القول التام في التعليم العام

لا يختلف اثنان في أنَّه متى نَزَلَت السَّكينة بلدًا من بلاد المعمورة، وحلَّت روح النظام والعدل فيها محل الخوف والاختلال، والحكم بالأغراض النفسانية، شعر أهالي ذلك البلد باحتياجهم للتعليم، وهمَّ العلم بالحلول مكان الجهل، وهذه النهضة التي تكون بطيئة في مبدأ أمرها لا تلبث أن تسرع الخطى، إلى أن يَنتهي أمرها فتصير عمومية، لا يكادُ يعوق سيرها عائق، وما ذاك إلَّا للمُزاحمة والحاجات التي تولِّدها المدنيَّة.

عند ذلك تكثر في الأهلين الثقة بالمستقبل، ويقلُّ همهم بالزمن الحاضر، فيتفرَّغُونَ لتربية أولادهم، وتثقيفِ عقولهم، حتَّى يعدُّوهم تمام الإعداد لتذليل صعاب الأمور.

وهذه الحال تنطبقُ تمامَ الانطباقِ على مِصرنا، ولستُ أقصدُ في عُجَالَتي هذه أن آتي على تاريخ العلوم فيها، أو أن أتتبع أدوارها الأولى وأطوار نموِّها، حتى أصل إلى الدرجة التي بلغتها الآن،١ ولكن يجدر بي أن أستوقِفَ القارئ هُنَا لحظة؛ لأعلمه أنَّ عامة المصريين منذ عشر سنوات لم يكونوا ليهملوا تربية أولادهم فقط، بل كانوا يُعارضون التربية مُعارضةً تُذكر، وإن كانت قليلة في جانب ما لاقاه المغفور له محمد علي باشا منذ ستين سنة، حينما همَّ بإدخال هذا التعليم في مصر، وبثَّ روح التربية فيها، حاذيًا حذو أوروبا، موفِّقًا بينهما وبين حاجات البلاد.

أمَّا اليوم — ولله الحمد — فقد حسُن ظن العموم بالتعليم، وقدَّروا التربية حقَّ قدرها، بحيثُ أصبحت الطلبات تَرِدُ إلى نظارة المعارف من جميعِ أنحاء القطر، فسكَّان البلاد الخالية من المدارس يطلُبُون إنشاء مدارس عندهم لتربية أبنائهم، وسكان البلاد التي فيها مداس يطلبون توسيع نطاق التعليم فيها، وإن كان هؤلاء وهؤلاء لا يُدرِكُونَ المصاعب التي تحُولُ دُونَ ذلك.

أمَّا نحن بني المعارف فيسُرُّنا كثيرًا أن نرى هذه النهضة العلمية.

وهذه النهضة إنَّما نشأت عن أصولٍ شتَّى، لو تحريناها وربطناها بعضها ببعض، واستنبطنا منها نتائجها العقلية، لاضطررنا لوضع تأليفٍ مطوَّلٍ لا يقومُ به إلَّا جماعة من أهل العلم، على أنَّه لا يأتي بفائدةٍ في الخارج؛ ولذلك اقتصرنا على الأسباب العمومية التي أبنَّاها في أوَّلِ هذه العجالة.

قد قُلنا فيما سَبَقَ: إنَّ رغبة التعلم أخذت تزدادُ في البلادِ بحيثُ أصبَحَ الأهلون يُوَاصِلُونَ الالتماسات إلى الجناب العالي الخديوي، ويطلُبُونَ إلى صاحب الدولة — ناظر النُّظَّار والمعارف — إنشاء مدارس ابتدائية، وقد يطلبون هم والمدرسون جعل المدارس الابتدائية الموجودة الآن شاملةً للتعليم الابتدائي والثانوي، ليخرج من تمَّمَ التعليم فيها حائزًا شهادة الدراسة الثانوية، الكافلة لحاملها الدخول في الوظائف الكبيرة بمصالح الحكومة، والقبول بالمدارس العالية الأميرية.

وأشرنا إلى أنَّ النظارة تُصَادِفُ مصاعب في سبيلِ إجابة الأهالي لملتمسهم، وهذه المصاعب على نوعين، الأوَّل حِسِّي، والثاني معنوي.

أمَّا الأمر الأوَّل: فينحصرُ في عَدَمِ تيسُّرِ النُّقُودِ.

إذ لا يَخفَى على أيِّ إنسانٍ، ولو كان مِمَّن لا يدري في نظام المدارس إلَّا قليلًا، أو كان يجهلُ ذلك النظام بالمرَّة، أنَّ المدرسة مهما كانت صغيرة لا بدَّ لحياتها من أمرين:
  • الأوَّل: المصاريف المدرسيَّة التي تدفعها التلامذة الذين يتلقَّون الدروس في تلك المدرسة، أي مجموع الإعانة التي يدفعها الآباء للمدرِّسين مقابلة تعليم أبنائهم.
  • الثاني: الإعانة التي تؤدِّيها الحكومة أو يؤدِّيها شخصٌ من أهلِ البِرِّ، أو شركة، أو مجموعُ من ذكرت، فيؤسَّس العدد الكبير من المدارس، بل والمدارس الجامعة على أحد هذين الأمرين أو عليهما معًا.

وهذه المدارس وإن خُصَّت كل واحدةٍ منها بغرضٍ مخصوصٍ، إلَّا أنَّها جميعًا متحدة في الغاية، وهي خدمة الجمعية التي تنشأ بينها، أو المملكة التي تُوجد فيها، بنشر العلوم والآداب، وبثِّ الفنون والصنائع.

وحيث قد تقرَّرَ ذلك، فلننظر الآن فيما تنفقه الحكومة السَّنِيَّة على مدارسها، ثم نبحث هل في طَاقَتِهَا أن تُساعدها أكثر من مساعدتها إيَّاهَا الآن؟ وبعد ذلك ننظر فيما قام به الجمهور من المعونة للمدارس، وما هو قائمٌ به لها، ثم نبحث بعدُ فيما يمكنه عمله للوصول إلى الغرض الذي نسعى وراءه، وهو تقدُّم التعليم فنقول: قد ورد في الميزانية العمومية التي وضعتها الحكومة السنية لدواوينها المُختلفة عن سنة ١٨٩٣ مبلغ ٩٢٥٤٤ جنيهًا مصريًّا — برسم نظارة المعارف — وهذا المبلغ قد خُصِّصَ لحاجات المدارس الابتدائية، التي يبلُغُ عددها ثلاثًا وعشرين مدرسة، وهي:

٢٤
١ مدرسة ابتدائية من الدرجة الثانية
٨ مدارس ابتدائية من الدرجة الأولى
٣ مدارس ثانوية*
٢ مدرسة للبنات
١ مدرسة للصنائع
٣ مدارس للمعلمين
١ مدرسة طبيَّة
١ مدرسة للأجزائيَّة
١ مدرسة للولادة
١ مدرسة للحقوق
١ مدرسة للمهندسين
١ مدرسة للزراعة
قد شُرِعَ في جعل مدرسة إسكندرية شاملةً للتعليم الابتدائي والثانوي، وهي تحتوي الآن على أربع سنوات ابتدائية في القسمين الفرنساوي والإنجليزي، وثلاث سنوات ثانوية في القسم الفرنساوي، ولم يتأتَّ تشكيل فرق ثانوية إنجليزية بها الآن لعدم النقود، ومع ذلك فإنَّ عدد المُدَرِّسِين غيرُ كافٍ، ولم يكن كُفئًا للتدريس في القسمين الابتدائي والثانوي، ولذلك كان التعليم فيها أقل درجةً منه في المدرستين الثانويتين الأخريين (التوفيقية والخديوية)، اللتين تكادان أن تكونا سائرتين على نظامٍ تام.

وقد وَقَفَ الخديوي إسماعيل باشا أرضًا خصَّصَها للصرف على المكاتب الأهليَّة، وبَلَغَ مُتَوَسِّط ريعها ٢٠٦١٤ جنيهًا مصريًّا في السنة، وأَدرَجَ هذا المبلغ بميزانية المصروفات لسنة ١٨٩٣. وبهذا المبلغ تقومُ النظارة بشئون المدارس الابتدائية الآتية:

عدد
٦ مدارس ابتدائية من الدرجة الثانية
١٨ مدرسة ابتدائية من الدرجة الأولى

وهناك إيرادٌ ثالث يُصرف في سبيلِ التعليم، وهي الإعانة التي تدفعها مصلحة الأوقاف، وقد قُدِّر مبلغ هذه الإعانة لسنة ١٨٩٣ بمبلغ ٥١٠٠ جنيه مصري، وأُدرج في الموازين العمومية للحكومة. وقد خصَّصَته النظارة للقيام بشئون المدارس الآتية:

عدد
٤٠ كُتَّابًا*
٣ مدارس ابتدائية من الدرجة الثانية
٥ مدارس ابتدائية من الدرجة الأولى
لا أَتَعَرَّضُ لِذِكرِ هذه الكتاتيب؛ إذ إنَّها لا تسيرُ على الطرق والبروجرامات التي سنَّتها نظارة المعارف العموميَّة للمدارس الأُخرى، وإنها لا تزالُ مُتَّبَعة الخطة القديمة والطرق المسنونة في الزمن السابق.

وبضمِّ أنواع الإيراد الثلاثة هذه على بعضها، يكونُ مجموع ما تصرفه النظارة هو ١١٨٢٥٨ جنيهًا مصريًّا في سبيل التعليم بالمدارس الآتية:

عدد
٤٠ كُتَّابًا
١٠ مدارس ابتدائية من الدرجة الثانية
٣١ مدرسة ابتدائية من الدرجة الأولى
٣ مدارس ثانوية
١ مدرسة خصوصية للصنائع
٢ مدرسة للبنات
٨ مدارس عالية

فيكون جميع المدارس الموزَّعَة في أنحاء القطر المصري ٥٥ مدرسة.

وهذه المدارس كان بها في ٣١ ديسمبر سنة ١٨٩٢، ٧٨٠٠ تلميذ، موزَّعِين بالكيفية الآتية:٢
عدد
٧٨٠٠
٤٦٩ بالمدارس الابتدائية التي من الدرجة الثانية
٥٩٠٤ بالمدارس الابتدائية التي من الدرجة الأولى
٦٥٤ بالمدارس الثانوية
٢٥٩ بمدرسة الصنائع
١٥٥ بمدرسة البنات
٣٥٩ بالمدارس العالية

وهَاكَ بيانُ ما يُنفَقُ على التلميذ الواحد في السنة بهذه المدارس على اختلاف درجاتها:

 مدارس ابتدائية جنيه
درجة ثانية خارجية ٢
درجة أولى خارجية لا تُصرف فيها تعيينات ٦
مدرسة ابتدائية يُصرَفُ فيها الغداء ٩
مدرسة ابتدائية داخلية ١٥
مدارس ثانويَّة
التلميذ الخارجي الذي يُصرَفُ إليه الغداء ٢٥
التلميذ الداخلي ٣١
مدرسة الصنائع
التلميذ الخارجي الذي يُصرَفُ إليه الغداء ٢٩
التلميذ الداخلي ٣٥
ما يُنفَقُ على التِّلميذِ الواحد بالمدارس العالية في المتوسِّط ٨٠

وهذه المبالغ قد استخرجتها من متوسط مصروفات المدارس في سنة ١٨٩٢ وسنة ١٨٩٣ المكتبيَّة، ولم أُدخِل فيها مصروفات ديوان النظارة، بمعنى أنَّنِي لم أعتبر أنَّ ميزانية المصروفات للمدارس هو مبلغ ١١٨٢٥٨ جنيهًا مصريًّا، المتكون من أنواع الإيراد الثلاثة التي أبنتها فيما سبق، بل اعتبرتُ المصروفات الحقيقيَّة للمدارس التي تُصرف في شئون التعليم، المُقدَّر لها ٩٥٩١٠ جنيهات مصرية، والفرق بين المبلغين وقدره ٢٢٣٤٨ جنيهًا مصريًّا، يُصرف على ديوان النظارة، والتفتيش، والرصدخانه، وأموال الأطيان، وغير ذلك.

ومن هُنا يظهر أنَّ هذه المصروفات هي أقل ما يُمكن صرفه.

وقد اعتبرنا في تقدير هذه المصاريف أنَّ متوسط عدد تلامذة المدرسة الابتدائية من الدرجة الثانية خمسون تلميذًا، ومتوسط عدد تلامذة المدرسة الابتدائية التي من الدرجة الأولى والمدرسة الثانوية ثلاثمائة تلميذ.

أمَّا ما يُنفَقُ على التلميذ الواحد في المدارس العالية، فيختلفُ باختلافِ عدد الطلبة بها بين ٦٠ جنيهًا و١٥٠؛ ولذلك اعتبرنا المتوسِّط وهو ٨٠ جنيهًا مصريًّا.

وقد ذكرنا هذه الأرقام ليتبيَّن للجمهور ما يُصرَفُ على التلميذ الواحد بكلِّ مدرسة من المدارس المُختلفة الدرجات بيانًا شافيًا، وسأذكُرُ قريبًا مُلخَّص بروجرامات أنواع المدارس الابتدائيَّة التي من الدرجة الثانية، والابتدائية التي من الدرجة الأولى، والمدارس الثانوية، حتَّى يتأتَّى للقارئ بكلِّ سهولة الوقوف على المصروفات التي تلزم في السنة لكلِّ مدرسة من أي نوع، بفرض أنَّ عدد التلامذة الذين بها يكون مُوازيًا للمتوسِّط الذي أشرتُ إليه آنفًا.

وفصَّلنا هذه التفصيلات حتَّى يُقَدِّر العموم المصاعب المادية التي تُلاقيها النظارة في سبيل نشر التعليم حق قدرها، وحيث قد أبنَّا ما تصرفه الحكومة الآن على مدارسها، وسنبيِّنُ فيما بعد إذا كان في قُدرَتِهَا أن تصرف أكثر من ذلك، فلننظر الآن في الصعوبة الثانية التي تحولُ دُونَ نشر التعليم بمصر، وهي قِلَّةُ المدرِّسينَ الأَكفَاء.

إذ إنَّ العُسر المالي لا يكونُ مَانعًا من نشر التعليم في ديارٍ مثل ديارنا، توفرَّت فيها موارد الثروة والسعة، ووسائل الرغد وروح الحياة، وإذن فالصعوبة التي لا يُمكِنُ قهرها هي قِلَّةُ المدرِّسِين، لا قِلَّة النقود.

ويجدُرُ بنا في هذا المقام أن نعرفَ الغَرَضَ المقصود من لفظِ مدرِّس، فنقول: المدرس هو الشخص الذي تتوفَّرُ فيه الشروط الآتية:
  • أولًا: أن يَكُونَ مُتعلِّمًا، قد درس بغرض تعليم الآخرين ما تعلَّمه.
  • ثانيًا: أن يكونَ تعلَّمَ العلومَ والآدابَ أو ما شاكلها من الفنونِ الصَّالحة للتلقينِ، على حسب أحسن الطرق العقليَّة، وأيسرها، وأقربها منالًا، حتى يتأتى له نقلها من حافظته إلى حافظة تلميذه.
  • ثالثًا: أن يكونَ وعى طريق التدبُّر والفكر، حتَّى إنَّه إذا كثُرَت لديه التلامذة أو قلَّت يسهُلُ عليه التنويع في طُرُق التعليم، والتقريب فيها، مع مُراعاة مُقتضَى المقام، وقوَّة حافظة التلامذة، والبروجرامات التي يتعيَّنُ عليه تعليمُ مَا جَاءَ بها.

ويُؤخَذُ من هذا التعريف أنَّ التدريس صناعة خصوصية، لا يقومُ بها تمام القيامِ إلَّا من عرفها، ووعى سبيلَ مُمَارَسَتِها، وأحاطَ بطُرُق مزاولتها مع السداد والرشاد.

وبالجملة ينبغي أن يكون المدرِّسُ رجلًا قد أتمَّ هذه الصناعة بغرض التدريس.

وقد بقيت النظارة زمنًا طويلًا لم تُفكِّر في تخريج مدرِّسين بهذه الصفات، ولم تفطِن لذلك إلَّا منذُ خمس عشرة سنة، وقبلها كانت متى صادفت إنسانًا تلوحُ عليه معرفة بعض الأمور، كانت تَكِلُ إليه أمر تعليمها في مدارسها، وهذه القاعدة كانت مُطَّرِدَة، وإن كنت لا أُنكِرُ أنَّه قد شذَّ منها شواذ تنحصرُ في بعض رجالٍ ذوي كفاءةٍ تامَّةٍ، استحضرهم ساكن الجنان محمد علي باشا الأكبر، وقلَّدهم زِمَامَ الوظائف العليا بالمدارس، ولكن هذه الشواذ لا يُقاسُ عليها، أمَّا أساس التعليم — وأعني به المدارس الابتدائية، والمدارس التجهيزيَّة أو الثانوية — فكانت تسري عليها إذ ذاكَ القاعدة العمومية من حيثُ المدرِّسون فيها، الذين كانوا يُنتَخَبُونَ بمُرَاعَاة الهواء والأغراض الشخصية، لا بمُرَاعَاة الكفاءة والأهليَّة.

ولكن منذُ خمس عشرة سنة تقريبًا أَشرَقَ نورُ العلمِ، وعُنِي أولو الأمر بشأن المدرسين الأكفَاء، وتأسَّسَت مدرسة المعلمين التوفيقيَّة في سنة ٨٠؛ لتخريج المعلمين الذين يقومون بتدريس اللغة الفرنساوية والعلوم بالمدارس الأميريَّة، ومَعَ كونِ هذه المدرسة أُدخلت فيها الأصول والطرق البيداجوجية المُتقنة منذُ تأسيسها، إلَّا أنها لم تُخرِّج من المدرسين الأكفاء إلَّا قليلًا، وذلك من عهدٍ قريبٍ، أي بعد أن مَضَى عليها اثنتا عشرة سنة من تأسيسها.

وقد تأسَّسَت كذلك منذ سنة ١٨٨١ إفرنكيَّة مدرسة للمعلمين، سُمِّيَت بدارِ العلوم، وكان الغرض منها تخريج معلمين للُّغَةِ العربيَّة، ومبادئ العلوم بالمدارس الابتدائيَّة، ولكن لسوءِ الحظِّ لم تُوكل نظارة هذه المدرسة بعد وفاة المرحوم «دور بك» إلى رجال عارفين بطرق التعليم؛ ولذلك لم تصل حتَّى الآن إلى درجة الكمال.

وفي غضون سنة ١٨٨٩ تأسَّسَت مدرسة المعلِّمين المسمَّاة بالخديوية لإعداد مُدرسين، يُناطُ بهم تدريس اللغة الإنجليزية وبعض العلوم، ولكنها لم تخرُج من طور الطفوليَّة إلَّا من عهدٍ قريبٍ.

ومن هذه الشَّوَاهد يُعلم مقدار الزمن اللازم لتخريج المدرِّسِين الأكفَاء، ولا حاجة للتنبيهِ بأنَّ مدارس المعلمين هذه إنَّمَا جُعِلَت لتخريج مدرسين للتعليم بالمدارس الابتدائية.

أمَّا المدارس الثانويَّة فليسَ في وُسعِنَا الآن إعداد مدرِّسين لها؛ ولذلك اضطررنا سدًّا لحاجة التعليم الثانوي لأن نستحضر المدرسين من البلاد الأجنبيَّة، أو نعهدُ بِهِ إلى رجالٍ «مُتفاوتي الدرجات»، تعلَّموا في القطر، بحيثُ إن ذكاءهم الفطري، وقوَّة الإبداع لديهم يقومان مقام العلم بطرق التعليم الذي كان ينبغي توفره فيهم.

فما علينا إذن إلَّا أن ننتَفِعَ من هؤلاء المدرسين بأحسَنِ مَا لديهم، بإرشادهم تارة واستنهاض هممهم تارةً أُخرَى، حتَّى يتم في زمنٍ ما الإصلاح، الذي قد سبق البدءُ فيه بالنسبة لمدرِّسي المدارس الابتدائية، فيسري بالضرورة على مدرِّسِي المدارس الثانوية.

ويرى بعض نُظَّار مدارسنا أنَّ المدارس الكثيرة — ولو كانت على غير نظام — أفضل من القليلة المُنتظمة، ومن رأيهم أيضًا إجابة طلبات الأهالي لإنشاء مدارس ابتدائية جديدة في الحال، رغمًا عن المصاعب المالية، وعدد المدرِّسِين الذين يتأتَّى لنا إعدادهم.

ولا شكَّ أنَّ أصحاب هذا الرأي يُبَرهِنُونَ على عظيمِ ميلهم لنشرِ المعارف بدونِ سدادٍ في الرأي والنظر.

فإنَّ هذه المدارس الجديدة إنما يُقبِلُ عليها الأهالي مُدَّةً من الزمن، ثمَّ ينفرون عنها حينما يشعرون بانحطاط درجتها.

وَهَاكَ بعضُ شَوَاهد جديدة العهد على ما للجمهُورِ من المعرفة بأحوال المدارس.

إنَّ المدرسة التوفيقيَّة عند نَقلِهَا من مقرِّها القديم إلى محلِّها الآن بشبرا، ازدادت مَصَاريف الدراسة بها إلى الضعف، ومع ذلك زادَ عدد التلامذة بها، وفي سنة ١٨٨٩ زَادَت المصاريف بنسبة ٢٠ في المائة، ولم يزل عدد التلامذة آخذًا في النموِّ.

وبخلاف ذلك مدارس طنطا والسويس وقنا، التي كانت سيِّئَة الإدارة وكان بها مُدرِّسُونَ غير أكفاء، فسقطت من أعيُنِ أهالي تلك المدن، وترتَّبَ على سُقُوطها من أعينهم قلَّة عدد تلامذتها، وعلى الأخصِّ التلامذة الذين يدفعُونَ المصاريف، فإنَّ عددهم قد نقص كثيرًا.

فلمَّا أحسَّت بذلك النظارة منذُ سنتين تقريبًا، عهدت بإدارة تلك المدارس إلى نظارة من الشُّبَّان ذوي نشاطٍ وأهليَّة، ونقلت بعض مدرِّسيها، عِندَ ذلك عادت روح الحياة لتلك المدارس، فبلغت الآن درجةً حسنة، وأقبل عليها العموم ثانيةً، ويثبت ذلك زيادة عدد التلامذة الذين يدفعون المصاريف بها، وهذا ممَّا يحملني على القولِ بأنَّ المدارس الجديدة تنفرُ عنها الأهالي، وربما لم تكتفِ بذلك.

ولستُ أَخشَى اليومَ أن أُجاهِرَ بأنَّ مدارسنا أَصبَحَت تُضَارِعُ أحسن المدارس الأجنبيَّة بمصر، من حيثُ مُعِدَّاتها، وطرق التهذيب والتعليم بها، بل يسوغُ لي أن أقولَ: إنَّ بعض مدارسنا الابتدائية والثانوية كالمدرسة التوفيقيَّة، والناصريَّة، والمدرسة الخديويَّة، يصحُّ أن تُعدُّ بين نَظَائِرِها بأيِّ مملكةٍ من ممالك أوروبا.

وحيثُ تحقَّقَت بعض الآمال فما علينا إلَّا التجلُّد والثبات، وصرف الدرهم، والسير بضع سنين في الطريق الذي سلكناه مدَّة السنين العشرة الأخيرة، وبذلك لا أشكُّ في أنَّ ما قُلتُهُ أخيرًا عن بعض المدارس يَصدُقُ على الكلِّ.

والفضلُ في معظم التقدُّم الذي حصل إنَّمَا يرجعُ إلى المدرسة التوفيقيَّة، فإنها فضلًا عمَّا أخرجته من المدرسين، قد اقتدى بها سائرُ المدارس وحذوا حذوها، وهذه المدرسة لم يكُن بها في أوَّلِ الأمر عند تأسيسها سِوَى ناظر وأربع من المدرسين المعدِّين للتدريس، ثم انضمَّ إليهم جُملة من المتعلمين عليهم، وُظِّفُوا مدرسين بالمدرسة، وبعدُ دخلها مدرسون ممَّن لم يتخرَّجُوا منها، وهؤلاء وإن لم يكونوا قد أُعِدُّوا لصناعة التدريس تمامَ الإِعدادِ، إلَّا أنه قد سَرَى فيهم دأبُ التأديب، وانبعثت فيهم روح الغيرة، التي كَانَ عليها مُؤسِّسُو المدرسة، وبذلك أَصبَحَ مُدرِّسُو المدرسة سواءً في التعليم، تقودهم إلى العمل قوة واحدة؛ ولذلك تراهم قد أتوا بأحسن النتائج.

فوقعت هذه الخطة أحسن موقع لدى أهل المدارس الأُخر المخلصين، فاقتدوا بها، وهمُّوا باتخاذ الطرق البيداجوجية عنها، وهؤلاء، وإن لم ينجحوا في مبدأ الأمر، لكنهم لم تفتر عزائمهم، بل كانوا يتسابقُونَ إلى استخدام شُبَّان المُدرِّسين المتخرِّجِين بالمدرسة التوفيقية، وبفضل معونتهم اهتدت بعض المدارس إلى السُّبُلِ الموصِّلَةِ إلى طُرُقِ التعليم المتبعة في المدرسة التوفيقية، إن لم نقل أنها بلغت درجة الكمال التي عليها المدرسة المذكورة.

ولا يسَعُنَا في هذا المقام إلَّا أن نخُصَّ نُظَّارَ المدارس وأساتذتهم بأفضل الثناء، فإنهم المساعدون على تقدم العلوم والمعارف، بإرشاد البعض منهم إلى أقوم طرق التعليم والتهذيب، وباعتراف البعض الآخر بحُسن تلك الطرق والاجتهاد في العمل بمقتضاها، ولكن وُصولهم لهذه الدرجة لم يكن إلَّا بالصبر والعزم والثبات.

لكن بعض الخُطَبَاءِ العالمين بضروبِ السَّفسطة الجَاهلينَ بهذا العمل، الذي انتفت عنه الجعجعة وخَالَطَهُ السُّكون والتؤدة، فتمَّ بالصَّبرِ ومزيد التفرُّغِ في كلِّ حينٍ وآونةٍ، قد يُلَفِّقُون جُملًا مُزخرفة مُرَونقة، ويعقدون أبوابًا وفصولًا عارية عن المعاني، خِلوًا عن المدلول، فلا تَرُوجُ بضاعتهم في أسواق الجمهور إلَّا عشيةً أو ضُحَاهَا، ولا تُصَادِفُ سلعتهم نفاقًا إلَّا في ساحة من يسمعها، فيصرفها إلى ما شاكل مرض قلبه، ويذهب في تأويلها على نهج مذهب النِّفَاق والمصانعة، إذ الجمهور مُتَّصِفٌ بالذَّوقِ السَّلِيم، الذي لا يُحجِب شمسه غيمُ السفسطة، وهو الذي يتولَّى بنفسه التمييزَ بين الغثِّ والسمين في مصالحه العائدة عليه؛ ولذلك تراه يُقَدِّرُ حقَّ القدر جد المعلمين، ولا يُنكِرُ عليهم ما أدركوه من الترقِّي، وهذه أَنفَسُ مُكافأة للمعلِّمين، ولثقتهم بأنَّ الجمهور مُقِرٌّ لهم بالفضل، تراهم لا تفتر لهم عزيمة، بل يعملون مع الثبات في إتقان صناعة التدريس الشَّاقة.

ولنرجع إلى الكلام على المدارس الجديدة، التي يرغبُ البعضُ في إنشائها على الفور، فنقولُ: إنَّ هذه المدارس لا شكَّ تجعلنا برداءة نظامها، وسوءِ إدارتها، وكون التعليم فيها عَقِيمًا؛ بسبَبِ من يوكَّلُ إليهم من مطرودي مصالح الحكومة الملكيَّة والعسكريَّة عرضة لخطر، هو قلة ثقة الناس بالمدارس الموجودة الآن، ونفرتهم عنها، ظانِّينَ أنَّها من نوع المدارس الجديدة.

إذ إنَّ المدارس الأجنبيَّة التي أُنشِئَت منذ سنة ١٨٤٠ في القطر، مَا رَاجَت وتكاثرت إلَّا لسوءِ حال مدارس الحكومة حينئذٍ، وعدم حلولها من الجمهور محل الثقة، ولم يتعطَّل سير الإقبال على هذه المدارس الأجنبيَّة إلَّا لمَّا أخذ التأثر من الحكومة مأخذه، فنهضت وثابرت على رَفعِ شأن العلوم، حتَّى فَازَت من الأهالي بنصيبٍ من الثِّقَةِ عظيم.

وحيثُ قد ثَبَتَ ذلك، فيتعيَّنُ علينا إذن أن نعملَ مَعَ التأنِّي والتؤدة، ولا نعجل فتضيعُ ثِقَة العموم بنا، ويتركوننا ويتسابقون إلى المدارس الأجنبيَّة، فإنَّ التجارب التي اكتسبناها في التعليم تسمحُ لنا بأن نُحَذِّرَ بني وطننا العزيز من العجلة، فقد قيلَ: إنَّ المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى.

