

والساقية أو الناعورة أو الدولاب يبكي:

لله دولابٌ يفيض بجدولٍ
في روضة قد أينعت أفنانَا
فكأَنه دَنِفٌ يدور بمعهد
يبكي ويسأل فيه عمن بانَا
ضاقَتْ مجاري جَفْنِهِ عن دَمْعِه
فتفتحت أضلاعُهُ أجفانَا

والقلم يبكي:

ما أبطأَتْ أخبارُ من أحبَبْتُه
عن مسمَعي بقدومِه ورُجوعِه
إلا جَرَى قلمي إليه خافِيًا
وشكَا إليه تشوقي بدموعه

والسيف يبكي:

تبكي صوارمُه يوم الوغى بدمٍ
وذلك الدمع للدنيا به ضحك

ثم يفلسف «النَّظَّام» البكاء فيجعل الضمير يبكي:

ذكرتُك والراحُ في راحَتي
فشِبْتُ المدامَ بدمعٍ غزيرْ
فإنْ تُنْفِدِ الدَّمْعَ نارُ الأسى
بكتك الحشَا بدموعِ الضَّمِير

•••

رحم الله آباءنا الأولين، فقد جالوا كل مجال، وتفننوا كل فن، ولم ينقصهم إلا أن يبني أبناؤهم على آثارهم، ويجددوا ما تهدم من بنيانهم، ويشيدوا ما يتطلبه زمانهم، وما هو أشبه بنفوسهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