وممَّا تقدَّم يظهرُ جلِيًّا أنَّه لأجلِ أن يكونَ لإِحدَى الأمَمِ مدارس حقَّة مؤدِّيَة تمامًا للغَرَضِ منها، يجبُ عليها تخريج مدرِّسين تنتقي من بينهم ذوي الكفاءة في التعليم، وأظنُّ أنَّنَا قد عرفنا هذا الطريق، وإن لم يكن من أول الأمر، ولكن مهما كَانَ الحال فقد اتبعنا هذه القاعدة، واعتبرناها ضمن الحقائق، بحيثُ إنَّ العدول عنها يُعدُّ خطأً مُبينًا، والإخلال بشيءٍ منها يكون جريمة على السَّاعين في صَالِحِ المعارف، العاملين على خيرها، الواثقين بها كبير الثقة.

وحيثُ إنَّ مدارس المعلمين مؤسسة لدينا، وحركة العمل بها قائمة مع التقدُّمِ والفلاح، ولا تزالُ تأتي بثمراتٍ جليلَةٍ للبلادِ سَنَةً بعد سَنَةٍ، فيتعيَّنُ علينا ألَّا نَحُثَّها على السيرِ، فقد قِيلَ: شرُّ السير الحقحقة، وهو: أن يستفرغ المسافر جهد ظهره، فيقطعه فيهلك ظهره ولا يبلغ حاجته.

كما أنه يجب علينا ألَّا نتخذ للتدريسِ في مدارسنا — كما كان يحصل في الزمن الماضي — أُناسًا ممَّن لم تتوفَّر فيهم الشروط المطلوبة، ونُعَاملهم أسوة الشبان المتخرجين في مدارسنا؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى فتور في عزيمة هؤلاء الشبان الذين يعدون أنفسهم مع الجد والعمل لصناعة التدريس.

ويجبُ علينا أيضًا أن نرجعَ عن الغلوِّ في مدح المدرسين، الذين نعدُّهم للتعليم، إذ إنَّ الجمهور — كما قلته غير مرَّة — بسلامة ذوقه يكتشف الحقيقة، ويعرف أنَّنَا نحمله على الثقة بنا بلا مسوِّغٍ، فيقلُّ رُكونه إلينا، ثمَّ ينعدم بالمرة، على أنَّ الأولى بِنَا أن نجتهدَ في أن نُدخِلَ في المدارس الثانوية طرق التعليم التي اتَّبَعنَاهَا مع النجاح في المدارس الابتدائية، ونعدُّ لِهَذِهِ المدارس مدرِّسين خصوصيين، وبذلك نحصُلُ مع الزَّمَن على أساتذة للتعليم الثانوي، جديرين بأن يُطلَقَ عليهم لقب مدرس للتعليم الابتدائي والثانوي، عند ذلك يسوغُ لنا القولُ بأنَّا قد أعددنا لبنينا الوسائل الكافلة بنجاح التعليم وحُسن التربية.

وممَّا تقدَّم يظهرُ أنَّنِي قد كشفتُ القناعَ عن المصاعب الحائلة دُونَ سُرعة تقدُّم المعارف، وقد قُلتُ فيما سبق: إنَّ الصعوبة المالية يُمكن زوالها، بشرطِ عدم العجلة في نشر التعليم بمدارسنا الحالية، وسأفصِّل قريبًا الوسائل المؤديَّة لزوالها، ثمَّ نبحثُ بقدر ما تَصِلُ إليه الطَّاقة عن أَقْوَمِ الطُّرُقِ للحصولِ على المدرسين الضروريين للمدارس التي نفتحها في المستقبل بالنقود التي تصلُ إليها أيدينا، حتَّى ينتشرُ التعليم بيننا تدريجًا، لا يعتوره خَطَرٌ، ولا يَعتَرِيهِ انزعاج.

فإنَّ بلادنا لو كانت كالبلاد الأجنبيَّة الأوروبيَّة ليست مُرتبطة بعهود دوليَّة خالية عن الديون، عارية عن العوائق والمحظورات التي تحولُ دُونَ أعمالها، لتأتَّى بدونِ شكٍّ أن نسنَّ القوانين القاضية بجعلِ التعليم إجباريًّا مجانًا، كما هو جارٍ في تِلكَ البلاد، لكن وا أسفاه! لمَّا كانت حالنا غير حالِ البلاد الأجنبية، يتعيَّنُ علينا أن نستعينَ بميزانيَّة الحكومة، ولا يخفى أنَّ هذه الميزانية ثابتة، ما دامت مُرتبطة بمعاهدة لوندرة، والاتفاقات السابقة عليها واللاحقة لها، وهذه الميزانية إنَّمَا جُعِلَت لتقوم بحاجات مصالح الحكومة العامَّة وديونها الخاصَّة، ومن هذه الحاجات ما هو ضروري لا بدَّ منه، إمَّا بطبعه، وإمَّا لاختصاصه بمصلحةٍ ذَات إيراد؛ ولذلك نضع لها الترتيب الآتي حسب أهميتها للبلاد:
  • أولًا: الويركو الذي يُدفع للدولة العلية.
  • ثانيًا: الأقساط التي تُدفع لأرباب الديون، بما فيها المصالح الخاصَّة بمالية البلاد على العموم.
  • ثالثًا: المصالح الخاصَّة بالدِّفَاعِ عن البلادِ مِنَ الدَّاخل والخارج، أعني نِظَارَتَي الحربيَّة والداخليَّة.
  • رابعًا: الأشغال العموميَّة.
  • خامسًا: إِقامة الحدود في البلاد ورفع المظالم «الحقانية».
  • سادسًا: الصحَّة العمومية.
فإذا تقرَّرَ ذلك وَجَبَ على الحكومة أن تقومَ بحاجات مصالحها ذوات الإيراد، بأن تقدم الأهم منها على المهم، حتَّى يُحفظ النظام بين الرعية، وتتيسر أسباب الرفاهية لديهم.٣

نعم، لا يُنْكر أنَّ التعليم بالبلادِ من وسائل الثروة، فإنَّ لَهُ مَسَاسًا بالاقتصادِ السياسي فيها، ولكن لا بدَّ للحكومةِ أن تنظرَ أولًا في ضرورياتها الحاجيَّة، كَمَا هو جارٍ الآن، ثمَّ تخصص جانبًا من ميزانيتها إلى لوازم التعليم، وقد بَلَغَ ما خصَّصَته للمعارف في سنة ٩٣، ٩٢٥٤٤ جنيهًا مصريًّا.

وهذا المبلغ ربَّمَا يكونُ زهيدًا في جانب حاجات التعليم ورغبات أهالي هذه البلاد، التي تزيدُ سُكانها الآن عن ٦٠٠٠٠٠٠، ويبلغ إيرادها زهاء ١٠٠٠٠٠٠٠ جنيه مصري؛ لأنه في الواقع ونفس الأمر لا يُوازي إلَّا جُزأ من مائة جزء من إيراد الحكومة، وبعبارةٍ أُخرى لو وزَّعنَاهُ على الأهالي لما خص الفرد الواحد منهم إلَّا قرش ونصف، أو خمسة عشر مليمًا تقريبًا.

وكان يودنا في هذا المقام أن نُقدِّم بيانًا شافيًا عن المصاريف التي خُصِّصَت لنظارة المعارف، مُنذُ تفكَّر المغفور له محمد علي باشا عند أول هذا القرن في أن يرفعَ شأن بلاده معنويًّا وحسيًّا، فافتتح فيها المدارس على نسق مدارس أوروبا؛ إذ إنَّ ذلك لا يخلو من الفائدة، ولكن مِنَ الأَسَفِ لم يتأتَّ لنا الوقوف على المبالغ التي صُرِفَت لهذه الغَايَة في عهد المغفور له، ولا في عهد خُلَفَائِهِ إلى سنة ١٨٥٤ قبطية «١٨٦٨ إفرنكيَّة»، وذلك لعدم الأوراق الرسميَّة الخاصَّة بذلك إلى هذا التاريخ.

ومن الجدول المُسَطَّر بعدُ يتَّضِحُ من هذا التاريخ:
  • أولًا: ميزانية الحكومة العموميَّة.
  • ثانيًا: عدد المدارس التي تقومُ الحكومة بنفقتها.
  • ثالثًا: عدد التلامذة ذوي المصروفات والمجَّانيَّة، والمجموع الكلِّي للنوعين.
  • رابعًا: نسبة التلامذة المجَّانيِّين إلى ذوي المصروفات في المائة.
  • خامسًا: ما يُنفَقُ على التلميذ الواحد في السنة.
سنين مربوط الميزانية عدد المدارس عدد التلامذة عدد المجَّانية ما يُنفق على التلميذ الواحد
جنيه م مجانًا بمصروفات جملة جنيه م
١٨٦٨ ٦٧٠٠٠ ١٣ ١٤٤٨ ٤١
١٨٦٩ ٦٧٠٠٠ ١٣ ١٤٤٨ ٤١
١٨٧٠ ٦٧٠٠٠ ١٣ ١٤٤٨ ٤١
١٨٧١ ٥٠٠٠٠ ٩ ١٣٩٤ ٣٥
١٨٧٢ ٥٠٠٠٠ ٩ ١٣٩٤ ٣٥
١٨٧٣ ٤٩٢٤٠ ٩ ١٤٣٤ ٢٧
١٨٧٤ ٥١٨٢٠ ٩ ١٠٨٣ ٣٨
١٨٧٥ ٦٠٠٨٣ ٩ ٩٥٨ ٢٦٠ ١٢١٨ ٧٩ في المائة ٤١
١٨٧٦ ٦١٣٠٩ ٩ ٩١٣ ٢٠٨ ١١٢١ ٨٢ في المائة ٤٦
١٨٧٧ ٤١٢٦٧ ٨ ٧٠٦ ٩٢ ٧٩٨ ٨٨ في المائة ٤١
١٨٧٨ ٣٥٠٤٠ ٨ ٦٨٥ ٩٠ ٧٧٥ ٨٩ في المائة ٣٦
١٨٧٩ ٤٥١٠٨ ٩ ١٣٩٦ ٧٦ ١٤٧٢ ٩٥ في المائة ٢٦
١٨٨٠ ٥٩٤١٥ ١٠ ٢٠٠٠ ٥١٢ ٢٥١٢ ٨٠ في المائة ٢١
١٨٨١ ٨١٩٤٩ ١٤ ٢٣٩١ ٧٠٦ ٣٠٩١ ٧٧ في المائة ٢٣
١٨٨٢ ٨٨٠٧٨ ١٣ ٢٥٠٠ ٦٤٣ ٣١٤٣ ٨٠ في المائة ٢٥
١٨٨٣ ٩٩٥٤٩ ١٧ ٢٩٠٠ ١١١٢ ٤٠١٢ ٧٣ في المائة ٢٢
١٨٨٤ ٩٩٩٧٧ ١٧ ٢٠٣٩ ٩٩٦ ٣٠٣٥ ٦٧ في المائة ٣٠
١٨٨٥ ٨٤٦٨٩ ١٢ ١٢٠١ ٩٦٧ ٢١٦٨ ٥٦ في المائة ٣٦
١٨٨٦ ٦٨٤٩٢ ١٢ ١٠٣٠ ٨٢٢ ١٨٥٢ ٥٦ في المائة ٣٤
١٨٨٧ ٦٨٤٥٢ ١٢ ٩٣٤ ٨٧١ ١٨٦٥ ٥٤ في المائة ٣٤
١٨٨٨ ٦٩٥٤٤ ١٢ ١١٨٥ ٩٤٢ ٢١٢٧ ٥٦ في المائة ٣٠
١٨٨٩ ٦٩٨١٦ ١٢ ٩٨٥ ١٣٨٨ ٢٣٧٣ ٤٢ في المائة ٢٧
١٨٩٠ ٨٠٣٣٧ ١٣ ١٢٢٥ ١٨٨٧ ٣١١٢ ٤٠ في المائة ٢٤
١٨٩١ ٨٨٤٧٨ ١٦ ٧٩٥ ١٨٧٤ ٢٦٦٩ ٣٠ في المائة ٣١
١٨٩٢ ٩٠٨٤٩ ١٨ ١٢٥٠ ١٨٧٠ ٣١٢٠ ٤٠ في المائة ٣٠
١٨٩٣ ٩٢٥٤٤
٤٠٠٠*
٩٦٥٤٤ ١٨ ١٣٣٧ ١٧٦٤ ٣١٠١ ٤٣ في المائة ٣١
قد قرَّرَت الحكومة في بحر سنة ١٨٩٣ إضافة هذا المبلغ على ميزانية هذه السنة.

ولم تدخل في هذا البيان المدارس التي يُصرَف عليها من الأوقاف، ولا المكاتب الأهلية، حيث إنها لا علاقة لها بميزانية الحكومة.

وقد ذيلت هذه العجالة بما وَصَلَت إليه يدي من الإيضاحات الخاصَّة بميزانية نظارة المعارف العموميَّة في عهد ساكن الجنان محمد علي باشا، وأرى أنَّهَا لا تخلُو من الفائدة لوجهين:
  • الأول: إنَّهَا تدلُّ على أنَّ ما كان يُصرَف إذ ذاك على تربية رجال يقومون بوظائف الحكومة، مُوازٍ تقريبًا لما نصرفه الآن.
  • الثاني: إنَّه ينبَغِي أن تبينَ الأمور على حقائقها، خُصُوصًا متى كانت تمسُّ بمصالح الحكومة الماديَّة، حتَّى تزولَ الأوهام الكاذبة، المتولِّدَة عند بعض الأهالي من عدم معرفتهم بأحوال البلاد تمام المعرفة؛ إذ إنَّ تلكَ الأوهام تضرُّ بتقدُّم البلاد ماديًّا، ومن ثمَّ ينشأ الضرر الأدبي، إذ هو نتيجة الأضرار الماديَّة.
هذا وقد أَسلَفنا أنَّ الديار المصريَّة لمَّا كانت حالتها مُباينة لحالِ البلاد الأُخرى، يتعيَّن على حكومتها أن تتبع خطَّة واحدة إدارية، وهي:
  • أولًا: تنظيم ماليتها.
  • ثانيًا: تحسين حالتها الدفاعية على قدر الطَّاقة، ضدَّ من يقصدها من الأعداء خارج البلاد وداخلها.
  • ثالثًا: الاهتمام بالأشغال العموميَّة والحقانيَّة.
  • رابعًا: تحسين الصِّحَّة والمعارف.

وقد سَلَكَتْ — ولله الحمد — حكومتنا هذه الخطة مع النجاح من أول سنة ١٨٨٠ إفرنكية، وعلى الأخصِّ منذ سنة ١٨٨٣، حيث فتحت نظارة الحقانيَّة المحاكم، وانتظم البوليس والجيش، وبعثت نظارة الأشغال العموميَّة في الزراعة والفِلاحة روحًا جديدة، وامتلَأَت خزائن المالية، فساعدت المصالح الأُخرى على انتشارِ الأمن واستتباب الرَّاحة، وعمَّ الخير جميع سكان البلاد.

وبعد أن مضى على حكومة الجناب العالي الخديوي مُدَّة من الزمن، أي من سنة ١٨٦٢ إلى سنة ١٨٨٠ وهي في عُسرٍ مالي وضيقٍ شديد، وليس لديها من طرق الحصول على النقود سوى التحيلات حسنت إدارتها المالية منذ سنة ١٨٧٩، فتمكَّنَت من تنفيذِ رغباتها، وخفَّفَت الأموال المُقَرَّرَة وغير المُقَرَّرَة عن عاتقِ الأهالي، ودليلي على ذلك الخطبة التي أَلقَاهَا صاحب الدولة رياض باشا، في الثاني من شهر ديسمبر سنة ٩٠ على مجلس شورى القوانين؛ إذ هي مشحونة بالتفاصيل التي تهمُّ من يعنيهم أمر الثروة، التي قد عَادَت على البلاد من حُسنِ الإدارة الماليَّة،٤ وإنِّي مُبَيِّنٌ أنواع الرسوم التي حصل التخفيف فيها على يد الحكومة السنيَّة منذُ سنة ١٨٧٩.
جنيه مصري في سنة
٨٥٥٩٩ من رسوم الصنائع حيث صارت ٢٠ جنيهًا بدلًا من ٥٠ جنيهًا ١٨٧٩
١٧٧٦٤١ نظير العوائد الشخصيَّة ١٨٨٠
١٠٥٧١٤ من عوائد النخيل ١٨٨١
متأخِّرَات الأموال المُستحقَّة لغاية سنة ١٨٧٩ ما عدا الإيجارات ١٨٨٣
٢٥٠٠٠٠ من السُّخرَة (العونة) ١٨٨٦
٥٠٠٠ نظير دخوليَّة الدخان في مدن القطر ١٨٨٨

وفي هذه السَّنَة خُفِّضَ ثمن الملح بمقدارِ الخُمس في مديريتين من مديريات الوجه القبلي.

جنيه مصري في سنة
١٢٠٠٠٠ رسوم الصنائع ١٨٩٠
٧٠٠٠ عوائد الأرز ١٨٩٠
٢٨٠٠٠ عوائد القبانة ١٨٩٠
١٦٠٠٠ من نولون البوستة ١٨٩٠
٤٠٠٠ عوائد الحملة ١٨٩٠
١٥٠٠٠٠ العونة (السخرة) ١٨٩٠
٣٢٥٠٠٠
٤٠٠٠٠ عوائد الأغنام والشعاري ١٨٩١
٣٠٠٠ دُخُوليَّة الزيوت والمواد الزيتيَّة ١٨٩١
٩٠٠٠ من أُجرَةِ تلغرافات ١٨٩١
١٠٠٠ من ثمن تذاكر البوستة ١٨٩١
١٣٠٠٠٠ من أموالِ الأَطيان بمُديريات قنا، والحدود، والجيزة ١٨٩١
١٨٣٠٠٠
١٠٠٠٠٠ من ثمن الملح ١٨٩٢
٦٠٠٠٠ عوائد البطانطة ١٨٩٢
٦٥٠٠ كسور القرش من الأموال ١٨٩٢
٧٥٠٠٠ أموال التوالف ١٨٩٢
٣٠٠٠ أموال أراضي المظروف ١٨٩٢
٤٠٠٠ من عوائد الأملاك ١٨٩٢
٥٠٠٠ من الرُّسُوم القضائيَّة بالمحاكَمِ المُختلطة ١٨٩٢
٢٥٣٥٠٠
٢٠٠٠٠٠ من أجر السكة الحديد عن البضائع والرُّكَّابِ ١٨٩٢
١٠٠٠٠٠٠ متأخرات الأموال من سنة ١٨٨٠ إلى سنة ١٨٨٩ ١٨٩٢
١١٠٠٠٠ أموال أراضي مديرية جرجا وبعض مراكز من مديرية الجيزة ١٨٩٣
١٣٠٠٠ أموال الأراضي التوالف ١٨٩٣
١٢٣٠٠٠

فهل كان يتأتَّى للحُكُومة لو أَجَابَت مَصَالحها المختلفة إلى طلباتها الخاصة بزيادة موازينها، أن ترفعَ من هذه الأموال المثقلة لكاهل الأهالي المقادير التي أَبَنتُهَا آنفًا، أَوَليس الأولى بالحكومة أن تُراعي أولًا درجة المنفعة التي تعودُ عَلَيها من كلِّ مصلحة، ثمَّ تُعطيها حقَّهَا من المال خصوصًا في هذا العصرِ الذي هَمَمنا فيه بالانتقال من حالٍ حسنةٍ إلى حالٍ أحسن، وأن تعمل على عدمِ الإسراف لبعض المصالح، فإنَّهَا ربَّمَا كانت عظيمة النفع، ولكنها ليست من الأسباب المؤدية لعمران البلاد، وازدياد الثروة بها حِسًّا ومعنًى.

فلو فرضنا أنَّ الحكومة حَادَت عن جادَّة الرُّشد والحكمة التي اتخذتها سُننًا لها، فقرَّرَت لنظارة المعارف، وسَائِر المصالح المُمَاثِلَة لها، مَربُوطًا جَسِيمًا قبل انتظام مالِيَّتِها، ونماءِ ثروتها، كيف كَانَ يتأتَّى لها أن تُثَابِرَ على انتهاج خطَّة الصواب التي سَلَكَتها بنجاح حتى الآن، وكيف كان يتسنَّى لها رفع أو تخفيف هذه الضرائب، التي كان يتظلَّم ويستجيرُ منها فلَّاحو البلاد الذين هم السوادُ الأعظم من سكَّان القطر.

هذا ولقد أسلفنا أنَّ إدارة البلاد الماليَّة قد أحكمت، وترتَّب على ذلك أن زَادَت ثروة الأهالي وسعادتهم زِيَادَة عظيمة، ولكنه لا يجدُرُ بِنَا الركون إلى ذلك، بل يتعيَّنُ علينا أن نجدَّ ونعمل فيما به يرتقي إيراد البلاد وسعادة الأمَّة، وهذا ما يجعلنا أن نتمنَّى دوام السير على الخطَّة التي اتبعناها في إدارة أموال البلاد، وألَّا نتحوَّل عنها.

وحيثُ تقرَّر ذلك، فلننظر الآن في المبلغ الذي ينبغي أن تُقَرِّرَه الحكومة لنظارة المعارف، للإيفاءِ بشئونِ التعليم وتحقيق الأماني.

يكفي في ذلك عمليَّة حسابيَّة بسيطة، بها نهتدي تمام الاهتداءِ في هذا الموضوع، وليكُن أساسها عدد سكَّان الديار المصرية البالغ ٦٠٠٠٠٠٠ نفس تقريبًا، بمعنى أن يُقالَ إنَّ عدد الأطفال الذين وَصَلُوا إلى سِنِّ الدخول بالمدارس يبلغ ١٠٠٠٠٠٠ تقريبًا، فَإِذَا استنزلنا البنات من هذا العدد، ولا يكادُ عددهن ينقُصُ عن النصف، فيبقى معنا ٥٠٠٠٠٠ من الغلمان، فنتخذ هذا المقدار نهاية صُغرَى لعدد الأولاد المترشِّحين للدخول بالمدارس.

أمَّا المدارس التي ينبغي فتحها لتعليمِ هؤلاء الأطفال، على فرضِ أنَّ الحكومة أخذت على نفسها أمر تعليمهم التعليم الابتدائي، فتكون إمَّا ابتدائية من الدرجة الثانية، أو من الدرجة الأولى، أي مدارس مُرَكَّبَة من فصلين أو أربعة فصول، وفي الحالة الأُولَى يبلغ ما تتكبده الحكومة من النفقات ١٠٠٠٠٠٠ جنيه، وفي الثانية ٣٠٠٠٠٠٠ جنيه، ولا شكَّ أنَّ صرف مثل هذه المبالغ يحتاجُ إلى التروِّي الزَّائد، وإمعان الفكر، خُصوصًا وأنَّه بانتشار التعليم الابتدائي وجَعْلِهِ إلزاميًّا، ينتشر التعليم الثانوي تبعًا له، ويتَّسِعُ نطاق التعليم العالي، والخصوصي بنسبة ذلك.

تتميمًا للحساب الذي وَضَعنَاهُ ينبغي تقرير نسبة مُؤسَّسَة على عدد التلامذة الموجودين الآن بالمدارس على العموم، وحيثُ إنَّ مدارس الحُكُومة بها ٧٨٠٠ تلميذ موزَّعِين كالآتي:

٧٨٠٠
٦٣٩٣ بالمدارس الابتدائيَّة
٦٥٤ بالمدارس الثانوية
٧٥٣ بالمدارس العالية

فهذه النِّسبة تكونُ إذن ٦٣ بالمدارس الابتدائيَّة و٦ بالمدارس الثانويَّة، و٧ بالمدارس العالية تقريبًا، وعليه يكونُ توزيع الخمسمائة ألف تلميذ الذين يتعيَّنُ على الحكومة تعليمهم هو:

٥٠٠٠٠٠
٤١٤٤٧٣ بالمدارس الابتدائية
٣٩٤٧٣ بالمدارس الثانويَّة
٤٦٠٥٤ بالمدارس العالية

ولكن يُرَى أنَّ هذه المقادير فيها مُبَالَغَة، ولا يُخطِئُ القائل بذلك، فبتنزيلها إلى نهايتها الصُّغرَى تئولُ إلى:

٣٥٠٠٠٠ بالمدارس الابتدائية التي من الدرجة الثانية
١٤٠٠٠٠ بالمدارس الابتدائية التي من الدرجة الأولى
٦٠٠٠ بالمدارس الثانوية
٤٠٠٠ بالمدارس العالية

تلك هي النسبة الرَّاجحة التي يُمكن تقريرها متى انتهينا في طريق التعليم التي نحن سائرون به إلى درجة الكمال.

فلو اعتبرنا لكلِّ درجة من درجات هذه المدارس المصاريف الخاصَّة بها، لوجدنا أنَّ جُملة ما تحتاجه هذه المدارس من المصاريف يبلغ ٢٠٠٠٠٠٠ جنيه مصري تقريبًا، على فرضِ أنَّ جميع التلامذة خارجية.

وليسَ في الإمكانِ احتساب هذا المبلغ من مِيزانية لا يزيدُ مربوطها عن ١٠٠٠٠٠٠٠ جنيه مصري، وباستنزال ما يدفع للدين تئولُ إلى ٤٥٠٠٠٠٠ جنيه.

على أنَّ المبلغ الذي قدَّرنَاهُ للتعليم هو أقلُّ ما يلزم ربطه لنظارة المعارف العموميَّة، بحيثُ إذا نقص عن ذلك يكونُ غير كافٍ ولا وافٍ بحاجاتِ التعليم بالمرَّة.

وليعلم أنَّنَا فيما قدَّرناه صرفنا النظر عن تعليم البنات البالغ عددهنَّ نصف مليون تقريبًا، وإن كان من المحتمل أنَّ تعليم الذكور يجرُّ فيما بعد إلى تعليم البنات، وعندها يجبُ أن تكونَ المصاريف ضِعفَ ما فرضناه، فإن توهَّمَ أحدٌ أنَّنَا استعملنا المبالغة في تقدير هذا المبلغ، فلينظر فيما يُنفق على التعليم في البلاد الأجنبيَّة التي نُريدُ أن نَحذُوَ حذوها، وعندها يتحقَّقُ لديه صدق ما قلناه.٥

وليس يَخفَى على أحدٍ أنَّ الحكومة تعجزُ عن تقريرِ مثل هذا المبلغ لنظارة المعارف العموميَّة، ولو كانت رغبتها مُنصرفة لذلك بالنَّظر لحالة ماليتها الرَّاهنة تلقاءِ الديون، ومن جهةٍ أُخرى لا يسمح لها فقر الممولين بتقريرِ ضريبةٍ جديدةٍ تصرفها في جعلِ التعليم عموميًّا إِلزَاميًّا.

ومن ثمَّ يتبيَّنُ أن العدول عن توسيع نطاق التعليم الآن لهذا الحدِّ ضربة لازبٍ لسببين:
  • أولًا: استحالة تقرير ضريبة جديدة مدرسيَّة، مَعَ تطلُّعِ رَغَبَاتِ الأمَّة لتخفيفِ الأموال الحالية الثقيلة عليهم، فضلًا عن أنَّ هذا الأمر لَيسَ من أغراضنا ولا داخلًا في موضوعنا.
  • ثانيًا: بالنِّسبَةِ لحالَةِ الديون الرَّاهنة التي لا يتأتَّى معها للحكومة، وإن أرادت أن تجد في ميزانيتها — عادية كانت أو غير عادية — ما يفي بنشر المعارف وتعميمها.
وفي الواقع ونفس الأمر إذا تقرَّر أن يكون التعليم إجباريًّا عامًّا، يجب بالطبع وحكم الضرورة تقرير المجانيَّة كذلك، ويترتب على المجانيَّة ضربُ ضريبة تُخَصَّصُ للمدارس لا تنقص عن ٢٠٠٠٠٠٠ جنيه — كما أشرنا إليه قبلًا — وَلَو وزَّعنَاهُ على سُكَّانِ القُطرِ البالغ عددهم ٦٠٠٠٠٠٠ نفس لخصَّ كل نسمة قرشًا في السنة.

فإذا أدرجنا في هذا الحساب تربية البنات، ليبلغ ما يخص النسمة الواحدة في السنة نحو ٦٧ قرشًا.

وحيثُ قد تحقَّقنا عدم كفاية ميزانية الحكومة، وتعذَّرَ تقرير ضريبة جديدة على الأهالي — كما أشرنا إلى ذلك آنفًا — فلنبحث على إيرادٍ آخر يُمكن استعماله في شُئون المدارس.

في ١٥ يناير سنة ١٨٨٨ رفعت الحكومة السنيَّة مُذكرة طلبت فيها أن تضمَّ المصروفات التي تدفعها أهالي التلامذة على ميزانية نظارة المعارف العمومية، وتمهيدًا لهذا النظام المالي، قُلْتُ بضرورة تكليف الآباء بنفقات تعليم أبنائهم.

وقد وقعت الأسباب التي كنت أيَّدتُ بها ما ذهبت إليه من تقليل المجانية في بادئ الأمر — للوصول لمحوها كليةً بالتدريج — موقع القبول لدى الحكومة، ولدى كل ذي عقل وذوق سليم، ولمَّا رأيتُ الإيراد المتحصل من تلامذة مدارس الحكومة يزيد سنة عن سنة، ألححتُ في طَلَبِ التصريح باستعمالِه في شئون التعليم.

وهَاكَ بيانُ الزِّيَادَةِ في الإيرادات المتحصلَة من هذا النوع، في مدَّة خمس سنوات:

جنيه
٥٦٥٢ سنة ١٨٨٧
٩٣٤٣ سنة ١٨٨٨
١٢١٣٦ سنة ١٨٨٩
١٣٨٣٥ سنة ١٨٩٠
١٥٧٧٠ سنة ١٨٩١

وقد اتفقت الحكومة مع صندوقِ الدَّين بناءً على المذكرة المذكورة، أن تُعطي لنا هذه الإيرادات بعد أن تستبعد منها مبلغ الخمسة آلاف جنيه المقيَّد في باب الإيرادات المتحصلة من المصاريف المدرسيَّة في الميزانية الأصليَّة المقرَّرَة في مُعاهدة لوندرة سنة ١٨٨٤، التي تقرَّر فيها مبلغ ٧٠٠٠٠ جنيه لمصروفات نظارة المعارف، وفي الواقع قد ضُمَّ على ميزانية المعارف من إيراد المصاريف المدرسية المبالغ المبيَّنَة أدناه.

جنيه
٦٥٢ سنة ١٨٨٩
٣٦٩١ سنة ١٨٩٠
٢٧٩٣ سنة ١٨٩١
١٦٩٩ سنة ١٨٩٢
١٩٣٥ سنة ١٨٩٣

وإن كَانَت هذه المَبَالِغ التي ضُمَّت لَيسَت في الحقيقةِ مجموع المتحصل من هذا النوع؛ لأن الخمسة آلاف جنيه كَانَت باقية بخزينة الحكومة، إلَّا أنَّ الحكومة بعد ذلك لاهتمامها بالمَعَارِف العموميَّة أضافت على مِيزانيَّة النظارة بالتدريج سنة بعد أُخرى مَبلغًا يزيد على ٥٠٠٠ جنيه، الذي كان يُخصم إليها من إيرادات المدارس.

هذا وإن كنَّا قد قُلنَا في مُذكرة ١٥ يناير سنة ١٨٨٨ أنَّ هذه الزيادة في الميزانية إنَّمَا نستعملها على الخصوصِ في ترقِّي المعلمين، وتحسين حالة المدارس الموجودة فقط، من حيثُ استيفاءِ الشروط الصحيَّة فيها، والمعدَّات المدرسيَّة، ونظام الدراسة، ولم ننظر حينئذٍ في زيادة عدد المدارس، بل كان همنا ترقية الموجود منها، مع تقدم التلامذة والأساتذة في أمر التعلُّم والتعليم حِسًّا ومعنًى، ومع ذلك قد أشرنا في المذكرة السَّالفة الذِّكر إلى أنَّه لا بأس باستعمال جُزءٍ من الإيرادات في نشرِ المعارف بنواحي المديريات، مُساعدةً للأهالي على فتح مدارس جديدة، يُرَاعَى في فتحها والصرف عليها قدرة الأهالي وحاجاتهم؛ وذلك لأنَّا كنا نتوقع تقدم التعليم وانتشار المعارف بالديار المصرية.

وكنَّا وقتئذٍ قد قرَّرنا جداول التدريس، ووُفِّقنَا للقيامِ بحوائج القُطرِ المتعدِّدَة، وأنشأنا امتحان شهادة الدراسة الثانوية، وبالجُملة قد وضعنا أساس النظام الحالي الذي ابتدأنا نقطف ثِمَاره الحقيقية بعد شغل مجدب وعناءٍ مُتعِب.

ومَن تأمَّل في الجدول المذكور سَابقًا، رَأَى أنَّ ميزانية المعارف سنة ٨٩ زَادَت دفعة واحدة، واستمرَّت في الزيادة سنة فسنة، إلى سنة ١٨٩٣، وهذه الزيادة لا شكَّ ناشئة ممَّا يرجع إلى النظارة من المصاريف المدرسيَّة؛ لأنَّ الإيرادات المتحصلَة منها في سنة ١٨٨٧ أُضيفت على ميزانية سنة ١٨٨٩، والإيرادات المتحصلَة من مصاريف سنة ١٨٨٨، أُضيفت على ميزانية ١٨٩٠، وهكذا بالتوالي إلى سنة ١٨٩٣.

وفضلًا عن هذا المصدر لزيادة الميزانيَّة، أضافت الحكومة — كما تقدم — إلى الميزانية من سنة ١٨٨٩ مبالغ أُخرَى، وهَاكَ بيانها:

جنيه
٦٨٠٠ سنة ١٨٩٠
٥٣٤٨ سنة ١٨٩١
٦٧٢ سنة ١٨٩٢
٤٠٠٠ سنة ١٨٩٣

وإنِّي أذكر الأسباب التي دَعَت النظارة إلى السعي في نموِّ الإيرادات المذكورة، ثم أذكر الأسباب التي حَمَلَتنَا وتَحمِلُنَا على المُحافظة على تلك الإيرادات.

لا يَخفَى أنَّ فرض المصروفات على التلامذة كان بِدعة، لا تصدُرُ إلَّا عن جراءة مُتنَاهِيَة وجسارة بالغة، في دِيَارٍ مَا زَالَ التعليم مُذ نَزَلَ بأرضها في عَهدِ مُحمَّد علي باشا الكبير مَجَّانِيًّا، بل مَقرُونًا بموجبات النشاط النقديَّة، التي كانت تُؤدَّى إلى التلامذة في صورةِ أُجور، والفضل في هذا الإبداع عائدٌ على صاحب الدَّولة رياض باشا، فإنَّه لمَّا بَدَا هذا الأمر للمرحوم دور بك، قرَّرَه دولة الوزير سنة ١٨٧٤، في القانون الذي سنَّه لدخول التلامذة بمدارس الحكومة الملكيَّة (راجع بندي ٣ و٤)، الصَّادر باعتماده أمرٌ كريم من الحضرة الفخيمة الخديويَّة في ٥ فبراير سنة ١٨٧٤.

إلَّا أنَّ البدعة أيًّا كانت مكانتها من الصوَّاب لا ترسخ وتتأيَّد إلَّا بالمثابرة والسعي على تثبيتها؛ ولذلك لمَّا اعتزلَ الأعمال دولة الوزير المُشار إليه في ٢٨ فبراير سنة ١٨٧٤، قبل أن يتمكَّن من توطيد دعائم عمله المذكور، لم يلبث الأمر الكريم بعد مُفارقته الوزارة أن صَارَ مثله كمثل الشَّرع المنسوخ، ولم يزل كذلك وليس من أحدٍ يفطنُ مكانته من الأهميَّة، أو يقدِّره قدره، إلَى أن دَخَلَت سنة ١٨٨٥، وفيها قُمنَا بإنفاذِ هذا الأمر الكريم بجميعِ وُجُوهِهِ ونصوصه التي صدرت في عهدِ وزارة سنة ١٨٧٣ الرِّياضِيَّة، التي لم يطل أمدها، إذ هي من ١٥ أغسطس سنة ٧٣ إلى ٢٨ فبراير سنة ٧٤، وما برحنا نقومُ بتنفيذ مفعوله، مع إدخال الإصلاحات الجديدة منذ عام ١٨٨٥ إلى أن عادَ علينا بما عادَ من الفوائد الماليَّة التي أسلفنا بيانها.

وقد كانت نتيجته عظيمة من جميع الوجوه، كما ظننا في بادئ الأمر، وفي الواقع قد أتى هذا الإصلاح بنموٍّ في الإيراد، وهذا من الوجه المالي، أمَّا من الوجه الأدبي ففوائده جزيلة أيضًا، ودليلنا على ذلك أنَّ التعليم حينما كَانَ مَجَّانِيًّا، لم يكُن أحد ليكترث به، ولا يعتني بشأنه، بمعنى أنَّ الأهالي لمَّا أراحتهم الحكومة من عناءِ الإنفاق على بنيهم، أصبحوا لا يتعهَّدُونهم بالعناية، بل ربَّمَا خافوا التعرُّض لهم والاشتغالِ بأمرهم، خشية رفتهم من المدرسة واضطرارهم للإنفاق عليهم.

أمَّا وقد تكاثَرَ عدد التلامذة الذين يدفعون المصروفات، آنس الأهالي ضرورة تعهُّد أبنائهم بالعناية والاهتمام بشأنِ تربيتهم وتعليمهم بسببِ ما يتكبَّدُونه من أجلِ ذلك من المصاريف.

فلمَّا اتبع الآباء سنن الاهتمام وثابروا وجدُّوا في تربية الأبناء، ارتفع قدر العلم وعلا شأنه في أذهان بنيهم، لما رأوا من آبائهم التحريض على الجدِّ والاجتهاد في التعليم والتجرُّد للدراسة.

وممَّا يستوجب الغرابة أنَّ التلامذة أرباب المرتَّبَات، أصبحوا بجدِّهم واجتهادهم في درجة أرباب المصروفات؛ وذلك لأنه لمَّا نقص العدد المقرَّر من المرتَّبَات بسبب ازدياد عدد ذوي المصروفات، مسَّت الحاجة لدقَّة التحرِّي في انتقاءِ التلامذة الذين يُعطُون هذه المرتبات، حتَّى صارَ أربابها اليوم من نُخبة التلامذة على عكس ما كان في الزمن السَّالف، فنرى التلميذ الذي أعانه الدهر وساعده المقدور على نوال نصيب من المرتبات خائفًا يترقَّب قطع مرتبه.٦

ولا يخفى أنَّ إدخال مثل هذا التعديل في نظام المدارس وتنفيذه، وجعله قاعدة مرعيَّة ونظامًا معمولًا به، كان لا شكَّ يستوجِبُ قيام فريق من النَّاس عليه، وهم طائفة قضى عليهم هذا النظام بتغيير في العوائد الرَّاسخة لديهم، بل أضر بمصلحتهم الذَّاتِيَّة؛ وذلك لأنَّ هذا الفريق قد اعتادَ على أن يَرَى الحكومة متكفلة بتربية بنيه أبًا عن جدٍّ وتعليمهم، آخذة على عهدتها ما يلزمُ لهم من مأكلٍ ومشربٍ وملبَسٍ وسُكنَى، فكيفَ بعد ذلك يتصوَّرُون قيامهم بشئون تربية أولادهم.

ولقد حَالَ جدال هؤلاء وذودهم عن أغراضهم الذَّاتِيَّة في السر، دُونَ مُرَاعَاة القاعدة تمام المراعاة، فإنَّ عدد التلامذة المجانيَّة لا يزالُ يزيدُ عن المقرَّرِ باللوائح على ما فيه من التوسع والتجوُّز؛ إذ القوانين تقضي أن يكونَ عددهم مُوَازِيًا لربع التَّلَامذة أرباب المصروفات، ولكنَّه كَانَ ولا يَزَال فوق ذلك، كما بيَّنَّا في الجدول السَّابق، ومع هذا لو اطَّلَعنَا على الجدول المُبَيَّنَة به المصروفات التي دَفَعَهَا التلامذة لَشَاهَدنَا تَقَدُّمًا حِسِّيًّا بيِّنًا، فنرى في عدد أرباب المصروفات زيادة، وفي عدد المعافين من الدَّفع نُقصانًا تدريجيًّا.

وقد سَاعَدَ هذا الإيراد النظارة كثيرًا على ترقِّي المدارس وإصلاحها حِسًّا ومَعنًى، ومن حيثُ التعليم والعناية بصِحَّة المتعلِّمين، وإن كنا لم نتمكن إلى سنة ١٨٩٣ من العمل بمُقتضى الأحكام المدوَّنة بالأوامر الكريمة، واللوائح المختصَّة بتقريرِ النسبة بين عدد أرباب المصروفات، وبين عدد المجَّانيَّة الجائز قَبوله بالمدارس.

إذ لو تمكَّنَّا من العَمَلِ بمُقتَضَى هذه الأحكام تَمَامًا، لَحَصلنا في سنة ١٨٩٢ من مصروفات التلامذة على مبلغ ٢١٩٢٢ جنيهًا و١٠٠ ملِّيم بدلًا عن مبلغ ١٦٥٠٧ جنيهات و٧٠٠ مليم، المُتَحَصل من هذا النوع في السنة عينها.

أمَّا لَو جَاوَزنَا هذا الحد، وفرضنا صُدُور أمرٍ عَالٍ ينهى عن قبولِ التَّلامذة مجَّانًا بالمدارس، وأبقينا قيمة المصروفات على ما هي عليه، وألزمنا التلامذة الحاليين بالمصروفات المقرَّرَة، لَبَلَغَ متحصل سنة ١٨٩٢ مبلغ ٢٩٣٤٨ جنيهًا و٤٠٠ مليم.

ولا شكَّ أنَّ الفرق بين المبلغين جسيمٌ كما لا يخفى.٧

وممَّا يقتضي التنبيه عليه أنَّ مَا تدفعه التلامذة من المصاريف لا يقومُ مُطلقًا بما يُنفَقُ على المدارس.

والدَّلِيلُ على ذلك أنَّ المصاريف المُقَرَّرَة في اللوائح هي الآتية:

  • ٥ قروش صاغ عن التلميذ الواحد في الشهر بالمدارس الابتدائية التي من الدرجة الثانية.

  • ١٥ قرش صاغ عن التلميذ الواحد في الشَّهر بالمدارس الابتدائية التي من الدرجة الأولى، وذلك في الثلاث سنين الأول.

  • ٢٠ عن التلميذ الواحد بهذه المدارس في السنة الرابعة.

جنيه
مَدرَسَة المبتديان بالناصرية ومدرستا إسكندرية والمنصورة الابتدائيتين
٨ عن التلميذ الخارجي في السنة
٢٠ عن التلميذ الداخلي في السنة
وفي المدرسة التوفيقية (القسمان الابتدائي والتجهيزي)
١٥ عن التلميذ الخارجي في السنة
٣٠ عن التلميذ الداخلي في السنة
وفي المدرسة الخديوية الثانوية
١٠ عن التلميذ الخارجي في السنة
٢٥ عن التلميذ الداخلي في السنة

ومقدار هذه المصاريف في المدارس العالية ١٥ جنيهًا مصريًّا في السنة، وإنِّي لعلى يقينٍ من أنَّه يمكن بلا ضرر تقريب مقدار المصاريف المدرسية من متوسط النفقة التي تُصرف على كل تلميذ — كما أشرنا إلى ذلك — ومحو المجَّانيَّة في آنٍ واحدٍ من المدارس الابتدائية بدرجتيها؛ وذلك لأنَّ المغفور له محمد علي باشا لمَّا أسَّسَ مدارس مصر عمَّرَها بمماليكه، ثمَّ بأبناء خدمه، وبعدها أدخلها أبناء الأهالي بنوعٍ قهريٍّ؛ لأنَّه كَانَ في حاجة لإعداد رجال وضباط وموظفين يستخدمهم، ولم تكن الأهالي إذ ذاك لتعتني بإدخال أولادهم بالمدارس، كما أنَّ المصاريف المدرسيَّة لم يكن لها ذكرٌ حينئذٍ، ثم تغيَّرَت الظروف، فلم يبقَ في الحكومةِ جيشٌ ولا بحريَّة ولا معامل من إِنشاءِ المغفور له محمد علي باشا، ولمَّا ألغت الحكومة احتكار بعض الأصناف التي كانت حفظتها لنفسها، استغنت عن العدد العظيم من الموظَّفين الذين كانت تستلزمهم عمليَّة الاحتكار، وقلَّ عدد المدارس إلى أن كَادَت تُلغَى تمامًا.

ولمَّا افتكرت الحكومة في إعادتها سنة ١٨٦٣، أرادت أن تنسجَ على مِنوال النظام الذي أسسته يدُ المغفورِ له محمد علي باشا، ولكن حالَ دُون ذلك تغيُّر الزمن، فعاودت البحث مرَّة أُخرى، ولم تهتدِ لغاية سنة ١٨٧٣ إلى نظامٍ مطلقًا.

وكان رياض باشا أوَّل من فطن لحاجات عصره، وأعانه على ذلك دور بك، فنشر اللوائح التي جُعِلَت أساسًا لكافَّة التعديلات، ولكن لسوءِ الحظِّ طُويت هذه التعديلات في خبر كان، للأسباب التي قدمتها، إلى أن كَانَ عام ١٨٨٥، وابتدَأنَا في العمل بموجبها بالروية والترتيب مُنقِّحِينَ ما لزم تنقيحه منها على حسبِ مُقتضيَاتِ الزمن والظروفِ والتجارب.

وبقيت المجَّانيَّة في اللوائح التي صَدَرَت وقتها واليوم كأنَّها غصَّة ماء، أو عضال داء، ولكن دفع مصاريف التعليم أخذ شيئًا فشيئًا في أن يكونَ عامًّا.

على أنَّا لو كُنَّا حَذَونا مثال بعض البلاد في أوروبا، وأخذنا عنها التعليم الإلزامي والرسوم المدرسية التي تُضرَبُ على الأهالي، لما كانَ أوفق للعدالة من أن نقبلَ بمدارسنا جميع أبناء البلاد مجَّانًا، ولصارَ هذا الأمر قاعدة لا يُستثنى منها إلَّا درجات التعليم الخارجة عن حدِّ الإلزام الشرعي بمُقتضى القانون.

إلَّا أنَّنَا لم نحذُ حذو هذه البلاد، ولن نستطيع أن نحذوَ حذوها بعد زمنٍ طويلٍ — كما وضَّحنَا — ومن ثمَّ يتعيَّنُ علينا ألَّا نقبل بمدارسنا من التلامذة إلَّا مَن يدفع المصاريف.

وحيث قد قدَّرنا الأطفال الذكور الذين بلغوا سِنَّ التعليم بالديار المصرية ٥٠٠٠٠٠ طفلًا، ورأينا أنَّه لم يكن في طاقة الحكومة أن تقومَ بتعليمِ أكثر من ٧٨٠٠ تلميذ من هذا العدد.٨
فهل مع ذلك يصحُّ عقلًا أن يتعلَّمَ بعض هذا العدد الأخير مجانًا في المدارس،٩ أَوَليس من الصواب تكليف الجميع على السواء بدفع المصاريف المدرسية حتَّى نحصل على إيرادٍ جديدٍ ليُساعدنا على نشرِ التَّعليم.

ومن جِهَةٍ أُخرى، هل يجوزُ الإقرار على المجانيَّة معَ أنَّه ليس في وسعنا نشر التعليم بين جميع أبناء البلاد، وهل من العدلِ أن نجعلَ بعض أولاد الممولين يتمتعون بمزايا التعليم، دُونَ البعض الآخر الذي هو السواد الأعظم.

وفضلًا عن ذلك، فإنَّ المجانيَّة تُعطى إلى من ليسوا أهلًا لها، وتُوجِبُ همًّا عظيمًا لموظَّفِي النظارة.

إذ قد جاءَ في اللوائح مبدئيًّا أنَّ المجانية لا تُعطَى إلَّا للأحق من التلامذة، ولكن لم يُعمل بهذه القاعدة بالفعل، وفي أوَّل كل سنة مكتبيَّة يزدحم الديوان بالتواصي، فيضطرنا الحال لقَبول زيد مكان عمرو، وربَّمَا رفضنا الاثنين معًا، لِنَقبَلَ بَكْرًا، فإنَّ وصايته أقوى أو غير ذلك.

أمَّا الأهالي فإنَّ من رُفض ابنه منهم لا يدري لم قُبِلَ ابن جاره، ومن هنا ينشأ الحسد والبغضاء والنميمة في حقِّ هذا الموظف أو ذاك، والموظفون لا يدرون كيف يهتدون إلى التوفيق بين الإيفاء بواجباتهم والإيفاء بأغراض الأهالي معًا. وقد سعينا منذ سنة ١٨٩١ في إبطالِ هذه الأحوال السيِّئَة، ولكن لم يقترن سعينا بالنجاح. وليسَ من سبيلٍ لحسم ذلك سوى محو المجانية نفسها. وأرى أنَّ هذا المحو ضربة لازب.

وإليك مُلخَّص الأسباب التي تدعوني إلى طلب ذلك، وهي أنَّ المجانية عندنا شيء مُخالف للذوق السليم، ومُنَافٍ للعدالة، فإنَّها فضلًا عن استعمالها فيما قُرِّرَت لأجله، يُخشَى على موظفي النظارة منها.

وسبب مُخالفتها للذوق السليم هو أنَّ الحكومة التي تعجز ماليتها عن تعليم النهاية الصُّغرَى من بنيها المترشِّحين للتعليم البالغ عددهم ٥٠٠٠٠٠، وتقتصر على تعليم ٧٨٠٠ منهم، لا ينبغي لها أن تقبلَ في مدارسها من التلامذة إلَّا من يدفع المصروفات، حتَّى يتولَّد عندها إيراد تتمكَّنُ به من تكثيرِ المدارس.

ومعنى منافاتها للعدالة، عدم تعميمها؛ لأنها صارت امتيازًا، بمعنى أنها تقتضي تكليف الماليَّة نفقة فريق من أبناءِ الممولين دُونَ الآخرين، وبيان كونها تُستعمل في غير ما وُضعت لأجله، أنها إنما تُنال بالنفوذ، والأولى ألَّا تُنال إلَّا بالجدارة، كما تقتضيه اللوائح، ومعنى الخوف على موظفي النظارة منها، هو أنها كثيرًا ما استوجبت توغير الصدور، وإلقاء الفتن، ولنلاحظ أنَّ ما أعرضه اليوم ليس بانقلاب في الحالة الحاضرة، وإنما هو مشروع قد تهيَّأَت أسبابه منذ سنة ٧٥، وقد ترشَّحَت الأفكار لقَبوله.١٠

على أنه قد يسأل البعض طبعًا: وإذا مُحِيَت المجَّانِيَّة، فما يكونُ حال من آتاهم الله استعدادًا فائقًا وقابليَّة عُظمى لنيلِ المعارف، ثم منعتهم قلَّة ذات اليد من توسيع مداركهم بالعلوم، فاضمحلَّت وتلاشت؟

أقولُ: إنَّه يلزم لملاقاة ذلك تقرير التعليم العام، مع لوازمه الضرورية، وهي منح المجانية للجميع وضرب ضريبة للتعليم على الأهالي، وقد أسلفنا تعذُّر ذلك في الوقت الحاضر، ولكن ليس غرضنا الآن محو المجانيَّة محوًا مُطلقًا، بل تكليف التلامذة المتمتعين بها اليوم في مدارسنا، وعددهم ١٧٠٠ بالمصاريف المدرسيَّة، وليس ذلك بالأمرِ الجلل؛ لأنَّ نسبة عدد المجَّانيين اليوم إلى مجموع الأطفال البالغين سن التعلم وعددهم ٥٠٠٠٠٠ هي ثلث في المائة، فكأنَّنَا والحالة هذه إنَّمَا فرضنا المصاريف المدرسيَّة على تلميذٍ واحدٍ في كلِّ ثمانمائة تلميذ.

فلو كانت درجتنا في التمدُّنِ أرقى ممَّا هي عليه الآن، لسوَّغت لنا نظاماتنا الاستقلال الإداري والمالي في كلِّ مُديرية ومركز ومُحافظة، ولتشكَّلَت عندنا مجالس بلدية في جميع المدن، وعلى هذا كانت الجمعيات المنتخبة للنيابة عن الأهالي تتكفَّلُ كل واحدةٍ في دائرتها بنفقة تعليم الفقراء المشهودِ لهم بفرطِ النجابة في المدارس التي تكون قد أسستها هي، أو في مدارس الحكومة كما يحصل ذلك في جميع البلاد الموجود فيها ذلك الاستقلال، فلا يمضي قليل من الزمن حتَّى تصبح هذه الخطَّة الجليلة مألوفة لدى المجالس المستقلة، فتتفاخر بإعانة ذوي الجد والاجتهاد من الشبان، لا سيما متى رأت أنَّ فريقًا منهم استحقَّ بنُجْحه المبين النَّفَقَة التي بَذَلَهَا لَهُ مُواطِنُوه.

وحيثُ إنَّنَا لم ننل هذا النظام الاستقلالي، فحسبنا بر الحكومة والأهالي اللذان سدَّا من قديمِ الزَّمن مسدَّ كُلِّ شيءٍ، لا سيما عدم حزم الحكومة فيما يتعلَّقُ بالتعليم.١١
وهذا البر هو الذي بعث النَّاس فيما مضى، ولا يزالُ يبعثهم الآن على إيقافِ الأموالِ في سبيل الأعمال الخيريَّة، وفي مُقَدِّمَتِها تعليم الأطفال الذين مسَّهُم الضُّرُّ وأعوزتهم الحاجة، هذا وقد اتضح من إحصائيَّة سنة ١٨٨٧ أنَّ عدد المتعلِّمين مجَّانًا في مصر يزيدُ عن ٢٥٠٠٠٠،١٢ وإن كان التعليم الذي يتعلمونه مُغَايرًا لتعليم مدارس الحكومة، إلَّا أنه جارٍ على أسلوبٍ تدريجيٍّ، بمعنى أنَّ الطفل يخرج من الكتَّاب إلى الجامع الأزهر، أو ما شاكله، وفي الأول والثاني يتلقَّى التعليم مجانًا أو يكاد، وذلك من الأوقافِ التي تُعتَبَرُ أنها كافية لتنزيه المدرسين عن الأغراض، وإلزامهم بتعليم الطَّالِبِ أيًّا كان، وقد يكون التعليم المجانِّي مقرونًا بمزايا أُخرى، كالمأكل والملبس وغير ذلك، ممَّا ينصُّ عليه الواقف في وقفيَّتِهِ.١٣

وحيث كانت شعائر البرِّ التي يُقصد بها تعليم الشبَّان مُنبَثَّة في كلِّ عصرٍ، ولا تزالُ على عهدها من الانتشار في مصر، فلم لا نراها شاملة لتعليم الآداب والعلوم على طبق الأساليب الجديدة التي نقلها عن أوروبا وُلاتنا، وأَدخلُوها في الديار المصريَّة، خصوصًا وقد سنَّ لنا أولياء أمورنا هذه السنة، ويُرْجى أن يعمل بها.

ففي شهر رمضان المبارك من سنة ١٢٨٣ (١٥ يناير سنة ٦٧) صَدَرَ أمرٌ عالٍ من سموِّ الخديوي الأسبق إسماعيل باشا، بأن تُوقف أراضي وادي الطميلات (تفتيش الوادي) على المدارس، وهي أرض كانت تَنَازَلَت الحكومة عنها لقومبانية قنال السويس، ثمَّ آلت إلى الحكومة بعد تحكيم نابليون الثالث، وجعلت المدارس التي يُنْفق عليها من هذا الوقف تحت إدارة الحكومة السنية، وسميت بالمكاتب الأهلية.

وهذه الأراضي التي يبلغ مسطحها ٢١٩١٨ فدانًا لم يكن منها صَالحًا للزراعة إلَّا النِّصف تقريبًا، ولمَّا حُفِرَت ترعة الإسماعيلية فيما بعد، تلف جزءٌ عظيمٌ من هذه الأراضي بسببِ النَّشعِ، وعلى ما هي عليه الآن — أي إنَّه لا يُزْرَع منها إلَّا ٧٨٠٠ فدَّان — يبلغ إيرادها ١٤٤٤٧ جنيهًا بعد تنزيل الأموال والمصاريف، وفي سنة ١٨٩٢ بلغت تلك الأموال ٥٧٩٧ جنيهًا.

ومن سنة ١٨٨٤ أخذت النظارة تنظُرُ في الطُّرُقِ المؤدية إلى إصلاح الأربعة عشر ألف فدَّان الباقية، وجعلها قابلة للزراعة، إلى أن حصل اتِّفَاق بشأنِ ذلك بين نظارتي المعارف والأشغال العمومية، والمأمول أنه بعد تمام الأعمال التي شُرعت فيها نظارة الأشغال، بقصد تصريف مياه الرَّشح، تعودُ تلك الأراضي في زمن غير بعيد صالحة للزراعة.

وهناك أراضٍ أُخرى وأملاك أَوقَفَ ريعها الخديوي إسماعيل باشا على المدارس، حين تصفية حساباته مع صاحب الدولة عمه البرنس حليم باشا، ويتحصل للمكاتب الأهليَّة من وُجُوه الإيراد هذه مبلغ ٢٧٢٩٦ جنيهًا مصريًّا سنويًّا، وبإسقاط مبلغ الضرائب منه، يكونُ الصَّافي المُخصَّص للإنفاق على تلك المكاتب هو ٢٠٦٩٤ جنيهًا.

هذا وقد همَّت مصلحة الأوقاف أن تُدخِلَ في بعض مدارسها منذ سنة ١٨٦٧ النظام الجديد الذي اتخذته مدارس الحكومة، والفضل في ذلك عائد على الخديوي إسماعيل باشا.

وفي سنة ١٨٨٩ حصل اتِّفاق بين مصلحة الأوقاف ونظارة المعارف، من مُقتضاه قيام النظارة بشئون مدارس الأوقاف في نظير مبلغ ٤١٠٠ جنيه مصري، تدفعه الأوقاف لها سنويًّا، وبضمِّ المتحصل من مصاريف تلامذة هذه المدارس على المبلغ السَّالف ذكره، تحرَّرَت ميزانية مكاتب الأوقاف لسنة ١٨٩٣ بمبلغ ٥١٠٠ جنيه.

ولقد نُسِجَ الكثير على هذا المنوال الشريف، فأوصت صاحبة الدولة المغفور لها والدة عبَّاس باشا الأول، بوقفٍ يُنفق ريعه على مدرسةٍ أسَّسَتها، وهذه المدرسة سائرة على حسب بروجرامات الحكومة.

وأوقف كذلك راتب باشا وخليل أغا وغيرهما أعيانًا لهذا الغرض، وجميع هذه المدارس، سواء كانت في القاهرة أو الإسكندرية، سائرة على أسلوب مدارسنا الابتدائية التي من الدرجة الأولى، وجميعها تعمل مع الجد فيما وُضِعَت لأجله.١٤

ولا ريب في اتِّساعِ نطاق المدارس الموجودة المؤسَّسَة على هذا النمط، سيِّمَا لو قصر أهل البرِّ مُساعدتهم عليها، ويكفي لذلك أن تستميلَ إليها هذه المدارس أُولي الإحسان، ممَّن يهبون أعيانًا في مدَّة حياتهم أو يُوصُون بها قبل مماتهم، كما هي العادة من قديم الزَّمن، فيئول إليها رِيع تلكَ الأعيان، التي تُوقَفُ عادةً على بعض الكتاتيب أو المدارس المتَّخَذَة في بعض المساجد، التي لا يزالُ التعليمُ فيها جاريًا على حسب الطرق القديمة المشرقيَّة.

وهذه المدارس الجديدة الخيريَّة، وأريدُ بها المدارس التي أسَّسَتها يدُ الخديوي الأسبق إسماعيل باشا، ومَن نَسَجَ على منواله، مفتحة الأبواب لعموم أبناء البلاد، وقد عُنِي بجعل المصاريف الدراسية المقرَّرَة في بعضها زهيدة جِدًّا لا يعجزُ عنها أحد.

وبالجُملة ليسَ في دخول التلامذة مجَّانًا بهذه المدارس صُعُوبة قط، بل ربما أُعطِيَت لهم في بعضها الكتب الدراسية والكراريس، وفي البعض الآخر الملابس وغيرها، وقد يُصرف لهم الأكل مجانًا، كل ذلك حسب شرط الواقف والنصوص الواردة في الوقفيَّات القديمة.

ولا حاجة بي إلى الإسهاب في هذا الموضوع، لثقتي بأنَّ أبناء بلادي قد أدركوا كُنهَهُ؛ لأنَّه ليسَ بالشيء الجديد بالنسبة لهم، ولا بالخارج عن المشرب الذي تربَّوا عليه المُؤَسَّس على الإحسان والمصلحة العامَّة، الرَّاسِخَينِ في بلادنا من قديم الزمان.

ومن هنا يظهر جليًّا أنِّي أقمتُ الدليل على بطلان اعتراض البعض بقولهم: إنَّ محو المجانية يجرُّ إلى ضياع مُستقبل الشبَّان الفقراء الذين أُوتوا استعدادًا طبيعيًّا وملكة غريزيَّة لنيلِ المعارف.

وأقول عدا ما تقدم: إنَّ راغب التعلُّم من الأطفال قد وَجَدَ السبيل إليه في كل زمانٍ ومكانٍ، بواسطة الأوقاف الخيرية، وسيبقى الحال على ذلك بحيثُ لو وُجِدَ طفل مُنِحَ ذكاءً مفرطًا، لا تعدم قواهُ العقليَّة نصيرًا يُوَصِّلُهُ إلى التغذِّي بلبان المعارف.

وغاية ما نتمنَّى أنَّ عوامل البرِّ والإحسان التي قَامَت بشئون التعليم إلى وقتنا هذا، على حسبِ السنن القديمة المتواترة ببلادِ المشرق تحول وجهتها، فترقى العلوم ببلادنا إلى الدرجة التي يقتضيها عصرنا الحالي، هذا ما يتعلَّقُ بمَحوِ المجانية.

وأمَّا ما يختصُّ بزيادة المصاريف الدراسية، فأرى أن تُزادَ إلى أن يوازي ما يدفعه التلميذ قيمة ما تصرفه عليه الحكومة على الأقل.

وطلبي زيادة المصروفات الدراسية إلى هذا الحد، إنما هو في مصلحة نشر التعليم، وأرى أنَّ محو المجانيَّة، وزيادة المصروفات أمران مُتلازمان، غايتهما واحدة، وهي إيجاد مدارس جديدة يُنفق عليها من المصاريف المدرسيَّة التي تدفعها تلامذتها، ولكن هذه المدارس لا يُمكن إيجادها بدون معونة النظارة.

ومنعًا لما عَسَاهُ أن يطرأ على البعضِ من المظنَّةِ، أقولُ ثانيةً: إنَّ غايتنا إنما هي إدخال تلك التعديلات بالمدارس الأميرية الواردة مصاريفها ضمن موازين الحكومة، أمَّا المدارس الأُخرى التي يُصرف عليها من مصادر خاصَّة بها، فلا شكَّ يُعمل فيها بمقتضى شرط الواقف قبل كل شيء، وهنا أُصَرِّحُ برأيي، وهو أنَّ النفقات التي تقومها الحكومة للمدارس — وإن ضمت عليها المصاريف المتحصلة من التلامذة — لا تفي بحاجات التهذيب والتربيَّة بهذه الديار في المستقبل.

فإنَّا لو اعتبرنا الأمر العالي الصَّادر بتاريخ ٤ ديسمبر سنة ١٨٩٢، وعملنا حسابًا تقريبيًّا لما تحتاجه المصالح الأميرية ملكية كانت أو عسكرية، لرأينا أنَّه يتعيَّن على النظارة أن تخرج سنويًّا، وفي زمن غير بعيد، مائتين على الأقل من التلامذة الحاصلين على شهادة الدراسة الثانوية أو البكالوريه المصرية، وهذا القدر يستوجب أن يكون عدد تلامذة المدارس الثانوية — ومدة الدراسة بها خمس سنوات — ألفي تلميذ، ولأجل أن يبلغ عدد تلامذة المدارس الثانوية ألفي تلميذ، يقتضي أن يكون عدد من يدخلها سنويًّا من الحاصلين على شهادة الدراسة الابتدائية من ٤٠٠ إلى ٦٠٠ تلميذ، ولأجل أن يكونَ عدد حاملي شهادة الدراسة الابتدائية من ٤٠٠ إلى ٦٠٠ يلزم أن يكونَ عدد المتقدِّمِين لامتحانها ١٥٠٠، وحيثُ إنَّ مدَّة الدراسة بالمدارس الابتدائية أربع سنوات، فيجب والحالة هذه أن يكونَ عدد تلامذتها ٦٠٠٠ تلميذ.

أمَّا المدارس العالية والخصوصية، فأرى أنَّه لو كَانَ مجموع تلاميذها ألفًا لوفت بحاجات مصالح الحكومة، وهذه الأرقام ليست إلَّا تقريبيَّة، وإن كنت قد صرفت جل العناية في تقديرها، صَارفًا النظر عن التلامذة غير الناجحين، مُعتمدًا في ذلك على التجارب التي اكتسبتُها مُدَّة السنوات العشر التي اشتغلتُ فيها بإدارة شئون نظارة المعارف، ومُزاولة أمر التعليم والتربية زمنًا لا ينقص عن عشرين سنة. وبناءً على ذلك يكونُ عدد تلامذة المدارس الأميرية على الوجه الآتي:

عدد
٩٠٠٠
٦٠٠٠ بالمدارس الابتدائية
٢٠٠٠ بالمدارس الثانوية
١٠٠٠ بالمدارس العالية والخصوصية

وهذا القدر من التلامذة يكفي على ما أرى لحاجات مصالح الحكومة مدَّة من الزمن، لو عُمِلَ بمقتضى الأمر العالي الصَّادر في ٤ ديسمبر ٩٢، كما أنَّه يفي باحتياجات الحربيَّة لو اتخذت ضبَّاطها من التلامذة الحاصلين على شهادة الدراسة الثانوية، وهو غاية ما نتمنَّاه.

ولأجل أن تقومَ الحكومة بنفقاتِ هذا القدر من التلامذة — حتى تحصل مصالح الحكومة على شبَّان أكفاء بطريقة تضمن حسن الانتقاء — ينبغي أن يكونَ لدى الحكومة مدارس في جميعِ أنحاء البلاد، خُصُوصًا في أمَّهَات المدن كمراكز المديريَّات والمحافظات — عدا القاهرة وإسكندرية — وحيثُ إنَّ عدد المديريات أربع عشرة، وعدد المحافظات أربع، فيكون مجموع المدارس الابتدائية ثمان عشرة، وعلى فرضِ أنَّ المدرسة الابتدائية التي بها ٣٠٠ تلميذ تتكلَّفُ ألف ومائة جنيه، فيكونُ المبلغ الكُلِّي اللازم للمدارس هو:

المصاريف المدارس أسماء المدارس تلامذة كل مدرسة
جنيه مصري عدد عدد
١٥٣٠٠٠ ليكون العمومي
١٩٠٠٠ ١٨ مدارس ابتدائية ٣٠٠
٥٦٠٠٠ ٤ مدارس ثانوية* ٥٠٠
١٠٠٠٠ ١ مدرسة للصنائع ٣٠٠
٥٠٠٠ ١ مدرسة للزراعة ١٠٠
٣٠٠٠ ١ مدرسة للبنات ١٠٠
١٠٠٠٠ مدرسة طبية وأخزاجيَّة وبيطريَّة وولادة
٥٠٠٠ ١ مدرسة حقوق
٥٠٠٠ ١ مدرسة مهندسخانة
٥٠٠٠ ١ مدرسة دار العلوم
٥٠٠٠ مصاريف الرسالة
١٥٠٠٠ مصاريف النظارة والكتبخانة والرصدخانة والمطبعة … إلخ
١٥٠٠٠ مصاريف التفتيش
ولا بأس ببقاءِ مدرستي المعلمين مُلحَقَتَين بمدرستين من المدارس الثانوية بالقاهرة، كَمَا هو الحال اليوم.
†  وهذه المدارس الثلاثة الخصوصيَّة ينبغي أن تكون قدوة لمدارس من جنسها تؤسسها الأوقاف الخيرية، أو يُوجِدُها بعض الأشخاص أو جمعيات بالأقاليم أو المُدُنِ وغير ذلك.
‡  وينبغي أن يُضم على هذه المدارس الأربع مدرستا المعلمين المخصصتان لتخريج مدرسين للغة الفرنساوية واللغة الإنجليزية، وهما المدرستان الملحقتان بمدرستين ثانويتين.
وهذه المدارس الست تشكل من مجموعها مدرسة جامعة.

ولم نذكر عدد تلامذة المدارس العالية؛ لأن عدد المُدرِّسين بهذه المدارس لا يتغير مُطلقًا، مهما بَلَغَ عدد تلاميذها، ومع ذلك أَرَى أنَّ عدد الطلبة بأغلَبِ هذه المدارس المقرَّر التعليم فيها من أربع سنوات إلى ستٍّ يكونُ كافيًا لحاجات البلاد كما هو الحال اليوم.

وحيثُ إنَّنَا قد أبنَّا عدد التلامذة المُقتَضَى وُجُودهم بأنواع المدارس الثلاثة ابتدائية وثانوية وعالية، فلننظر الآن في إيراد هذه المدارس، أعني بذلك المرتَّبَات المدرسية التي تدفعها التلامذة بمُرَاعَاة أنَّ المصاريف المقرَّرَة على التلميذ بها باقية على ما هي عليه الآن.

قُلنَا فيما سَبَقَ أنَّه يلزَمُ أن يكونَ عدد تلامذة المدارس الابتدائية التي من الدرجة الأولى ٦٠٠٠ تلميذ، حتَّى يكون عدد المتقدمين لامتحان شهادة الدراسة الابتدائية كل سنة ١٥٠٠، وحيثُ إنَّ طالبي الامتحان لنوال هذه الشَّهادة هُم تلامذة السنين الرابعة بالمدارس الابتدائية التي يدفع التلميذ فيها ٢٠٠ مليم شهريًّا، فيكون مجموع مصروفات ١٥٠٠ تلميذ في تِسعَةِ أشهرٍ هو ٣٧٠٠ جنيه.

ولمَّا كان باقي تلامذة المدارس الابتدائية لا يدفعون إلَّا ١٥٠ مليمًا، فيكون المتحصل منهم في التسعة أشهر هو ٦٠٧٥.

أمَّا المدارس الثانوية فيمكن تقسيم مجموع تلاميذها إلى قسمين؛ القسم الأول: داخلي وعدد تلامذته ٢٠٠، يدفع التلميذ ٢٥ جنيهًا، فيكون المتحصل ٥٠٠٠.

القسم الثَّاني: خارجي وعدد تلامذته ١٨٠٠، يدفع الوَاحِد ١٠ جنيهات، فيكون المتحصل ١٨٠٠٠.

وهذه المصاريف هي المقرَّرَة الآن بالمدرسة الخديويَّة، أمَّا المصاريف المقرَّرَة بالمدرسة التوفيقيَّة فمقدارها ٣٠ جنيهًا عن التلميذ الداخلي، و١٥ جنيهًا عن التلميذ الخارجي، فلو أَبقَينَا مصاريف هذه المدرسة على حَالِهَا، وقُلنا إنَّ عدد تلامذة المدرسة ٥٠٠ تلميذ، منهم ٥٠ داخلية، و٤٥٠ خارجية، فتكون الزيادة المتحصلَة من هؤلاء التلامذة في التسعة أشهر ٢٥٠٠.

أمَّا تلامذة المدارس الخصوصيَّة والعالية، فنقدر أنَّ عددهم ١٠٠٠ تلميذ.١٥

وحيثُ إنَّ المصاريف المدرسية فيها هي ١٥ جنيهًا في السنة. فما يتحصَّل منها يبلغ ١٥٠٠٠. ليكون العمومي ٥٠٢٧٥.

ومن ثمَّ يتبيَّن أنَّه بتكليف جميع تلامذة المدارس بدفع المصروفات المقرَّرَة الآن، يمكن الحصول على زهاء خمسين ألف جنيه، من أصل مبلغ مائة وثلاثة وخمسين ألفًا الذي نَرَاهُ ضروريًّا لسير مدارسنا على الصراط السويِّ من حيث حاجات الحكومة.

أمَّا لو رَفَعنَا قيمة المصروفات المدرسيَّة في كلِّ مدرسة إلى الحدود التي أبَنَّاها آنفًا، حتى يكون ما يدفعه التلميذ مُوَازيًا لِمَا تُنفِقُهُ عليه الحكومة، لبلغ المتحصل من ذلك نحوًا من مائة ألف جنيه، بإضافته على مبلغ الميزانيَّة الأصليَّة، وهو سبعون ألف جنيه، يكون مجموع المبلغين كافيًا لتربية ٦٠٠٠ تلميذ بالمدارس الابتدائية، وألفين بالمدارس الثانوية، وألف تقريبًا بالمدارس العالية والخصوصية.

ولكن إخراج هذه التعديلات الرئيسة التي هي في غاية الأهميَّة من عالَمِ القول إلى عالم الفعل، خُصُوصًا في مبدأ الأمر، لا يُوصِلُ إلى الغاية المالية التي تنتظرها مع التحقيق؛ ولذلك يتعيَّنُ على الحكومة أن تساعد النظارة مدَّة من الزمن بمبلغ ثلاثين ألف جنيه، يعلى على مربوط سنة ٨٤ حتَّى تصل الميزانية إلى ١٥٠ ألف جنيه، وألَّا تمس الإيراد المتحصل من مصروفات التلامذة حتى يجري ضمها على الميزانية.

فلو همَّت الحكومة بتنفيذ هذا المشروع تدريجًا مدة عشر سنوات، لكانت أول نتيجة لذلك، توفير إيراد مصلحة المكاتب الأهليَّة، ولتأتَّى تخصيصها والإعانة التي تقدمها مصلحة الأوقاف للأمور الآتية:
  • أولًا: لفتح مدارس ابتدائية من الدرجة الثانية في المراكز، يُصرف على كل مدرسة منها ثلاثمائة جنيه سنويًّا، يُقبل في الواحدة مائة طفل، وحيثُ إنَّ عدد المراكز ٧٥، فيكون مجموع ما يُصرَفُ سنويًّا على مدارس المراكز التي يكونُ مجموع تلامذتها ٧٥٠٠ تلميذ، هو مبلغ ٢٢٥٠٠ جنيه.
  • ثانيًا: لفتح مدارس ابتدائية من الدَّرَجَة الأولى في القاهرة وإسكندرية وغيرهما، يُقبل بكلِّ مدرسة منها مائتا تلميذ، ويُصرف على الواحدة منها ٧٠٠ جنيه.
ولا تنسِ أنَّ وادي الطميلات أي جفلك الوادي، وتبلغ أطيانه ٧٨٠٠ فدان، لا يزيد ريعه على ١٤٤٤٧ جنيهًا، ولكن عندما تتم أعمال التَّصَافي التي أخذت نظارة الأشغال على نفسها إجراءها، تتصلَّح الأراضي البور وتأتي بالمحصولات، فإذا فرضنا أنَّ هذه الأراضي البور متى صلحت، تعطي محصولات بقدر الثلث المنزرع الآن (وهذا مُحتمل الوقوع) لا شكَّ أنَّ إيراد مصلحة المكاتب الأهلية يبلغ يومًا ما ٤٠٠٠٠ جنيه، وزِد على ذلك ريع الأوقاف الأُخرى التي حُبست على المكاتب الأهليَّة، هذا وقد قُلنا فيما سبق إنَّ الوسائط المؤدية لنموِّ ميزانيَّة المعارف لا يُمكن تنفيذها تمامًا إلَّا في ظرف عشر سنوات، ومن ثمَّ يتعيَّنُ على النظارة أن تنظرَ في حاجاتها الضرورية، حتى تمهد لمدارسها وسائل نجاح التعليم وبثِّ المعارف؛ فمن ذلك:
  • أولًا: إعداد أمكنة للمدارس المقتضى فتحها، وينبغي أن يكونَ بناؤها مُتقنًا لا ينقُصُه شيءٌ، حتَّى إنَّه عند افتتاحها لا يمنَعُنَا مانعٌ من الموانع التي تحصل اليوم، كخللٍ في البناءِ أو الوضع.
  • ثانيًا: إعداد المباني الموجودة الآن، حتَّى تليقَ للتدريس فيها؛ إذ لا يَخفَى على أحد أنَّ الأمكنة التي اسْتُعْمِلت حتَّى اليوم للمدارس كانت في الأصل منازل لبعض الأفراد، ومن ثمَّ تكونُ قد أُعِدَّت لغيرِ مَا وُضِعَت له من وجهين؛ أحدهما: عدم ملاءمتها للتدريس. وثانيهما: عدم توفر الأسباب الصحيَّة فيها.
  • ثالثًا: إنَّ المدارس المتَّخَذَة في مراكز المديريَّات تكونُ في الغالب رديئة الوضع غير كافية، فضلًا عن ذلك، فإنَّ المدن التي تُقَامُ فيها تلك المدارس ليس فيها من البيوتِ ما يليق بسكن النَّاظر والمدرسين، وربما كان من مصلحة النظارة أن تبني منازل لائقة بسُكنَى المدرسين، وتؤجِّرُهَا إليهم بأُجرَةٍ زهيدةٍ، وبذلك تستغل النظارة رِبحًا من المبلغ الذي تكون قد صرفته على البناء، وتزيد في إيراداتها.
  • رابعًا: تُصرف زيادة الميزانيَّة في سبيل تنفيذ بعض المشروعات التي لا تزال — لعدم النقود المساعدة على تنفيذها — تُخيِّمُ عليها العناكب في محفوظات النظارة، خصوصًا المشروع الخاص بتحسين حال المعلمين، حتَّى تحول بينهم وبين الحاجة، وتحملهم على عدم تربُّص الوظائف ذات المرتبات العالية، التي تخلو ببعض مصالح الحكومة، وذلك لا يكون إلَّا بأن نُعطيهم المرتَّبَات الكافية، ونضمنُ لهم الترقيَّات المُنَاسبة.

ولا شكَّ أنَّ هذه الأعمال التحضيريَّة تستدعي مَصَاريف باهظة، لا يُمكن صرفها إلَّا في سنين عديدة؛ ولذلك يقتضي أن يُضم على ميزانية النظارة في أقرب وقت مبلغ الثلاثين ألف جنيه، السَّابق الإشارة إليه، حتَّى يمكن الشروع في تلك الأعمال.

قد بلغت المصاريف التي طلبت نظارة المعارف في سنة ٩٣ صرفها في الترميمات الضرورية جدًّا، والأبنية المستجدة، والإصلاحات التي تراءى لزوم إدخالها في محال المدارس، بسبب انتشار التعليم وزيادة عدد التلامذة ١٢٠٠٠ جنيه، ولكن لم يتأتَّ لنظارة الأشغال أن تخصص لهذه الغاية سوى مبلغ ٥٠٠٠ جنيه، وكذلك في سنة ٩٤ لم يسعها أن تخصص أكثر من ذلك، مع أن النفقات التي يقتضي صرفها لهذه الغاية بناءً على الطلبات التي وردت للنظارة من فروعها تبلغ ٣٠٠٠٠ جنيه تقريبًا.

ومن هنا يتبين عدم كفاية المبالغ المخصصة لجعل المدارس ملائمة لحاجات التعليم، والعناية بأمر الصحة.

هذا، وسنتكلَّمُ فيما بعد على أهمِّ أمر، وهو التفتيش الذي ينبغي لنا أن نعده قبل كل شيء للقيام بأعماله، حتى لا نعوق سير التقدم الذي حصلنا عليه، وعلى الخصوص لا نتكبد إلَّا الخفيف من المشاقِّ في سبيلِ تقدُّم المعارف.

إلى هُنا انتهى الكلام على التعليم من الوجه المالي، وأظنُّ أنَّنِي قد برهنت على أنَّه من الممكن إبلاغ عدد تلامذة المدارس الأميرية ومدارس الأوقاف إلى ثلاثة أمثالها، فتصبح نحوًا من ٢٠٠٠٠ بدلًا عن ٧٨٠٠، وذلك يكونُ بعلاوة خفيفة على مربوط المعارف، وتعلية المصاريف المدرسيَّة لدرجة مقبولة عقلًا، ومحو المجانيَّة بالمرَّة، من المدارس الأميرية، وتحسين إيراد جفلك الوادي، واستمرار مصلحة الأوقاف، وغيرها على مدِّ يد المساعدة لنظارة المعارف كما قلته.

وحيثُ قد تمَّ الكلام على التعليم من وجهه المالي، فلننظر الآن في طريق الحصول على المدرسين لهذه المدارس الكثيرة التي يُقتضَى استجدادها.

قُلنَا فيما سلف: إنَّ مدرستي المعلمين التوفيقيَّة والخديوية ومدرسة دار العلوم، إنما فُتحت جميعًا لتخريج مدرسين للمدارس الابتدائية.

أمَّا مدرسة دار العلوم — ونظامها أشبه شيء بنظام الجامع الأزهر، مع تعديلٍ فيه بغرض دُخُول طُرُق التعليم الجديدة بها — فيمكنها أن تُخَرِّج سنويًّا المقدار اللازم من المدرسين للغة العربيَّة والخطِّ ومبادئ الحساب، ودروس الأشياء وغير ذلك.

ولمَّا كانَ بعض الشبَّان المتخرِّجِين بهذه المدرسة لهم ميل طبيعي لصناعة التدريس؛ لذلك ليس بالنَّادر أن نرى البعض منهم بعد خروجه منها ينكبُّ على المُطَالَعَة لتحسين معارفه في فنٍّ مخصُوصٍ، وهؤلاء بعد الاشتغال بصناعة التعليم مُدَّة سنوات في المدارس الابتدائية، لا شكَّ يتأتَّى لهم أن يكونوا من خيار مدرسي اللغة العربية بالمدارس الثانوية والعالية. وإنِّي لعلى يقينٍ من أنَّ هذه المدرسة لو وُكِّلَت إدارتها إلى رجُلٍ عارفٍ بطرق التعليم، خبير بها، لأتت بنتائج أعظم بكثير ممَّا أتت به إلى الآن.

أمَّا المدرستان الأخريان المخصَّصَتان لتخريج المدرسين، فليست حالهما حال مدرسة دار العلوم؛ وذلك لأن إقبال التلامذة عليهما لا يزال ضعيفًا؛ لاحتقار الرَّأي العام الوطني لبعض الصِّنَاعَات كصناعة التدريس، وهذا ما يحمِلُ شُبَّانَنَا على عدم انتخابها إلَّا عند الحاجة، بحيثُ مَتَى سنحت لهم فُرصة لتركها لا يتأخَّرُون ولا يتردَّدُون طرفة عين. وقد نجح بعض مدرسينا فعلًا بتركه صناعة التدريس ودخوله في الإدارة والقضاء.

ومع ذلك، قد أخذت الأفكار تتغيَّرُ شيئًا فشيئًا؛ لاهتمامِ النظارة بتحسين حالِ هؤلاء الشُّبَّان ومُستقبلهم، حتَّى لا تجتذبهم مصالح الحكومة الأُخرى نحوها.

ولا شكَّ أنَّ زيادة مربوط النظارة تُساعدنا على الوصولِ لهذه الغاية، كما أشرنا إليه آنفًا.

وحينئذٍ يتأتَّى لهؤلاء المدرسين — متى تخلَّصَت أذهانهم من الفكرِ في الأمورِ المعاشيَّة وضُمن لهم المستقبل — أن يتلقوا دروسًا في مدرسة معلِّمِين عُليا، يتعيَّن إيجادها، وبذلك يستعدُّون للتعليم في المدارس الثانويَّة، بل والمدارس العالية، خُصوصًا إذا أمكنهم إتمام الدراسة في الدرجات المُختلفة للتعليم.

ومن ثم يتبين أنه يتحتم علينا إلى أن تتحقق لنا هذه الأمنية أن نستخدمَ الأجانب من المدرسين، الذين لا بدَّ لنا منهم في المدارس الثانوية والمدارس العالية، وما ذاك إلَّا لأن التعليم في المدارس المذكورة، بل وفي المدارس الابتدائية لا يُمكن أن يوكل إلى مُطلَقِ الأشخاص، ويدخُلُ تحت قولي مُطلَق الأشخاص خيار الرياضيين والمهندسين والأطباء والجرَّاحين وأرباب القوانين والمحامين والقُضَاة، ممَّن لم تتوفَّر فيهم الأهليَّة التامَّة للتدريس، على حسبِ التعريف الذي وضعته، ويشترط للتعليم في إحدى المدارس الثانويَّة والعالية، أن يكون المدرس قد أتمَّ الدراسة في إحدى المدارس المُشتملة على درجات التعليم المُختلفة، وأن يكونَ قادرًا على تأدية الامتحان في المواد التي يُطلَبُ الامتحان فيها بفرنسا؛ لإعطاء لقب الليسنس لكفاءة التدريس في المدارس الثانوية، ولقب أجريجيه مدرس في مدارس الحقوق العليا ومدارس الطب وغيرها.

فإن اعترض مُعترض، وقالَ: أراك تقولُ باستحضار مدرسي المدارس الثانوية والعالية من الخارج، فما يكون حينئذٍ نصيبُ لغتنا الشريفة العربيَّة من التدريس في تلك المدارس. أقول له: هوِّن عليك، فإنِّي سأُفَصِّلُ لك نظام التعليم والتربية عندنا، وأتلو عليك من نبأ البروجرامات وقصص الامتحانات النهائية ما يكفي لدفع هذا الاعتراض.

أمَّا أُسُّ نِظَامِنَا المدرسي فَهِي المدارس الابتدائيَّة، التي من الدَّرَجَة الأُولى، ومُدَّة الدراسة فيها أربع سنوات.

ومن الجدول الآتي تتضح كيفية توزيع الدروس على أيَّام الأسبوع.

والأعداد المُبَيَّنَة في الجدول هي عدد الحصص الأسبوعيَّة المُخَصَّصَة لكلِّ مادَّة، ومدَّة الحصَّة تختلفُ بين ٦٠ دقيقة قبل الظهر و٤٠ بعده.

أسماء العلوم الجاري تدريسها عدد الحصص في الأسبوع
سنة أولى سنة ثانية سنة ثالثة سنة رابعة
لغة عربية لغة أجنبية لغة عربية لغة أجنبية لغة عربية لغة أجنبية لغة عربية لغة أجنبية
يكون العمومي ٣٣ ٣٣ ٣٣ ٣٣
باللغة العربية قرآن شريف ٦ ٥
لغة عربية ١٢ ٧ ٨ ٧
ترجمة ٦ ١ ١
خط ٦ ٤ ٣ ٢
حساب ٦ ٥ ٥ ٥
هندسة ١ ١
رسم ١ ١ ٢ ٢
دروس أشياء ٢ ١
جغرافية ٢
تاريخ ٢
باللغة الأجنبية لغة أجنبية ٦ ٧ ٧
خط ٢ ١ ١
دروس أشياء ٢ ٢
جغرافية ٣ ٣
العلوم الجاري تدريسها باللغة العربية ٣٣ ٢٥ ٢٠ ٢٠
باللغة الأجنبية ٨ ١٣ ١٣
  • ملحوظة: المواد التي تُدرَّس بالمدارس الابتدائية التي من الدرجة الثانية، هي عين ما يُدرَّس في السنتين الأولى والثانية بالمدارس الابتدائية التي من الدرجة الأولى، عدا اللغة الأجنبيَّة، أمَّا الحصص الأسبوعية، فمُوَزَّعَة على تلك المواد في السنة الثانية منها كما هي عليه في السنة الأولى.

وقد قالَ بعض وُلَاةِ مصر كَلِمَة سَارَت بها الرُّكبان، وهي أنَّ مصر وإن كانت من أعمال قارَّة أفريقا، لكنَّها تُعَدُّ من أوروبا، وهذا يستلزمُ تعليم إحدى اللغات الأجنبية بها، ومع ذلك، قد أُحْكِم وضع البروجرامات عندنا، حيثُ وُفِّيَت اللغة العربيَّة فيها نصيبها، وشغلت مقامًا أدَّى بطريق السير على نسقِ التعليم المحكم الموجز، إلى نتائج أوفر ممَّا كان يُنتظر من استغراق جميع أيَّام الأسبوع في دراستها على النسق القديم.

على أنَّ الجمع بين اللغتين الأجنبيتين في مِصر ليسَ بالبدعة؛ لأنَّنَا لو اطَّلَعنَا على البروجرامات المسنونة في سنة ١٨٤٠ الواردة في تقرير حضرة مُختار بك المرفوع إلى السير جون بورينج، لوجدنا أنَّ اللغتين التركيَّة والفارسية كانتا حالَّتَينِ محل اللغة الإنجليزية والفرنساوية الآن (راجع الملحق حرف أ).

ولمَّا كان الطفل عند دخوله المدرسة أُمِّيًّا، لا يعرفُ القراءة والكتابة العربيَّة، فيشرع المدرِّس في تعليمه إيَّاهما، ويصرف أول سنة في الوصول إلى هذه الغاية.١٦

وفي السنة الثَّانية تُعطى إليه دروس في الأشياء والجغرافية باللغة العربية، ويُطلب منه الكتابة في مواضيع مُتَنَوِّعَة، حتَّى يعتاد شيئًا فشيئًا على المُطالعة والتحرير بلغة بلاده، وفي هذه السنة يشرع كذلك في تعليمه المُطالعة باللغة الأجنبية.

أمَّا في السنة الثالثة، فيشرع المعلِّمُون في تعليم الأطفال دُرُوس الأشيا والجغرافية باللغة الأجنبيَّة، حتَّى يُمَرِّنُوهم على التكلُّمِ بهذه اللغة التي لا يتكلَّمُونَ بها فيما بينهم، وأغلبهم لا يسمعُ من يتكلَّمُ بها خارج المدرسة.١٧

وفي السنة الرابعة لا يزيد عدد حصص اللغات الأجنبية عمَّا هو عليه في السنة الثالثة؛ لأنَّ فنَّ التاريخ المُقَرَّر تعليمه في هذه السنة يُعطَى باللغة العربية، وذلك لاتِّسَاع معارف التلامذة في الإنشاء والكتابة بالعربي.

هذا ومن الجدول السَّابق يتضح أنَّ عدد الدروس الأسبوعية، في السنة الأولى، ثلاثة وثلاثون، تُعطى كلها باللغة العربية، وأنَّ من مُقرَّر السنة الثانية خمسًا وعشرين حصَّة، تُدرَّس بالعربية، وثمانية باللغة الأجنبيَّة، وفي السَّنَة الثالثة والرَّابعة عشرون حصَّة، تُعطى بالعربي، وثلاث عشرة باللغة الأجنبية.

هذا ومع أنَّ السنة الدراسيَّة ٩ شهور تقريبًا، ويتخلَّلُها شهر رمضان، وأعياد كثيرة، ومن ثمَّ يكون الزَّمَن المقرَّر لدراسة اللغة الأجنبيَّة قصيرًا جدًّا، إلَّا أنَّه ظَهَرَ من امتحان شهادة الدِّرَاسة الابتدائية، أنَّ ثلاثة أرباع تلامذة السَّنَة الرَّابعة المتقدمين للامتحان مُتقِنُون للقراءَةِ والكتابَةِ باللغة الأجنبية التي رغبها أهلوهم، ويتكلَّمُونَ بها نوعًا، وما وصلنا إلى هذه النتيجة إلَّا بالسَّير على طريقة التعليم المُتَّبَعة الآن، وبصدق المدرسين ونباهة التلامذة.١٨

هذا وقد ارتفع شأن تدريس اللغة العربيَّة مُنذُ وُضِعَت طرق التعليم الحديثة، وتقرَّرَت في البروجرامات، بحيثُ إنَّه بعد أن مضى على تدريسها بالطرق المذكورة أربع سنوات، أجابَ ما ينوفُ عن الثمانين في المائة من تلامذة السنة الرابعة المتقدِّمِين للامتحان للحصولِ على الشَّهادة الابتدائية، تحريرًا وشفاهًا على الأسئلة التي أُلقِيَت عليهم أجوبة شافية وافية.

وهذه النتائج التي تكرر حصولها ثلاث سنين ونراها تزداد حسنًا سنة عن سنة، بالنسبة للغة العربية واللغات الأجنبية، تُسَاعدنا بلا شكٍّ على إقامة الحجَّة على الذين أبدوا لهم صدقًا أو كذبًا بغير باعث، وظهروا بمظهر الحيرة خشيةً على مُستقبل اللغة العربية والعلوم بمدارسنا، ونُثبِتُ لهم أنَّ مخاوفهم لا أصلَ لها، بل يَسوغُ لَنَا مَعَ هذه النتائج أن نؤيِّد لأرباب هذا الرأي، أنَّ مُستقبل اللغة العربية سيفضل ماضيها وحالتها الرَّاهنة، ما لم يعترض في طريقه الذي سَلَكَه مع النجاح من عهدٍ غيرِ بعيدٍ الجهل وسوء النيَّة، الصادران عن ذوي الحزازات، والأغراض التي يشوبها العدوان. ولنرجع إلى البروجرامات فنقول:

يتضح من الجدول الآتي كيفية توزيع ساعات الأسبوع على مواد الدراسة بالمدارس الثانوية، ومُدَّة التعليم بها خمس سنوات.

أسماء العلوم الجاري تدريسها عدد الحصص في الأسبوع
سنة أولى سنة ثانية سنة ثالثة سنة رابعة سنة خامسة
لغة عربية لغة أجنبية لغة عربية لغة أجنبية لغة عربية لغة أجنبية لغة عربية لغة أجنبية لغة عربية لغة أجنبية
يكون العمومي ٣٣ ٣٣ ٣٣ ٣٣ ٣٣
باللغة العربية لغة عربية ٦ ٦ ٥ ٥ ٤
ترجمة ١ ١ ١ ١ ٢
خط ٣ ١ ١ ١ ١
حساب ٣ ٢ ٢ ٢ ١
هندسة ٢ ٢ ٢ ٢ ٢
جبر ١ ١ ١ ١
رسم ٢ ٢ ٢ ١ ١
باللغة الأجنبية لغة أجنبية أصلية ٦ ٦ ٦ ٥ ٥
لغة أجنبية إضافية ٣ ٣ ٣ ٣ ٣
خط ١ ١ ١ ١ ١
جغرافية وقسموغرافية ٣ ٣ ٣ ٣ ٣
تاريخ ٢ ٢ ٢ ٢ ٢
طبيعة ١ ٢ ٢ ٢ ٣
كيميا ١ ٢ ٢
تاريخ طبيعي وقانون صحة ١ ١ ٢ ٢
لغة عربية والمواد التي تُدرَّس بها ١٧ ١٥ ١٤ ١٣ ١٢
لغة أجنبية أصليَّة والمواد التي تُدرس بها ١٣ ١٥ ١٦ ١٧ ١٨
لغة أجنبيَّة إضافية ٣ ٣ ٣ ٣ ٣

ويحقُّ لي والحالة هذه، أن أقولَ ولا فخر: أنْ لم يكُن بالسَّهل وضع ترتيب للدروس يكونُ في جملته أحسن من الترتيب المبيَّن في الجدولين السَّابقين الموجودة تفاصيلهما في البروجرامات التي أعلنتها نظارة المعارف سنة ١٨٩٢.

وفي الواقع لم تُقرر هذه البروجرامات إلَّا بعد البحث والتنقيب والتجارب التي عملتُها بنفسي منذ سنة ١٨٨٥، وساعدني عليها الجهابذة من أساتذة المدارس، فهي إذن نتيجة عمل قوم ذوي خبرة مُحبِّينَ للإصلاح، لهم معرفة تامَّة بدرجة التعليم اللازم للتلامذة الذين فُوِّضَ لهم أمر تربيتهم، وأرى أن لا حاجة إلى شرح هذا الجدول الأخير، كما شرحنا جدول توزيع الدروس بالمدارس الابتدائية، بل أقولُ بالاختصارِ: إنَّه مَتَى تأسَّسَ التلميذ في اللغة العربيَّة بالمدارس الثانويَّة، نقص عدد الحصص المخصَّصَة لدراستها تدريجًا، وزِيدَ في عدد الأوقات المُخصَّصَة لدراسة اللغات الأجنبيَّة التي يتعيَّنُ على التلامذة معرفتها كمال المعرفة، لِئَلَّا يسقطوا في امتحان شهادة الدراسة الثانوية.

أمَّا تقدُّم اللغة العربيَّة بمدارسنا، فلا ريبَ فيه، وفي شهر يونيو سنة ١٨٩٣ عجب صاحب الدولة رياض باشا — وهو عارفٌ مُحقِّقٌ، وناقدٌ مُدَقِّقٌ باللغة العربية — غاية العجب من التقدُّم البيِّن الذي تمَّ مُنذُ انفصاله من نظارة المعارف، ولم يكن لينتظر حصوله، وذلك عندما فحص بنفسه أوراق اختبار التلامذة عقب امتحان شهادة الدراسة الثانوية، وقد كان ارتياحه لهذا التقدُّم باعثًا قويًّا على تشجيع المدرِّسين.

على أنَّ تدريس اللغة العربية على النَّسَق الجديد، لم يدخل مدارسنا إلَّا في غضون شهر أكتوبر سنة ٨٧، بحيثُ إنَّ التلامذة الذين دخلوا السنة الأولى من المدارس الابتدائية في تلك السنة لم يترقَّوا للآن إلَّا إلى السنة الثانية من المدارس الثانوية، ومن ثَمَّ يكونُ الباقي عليهم لنوال شهادة الدراسة الثانوية أربع سنوات، والمأمولُ بل المؤكَّد أنَّ هؤلاء التَّلَامذة متى أتمُّوا المقرَّر تدريسه بالمدارس الثانوية يكون محصولهم في اللغة العربية والأجنبية، وعلى العموم في المعارف والمعلومات أرقى بكثيرٍ من محصول سابقيهم، فإنَّ جميع الذين كانت لهم يد قويَّة في توسيعِ نطاق التعليم بمدارسنا، وجعلوا نصب أعينهم الوُصُول لهذه الغاية، إمَّا بتعديلٍ في البروجرامات، أو بتعديلٍ في القوانين، أو تغييرٍ في طَرَائِقِ التَّفهيم، لم يكن لهم إلَّا غرضٌ واحدٌ، وهو القيام بالحاجات اللازمة لتثقيف العقول وتنوير الأذهان، مع مُرَاعَاة مكانة البلاد في الهيئة الاجتماعية، ودرجتها في الأخلاق والآداب، ونظامها في الإدارة والتربية، ومُلاحظة هذه الشرائط بقدر الإمكان، وإنِّي في هذا المقام لا أَنسَى فضل الذين سبقونا في هذا السبيل، بما أنَّنَا جميعًا نقومُ بخدم التدريس والتعليم.

ولبروجراماتنا الحالية مَزَايا عديدة، لا أَتَعَرَّضُ لسردها في هذا المقام، بل أقتصرُ على بيانِ المهم منها؛ وذلك لأنَّ هذه البروجرامات تقضي فيما يختصُّ باللغة العربيَّة بأن يتعلم التلميذ القراءة والكتابة أولًا، ثمَّ النحو والصرف وعلوم البلاغة والمنطق وغير ذلك، وكلَّمَا تعلَّم التلميذ قاعدة من القواعد تُعطى إليه تطبيقات عليها بالكتابة، بدلًا عن أن تُشحن ذاكرته بقواعد مصوغة في قالب الشِّعر بحفظها غَيبًا، وبهذه الكيفيَّة يضطر التلميذ عند حفظه القاعدة نظريًّا إلى تطبيقها عمليًّا.

وقد اتبعتُ في تقرير طريق التدريس هذه، خطَّة يتحتَّمُ معها أنَّ المدرِّس الذي يشتغل بمُقتضاها مع تلميذ متوسِّط الفِطنَة عارف بالقراءة والكتابة العربيَّة فقط، يتوصَّلُ في ظرف ثلاث سنوات أن يعلم لهذا التلميذ من قواعد اللغة العربيَّة، ما كان يتعلَّمه تلميذ آخر في ظرف عشر سنوات، على حسب الطُّرُق القديمة والكتب القديمة، وفَضلًا عن ذلك يكونُ الأوَّل أكثر من الثَّاني تدرُّبًا في استعمال محصوله من اللغة العربية في كتاباته وخطبه، ولا شكَّ تكون له قدرة على تطبيق القواعد أكثر من الثاني، الذي ربَّمَا حفظها أحسن من الأول عن ظهرِ القلب دُونَ تطبيقها عملًا.

وهذه الطريقة بعينها مُتَّبَعة كذلك في تدريس اللغات الأجنبية، ولكن لمَّا كان تعلم القراءة والكتابة بهذه اللغات أسهل من تعلُّمِهَا باللغة العربيَّة؛ لذلك كان التقدم في الأولى أسرع منه في الثانية على العموم، وهناك سبب آخر لتقدُّم التلامذة في اللغات الأجنبيَّة بسرعة، وهو أنَّ مُدَرِّسِي هذه اللغات — أجانب كانوا أو وطنيين — قد اعتادوا طريق التعليم، وأَلِفُوهُ منذ تعلُّمِهِم، أمَّا مدرِّسُو اللغة العربية، فقد تعلَّمُوا على حسب الطرق القديمة، وذلك يقضي عليهم بصرف الهِمَّةِ، وبذلِ المجهودِ ومُمَارَسَةِ التعليم مدَّة من الزمن، قبل التمكُّنِ من معرفة طرق التعليم الجديدة النقليَّة العمليَّة، ولمَّا كانت دراسة القواعد النحويَّة على حسب الطرق القديمة معتبرة، كأنها علمٌ قائم بنفسه، نراهم يُحافظون عليها، ويأنفون من استعمالِ التطبيقات خوفًا من ضياع هذا الجوهر العلمي، لو اسْتُعْمِل في الاحتياجات اليوميَّة الدَّارجة، ومن ثمَّ يتعيَّنُ على رؤساء المدارس ومفتشيها مُدَاوَمَة تشجيع هؤلاء المدرسين وتعضيدهم، لِئلَّا يعودوا إلى اتِّبَاعِ الطُّرُقِ القديمة التي تَقضِي بتفسيرِ الكتاب حرفًا بحرفٍ، بدلًا من تطبيق القواعد العقليَّة، والتمرينات الكتابيَّة، ومع ذلك فقد أخذنا نجني ثمرات حسنة، ونؤمل في المستقبل أن نقتطفَ أحسن منها بتحسين حَال مُدَرِّسِينا وتصميمهم العزمَ على اتِّبَاعِ الخطَّة الجديدة مَتَى تحقَّقَ لديهم شرف الغاية وحسن الختام.

وليس من ينكر أنَّ تعليم إحدى اللغات الأوروبيَّة عندنا، عليه المدار في تقدُّم المعارف والعلوم عمومًا، وانتظامِ الإدارةِ خُصُوصًا، فلو كَانَت جميع البلاد التي تتكلَّمُ باللغة العربيَّة — ونقتصر منها على ذكر البقاع الواقعة في شمال أفريقا بما فيها القطر المصري — ثمَّ بلاد العرب والشام وأرض الجزيرة، اقتفت منذُ أول هذا القرن أثر الحركة العلميَّة التي اندفعت بها مصر في تيَّار المعارف، فلا ريبَ أنَّها جميعًا كانت تدخُلُ في جامعة أدبيَّة واحدة، تربطها بأوروبا ارتباطًا أمتن وأقوى ممَّا هي عليه الآن، ويترتَّبُ على تقارب أفكار ساكني البلاد العربية من أفكار الغربيين وُجُود علاقات أدبيَّة بين تلك البلاد، وبعضها داعية إلى إيجاد مُترجمين يرَونَ الفخر والمصلحة الذاتيَّة في ترجمة الكتب العلميَّة وكتب الآداب الجليلة، التي هي نتيجة تمدُّن أوروبا، وينشرونها في العالَمِ العربي بأسره، وهذه النَّهضة العلميَّة الأدبيَّة في فنِّ الترجمة، تكونُ نتيجتها أيضًا تبادُل الأفكار، فتترجم الكتب العربية النفيسة ليطَّلِعَ عليها الأوروبيُّون، ولكن هذه ليست حالة البلاد العربية، إِذ كل واحدة منها يمكن أن يُقال إنَّها مُستقلة بعلاقاتها الأدبية مع أوروبا.

بحيثُ إنَّ الكتب العلميَّة التي تُترجم بمصر مثلًا، لا تُستَعمَلُ إلَّا بها، ولا يُقبِلُ عليها من القرَّاء إلَّا العدد القليل، الذين يتأتَّى لأغلبهم مُطالعة تلك الكتب باللغة التي كُتبت بها، بدون احتياج إلى الترجمة، وقد أدَّى ذلك إلى فُقدان الوجهة المقصودة من الترجمة، وما ينبغي مُراعاته فيها، كما أنَّه أدَّى إلى أنَّ البلاد العربية بعد أن كانت تتيهُ على البلاد الأوروبيَّة بتقدُّمِهَا في العلوم والمعارف في القرن الثاني عشر للمسيح، اشتغلت هذه مع الجد في سبيل التقدم، ففاقت الأولى وتركتها وراءها بمراحل، وتقهقرت البلاد العربية، حتَّى أصبحت علومها اليوم أقل ممَّا كانت عليه في القرن الثاني عشر.

وتعدَّدَت العلوم بتقدُّمِهَا بأوروبا واتَّسَع نطاقها، حتَّى أضحى كلُّ فرعٍ من فروع العلوم الأساسيَّة، علمًا قَائمًا بذاته، بعد أن كان فَرعًا لا يُعتَدُّ به واتُّخِذَ له ضربٌ من ضروب الإنشاء خاص به، واصطلاحات خصوصية، وزِد على ذلك العلوم الجديدة التي اخترعت.

بحيثُ إنَّ الأُمَّة العربية لو شاءت اليوم الوقوف على أسرار هذه العلوم بلغتها العربية، لتعيَّن عليها أولًا أن تضعَ الاصطلاحات الخاصَّة بتلك العلوم.

ولمَّا كان ذوق اللغة العربيَّة مُغايرًا لذوقِ اللغات الآرِيَّة الأوروبيَّة، كان من المتعذر إيجاد تلك الاصطلاحات إلَّا في حالةٍ واحدةٍ، وهي حالة زيادة عدد المتعلِّمين بالبلاد العربية، إلى درجةٍ يتأتَّى لهم معها جميعًا بين لغويين ومُترجمين القيام بهذا العمل الشَّاق المجرَّد عن الفائدة.

على أنَّ معظم كتب الفلسفة اليونانية لما تُرجم إلى اللغة العربية، في عهد أوائل خُلَفَاء بني العباس، أُخِذَت تلك التراجم عن الكتب السريانية والعبرانية، وهما من اللغات السامية القريبة من اللغة العربية، وممَّا زاد في سهولة انتشار تلك التراجم أن اللغة العربية، إذ ذاك، كانت هي اللغة الرسمية، يتعلَّمها ويتكلم بها جميع سكان البقاع الواقعة بين جبال البرنات ونهر الكنج، وكلها خاضعة لسلطة أدبيَّة واحدة، إن لم نقل لسلطة سياسية.

ومن ثمَّ يتعيَّنُ علينا إن أردنا تعلم العلوم من أوروبا، أن نتعلَّمَ أولًا إحدى لُغَاتِهَا العلميَّة، وهذا لا بدَّ منه للترك والفرس، وغيرهما، ولكلِّ أمَّةٍ من الأمم التي تحاول أخذ المدنية عن أوروبا، فإن كل هذه الأمم، وإن بلغت إلى درجات مُتباينة من المعارف، لكنها لا تزال بعيدة عن أن تشكل هيئة كليَّة، تتكلَّم بلغة واحدة مُنقادة إلى قوَّة واحدة علمية وأدبيَّة، وبالجُملة فإنَّهَا غير مكونة إلى جسمٍ مُتَجَانِس الأعضاء في اللغات والآداب.

وحيثُ إنَّا بني مصر قد أعدنا ولاة أمورنا الذين تربعوا في دست الخديوية، إلى التغذي بلبان معارف أوروبا وآدابها، فيتعيَّنُ علينا حتمًا تعلُّم إحدى اللغات الغربيَّة، وأظنُّ أنَّنِي أقمتُ البرهان على أنه ليس من الممكن أن نصلَ إلى التحلِّي بتلك الآداب بطريق ترجمة كتب الغربيين إلى لغتنا العربية؛ إذ إنَّ الديار المصرية ليست مُتَّسِعة الأطراف، وسكانها قليلون، وليس فيهم للآن من يفقه ضرورة التحلي بتلك الآداب، والاستفادة بها، إلَّا النزر اليسير، ومن ثمَّ لم تتوفَّر لدينا الوسائل الماديَّة والمزايا الماليَّة الحاملة لذوي الأهلية من المترجمين، على حُسنِ القيام بهذا العمل الذي يستدعي أهلية خُصُوصيَّة ومعارف واسعة.

ويجدر بي في هذا المقام أن أُصَرِّحَ برأيي الخصوصي، وإِن كَانَ مُغايرًا لآراءِ من لا يعرفون اللغة العربية، بل لآراء بعض المستشرقين العارفين بتلك اللغة، وهو أنِّي أعتقدُ اعتقادًا ثابتًا، أنَّه لو حصلت نهضة عموميَّة، ودفعت عالم اللغة العربيَّة إلى التَّسَربُلِ بسربال العلوم الأوروبية، وكان للسان العربي مركز وعَضَّدَت الأمم العربية بعضها بعضًا، على انتشار لغتهم، كما هو وَاقِعٌ بين الأمم الإنجليزية السكسونيَّة واللاتينية؛ لأصبحت اللغة العربية لغة العلوم والآداب، كما كانت عليه إلى القرن الثاني عشر من الميلاد، أي قبل أنْ أغارت على الشرق أمم آسيا الوُسطى، فمحقت من فيه وآثارهم.

ولنرجع إلى ما كنَّا فيه من ضرورة تعلُّم إحدى اللغات الأجنبية، حتَّى نتوصَّل إلى تعلُّم قوانيننا المأخوذة من القوانين الرومانية، وإلى دراسة الطب، وفن الصيدلة، والطب البيطري، وفن الولادة، وحتَّى تسهل علينا العلوم الهندسية، والزراعية، وطرق التعلُّم والتعليم وغير ذلك، وبالجُملة يستحيلُ علينا أن نقفَ تمامَ الوُقُوفِ على العلوم والآداب التي تُلقَى بالمدارس الكليَّة بأوروبا، ما لم نعرف على الأقلِّ إحدى اللغات الأوروبية الرئيسة.

فإذا تقرَّرَ ذلك وَجَبَ على تلاميذنا حتمًا إتقان إحدى اللغات الأجنبية، قبل دخولهم في المدارس العالية، وإيقافهم أنفسهم على تعلُّم العلوم التي تُوَصِّلُهُم إلى القيام لبلادهم بالخدم الجليلة؛ وللوصول إلى هذه الغاية أدخلت الأطفال صغارًا في المدارس.

وقد بقي عندنا تعليم اللغات مُدَّة سنين نظريًّا محضًا، كما يحصلُ عمومًا في مدارس أوروبا، فكانت نتيجته عَقِيمَة عندنا، كنتيجته في مدارسها؛ وذلك لأنَّ أرباب الشأن في نظارة المعارف، حينئذٍ اكتفوا بنقلِ البروجرامات المتَّبَعَة في فرنسا، ولم ينظروا في تعديلها بمُرَاعَاة حاجات البلاد ومُقتضيات مُستقبل العلوم.

ولمَّا تأسَّسَت مدرسة المعلمين في سنة ١٨٨٠، ثم تحوَّلَت إلى مدرسة كليَّة في سنة ١٨٨٥، كان مُدَرِّسُو اللغة الفرنساوية بها من المعدودين، وكانت العلوم فيها تُدرَّس باللغة الفرنساوية؛ لأنَّ مُدَرِّسيها إذ ذاك كانوا من الوطنيين الذين تلقَّوا تلك العلوم باللغة العربية، على حسبِ طُرُقٍ مُغَايِرَةٍ للطرق التي استعملتها الفرنساويُّون، ولم يَكُن في طاقتهم استعمال تلك الطرق، وإِن كَانَ تقدُّم التعليم مُتَوَقِّفًا عليها.

وقد ترتَّبَ على ذلك أنَّ تلامذة هذه المدرسة كانوا يُحسنون التكلم والكتابة باللغة الفرنساوية في سنة ١٨٨٧، قبل إتمام الدراسة، بينما كان محصولهم من الموادِّ الأُخرَى ناقصًا.

وقد اندهَشَ لهذه النتائج بعض مُدَرِّسِينا العارفين بالتعليمِ، وبعد أن أَمعَنُوا النظر فيها مليًّا، همُّوا باتخاذ الطرق المُتَّبَعة في مدرسة المعلمين، وأدخلوها في سائر المدارس الأميرية.

وهذه عبارة جاءت في التقريرِ الرَّابع الذي رَفَعَه المرحوم علي باشا مبارك، إلى سموِّ الخديوي المعظَّم بشأن التعليم الثانوي بمصر: «أمَّا تعليم اللغات الأجنبيَّة التي لها في هذا العصر من الأهميَّة بمصر خاصَّةً ما لا يَخفَى، فإنَّه لم يأتِ إلى الآن في مدارسنا بالنتائج المطلوبة، وليس ذلك لتقصير من المعلمين، أو فتور في هِمَّتِهِم، فإنهم في الواقع أهلٌ لما عُهد إليهم من الوظائف، غير أنَّ الوقت المُخصَّص لتعليم هذه اللغات غير كافٍ حتَّى تكتسب التلامذة مَلَكَة استعمال اللغة، ويسهل عليهم التكلُّم بها، وهو أمرٌ لا يُمكن الحصول عليه، إلَّا بعد تمرين طويل مُستَمِرٍّ، فلإزالة هذا المحظور بقدرِ الإمكان، تقرَّرَ أنَّ مواد العلوم الجاري تدريسها للآن باللغة العربيَّة، يصيرُ تعليمها من الآن فصاعدًا، بمعرفة مدرِّسِي اللغات الأجنبيَّة، إمَّا باللغة الفرنساوية أو اللغة الإنجليزيَّة، وبذلك إذا درس التاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعيَّة بلغات أجنبية، وضم هذا على تعليم اللغة المقصودة بالذَّات، لكمل بذلك تعليم هذه اللغة لأمرين:
  • الأول: اشتمال هذه العلوم على التَّمرِينَات التي تتقوَّى بها التلامذة في اللغة.
  • الثاني: زيادة الزمن المقرَّر لتعليم اللغات الأجنبيَّة، بجعله سَاعتين في اليوم بدل ساعة واحدة.

هذا ويُنَاطُ بتعليم اللغات الأجنبيَّة مدرسون فرنساويُّون، أو إِنجليزيون ذوو أهلية، فإنهم نظرًا لكون هذه اللغات هي لغاتهم الأصلية، يقدرون بذلك على تأدية ما يُكَلَّفون به من تعليمها بنجاح تام.» ا.ﻫ.

وقد قَالَ في التقرير الخامس عند الكلام على مدارس المعلمين: «إنَّ تلامذة هذه المدارس قد أُعِدُّوا لتأدية وظائف التدريس فيما بعد؛ ولذلك اقتضى الحال تعديلًا وزيادة في بروجرام الدراسة، حتى يكون هؤلاء التلامذة مُستعدين حقيقةً لهذه الوظائف، فاحتوى زيادة عن اللغات على العلوم الطبيعية، والتاريخ، والجغرافية السياسية، والصناعية، والتجارية، والمحاسبة، ومبادئ الاقتصاد السياسي، وبما أنَّ جميع هذه المواد تُدرَّس لتلامذة القسمين (الفرنساوي والإنجليزي) باللغة الأجنبيَّة تتمرَّن بالضرورة التلامذة على هذه اللغة، بحيثُ يَقدِرُونَ مع الزمن على سلوكِ سبيلها، ولكي يكون ذلك مؤدِّيًا للغاية المقصودة، دَعَا الحال إلى استحضارِ معلمين من بلاد الإنجليز، اعتُنِيَ بانتخابهم من بين المتخرجين من مدارس المعلمين» ا.ﻫ.

وهذه الطُّرق — كما سبق لي بيانه — عبارة عن استعمال تعليم العلوم واسطة لتمرين التلامذة على اللغات الأجنبية.

مع أنَّ اللغات في أوروبا إنما تُسْتَعمل آلة لِتَحصِيلِ العلوم، لكنَّا هُنَا قد عكسنا القضيَّة، واتخذنا العلوم وسيلة لمُساعدة التلميذ على التكلُّم باللغة التي يتعلمها، وقد ثبت بالتجارب أنَّ هذه الطريقة تعودُ بفوائد عُظمَى من جهتين:
  • أولًا: لأنها توصِّل التلميذ إلى تعلُّم اللغة علمًا وعملًا.
  • ثانيًا: لأنَّ العلوم — وهي بمثابة موصل للغات — تُلقَى على التلامذة في كتبٍ مُدرَجَةٍ بعضها فوق بعض، وضعها أفاضل من علماء الأجانب، حنَّكَتهُم التجارب ومُزاولة التعليم، فجاءت مُوافقة لقوى التلامذة.
وحيثُ إنَّ هذه المؤلَّفَات تُوجَدُ بكثرة بإنجلترا وفرنسا، فما على اللجنة الإدارية بنظارة المعارف،١٩ إلا أن تنتخب الكتب التي تظهر أنَّها مُلائمة لحاجات مدارسنا أكثر من غيرها.

فإنَّا لو هممنا بوضع مُؤلَّفَات من هذا القبيل باللغة العربيَّة، لما وَجَدنَا بمصر رجالًا نكل إليهم هذا العمل من طَبَقَةِ مُؤَلِّفي تلك الكتب من الإنجليز والفرنساويين، ولو هممنا من جِهَةٍ أُخرَى بترجمة هذه المؤلفات إلى العربية، ووضعها في طاقة تلاميذنا لاستحالَ علينا تتبُّع حركة التقدُّم المستَمِرَّة الدَّالَّة على كثرة العمل الحاصل اليوم بأوروبا في ميادين المعارف، حتَّى في وضع الكتب الدراسية. وزد على ذلك الصعوبات التي نُلاقيها في سبيل الترجمة، أعني بذلك صعوبة الألفاظ الاصطلاحية التي لم تُوجَد حتَّى الآن كما أشرتُ إليه آنفًا.

وطريق التعليم هذه قد تقرَّرَ العملُ بها منذُ سنة ٨٩، ولكن منذ تقريرها همَّ البعض بتجاوز حدودها، فإنه مع ميلِ الأفكار إذ ذاك إلى تلقِّي جميع مواد الدراسة بإحدى اللغتين الإنجليزية والفرنساوية، أصبحت اللغة العربيَّة غريبة بالمدارس، وأصبح تعليم اللغتين الفرنساوية والإنجليزية في آنٍ واحدٍ مع اللغة العربيَّة ضروريًّا من السنة الأولى بالمدارس الابتدائيَّة، ولمَّا شاهد المرحوم علي مبارك باشا — وكان حينئذٍ ناظر المعارف — ما وَصَلَت إليه المدرسة التوفيقية من التقدُّم باستعمال تلك الطرق، سَعَى في إدخالها بجميع المدارس في سنة ١٨٨٩، وسنة ١٨٩٠ المكتبية.

وفي سنة ١٨٩١ أي بعد العمل بهذه القاعدة وتجربتها مدَّة سنتين، همَّت اللجنة الإدارية المُشَكَّلَة بنظارة المعارف بتقريرِ مواد الدروس وإعادة طبعها، فأصلحت هذا الخطأ الذي كان الناظر قد أخذ على عهدته سنة ١٨٨٩ إدخاله على البروجرامات بدونِ رأيها فتقرَّرَ:
  • أولًا: أن يبتدئ تعلُّم اللغة الأجنبية من السنة الثانيَّة الدراسيَّة فقط، حتَّى يتفرَّغ التلميذ في السنة الأولى لتعلُّم التهجئة العربيَّة، والمُطالعة والكتابة، وهذه القاعدة إنَّمَا وُضعت؛ لئلا يُشحن ذهن الطفل بلا فائدة، ولا يتشوَّش عقله؛ فينفر من تعلم تهجئتين مُتباينتين قلبًا وقالبًا.
  • ثانيًا: أن تُدرَّس العلوم الرياضيَّة باللغة العربية في جميع سِنِي التعليم، فإنها هي التي أتقنت دراستها دُونَ سَائِرِ العلوم، لكثرة الكُتُبِ التي تُرجِمَت، وطُبِعَت بمصر مُنذُ خمسين سنة تقريبًا في المواضيع الرياضيَّة، وقد وُضِعَ لها ما فيه الكفاية من الاصطلاحات الواضحة البسيطة التي تسمح بتتبُّع حركة التقدُّم الحاصلة في العلوم الرياضية بأوروبا.

ولذلك ظنَّ أعضاء اللجنة — ولهم الحقُّ في ذلك — أنَّ هذه العلوم دُونَ غيرها يُمكِنُ تدريسها باللغةِ العربيَّة، بدونِ أن يضرَّ ذلك بتعليمها.

وممَّا تقدَّمَ يتضحُ للقارئ أنَّنِي قد كشفت القناعَ عن المزايا والفوائد التي تعودُ من طرق التعليم المتَّبَعَة في مدارسنا على اللغة العربيَّة واللغات الأجنبية والعلوم.

وقد قُلتُ: إنَّ البروجرامات الحديثة، وطرق التعليم الجديدة، لم يجرِ العمل بمُقتضاها إلَّا في سنة ١٨٨٧، وأنَّ الوسائل التي اتُّخِذَت لإتقانِ تعليم اللغات الأجنبية لم يُعمل بها إلَّا في سنة ١٨٨٩؛ ولذلك يتعيَّن على الجمهور أن ينتظرَ خمس سنين، بل ثمانية قبل أن يحكمَ بجودة الخطَّة التي اتبعناها أو برداءتها.

أمَّا أنا وزُمَلَائي أعضاء اللجنة الإداريَّة ومُفتِّشُو النظارة ونظَّار المدارس وأساتذتها، فلا نشكُّ في حسن النتيجة، وشرف الغاية؛ إذ إنَّنَا نرى من يومٍ لآخر تقدُّمًا عظيمًا ونجاحًا كبيرًا.

فإنَّ التجارب التي اكتسبناها تؤكِّدُ أنَّ هذه الطرق — ولم نتخذها إلَّا بعد إدخال التعديلات والتحسينات عليها تدريجًا — لا شك تُوجد لدينا بعد قليلٍ من الزَّمن شُبَّانًا من الحائزين على ألقابِ علميَّة خليقين بها، مُتوفِّرَة فيهم المعلومات التي تمتازُ بها الشبان المتخرِّجون بمدارس أوروبا الكليَّة.

ولم يبقَ عليَّ لتتميم ما قدمته على التعليم والتربية بمدارسنا إلَّا الكلام على امتحانات شهادات الدراسة الابتدائية والثانوية.

وحيثُ إنَّ الثانية وتسمَّى البكالوريا — أي الرشد — قد تقرَّرَت بمدارسنا قبل الأولى، نبدأُ بالكلام عليها.

وإنِّي أذكُرُ الأسباب التي حملتنا على تقريرها، والتجارب التي تمَّت فيها، والشكل الذي أخذتْه بعد سبع سنوات، ويكاد يكونُ نهائيًّا.

إنَّ المغفور له محمد علي باشا الأكبر، لمَّا استشعرَ بحاجته للضباط والموظفين الملكيين، أنشأَ أوَّلًا مدرسة عسكريَّة بالقلعة، ثمَّ صَدَرَ أمرُهُ توًّا بنقلها إلى أسوان، وذلك في سنة ١٨١٦، وفي سنة ١٨١٨ أَوجَدَ مدرسة أعدَّها لتخريج المهندسين الملكيين، وفي سنة ١٨٢٥ فُتِحَت مدرسةُ الطِّبِّ، وحيثُ كَانَ الطلبة الذين يدخلون بهذه المدارس من المماليك أو المصريين، الذين كانوا يتعلَّمُون في الكتاتيب والجوامع، لم يكن لهم أَدنى إلمام بالآداب والعلوم التي كان يُرادُ تعليمهم إيَّاها، بل قَلَّ أن يتعرف البعض منهم إحدى اللغتين التركية أو العربية قراءةً وكتابة؛ ولذلك كان يتعيَّنُ على كلِّ مدرسة من هذه المدارس أن تُشرِعَ في إعطاء تلاميذها دروسًا ابتدائية في الأشياء الأوليَّة الضرورية، حتَّى تعدهم تدريجيًّا إلى تلقِّي مبادئ العلوم الخصوصية التي أُسِّسَت المدرسة من أجلها.

ولمَّا أُنشئت نظارة المعارف العموميَّة سنة ١٨٣٦، انقسمت مدارسها على حسب انقسام مدارس فرنسا إلى ابتدائية وثانوية وعالية، ومع أنه كانَ بالقصر العيني من سنة ١٨٢٥ مدرسة شاملة للتعليم الابتدائي والثانوي، لكن لم يتأتَّ للمدارس التي استُحدثت سنة ١٨٣٦ أن تسيرَ سيرًا يُذكر إلَّا بعد مضي عشر سنين من تأسيسها.

ولاضطرار البلاد إذ ذاك إلى الموظفين، لم يُنتظر أن تنتظم حال تلك المدارس، وتترقى التلامذة من الابتدائي منها إلى الثانوي إلى العالي، بل كان يُقبل بالمدارس العالية بالصدفة والاتفاق، كما كان يحصل قديمًا تلامذة تُلقَى عليهم مبادئ العلوم حسب الطرق القديمة، ثم يُؤخذون ويُستخدمون، وفي نحو سنة ١٨٥٠، بينما كانت تلك المدارس آخذة تأتي ببعض الثمرات، وأصبحت التلامذة التي تحضر بالمدارس الابتدائيَّة والثانوية تدخُلُ في المدارس العالية، حاصلةً على معارف أرقى سنةً فسنة، أُغلقت المدارس دَفعَة واحدة، ووقف سير التقدُّم.

ولمَّا همَّ الخديوي إسماعيل باشا بإعادة نظارة المعارف ثانيةً في سنة ٦٣ عَادَت المدارس إلى نظامها التي كانت عليه سنة ١٨٣٦، وهُنَا أيضًا استُعمِلَت العجلة، فامتلأت المدارس الابتدائيَّة والثانوية والعالية مِن تلامذة أُخِذُوا بالصُّدفَة، ووُزِّعُوا عليها بعد امتحانٍ خفيفٍ، لم يُنظر فيه إلى معلومات الطَّالب في العلوم والآداب بعينِ الاعتبار، وتقرَّر أن تُدرَّس بالمدارس العالية المواد التي كانت تدرس في نظيراتها قبل سنة ١٨٥٠، بمعنى أنَّ التلامذة كانوا يتعلَّمون مع بعض العلوم أصول اللغة العربية، وكانوا يعرفونها قليلًا ومبادئ اللغة الفرنساوية، وكانوا يجهلونها بالمرة، وبالجملة كانت المواد التي تُدرس في كل مدرسة عليا عبارة عن مخلوط لا أساسَ له، يدخُلُ تحته المواد المقرَّرَة للمدارس الابتدائية، كالخطوط، وقواعد اللغات، والمواد المقرَّرَة للمدارس العالية، كالعلوم النظريَّة والعمليَّة الخاصَّة بالمدرسة، ولا شكَّ أنَّ هذه الحال إِنَّمَا كانت وقتيَّة.

وبعد أن مضى عليها عشر سنين، أو اثنتا عشرة سنة، أخذت جميع المدارس على اختلاف درجاتها خُصُوصًا بعد سنة ١٨٧٥ تأتي بنتائج تُذكَر، فتشكر لجناب دور بك.

ومن اطَّلَعَ على القوانين التي وُضِعَت للمدارس حينئذٍ يعلم أنَّ زمن التقلُّب وعدم الثبات، قد انقَضَى وفَاتَ، إذ تقرَّرَ عدم دُخُول أي تلميذ مُطلقًا في المدارس العالية قبل مروره على المدارس الابتدائية والثانوية، ونجاحه في امتحان القبول الذي يحصل قبل الدخول فيها.

ولكن من الأسف لم يُعمل بهذه القواعد الصَّائبة الحسنة تمامًا، وترتَّبَ على ذلك وُقُوع فتور في جسم التقدُّم الذي حصلت عليه مدارسنا، بحيثُ إنَّ الامتحانات كانت في سنة ١٨٨٤ — حينما تعينتُ وكيلًا للنظارة — ظاهرية محضة لا حقيقة لها.

وفي سنة ١٨٨٥ هممنا بتنظيم الامتحانات، وجمع التلامذة إليها في محال مخصوصة، ومكثنا سنتين متواليتين نشتغل بتقرير مواد الدروس للمدارس الابتدائية والثانوية، فتشكَّلَت لهذه الغاية لجنة تحت رِئاسة صاحب السعادة عبد الرحمن باشا رشدي — ناظر المعارف إذ ذاك — وكنتُ من أعضائها، ومعي ويدال باشا، وموجيل بك، ووالبرج بك، وصادق بك سنان.

وقد ظَهَرَ لنا من البحث أنَّ البروجرامات التي كانت مسنونة من قبل لم يكن معمولًا بها، خصوصًا فيما يمس المواد العلميَّة منها، وأنها — البروجرامات — كانت مشحونة بالمواد إلى درجةٍ لا يتأتَّى معها للتلامذة الاطِّلَاع على نصف تلك المواد في السنة الدراسية.

وقد ساعدنا بعض نظار المدارس ومفتشيها ومدرسيها على حسن القيام بهذا العمل الطويل الشَّاق، وبتمامه رَأَت اللجنة — ملافًا للإفراط والتفريط اللذين يحصلان في امتحانات آخر سنة بالمدارس الثانوية — ضرورة توحيد تلك الامتحانات، وتسميتها بامتحانات شهادة الدراسة الثانوية.

ومن هذا الحين تقرَّرَ أن لا يُقبَلَ تلميذٌ في المدارس العالية، ما لم يَكُن حَاصِلًا على هذه الشَّهادة.

ومع تقريرها بقيت امتحانات القبول بالمدارس العالية على حالها، وهي قاعدة في غاية الحِكمة، وينبغي المُحافظة عليها، بِصِفَة امتحانات مخصوصة للدخول في المدارس الخصوصيَّة والعالية.

وإنِّي أرى أنَّه يلزمنا بذل الجهد والعناية، والعمل مع التيقُّظ، مُدَّة سنين قبل أن تعتادَ مَدَارسنا، وتألف ضرورة الاستعداد للدخول في المدارس العالية والخصوصية، استعدادًا لا يُمكِنُ التحقُّق منه إلَّا بامتحان شهادة الدِّرَاسة الثانوية، على أنَّه لم يتأتَّ للنظارة أن تُعَمِّم طلب شهادة الدراسة الثانوية، وتشدد فيه على راغبي الاندراج في سلك المدارس العالية، إلَّا منذ سنة ١٨٩١، أي بعد أن مضى على تقرير امتحاناتها أربع سنين، بحيثُ إنَّ من لم ينجح في الامتحانات من سنة ٨٨ إلى سنة ٩٠، كان يتمكَّن من الدُّخُولِ بالمدارس العالية، بشرطِ أن يتقدَّمَ للامتحان في السنة التالية، وقد ثَبَتَ بالتجارُبِ أنَّ هؤلاء التلامذة لا ينجحون في إعادة الامتحانات، بل ما كان يتأتَّى لهم تلقِّي دروس السنة الأولى في المدارس العليا التي كانوا يدخلونها، وبعد أن مضى على النظارة زمن، وهي في هذه المُجاهدات العقيمة الفائدة، رأت في سنة ١٨٩١ أن تُحَافِظَ على اللوائح والقوانين التي سنَّتها، لكونها نَافِعَة لتلامذة المدارس صالحة للحكومة.

وفي شهر يونيو سنة ١٨٨٨ حصل أول امتحان لنوال شهادة الدراسة الثانوية، ومن البديهي أنَّ هذا الامتحان الأوَّل لم يحصل بالدِّقَّة والشِّدَّة المطلوبتين في مثله، وليس ذلك بالأمر الغريب، فإنَّ التلامذة والمدرِّسين، بل والممتحنين أنفسهم لم يكونوا قد استعدُّوا لامتحانات مثل هذه، حتَّى آلَ الأمرُ إلى أن خشي كثيرٌ من زُمَلَائي موظَّفِي النِّظَارة عاقبة هذه البِدعة، وظنُّوهَا مُضِرَّة بالتلامذة، ومُستقبل المدارس، قائلين: إنَّ هذا الامتحان المؤدِّي إلى انتقاءِ التلامذة للمدارس العالية، يستدعي نقص عددهم بها مُدَّة سنين.

ومن الأسف أنَّ هذا الخوف ناشئٌ من أنَّ المصريين كانوا لا يزالون ينظرون إلى كثرة المدارس، وعدد التلامذة والمدرسين دُونَ مُراعاة الجودة والرداءة، في حين أنَّه كان ينبغي لنا أن نعرفَ من التجارب التي اكتسبناها منذ ثمانين سنة أنَّا سَالِكُونَ على غير هُدًى، ولكن لم يَرقَ بأعيُنِنَا أن نعترفَ بالخطأ والضلال، وننحاز إلى الرُّشدِ والسداد.

ولمَّا كانت نتيجة هذه الامتحانات غير المُنتظرة، من حيثُ جودة تشكيل السنة الأولى من المدارس العالية في سنة ٨٧ وسنة ٨٨ المكتبيَّة، عَدَلَ جميع مدرِّسِي المدارس عن رأيهم الأول، وأخذوا يستحسنون هذه البدعة، وبعد أن كانوا يُعَارِضُونَ هذا المشروع، أصبحوا يُعَضِّدُونه ويعملون على إتقانه.

وقد بَعَثَت هذه النتيجة فينا روح الأمل، كما أنَّهَا بثَّت في التلامذة والمُدَرِّسِينَ معًا الغيرة والنشاط، إلَّا أنَّ هذه الامتحانات بَقِيَت إلى سنة ٩٠ موضوعًا للتجربة، يُنَوَّع فيها بقصد التحسين والكمال، وفي سنة ١٨٩١ ثَبَتَ ما أقرَّته تجارب السنين الماضية، ومُحِي ما بقي، وأُجريت الامتحانات فيها لأوَّلِ مرَّة بغاية الشِّدَّة المرغوبة والدِّقَّة المطلوبة.

وفي شهر يونيو سنة ١٨٩٢ و١٨٩٣، أُجرِيَت الامتحانات بغاية الانتظام والعدل، كما حصل في سنة ١٨٩١، وبالجُملة قد مضى على تلك الامتحانات ثلاث سنين مُتوالية، بحيثُ يمكن اعتبارها امتحانات حقَّة مُفيدة.

وهَاكَ جدولًا ببيان عدد التلامذة الذين تقدَّمُوا لامتحانات شهادة الدراسة الثانية وعدد الذين حصلوا على الشهادة منذ سنة ١٨٨٧:

جملة مدارس أميرية مدارس حُرَّة سنوات
مجموع التلامذة تلامذة يقرءون الإنجليزي تلامذة يقرءون الفرنساوي مجموع التلامذة تلامذة يقرءون الإنجليزي تلامذة يقرءون الفرنساوي
عدد الطلبة الذين تقدَّمُوا للامتحان
٦٣ ٤٣ ٢٠ ١٨٨٧
١١٣ ٨٢ ٣١ ١٨٨٨
٩٦ ٧٠ ٢٦ ١٨٨٩
١٩٩ ١٣٦ ٣٣ ١٠٣ ٦٣ ٥ ٥٨ ١٨٩٠
١٢٨ ٩٤ ١٧ ٧٧ ٣٤ ٥ ٢٩ ١٨٩١
٩٠ ٥٦ ١٣ ٤٣ ٣٤ ٢ ٣٢ ١٨٩٢
٧٦ ٤١ ١١ ٣٠ ٣٥ ٥ ٣٠ ١٨٩٣
عدد الطلبة المقبولين في الامتحان
٤٧ ٣٠ ١٧ ١٨٨٧
٥٥ ٤٩ ٦ ١٨٨٨
٥٩ ٤٥ ١٤ ١٨٨٩
١١٥ ٨٧ ٢٨ ١٨٩٠
٢٨ ٢١ ٤ ١٧ ٧ ٧ ١٨٩١
٣٦ ٢٧ ٧ ٢٠ ٩ ٩ ١٨٩٢
٤٧ ٣٨ ٨ ٣٠ ٩ ٢ ٧ ١٨٩٣

أمَّا مواد الاختبار، فاقْتُصر فيها على ذِكرِ مواضيع امتحان سنة ١٨٩٣، فإنَّهَا عين المواضيع التي كلَّفَ الطلبة بالامتحان فيها لسنة ٩٢ و٩١، ولا تخالف المواد التي طلب الامتحان فيها في السنين السَّابقة على هذا التاريخ إلَّا في الشَّكلِ فقط.

الاختبارات التحريريَّة مُدَّة الاختبار «ساعة»
لغة عربية ٢
لغة أجنبية (إنجليزية أو فرنساوية) ٢
ترجمة ١
خطوط (عربي أو إفرنكي) ١
رياضة (حساب، هندسة، جبر) ٣
جُغرافية ورسم خرط ٢
علوم طبيعيَّة (طبيعة، وتاريخ طبيعي، وقانون صحة)* ٢
راجع مواد الدروس المقرَّر تدريسها بالمدارس الثانوية، تجد تفصيلات مواضيع الامتحان.
اختبارات شفاهية: لغة عربية – لغة أجنبية – رياضة – جغرافية – قسموغرافية – تاريخ – طبيعة – تاريخ طبيعي – قانون صحَّة.٢٠

وقد عاد تقرير هذه الامتحانات على التعليم بمزايا عديدة، فإنها فضلًا عمَّا استوجبته من اجتهاد التلامذة في تحصيل العلوم التي تُلقى بالمدارس الثانوية، لكون الإجازة التي تُعطَى بها أعدَل شاهد لحاملها على جودة تحصيل تلك العلوم، قد حملت نظار المدارس العالية على أن طلبوا من النظارة في سنة ٩٢ إلغاء السنة التحضيرية التي كان يدخل بها التلامذة، بغرض الاستعداد لتلقِّي الدروس العالية الخصوصية.

ولما تحقَّقَ للنظارة أنَّ هذه الطلبات في محلِّها، أجابتهم إليها، وألغت السنة التحضيرية، وجعلت مُدَّة الدراسة بالمدارس الثانوية خمس سنوات بدل أربع، حتى تستعد التلامذة لتأدية امتحانات البكالوريا، فالتعليم الخاص بالمدارس العالية، استعدادًا أحسن من ذي قبل.

وينبغي لنا أن نُنَبِّهَ في هذا المقام إلى ثمرات تلك الامتحانات، وأنها وإن كانت عظيمة اليوم، إلَّا أنها ستكونُ في المستقبل أعظم؛ لأن التلامذة الذين حصلت على يديهم، لم يقضوا مُدَّة التدريس بالمدارس الابتدائية والثانوية معًا، على حَسبِ الطُّرُقِ الجديدة، والبروجرامات الحديثة التي لم تُسَن إلَّا في سنة ٨٧ و٨٩، كما أشرنا إليه آنفًا.

وإنِّي لعلى يقينٍ تام، وأرى أنَّ من شاهدوا حصول هذه الحركة في مدارسنا أثناء هذه السنين الأخيرة، يشاركونني في هذا الاعتقاد، وهو أنَّه بمجرد تمام هذه التعديلات وارتباطها ببعضها، وتأثيرها على تلامذة المدارس المُختلفة من الأدنى إلى الأعلى، لا أشكُّ حينئذٍ في أنَّ التلامذة الذين يدخلون المدارس العالية يَكُونُون أرقى بكثيرٍ من التلامذة الحاليين من حيثُ سِعَةِ المدارس وكرم الأخلاق.

على أنَّ تلامذة المدارس العالية — والحالة هذه — أرقى بكثيرٍ من سابقيهم استعدادًا وتربيةً، كما يتحقَّقُ ذلك لمن يرغب الوقوف عليه.

أمَّا امتحانات شهادة الدراسة الابتدائية، فأقصُّ على القارِئِ تاريخها ومبدأ نشأتها، وذلك أنَّنِي قد شاهدت في المدارس منذ سنين أمرًا عَجِبتُ له وأنكرته، وهو أن مجموع التلامذة الذين يتممون الدراسة بالمدارس الابتدائية، يدخلون السنة الأولى من المدرستين الثانويتين٢١ يبلغ عددهم مائتي تلميذ، وهؤلاء التلامذة عند وصولهم لآخر سنة من هاتين المدرستين لا يزيدُ عددهم عن خمسين تلميذًا، بل ربَّمَا نقص عن ذلك، ولاشتغالي بهذا الأمر الغريب، سَأَلتُ عنه سنة ٩١ زملائي أعضاء اللجنة الإدارية، وبحثنا جميعًا عن مُوجِبَات هذا النَّقص البيِّن، فَظَهَرَ لنا أنَّ أهمها هي:
  • أولًا: لأنَّ التعليم بالمدارس الابتدائيَّة وخصوصًا في السنة الرَّابعة منها لم يُعط حقه.
  • ثانيًا: لأنَّ القوانين القديمة تقضي بتعيين لجان يُوكَلُ إليها امتحان تلامذة السنة الرابعة من المدارس الابتدائية، وهذا الامتحان لم يَجْرِ مع الدقة والشِّدَّة المطلوبتين.
  • ثالثًا: لأنَّ امتحان القبول الذي يُؤدِّيه تلامذة السنة الرَّابعة لدى دُخولهم في المدارس الثانوية بمقتضى الشهادات التي تُعطَى إليهم من اللجان المذكورة، يحصل مع العجلة وعدم النظام.
ومُلافاةً لهذا الضرر، أعني به تقليل عدد التلامذة الذين يسقطون بين السنة الأولى بالمدارس الثانوية والسنة الأخيرة منها إلى الحدِّ الممكن، رَأَت اللجنة الإداريَّة تقرير القواعد الآتية:
  • أولًا: عدم امتحان تلامذة السنة الرَّابعة الابتدائية على يدِ لجان خصوصية، تذهب إلى تلك المدارس، بل تجتمعُ كل التلامذة من الآن فصاعدًا بالقاهرة، لتأدية امتحان عمومي أمام لجنة واحدة.
  • ثانيًا: يُعطَى للتلامذة الذين تظهر قدرتهم على تلقِّي دروس السنة الأولى من المدارس الثانوية شهادة تُعرَف بشهادة الدراسة الابتدائية.
  • ثالثًا: تُقبل التلامذة بمُقتضى هذه الشهادة في إحدى المدرستين الثانويتين اللتين بالقاهرة والإسكندرية بدون امتحان.

وأول امتحان حصل من هذا القبيل على سبيل التجربة، هو امتحان سنة ١٨٩١، وكان إجراؤه بالقاهرة قبل افتتاح الدراسة.

ولما كانت نتيجة هذا الامتحان تُساعِد على تقريره، أقرَّته النظارة نهائيًّا في سنة ١٨٩٢.

وهذا جدول ببيان عدد التلامذة الذين تقدَّمُوا لهذا الامتحان، وعدد الذين نالوا شهادة الدراسة الابتدائية منذ سنة ١٨٩١:

جملة مدارس أميرية مدارس حُرَّة سنوات
مجموع التلامذة تلامذة يقرءون الإنجليزي تلامذة يقرءون الفرنساوي مجموع التلامذة تلامذة يقرءون الإنجليزي تلامذة يقرءون الفرنساوي
عدد الطلبة الذين تقدَّمُوا للامتحان
٢٧٨ ٢٥٦ ١٩ ١٨٩١
٥٧٣ ٤٨٢ ١٦٤ ٣١٨ ٩١ ٣١ ٦٠ ١٨٩٢
٩٣٦ ٦٩٠ ٢٦٤ ٤٢٦ ٢٤٦ ٧٣ ١٧٣ ١٨٩٣
عدد الطلبة المقبولين في الامتحان
١١٢ ١٠٢ ١٠ ١٨٩١
٢١٢ ١٩١ ٥٨ ١٣٣ ٢١ ٦ ١٥ ١٨٩٢
٣٤٢ ٢٧٥ ١٠٤ ١٧١ ٦٧ ٢٣ ٤٤ ١٨٩٣

وأعظم فائدة تعودُ من تقرير هذه الامتحانات، هي أنها تجعل التعليم بدرجة واحدة في سِنِي الدراسة بالمدارس الثانوية، ويترتَّبُ على ذلك أنَّ عدد التلامذة الذين يتأخرون بفرقتهم ما بين السنة الأولى الدراسية والسنة الأخيرة بهذه المدارس، يأخذ في القِلَّة من الآن فصاعدًا، ومن ثمَّ يكون عدد الذين يتقدَّمُون في المستقبل لامتحانات شهادة الدراسة الثانوية أكثر من ذي قبل.

ومن الجدول الآتي تتضح مزايا امتحانات الدراسة الابتدائية، وتأثيرها على التعليم — كما أشرنا إليه — وإن كانت هذه الامتحانات لم تُقرر إلَّا منذ سنة ١٨٩١:

عدد التلامذة بالمدارس الثانوية سنوات  ملحوظات 
سنة أولى سنة ثانية سنة ثالثة سنة رابعة
٢٠١ ٧٤ ٦٥ ١٩ ١٨٨٧ الأرقام المبيَّنة في هذا الجدول استُخرجت من أسبوعيات المدارس في شهر ديسمبر من كل سنة.
١٩٠ ١٢٨ ٦٢ ٥٦ ١٨٨٨
١٩٤ ١١٠ ٨٩ ٤٤ ١٨٨٩
٢٤١ ١٤٠ ٩٣ ٧٠ ١٨٩٠
٢٥٧ ١٩٥ ١٢٦ ٧٥ ١٨٩١
٢٢٥ ١٧٠ ١٢٩ ٨٠ ١٨٩٢

وهذا ما يدلُّنا نحن الواقفين على سير التعليم في المدارس المُختلفة، على أنَّ تقرير هذه الامتحانات قد أَتَى في أقرب وقت بالمزايا العظيمة؛ إذ إنها أوجدت في المدارس الابتدائية نهضة عظيمة، وزيادة في اجتهاد المعلمين والمتعلمين بها؛ ولذلك نؤمِّل من الآن حصول نجاح وفلاح عظيمين، أمَّا المدارس الثانوية، فأصبحت درجة التعليم فيها واحدة، بحيث أضحى الفرق بين قوى تلامذة الفرقة الواحدة أقل ظهورًا.

ولم أُطِل الكلام على هذه الامتحانات إلَّا لأنَّنَا جميعًا بين نظَّار المدارس، ومُفتِّشِين، ومُدرِّسين، وأعضاء اللجنة الإدارية، ننظُرُ لتلك الامتحانات بعين الأهميَّة، ونُعَلِّقُ بها آمالنا، مُعتقدين أنَّها هي الباعث الوحيد الذي يحثُّ على العمل، وبالتالي على التقدم.

وهذه هي المواد التي يجب على طالبي شهادة الدراسة الابتدائية تأدية الامتحان فيها.

الاختبارات التحريرية مُدَّة الإجابة «ساعة»
لغة عربية إنشاء موضوع بسيط، وموضوع صغير، لمعرفة تطبيق القواعد النحويَّة ٢
لغة أجنبية إملاء بسيطة مقدارها من ١٠ إلى ١٥ سطرًا، وتمرين صغير على الأجرومية والترجمة ٢
خط عربي ثلث ونسخ ورقعة ω ٠
خط إفرنكي كبير ورفيع وأحرف كبيرة وأرقام ω ٠
حساب أربع مسائل تتعلَّقُ واحدة منها على الأقل بالموازين والمقاييس والعملة ω ١
جغرافية تمرين صغير على رسم الخرط، وبعض أسئلة في مواد البروجرام ٠

اختبارات شفاهية: لغة عربية – لغة أجنبية – حساب ومبادئ هندسية – جغرافية – تاريخ.

ولنا الأمل الوطيد بأنَّ هذه التفصيلات تكفي لأن يدرك أبناء وطننا العزيز الغرض الذي نسعى وراءه، وهو حث التلامذة والمعلِّمين مَعًا على الغيرة والاجتهاد بالتشديد عليهم، وتعدد الامتحانات لهم، حتَّى يتقدَّم التعليم وتترقَّى المعارف.

وقد همَّت المدارس الأجنبية بمُزاحمة مدارسنا الأميرية، وأخذت هذه المُزاحمة تنمو وتقوى يومًا عن يوم، بحيثُ لا يسعنا إلَّا التصريح بأنَّنَا إن لم نبذل قصارى الجهد والثبات، ونعمل بأقوم طرق التدريس، لأصبح من المستحيل على تلامذتنا مُبَارَاة تلامذة المدارس الأجنبيَّة الحُرَّة، ويجدُرُ بنا في هذا المقام، أن نعمل بالحكمة التي نَطَقَ بها المستر إيمرسون الأمريكي، بعد الوقوف على المراد منها، وهي قوله: «على كلِّ من أراد الوصول إلى بُغيته، أن يعلم حقَّ العلم ألَّا شيء يحصل بالصدفة والاتفاق، بل إنَّ لكلِّ شيءٍ سببًا.» وكما قال البهلول العربي:

لا يبلغ المرء مُرادًا له
إن كَانَ للصدفة يومًا رَكَن
لكلِّ شيء سببٌ بَيِّنٌ
والشَّيءُ لا رَيبَ بِهِ مُرتهن

وبتصفية مدارسنا من كلِّ شَائِبَةٍ واستعمال الطرق الجديدة في تعليم جميع مواد الدراسة والمثابرة على انتخاب المدرسين الأكفاء، وبتنظيم الامتحانات الابتدائية والثانوية والتشديد فيها، توصلنا إلى أن شهدت لنا الحكومة بثقتها بنا في الأمر العالي الصادر بتاريخ ٤ ديسمبر سنة ١٨٩١.

إذ قد جَاءَ الأمر المشار إليه مقرًّا على شهادة الدراسة الابتدائيَّة، قائلًا بأنَّ الحائز لها له حق التعيين في الوظائف الصغيرة من دوائر الحكومة الملكيَّة، أمَّا الحامل لشهادة الدراسة الثانوية، فله حق أن يتعيَّنَ في الوظائف الكبيرة بالمصالح الأميرية، وفضلًا عن ذلك، فإنَّ شهادة الدراسة الابتدائية تُخَوِّلُ لحاملها الدخول بالمدارس الثانوية الأميرية، ومَدرَسَتَي الصنائع والزراعة، أمَّا حاملو شهادة الدراسة الثانوية، فلهم الحق في الدخول بمدارس المهندسخانة، والطب، والحقوق، والمدرستين التوفيقية والخديوية، وهذه الشهادة مُعتبرة في جمهوريتي فرنسا والسويسرة، بمثابة لقب البكالوريا المسوِّغ لحامله الدخول بجميع المدارس الكليَّة بهما، وفي إنجلترا تسمح لصاحبها بالدخول في جميع مدارس الطب.

فقل لي — ناشدتك الله — أي مكافأة تفعل في النفوس، وتأخذ بالألباب أعظم من ثقة الحكومة بنا، وإقرارها بأتعابنا وأعمالنا؟! فإنَّ الحكومة والبلاد الأجنبية لو لم تَرَ منَّا أنَّنَا نسلك أقوم السبل، وأقربها إلى النجاح والفوز بالتربية والتهذيب، لما جادت علينا بثقتها واعتمادها.

ولذلك ترانا نسعى سنة فسنة في توطيد دعائم الامتحانات الابتدائية والثانوية وإتقانهما، وباهتمامنا بانتخاب المدرِّسين والمفتشين الأكفاء سنة عن سنة، نصلُ إلى أن نسلكَ بتلامذتنا طُرُق العمل الصحيحة السديدة، ونبتعدُ عن الطرق القديمة التي هي من عيوب الأزمنة الغابرة، ولانغراسها وانغماسها في أخلاق أهالي البلاد، لا تزالُ تحول دُون سرعة تقدُّم المدارس عندنا.

وممَّا تقدم يتَّضِحُ للقارِئِ أنَّنِي لم أترك شيئًا ممَّا يَجِبُ ذكره على المدارس، وأنه لم يبقَ عليَّ إلَّا أن أتكلَّمَ بطريق الإيجاز على المدارس الخصوصيَّة والمدارس العالية، حتَّى أُتمِّمَ كتابي هذا الذي قد توسَّعتُ فيه أكثر ممَّا كنتُ أقصده.

فمن هذه المدارس:
  • مدرسة الزِّراعة: حيثُ إنها لم تُؤسَّس إلَّا في سنة ٨٩، فلا يسعني الكلام عليها الآن؛ إذ ينبغي أن يُعطَى لها الوقت الكافي لاتِّسَاعِ نِطَاقها وإتيانها بالثمرات العمليَّة، وعند ذلك يُنظَرُ في أمرها، فإن كَانَ الطريق الذي سَلَكَته هو الصحيح، تُرِكَت وشأنها وإلَّا أُدْخِلَ في نظامها بعض التعديل.
  • مدرسة البنات: الصعوبات التي تحولُ دون تحسين هذه المدرسة شتَّى، منها صعوبات مالية، وأُخرى مُتَعلِّقَة بالتعليم، وغيرها أدبية؛ لارتباطها بأخلاق البلاد، وعوائدها؛ ولذلك أرى السكوت عنها الآن إلى أن ينظر القومسيون في تقريري الذي تشرَّفتُ بتقديمه للحضرة الخديوية في ١٠ يونيو سنة ٩٣، وضمنتُه ما عملته النظارة من البحث في هذا الأمر المهمِّ، ويقرُّ نهائيًّا على التعديلات التي يقتضي إدخالها في هذه المدرسة.
  • مدرسة الصنائع: هذه المدرسة كَانَت قبل سنة ٨٥ مُعتبرة منفًى لتلامذة المدارس الأُخرى الأميريَّة، ولا شكَّ أن ذلك هو السبب في عدم إتيانها بفائدة تُذكر إلى سنة ٨٥، عند ذلك همَّت النظارة بتحسينِ حالها، وتوسيع نطاقها، وإعلاء قدر الصنائع اليدويَّة، بعد أن كانت مُحقَّرَة بها، ونجحت في ذلك، ولكن من سنة ٨٨ إلى سنة ٩٠ عادت المياه إلى مجاريها الأصلية، بتغيير القابض على زمام المدرسة؛ لأنَّ ناظرها الجديد لعدم علمه بما تمَّ فيها من التحسين على يدِ سَلَفِهِ، لم يتأتَّ له أن يمنعها من الرجوع إلى القهقرى، وأهم تغيير حصل في نظامها منذ سنة ١٨٩٢ هو تقرير القاعدة القاضية، بعدم دخول التلميذ بها ما لم يكُن حائزًا شهادة الدراسة الابتدائية.

    وذلك لأنَّ ناظرها الحالي، عند تقرير امتحانات شهادة الدراسة الابتدائية في سنة ١٨٩١، طَلَبَ ألَّا يُقبل من التلامذة بمدرسته إلَّا الحاصلون على هذه الشهادة.

    وكان قصده بذلك أن يضمن لمدرسته نُخبة التلامذة، ويرفع شأنها عِلمًا وأدبًا، ويحُولُ دُون عودتها إلى أن تكونَ مَأوًى للخائبين من التلامذة الذين طردتهم المدارس الأُخرى.

    وقد أجابته النظارة إِلَى طَلَبِهِ، وعندما صدَّقَ مجلس النظار على قانون المدرسة ومواد التعليم بها، أُدخِلَ هذا الشرط في القانون المذكور (أول أكتوبر سنة ١٨٩١).

    ومن جِهَةٍ أُخرى كانت ورشة مصلحة السكَّة الحديد — ويوظَّف بها معظم التلامذة المتخرِّجين من المدرسة — تشكو من عدَمِ استعداد تلامذتها وخصوصًا من كبر سنهم، وفي الواقع كانت هؤلاء التلامذة يُلحقون بالورش وسنهم ما بين الثامنة عشر إلى الثانية والعشرين، ولكبر سنهم ما كان يُمكن استخدامهم صبيانًا في الورش، ولقلَّة محصولهم ما كان يتأتَّى استخدامهم صُنَّاعًا أو رُؤساء ورش، ونحنُ الآن ننظر — باتفاق مع مصلحة السكة الحديد — في الطريق الذي يُوصِّلُنَا إلى إدخال التلامذة بهذه المدرسة، عارفين جانبًا من الأعمال اليدوية، وبذلك نتوصَّلُ إلى جعل مُدَّة الدراسة بها ثلاث سنوات بدلًا من خمس.

    وبتمام هذا المشروع والعمل بموجبه، يُمكننا أن نقدِّمَ لمصلحة السكة الحديد تلامذة عارفين بصناعتهم، أهلًا لأنْ يكونوا من خيار الصبيان في سنِّ الخامسة عشر وهو السن المطلوب لمصلحة السكة الحديد.

    على أنَّه قد يتساءل بعض العارفين بفضل المدارس الخصوصية: أي مدارس الصنائع؟ ولم لا تفتح الحكومة مدارس مُمَاثلة لمدرسة بولاق في أمهات المدن؟ وكيف لا يُعلَّم بهذه المدرسة عدد من الصنائع أكثر من العدد الذي يُعلَّم بها الآن؟

    وردًّا على السؤال الأول، أقول: إنَّ مدرسة الصنائع تحتاجُ إلى المصاريف أكثر من غيرها من المدارس، وذلك ليسَ بالمتيسر لدينا، ومهما كانت مدرسة الصنائع صغيرة، يتعذَّرُ — إن لم أقل يستحيل — إنشاؤها وجعلها مُستعدة للشغل، وقبول مائة من التلامذة بأقل من ١٠٠٠٠ جنيه، كما أنَّه يستحيل إدارة حركتها ما لم تُربط لها ميزانية سنوية مقدارها من ٣٠٠٠ جنيه إلى ٤٠٠٠ جنيه.

    فمن أين يتأتَّى لنا الحصول على هذه المبالغ الجسيمة؟ وفضلًا عن ذلك، قد همَّت النظارة غير مرَّة بفتح مدارس من هذا القبيل، ولكنها لم تنجح؛ لأنه اعترضها في طريقها عقبتان، لا يمكن عبورهما، وهما: قلة النقود، وعدم المدرسين الخصوصيين.٢٢

    على أنَّه يتخيل للبعض أنَّ وجود المدرسين الخصوصيين في مدارس الصنائع من الأمور الثانوية، ويظنُّونَ أنَّ الصانع متى عرف صناعته نوعًا، يتأتَّى له تلقينها للأولاد، ويحتجُّون على ذلك بأنَّ الصبيان يتعلَّمُون الصنعة من الصانع الذي يتمرنون في ورشته، ولكن مثل هؤلاء لا يُعتَدُّ برأيهم، فإنهم لا يُمَيِّزُون بين الورشة والمدرسة، وفي المثل السَّائر المتداول على ألسنة العوام: صَنعة بلا أُستاذ يُدرِكُهَا الفساد، فإنَّ المعلم الذي يُعلِّم الصنعة لفريق من التلامذة بين ثلاثين وأربعين تلميذًا، لا يُشبه الصَّانع الذي يعمل في دُكَّانِهِ لكسب معاشه، ويُعَلِّم صنعته إلى صبيين أو ثلاثة بالمُمَارَسَةِ والتمرين، وكما أنَّه يلزم لمعلم الآداب والعلوم أن يُزاول صناعة التعليم مدَّة طويلة، ويعمل مع الجدِّ في سبيل الحصول عليها وتلقينها كما ينبغي لتلاميذه، كذلك يتعيَّنُ على مُعلِّم الفنون والصنائع مُزاولة صناعة التعليم زمنًا، حتَّى يتمكَّن من تلقينها لمن يتعلَّمُون عليه، ولعدم مُرَاعَاة النظارة لهذه القاعدة، لم تنجح في التجارب التي عملتها، وأشرنا إليها آنفًا.

    هذا والفضل في نجاح مدرسة الصنائع، إِنَّمَا يعودُ على جناب جيجون بك، الذي نِيطَ به أمر تنظيمها في سنة ٦٣، إن لم أقل إنه أوجدها من العدم، وقد نسج خلفه الموسيو مونيه على منواله، ويسرُّنَا أن نعترفَ بأنه قد برهن على ثباته وإخلاصه كسلفه، وإن لم يكن عمله شاقًّا، فإنه وجد المدرسة عاملة، وكان له من بين المدرِّسين والمعلِّمِين أعوانًا قاموا بمساعدته أكثر من الذين وُجِدُوا مع جناب جيجون بك في سنة ١٨٦٣، وبعدها بزمنٍ طويلٍ.

    أمَّا الأمر الثاني الذي يتمنَّاهُ بعضُ النَّاس، وهو إدخال جميع أنواع الصنائع بمدرسة بولاق، فيحولُ دُونه نظام المدرسة؛ وذلك لأنَّ عدد تلامذتها ثلاثمائة تلميذ، ولا يُمكن أن يُشكَّل بها فرق لتعليم الميكانيكا مُطبَّقَة على الصناعة، وشغل النجارة، تحتوي الواحدة منها على عشرة تلامذة أو عشرين تلميذًا، فإنَّ هذين الفنَّينِ وهُمَا أهم الفنون لمصر، يقضيان بأن تُشكَّل فرقهما من مائة تلميذ أو ثمانين، حتَّى يكون العمل مُثمرًا وتتمرَّن التلامذة على جميع الأشغال؛ ولذلك إذا أردنا تعدُّد الصَّنائع، يتعيَّنُ علينا تعديد المدارس، وألَّا يدخل في كلِّ مدرسة إلَّا صنعة واحدة أو اثنتان من نوعٍ واحدٍ، أو تكون إحداهما مُتمِّمَة للثانية، بشرط أن يكون لكلِّ مدرسةٍ ناظرٌ أهلٌ لإدارتها، ومُعَلِّمُون مَهَرَة في تعليم صناعتهم، وأن تكون لدينا النقود الكافية للصرف على كل مدرسة؛ إذ لا يخفى أن الأعمال التي تُصنع في مدرسة من مدارس الصنائع لا تقومُ بنفقاتها، ويُخَطَّأ القائل بعكس ذلك؛ لأنَّه إنَّما يريدُ قلب المدرسة إلى ورشة، يختصُّ كل تلميذ فيها ضرورةً بتعلُّمِ صنعةٍ واحدةٍ، ويئولُ أمر الجميع لأن يكُونُوا صُنَّاعًا عارفين بصنعتهم عملًا بدون تصوُّر، ولا شكَّ أنَّ ذلك مُغايِرٌ للغاية التي تُقصَدُ من فتح مدرسة للصنائع، وهي تخريج صُنَّاع أذكياء عارفين بجميع فروع صناعتهم، يتأتَّى لهم مع الزمن أن يكونوا مُعلِّمين أو رؤساء ورش في الصنعة التي انتخبوها.

    وبالجُملَةِ أقولُ: إنَّ مدرسة الصنائع عندنا على ما هي عليه الآن حسنة في بابها، وتصلُحُ أن تكونَ نموذجًا لغيرها، وتقومُ للبلادِ بالخِدمَةِ الجليلة، ولا شكَّ أن تقوم لها في المستقبل بِخِدَمٍ أجل من ذلك، خُصُوصًا لو ثَابَرنَا على اتِّبَاعِ الخُطَّة التي سلكناها معها، وحافظنا على القوانين واللوائح التي سننَّاهُما لها، وأدخلنا بعض تعديلات في فروعها، وأصلحنا العيوب التي بها على مُقتَضَى حاجات العصر.

  • مدرسة الحقوق: لا يُنكِرُ أحد أنَّ هذه المدرسة سالكة مسلك التقدُّم والنجاح، وأنَّ جميع الطلبة الذين يتلقَّون الدروس بها أكفاء، ويدخلونها حائزين لمعارف أَرقَى سنة عن سنة، وفي سنة ٩٢ طلب ناظرها جعل مُدَّة الدِّرَاسة بها أربع سنوات، بدل خمس، وأُجِيبَ إلى طلبه، وفي الامتحان النهائي لسنة ١٨٩٣، أُعطي لشهادة التلامذة الذين خرجوا منها اسم ليسنس بدل شهادة لتتميم الدراسة.

    والفضل في التقدُّم الذي حصلت عليه المدرسة، والاعتبار الذي حظيت به من الجمهور، يُنسَبُ لعِدَّة أسباب، فقال جناب ناظرها المسيو تستو: إنَّ سبب تقدُّمِهَا هو أنَّ التلامذة الذين يدخلونها حائزين شهادة الدراسة الثانوية، قد استعدوا لتلقِّي دروسها سنة فسنة، استعدادًا حسنًا فأحسن.

    ويقولُ الرَّأي العام إنَّ اختيار الطلبة لهذه المدرسة دُونَ غيرها، إنَّمَا منشؤه دُخُولُهم في الوظائف القضائية، وأنَّ انتظام الترقِّي في تلك الوظائف يضمَنُ للشُّبَّان المتخرِّجِين بهذه المدرسة مُستقبلًا حسنًا، لا يصلُ إليه إلَّا من درس القوانين.

    ونحنُ نَرَى أنَّ الفضل في تقدم هذه المدرسة إنَّمَا يعود على جناب ناظرها، الذي توصَّلَ بكرم أخلاقه وسعة مداركه في العلوم الشرعية وأحوال التربية، لأن يحوزَ عظيم ثقة المدرسين الذين هم تحت إدارته والمتعلِّمِينَ والجمهور في آنٍ واحدٍ.

    ومن الواجبِ ألَّا ننسى ناظرها القديم الطِّيب الذِّكر ڤيدال باشا، الذي قد سنَّ لها منذ تأسيسها طريقًا واضح المنهاج، مُنطبقًا على الكمال والنظام، كما شهد بذلك جناب المسيو تستو الذي دُعِيَ لإدارة حركتها بعد وفاة ڤيدال باشا بسنتين، وهذا ما يدلُّنا على أنَّ الصبغة التي اكتسبتها من يد ڤيدال باشا، كانت ثابتة تكاد لا تزول، وبالجُملة فمجموع هذه الأسباب هي التي أكثرت خطاب هذه المدرسة.٢٣
  • مدرستا المهندسخانة والطب: في سنة ١٨٨٥ كانت العلوم التي تُلقى في هاتين المدرستين نظريَّة محضة، وربَّمَا كانت تقليديَّة أكثر منها عملية، وبعد ذلك عُنِيَ البعض بأن يبعث في التعليم رُوحًا جديدة، فقامت المصالح التي تستخدم التلامذة المتخرجين بهما، وهي نظارتا الأشغال والداخلية، ومصلحة السكة الحديد، وهمَّت بتحسينهما، كما عُنيت نظارة الحقَّانيَّة بتحسين حال مدرسة الحقوق، فعدَّلَت مواد الدراسة بهما، وقَامَ العمل مقام النظريات المَحضة، التي قد أبقي منها النظريات الضرورية.

ولا شكَّ الآن بعد إدخال هذه التعديلات في أن تأخذ هاتان المدرستان في التقدم، ولكن من الأسف أنَّ هذه التعديلات الخيريَّة النَّافعة لم يكن الأصل فيها نظَّار هذه المدارس، كما حصل بمدرسة الحقوق؛ وذلك لأنَّ مهندسي نظارة الأشغال والسِّكَّة الحديد وأطبَّاء نظارة الدَّاخلية، هم الذين قَامُوا بها؛ ولذلك قُوبِلَت تلك التعديلات بسخط بعض الموظفين في هاتين المدرستين، إن لم نقل بالمُعَارَضَةِ منهم، وترتَّبَ على ذلك وُقُوع معاكسات لم يكن من شأنها المساعدة على التقدُّم، وهذه المعاكسات، أيًّا كانت أسبابها الحقيقيَّة، وإن لم توقف سير التقدُّم بالمرَّة، إلَّا أنها عطَّلَته نوعًا، ولا يعزُبُ عن الأذهان أنَّه مع وجود هذه التعديلات التي أُدخلت على نظام هاتين المدرستين، لا تقبل الطلبة الاندراج في سلكها، حتَّى يتحقق لهم حسن النتيجة بالتجارب.

وينسب الجمهور عدم إقبال الطلبة على هذه المدارس إلى أسباب مُنافية على خطٍّ مُستقيم، للأسباب الحاملة على إقبال غيرهم على مدرسة الحقوق، وهي أنَّ صناعة المهندس والطبيب أصبحت لا مُستقبل لذويها، فإنَّ جميع الوظائف قد شُغِلَت بالموظفين، وأضحى الترقِّي صعبًا.

ومن هُنا يظهر أنَّه لم يأنِ لتلامذة المدارس العالية أن يَعدِلُوا عن الفكر بأنَّ تعلمهم بهذه المدارس لا بدَّ من أن يُوصِّلَهُم إلى الخدمة في الحكومة، على أنَّا لا نَيأسُ من قرب حلولِ هذا الوقت، بل نأملُ حُبًّا لشرف بلادنا، ومُراعاةً لمصلحتها، أن نرى يومًا ما من الوطنيين محامين ومهندسين وأطباء، يتعاطون صناعتهم خَارِج إِدارات الحكومة، ويبارون فيها الأجانب من مُحامين ومهندسين وأطبَّاء، ممَّن يعرفون أنَّ صناعتهم خارج تلك المصالح، تكسبهم من المال في الزمن القريب، أكثر ممَّا ينتظره زملاؤهم المصريُّون من المرتبات التي تُعطى إليهم، مُقابلة عملهم في الحكومة.

ومن الأسبابِ الدَّاعية لعدم إقبال الطلبة على مدرستي الطب والمهندسخانة، أنَّه قد تقرَّرَ منذ سنة ١٨٨٧، ألَّا يُقبل تلميذ في المدارس العالية، ما لم يكن حَائزًا شهادة الدراسة الثانوية.

ومن الجدول الذي وضعناه مُبينًا لعدد التلامذة الذين نالوا هذه الشهادة في الامتحانات التي حصلت، يتضح أنه لرغبة معظم التلامذة في تلقِّي القوانين بمدرسة الحقوق، لم يبقَ إلَّا النزر اليسير ممَّن يرغب في مدرسة الطب والمهندسخانة.

وإنِّي أضع الجدول الآتي لبيان عدد التلامذة الذين رَغِبُوا في كلِّ مدرسة من المدارس العالية بعد حصولهم على شهادة الدراسة الثانوية من سنة ٨٧ إلى سنة ١٨٩٢، ومنه يتضح أنَّ مدرسة الحقوق تأخذ معظم هؤلاء التلامذة.

عدد التلامذة أسماء المدارس
٣٠٠
١١٠ مدرسة الحقوق
٤٨ مدرسة الطب
٣١ مدرسة المهندسخانة
٦٦ مدارس المعلمين
٥ مدرسة الزراعة
١٣ التحقوا بمصالح الحكومة وغيرها
٢ دخلوا المدارس الحربيَّة
٢٢ اشتغلوا بالتجارة وما شاكلها
٣ ماتوا

راجع الملحق حرف (ب) تجد فيه تفصيل الجدول.

فيكون عدد الطلبة الذين حصلوا على شهادة الدراسة الثانوية من سنة ١٨٨٧ إلى سنة ١٨٩٢ ثلاثمائة تلميذ.

وإنِّي أرى أنَّ نظام مدارسنا العالية جيِّدٌ في الجُملة، ولمَّا كانت درجة التقدُّم الصريح البيان، الوطيد الأركان، مُرتبطة في كل مدرسة بناظرها ومعلميها وخبرتهم في الأمور الجديدة، التي نحن في حاجة إليها، وإدراكهم للرغائب المتجهة نحو الارتقاء في عالم المنقولات؛ ولذلك يتعيَّنُ علينا مُرَاعاةً لمصلحة المدارس العليا، التي هي عين مصلحة البلاد، أن نسعى في أن نجعل على رأسِ كلِّ مدرسة منها أُناسًا ممَّن خبرنا أهليتهم، وتحقَّقَنا كفاءتهم في العلم بأصولِ التربية والتهذيب، وفي اقتدارهم اقتدارًا فعليًّا، على إرشاد التلامذة وإدارة حركة التعليم الذي يقوم به المدرِّسُون، وبالجُملة ينبغي لنا أن نتخيَّرَ نظار مدارسنا العالية من المتخرجين بالمدارس الجامعة.

ومتى وَقَعَ الإقرار على هذا التعديل المتحتِّم، وتمَّ إخراجه من عالم القول إلى عالم الفعل، وأصبحت مدارسنا العالية مُؤسَّسَة على أسلوبٍ مُنتظم، وقائمة على قواعد متينة يقضي بها العقل، حينئذٍ تتجه الرغبات إلى ضمها كلها إلى بعضها وجعلها مدرسة كلية جامعة.

وبما أنَّ العناصر اللازمة لإنشاء هذه المدرسة الكلية، تكادُ تكونُ مُتوفِّرَة لدينا بتمامها، فعندما نتمكَّنُ من الحصولِ على الأساتذة القديرين على التدريس في هذه المدرسة الكليَّة، يكونُ من السهل وصولهم إلى درجة الاستعداد والكمال، فتكتسب البلاد فوائد عُظمَى من حيثُ تقدم العلوم والآداب والفلسفة النظرية والعمليَّة، وما يحدث من السنن والتقاليد، وبما يظهر من روح الموالاة في العمل وبالمزاحمة والمسابقة اللتان يتولَّدَان بالطبع بين مدرستنا الكليَّة، وبين نظائرها الأُخرى.

ولا يهمنا الآن قلَّة عدد التلامذة الذين دخلوا في السنين الأخيرة بمدرستي الطب والمهندسخانة، فإنَّنَا نعتبرُ هذه الحال وقتيَّة؛ لأنَّه مع فرض بقاء عدد المدارس الثانوية، وعددها ثلاثة على حاله، يتأتَّى لها بعد قليل أن تحضر سنويًّا لامتحان شهادة الدراسة الثانوية، مائتي تلميذ على الأقل، ولو قدَّرنا أنَّ عدد المقبولين في الامتحان، هو النصف منهم فقط لكانَ عدد الحاصلين على شهادة الدراسة الثانوية في كلِّ عامٍ مائة على الأقل.

ولا يظنُّ أحد أنَّ جميع هذا العدد من التلامذة يرغبُ في دراسة القوانين، فلو قدرنا أنَّ أربعين منهم، رَغِبُوا في مدرسة الحقوق، وهو أكبر عدد يُمكن فرضه، لكان الباقي ستين تلميذًا يُوزَّع على مدرستي الطب والمهندسخانة، والمدرستين المخصوصتين للمعلِّمِين، ومدرسة الزِّرَاعة، ولو فرضنا أنَّ عدد الدَّاخلين بكلِّ مدرسة من المدارس المذكورة عشرة فقط، لكان فيه الكفاية.

وقبل أن أختمَ عُجالتي هذه على التعليم بمصر، أتكلَّمُ بطريق الإيجاز على نظام من أهم نظاماتنا المدرسية التي استعرناها من أوروبا، وأعني بذلك التفتيش على المدارس فأقول: التفتيش على المدارس قد وُجِدَ بالاسم منذ سنة ٣٦، ولكن لو بحثنا عن مُسمَّاه، لرأينا أنَّه لم يظهر في عالم الوجود إلَّا في سنة ٧٠ أو سنة ١٨٧٩، عندما همَّ طيِّب الذكر دور بك بإعادة نظامه.

ولا شكَّ أنَّه ما كَانَ يتأتَّى إلى دور بك بمفرده أن يقومَ بما قامَ به من الخدم الجليلة للتعليم، لولا مُساعدة جماعة المفتشين الذين كانوا معه وقتها، وكان انتخابهم في غاية الحكمة، وفي الواقع إنه لم يكن العمل الذي قام به هذا الفاضل مقرونًا بالنجاح إلَّا بمعونة عمَّال أذكياء أصدقاء يُوقفونه على سير المدارس سواء بالقاهرة أو الأرياف، ويُبلِّغُون إلى تلك المدارس تعليماته الصحيحة، ومبادئه القويمة، ويفتِّشُون على المدرسين، ويُلاحظون تعليمهم، ليرشدوهم، ويُقوِّموا أودهم عند الحاجة.

ولو لم يكن التفتيش حسن النظام، لما تأتَّى له كذلك جمع المعلومات الدقيقة التي ساعدته على أن يضعَ في سنة ٧٥ إحصائية تفصيليَّة عن المدارس المصريَّة، أميرية كانت أو أجنبية.

وهذا العمل المهم في حدِّ ذاته، اتخذه دور بك أساسًا لوضع قانون المدارس ومواد التدريس التي قد سَعَى جهده بالتوفيق بينها، وبين حاجات البلاد وأميال أهاليها نحو التعليم.

ومعلومٌ أنَّه لم يكن إذ ذاك بالمدارس من المدرسين من تربَّى التربية الخصوصيَّة بغرض التعليم، وأول من افتكر إيجاد مدارس للمعلمين، وأقام الحجَّة على ضرورة وجودها، هو دور بك، والذي بعثه على هذا الفكر، توالي التفتيش على المدارس، ومن ثمَّ تَعْلَم درجة الأهمية التي كان عليها التفتيش إذ ذاك.

ومن هذا الوقت أخذ التعليم يترقَّى بالمدارس، إلَّا أن التفتيش لم يتسع نطاقه للآن، ولم يُنْظر له بعين الأهميَّة التي كان يستحقها، والدليل على ذلك، أنَّا لا نزالُ حتَّى اليوم نرى ضعفًا في مدرِّسينا، فمنهم من تُوصف حالة تعليمه بالجودة، ومنهم من تُوصف حالة تعليمه بالرداءة، وأغلبهم بين هؤلاء وهؤلاء.

وبموتِ دُور بك مات التفتيش معه تقريبًا، وعَادَ الحال إلى ما كان عليه قبل تنظيمه له، فإنَّ المفتشين الذين تهذَّبُوا على يديه بشقِّ الأنفس خرجوا من وظائفهم وتشتَّتُوا أيدي سبأ في مصالح الحكومة بحيث أصبح التفتيش اسمًا ليس إلا.

وذلك لأن بعض من قبضوا على زمام المعارف، كانوا يجهلون مزايا التفتيش، وبعضهم كانوا لا يقولون به؛ لأنَّه لو وُفِّي حقه يُضايقهم ويخالف أغراضهم النفسانية.

ولمَّا توظَّفتُ بنظارة المعارف العمومية سنة ٨٤، كان أمر التفتيش وقد آل إلى العدم تقريبًا.

ومن سنة ١٨٨٥ إلى سنة ٨٨ اشتغلت بإيجاده ثانيةً، وساعدني على ذلك عبد الرحمن باشا رشدي، وبينما نحن ننتظر أن نقطفَ ثِمَارَه اعتزلنا الأعمال بنظارة المعارف سنة ١٨٨٨.

ولمَّا كان المرحوم علي باشا مبارك، الذي أَعقَبَ عبد الرحمن باشا رشدي في نظارة المعارف، يرى من التفتيش حجر عثرة في سبيل وظائف الناظر، تركه ينحل ثانية.

فاضطر خيار الشبان الذين كانوا مكوِّنين لجسم التفتيش إلى السعي وراء التوظُّفِ في غير المعارف، حيثُ إنَّهم لم يبقَ لهم بها أمل في ارتقاء مداركهم، واتساع دائرة أعمالهم بنظارة المعارف، وكانت هذه ثاني مرَّة انهدَمَ فيها بناء التفتيش بعد أن كاد يتم.

ولما استلم زكي باشا زمام المعارف سنة ١٨٩١، شعر بالضرر الذي عَادَ على المدارس من خلوها من التفتيش، عند ذلك سعينا معًا في مُلافاة هذا الضرر، ولكن الوسائل المادية لم تُساعدنا حتى الآن على تشكيل المفتشين تمامًا.٢٤

وهاك عدد موظفي التفتيش في هذه المدَّة.

عدد المفتشين في سنة
٩ ١٨٨٤
١١ ١٨٨٥
١٤ ١٨٨٦
١٣ ١٨٨٧
١٥ ١٨٨٨
١٣ ١٨٨٩
٦ ١٨٩٠
٩ ١٨٩١
٩ ١٨٩٢
١١ ١٨٩٣

وحيثُ كَانَ التفتيش الآن عبارة عن قوَّاد لا جنود معها، فمهما بلغت درجة المفتشين من الغيرة على أداء وظائفهم والدراية بأساليبها، لا تكونُ الخِدَم التي يَقُومُون بها بالخِدَم الجليلة، سيما وأنَّ أوقاتهم تنقضي في تنجيز الأعمال الكثيرة التي تُناطُ بهم في الديوان، أو بالمدارس الخصوصيَّة، فلا يتفرَّغ الواحد منهم للتفتيش على المدارس المنشأة بمصر من أسوان إلى الإسكندرية إلَّا مرَّة في السنة.

وكثيرًا ما تضطرُّنا الحال إلى استخدام نظَّار المدارس، وبعض مدرسيها لأداء وظيفة التفتيش، ولا يخفى أنَّ تكليف هؤلاء بهذا العمل، ولو مُوَقتًا وغيابهم عن مدارسهم يضرَّان بالتعليم ضررًا بليغًا.

وليتنا مع ذلك نصل إلى غايتنا، وهي جعل التفتيش على المدارس أقل ندورة، هذا ولعدم المفتشين كذلك نضطر لاستخدام المدرسين في الامتحانات، فنشكِّل منهم لجان الامتحان، بحيثُ يُرى بعض المدرسين يُنتخب ممتحنًا لتلاميذه، وهو أمرٌ يشقُّ علينا، ولا يتأتَّى لنا مُلافاته، إلَّا إذا انتظمت هيئة التفتيش.

ولهذا كنتُ كلَّما سَنَحَت لي الفرص، أُطَالِبُ الحكومة بالنقود التي تساعدنا على تشكيل هيئة تامَّة من المفتشين، ولكن وا أسفاه! كان جوابها على الدوام سلبيًّا بحجَّة عدم النقود.

ولستُ أُنكرُ على فرض حلِّ المسألة المالية، أنه يبقى علينا مسألة إعداد الرجال الأكفاء، ولكن هذه ليست من المشكلات في جانب ما لاقاه دور بك.

ولا حاجة لي أن أبيِّنَ من الآن الطُّرُق التي ينبغي اتباعها في تشكيلِ هيئة من المفتشين، بل أقتصرُ على أن أقولَ — ولا إخالُ أنَّ أحدًا يُعارِضُنِي في ذلك — أنَّه إن وجدت هيئة من نخبة المفتشين المهذبين العارفين بحقيقة وظيفتهم، لأصبحت تلك الهيئة روحًا في جسم نظارة المعارف من شأنها العمل على تقدُّم المدارس من جميع الوجوه، وإيجاد السنن المساعدة على استتباب الأمر في جميع فروع النظارة، وحذوا السلف على منوال الخلف، وهو أمرٌ لم يتحقَّق للنظارة مُنذُ تأسيسها في سنة ١٨٦٣، وكانت مضاره عظيمة بالحكومة والأهالي في آنٍ واحدٍ.

وقد طلبت في الميزانية التي أوردناها آنفًا أن يُقرَّر مبلغ ١٥٠٠٠ جنيه لما يحتاجه التفتيش من النفقات، وهذا المبلغ ليس بالكثير في جانب هيئة تُشَكَّل من عدَّة من المفتشين، ومن أقلام يُناطُ بها جمع تقاريرهم على المدارس، وإحصائياتهم ومصاريف تنقلاتهم وتجوُّلِهِم في أنحاء القطر.

وليس يَخفَى على أحدٍ مِنَ العارفين بأحوالِ مدارسنا للتفتيش عليها من حُسنِ التأثيرِ، وإن كان مرور المفتشين الآن على تلك المدارس أقل من القليل، كما أنَّ أهميَّة المعلومات التي تستخرجها النظارة من بين سطور تقاريرهم غنيَّة عن البيان.

هذا وإن كان التفتيش الآن غير كامل النظام، وغير وافٍ بالغرض المقصود، إلَّا أن الخِدَم التي يقوم بها المفتِّشُون الآن خير كافلٍ لنا على جليل مزاياه، وعظيم فوائده لو انتظم واتسع نطاقه، وعظم وقعه وتأثيره على المدارس، سواء بالقاهرة أو الأرياف.

على أنَّ التفتيش لو وُضِعَ على أساسٍ متينٍ، لما اقتصرت مزاياه العظيمة على المدارس التَّابعة لنظارة المعارف، بل تسري على المدارس الكثيرة الأجنبيَّة التي تهمُّ يومًا فيومًا بالعمل بمُقتضى البروجرامات التي سَنَنَّاها، وتطالب الآن بدخولها تحت مراقبة النظارة ورعايتها، فتستفيد من طرق التعليم والتهذيب المتَّبَعَة في مدارسنا، ولا إخال أحدًا يجهل المزايا الجمَّة التي تعودُ على تقدُّم التعليم في البلاد، من بثِّ خطَّة رسميَّة واحدة في جميع المكاتب والكتاتيب، حتَّى تصبح الطريق طريقًا أهلية محضة.

ومن البديهي أنَّه لا يتأتَّى لنا الوصول إلى هذه الغاية، إلَّا بإيجاد هيئة تامَّة للتفتيش، في قدرتها القيام بالعمل الذي يُوَكَّل إليها، فإنَّ هيئة التفتيش بالوضع الذي هي عليه الآن، ليسَ في وُسعها أن تُديرَ حركة المدارس الأميريَّة التَّابِعَة لنظارة المعارف حقَّ إدارتها، فكيف يتأتَّى لها أن تتكلَّف القيام بحاجة المدارس الأجنبية.

ولذا نَرَى أنَّ أكبر خدمة تقومُ بها الحكومة لنظارة المعارف، هي تحسين حالة التفتيش وتوسيع نطاقه؛ إذ هو الآن في حال الطفولية، ولاعتقادنا ذلك، نقولُ مع الإلحاح بضرورة تشكيل هيئة من المفتشين ممن وقفوا أنفسهم لهذا العمل الخصوصي، بشرط أن يكون عددهم كافيًا حتَّى يكون تأثيرهم على المدارس قويًّا ثابتًا، ونظام التفتيش بهذه الصفة يُعتَبَرُ نافعًا في جميع البلاد، وأمَّا عندنا في مصر فيتحتَّم اعتباره من الضروريات، خصوصًا وأنَّ مدارسنا حديثة العهد، وينقصها أمران: طول التجارب، ونتيجته، وهي روح الاجتماع على مبادئ واحدة والاشتراك فيها، وهُمَا أَمرَان لم يُوجَدَا حتَّى الآن بمدارسنا، ولا يتأتى لغير هيئة من المفتشين جيِّدَة النظام أن توجدهما، وتحافظ عليهما كما سبق لنا الإشارة لذلك.

على أنِّي لا أُنكِرُ الخدم الجليلة التي قامَ ويقومُ بها لنظارة المعارف بعض المفتشين الموجودين الآن، وإن لم يكونوا قد اشتغلوا بالتفتيش إلَّا قليلًا؛ لأنَّ البعض منهم مناط به أعمال مهمَّة بالنظارة، فلا يتفرَّغ للمرور والتفتيش على المدارس إلَّا في النَّادر، والبعض الآخر لقلَّة عددهم يُقصِرون أعمالهم على مدارس القاهرة، ويُهمِلُون بحكم الضرورة مدارس الأقاليم.

وقبل أن أختم عُجَالَتي هذه على التعليم بمصر، أقدِّم بين يدي بني وطني العزيز ملحوظة لبعض الفلاسفة: «ليس معرفة الأمور بالعقل والعلم معرفة حقيقية، بل ظاهرية، وإنَّمَا الحقائق تنكشفُ بالتجارب والمزاولة.»

(انتهى)
١  راجع كتاب يعقوب أرتين باشا، على المعارف العمومية بمصر، طبع باريس، سنة ٨٩، تجد فيه كل ذلك مُفَصَّلًا.
٢  لم يدخل تحت هذا العدد تلامذة الأربعين كُتَّابًا المُبَيَّنَة قبله.
٣  ويجدرُ بِنَا أن نُنَوِّهَ في هذا المقام إلى أنَّ الحكومة عندنا عزمَت لأوَّلِ مرَّةٍ على إنشاءِ المدارس العُمُوميَّة مُنذُ سبعين سنة أو ثمانين، كَانَ غرضها من ذلك تخريج مُوظَّفِين أكفاء للخدمة في مصالحها المتنوِّعَة، وقد بَلَغَت ولله الحمد تِلكَ الغاية كما أشرت إليه، أَعنِي أنَّهَا توصَّلَت لنشرِ التعليم، وبثِّ التربية بين الشبَّان.
٤  راجع مجموعة القرارات والمنشورات الرسميَّة لشهرِ فبراير سنة ٩١، صحيفة ١٥٤.
٥  إذ لو أمكن حصر جميع النفقات التي تنفقها الأهالي عمومًا والأوقاف الخيرية خصوصًا، في سبيل تعليم الأطفال، على حسب الطرق القديمة بالمساجد والكتاتيب، «ولا يخفى أنَّ التعليم في البلاد المشرقيَّة قليلُ النفقات جدًّا»، لشُوهد أنَّ المبالغ التي تُصرف لهذه الغاية باهظة جدًّا، وليست صعوبة حصر تلك النفقات قاصرة على تعذُّر الإحصاء بمصر، بل هناك صُعُوبة أُخرى، وهي عدم إمكان حصر المُرَتَّبَات والتعيينَاتِ التي تُعطَى للمشايخ والفقهاء والمدرسين بتلك المدارس مُقَابلة تعليمهم بها.
راجع كتاب يعقوب أرتين باشا على المعارف العمومية بمصر، طبع باريس سنة ١٨٩٢ ملحق حرف (أ) ونشرة جمعية المعارف المصرية (السلسلة الثانية لسنة ١٨٨٨ جلسة ٥ ديسمبر سنة ٨٨).
٦  وقد عُنيت النظارة عدا ذلك بأمر تربية التلامذة، وكانت مُهملة بالمرَّة؛ وذلك لأنَّ التجارب والحاجات قد دَعَتْنَا إلى العناية بهذا الأمر المهم، فسننا في سنة ١٨٩١ القانون الداخلي للمدارس مؤسَّسًا على مُشاهدات عدَّة سنين، ثبتت صحتها لدى المدرسين.
وقد كَانَ للمُرتَّبَات وعدم إعطائها إلا لسنةٍ واحدةٍ، وتقييد إعطائها لسنَةٍ أُخرَى بقيود مخصوصة، تأثير عظيم على التربية، ترتَّبَ عليه إلغاء العقاب الجُسماني بالمرَّة، وآل الأمرُ إلى تلاشي العقاب بالحبس.
وقد أوردت في ذيل هذا الكتاب القانون الدَّاخلي للمدارس الجاري العمل به منذ ثلاث سنوات، حتَّى يطَّلِعَ عليه من يهمهم أمر التربية والتعليم.
وقد أتيتُ كذلك بالملحق حرف (د) حتَّى يقفَ المتأمِّل على ما تمَّ من التغيير في أمر المرتبات في قليلٍ من الزَّمن.
٧  وإنِّي أُورِدُ هنا على سبيلِ الإِفَادَةِ المبالغ المُتَحَصلَة في سنة ١٨٩٢ من مصاريف التلامذة بالمكاتب الأهليَّة ومكاتب الأوقاف، والمبالغ التي يُمكن تحصيلها بفرض أنَّ جميع التلامذة تدفع مصروفات.
مليم جنيه
٤٤٩٧ مجموع المبالغ المتحصلة سنة ١٨٩٢ من المكاتب الأهلية
٥٠٠ ٥٩٧١ إيراد هذه المدارس، بفرض أنَّ جميع التلامذة تدفع المصاريف المُقَرَّرَة في اللوائح
مكاتب الأوقاف
٥٠٠ ١٠٧٨ إيرادات سنة ١٨٩٢
٥٠٠ ١٤٩٧ إيرادَات هذه المدارس، لَو كَانَت جميع التلامذة تدفع المصاريف المقرَّرَة في اللوائح
٨  وفي شهر أكتوبر سنة ٩٣ عندَ افتتاح الدراسة، زَادَ عدد الدَّاخلين بالمدارس الابتدائية عن العدد الذي يُقبل بها عادةً بنحو ألفٍ من الأطفال، وترتَّبَ على ذلك ازدحام تلك المدارس بهم، وتشكيل بعض الفرق من ستين تلميذًا أو بعضها من ثمانين أو أكثر.
ولذلك اضطررنا إلى تقسيمِ تلك الفرق واستخدام المدرسين اللازمين، وكان الأولى تقسيم المدارس نفسها، ولكن حال دُونَ ذلك عدم المحال وقلَّة النقود.
وقد شاهدنا والكتاب تحت الطبع — أي بعد افتتاح الدراسة بشهرين — فتورًا في همَّةِ المدرسين والمتعلِّمين، وذلك لا شكَّ يُوجِبُ الأسف، ولكن كان لا بدَّ لنا منه.
٩  وفي سنة ١٨٩٢ كان مجموع التلامذة المجانيَّة بالمدارس ألفي تلميذ، وهو يُوازي ثلثًا في المائة من مجموع أبناء البلاد المترشحين للدخول بالمدارس، وخمسة وثلاثين في المائة من مجموع تلامذة المدارس. راجع الجدول المُبَيَّن به نسبة التلامذة المجانيَّة بالمدارس الأميرية.
١٠  ومِنَ الأمورِ الجديرَةِ بالذِّكرِ، المؤيِّدَة لما قدمته، هو أنَّ الأهالي لاشتغالهم بمستقبل بنيهم وتعليمهم التعليم الصحيح، وتعويدهم على التربية الحقَّة، نراهم لا يُبَالُون بالنفقات، فيُدخِلُون أولادهم بمدرسة المبتديان بالنَّاصريَّة، والقسم الابتدائي من المدرسة التوفيقيَّة، والحال أنَّ المصروفات المدرسية فيهما أزيد بكثير منها في غيرهما من المدارس الابتدائيَّة، وذلك لظنِّهِم أنَّ التعليم والتربية فيهما ينبغي أن يكونَ أحسن منه في غيرهما، بما أنَّ المصاريف المدرسيَّة فيهما أَزيَدُ بكثيرٍ من غيرهما.
١١  راجع كتاب يعقوب أرتين باشا على التعليم العام بمصر، طبع باريس سنة ٨٩ (الباب الثاني، فقرة ثانية).
١٢  راجع كتاب يعقوب أرتين باشا على التعليم العام بمصر، طبع باريس سنة ٨٩ (الباب الثاني، فقرة ثانية).
١٣  راجع كتاب يعقوب أرتين باشا على التعليم العام بمصر طبع باريس سنة ٨٩، ملحق حرف (أ)، ونشرة جمعية المعارف المصرية، السلسلة الثانية لسنة ١٨٨٨ (جلسة ٥ ديسمبر سنة ٨٨).
١٤  وفي امتحانات شهادة الدراسة الابتدائية التي حصلت في شهر يوليو، تقدَّم إليها من التلامذة الذين تلقَّوا دُرُوسَهُم في المدارس الحُرَّة، مائتان وستة وأربعون تلميذًا، حصل منهم على الشهادة سبعة وستون، ومجموع هذه المدارس بالقطر المصري ست وعشرون.
عدد عدد
٢٦
بالقاهرة
٢ للأوقاف الأهليَّة الإسلامية
٤ للأوقاف القبطية
٢ لجمعيات إسلامية
٧ لجمعيات أجنبية دينية
١٥
بالإسكندرية
١ للأوقاف القبطية
٤ لجمعيات أجنبية دينية
١ لأحد الأساتذة المسلمين
٦
بأسيوط
١ للجمعيات القبطية
٢ للجمعيات الأجنبية
٣
١ بطنطا للأوقاف القبطيَّة
١ بالزقازيق للجمعية الإسلاميَّة
وهُنَاك مدارس أُخرى وطنيَّة ولكنها ليست مُستعدة تمامَ الاستعدادِ لتقديم تلامذتها للامتحانات التي تحصل بنظارة المعارف.
١٥  وهذا العدد إنَّمَا هو تقريبي، يقبل الزِّيادة والنقصان على حسب حاجات الحكومة.
١٦  وقد همَّت الطبقة المتعلِّمَة من المصريين اليوم ألَّا يُرسلوا أولادهم إلى المدارس الابتدائيَّة إلَّا بعد أن يكونوا عارفين من لُغَتِهِم مقرَّر السنة الأولى، بتلكَ المدارس، بحيثُ أصبحت السنين الثَّانية منها يدخل بها الكثير من الأطفال مُباشرة، وهو تقدُّمٌ جديرٌ بالذِّكر، يُوجِبُ مزيد ارتياحنا، وحث الأهالي على المُثابرة عليه.
١٧  وقد كانت المدارس الأجنبيَّة إلى اليوم تُعدُّ التلامذة إعدادًا جيِّدًا في اللغات الإفرنكيَّة، حتَّى كانوا يعرفونها أحسن من التلامذة الذين يتعلَّمُون بمدارسنا الأميريَّة، والسبب فيه بيِّنٌ هيِّنٌ، وهو أن جميع الدروس تُلقَى على التلامذة في تلك المدارس باللغة الأجنبية، فضلًا عن أنَّ التلامذة مُلزَمُونَ بالتكلُّمِ بها طول نهارهم، مَعَ أساتذتهم أو فيما بينهم، وكان تعليم اللغة العربيَّة بها ضَعِيفًا جدًّا، ومع ذلك كانت مصالح الحكومة كلَّمَا احتاجت لمترجم، ما كانت تجده إلَّا بين المُتَخَرِّجين بالمدارس الأجنبيَّة. ولمُلَافاة انحطاطِ مَدَارِسِنا عن المدارس الأجنبيَّة، همَّت النظارة بعد التردُّدِ، فأقرَّت سنة ٨٩ على الطريق الذي وضعناه، وقد كانت الثَّمَرَات التي اقتطفناها في هذه المُدَّة القصيرة دَاعِيَة للاستمرار على هذه الخطَّة، بحيثُ يُعتبر السَّاعي في تغييرها جانيًا، ولا يعدُّ ذلك غُلُوًّا، وإذن يتحتَّمُ علينا في المستقبل التعديل فيها، بغرض التحسين والتوسيع.
١٨  قُلنا: إنَّ العلوم تُستعمل موصلًا لتعلم اللغات الأجنبية، وذلك ربما يُوجِبُ سُوءَ الظَّنِّ عند بعضهم، فيذهبون إلى أنَّ تعلُّم العلوم نفسها، يكونُ غير وافٍ بالغرض، على أنَّ الأمر ليس كذلك، فإنَّ المدرسين بالمدارس الابتدائية، لمعرفتهم جميعًا اللغة العربيَّة، تراهم لا يُلقُونَ على التلامذة درسًا جديدًا، إلَّا بعد تحقُّقِهِم من أنَّ جميع تلامذة المكتب قد فهموا أو حفظوا الدَّرس القديم باللغة الأجنبية. وفضلًا عن ذلك، فإنَّ الواجبات العديدة المُختلفة، والامتحانات، والموضوعات التي تُلقَى على التلامذة في كلِّ أسبوعٍ، وشهر، وكل ثلاثة أشهر، وكل سنة مؤدية لتفهيم التلامذة تلك العلوم باللغة، وتقويتهم في نفس اللغة. وبالجملة، فهم يتعلَّمُون في درسٍ واحدٍ ثلاثة أمور، وهي أولًا اللغة نفسها، ثانيًا العلوم، ثالثًا الترجمة والاصطلاحات، وطريقة التدريس هذه ربَّمَا ظهرت لمن لا يُمعن النظر أنَّها مُعَقَّدة، ولكنها ليست كذلك، فإنَّ الثمرات التي قَد عَادَت من استعمالها عظيمة جدًا، خُصُوصًا لو تمكَّنَ المدرِّسُون من العملِ بمقتضاها، كَمَا تلقَّوهَا في مدارس المعلِّمين، أمَّا المدرسون الذين لم يُعَدُّوا بالمرَّة لصناعة التدريس أو كان إعدادهم إليها ناقصًا، فلا شكَّ يكونون من أكبر الأضرار على المدارس.
١٩  وهذه اللجنة المُشكَّلَة بناءً على أمرٍ عالٍ تاريخه ٢٢ مايو سنة ١٨٨٧، تتركَّبُ من حضرات أحمد بك نظيم، وأمين بك سامي، والمستر دنلوب، وجناب بلتييه بك، والسيد بك بيومي، ووالبرج بك، تحت رئاسة وكيل النظارة.
٢٠  راجع الدروس المقرر تدريسها بالثانوية تجد تفصيلات مواضيع الامتحان.
٢١  قد ضربتُ صفحًا عن مدرسة الإسكندرية؛ لأنَّ سِنِي الدراسة الثانوية لم تتوفر بها حتى الآن، كما أشرتُ لذلك آنفًا.
٢٢  ففي نحو سنة ١٨٧٤، همَّت النظارة بإنشاءِ مدرستين للصنائع، إحداهما ببولاق، والأُخرى بالقربية، ولكنها قد أغلقتهما بعد سنة. وفي سنة ٧٢ أنشأت كذلك مدرسة للبنين وللبنات الخرص والعميان، أغلقتهما سنة ١٨٨٩. وفي سنة ٨٩ أوجدت بالمنصورة مدرسة للصنائع وألغتها في سنة ١٨٩١.
٢٣  وقد نشر جناب المستر سكوت المستشار القضائي، تقريرًا عن المحاكم الأهليَّة، نلخِّصُ منه الجملة الآتية المختصَّة بمدرسة الحقوق الخديوية، لتأييدها ما قلناه عن المدرسة المذكورة، وهي بحروفها: الواجب الثاني هو إحياء مدرسة الحقوق الحالية، وإعطاؤها روحًا جديدة؛ لأننا نعتبرها ينبوعًا تنبثُّ منه رجال القضاء في المُستقبل. وقد اتَّحَدَت معنا نظارة المعارف في تحقيقِ هذا العمل، وأقرَّت الحكومة المصريَّة، في الحال الحاضرة، بضرورة وُجُود رئيس أوروبي فيه كمال الاستعداد لتأدية هذه المأمورية، وقد ساعدنا الحظ إذ وجدنا ما كُنَّا نطلبه في شخص الموسيو تستو، الذي ضحَّى مهنته الدراسية في فرنسا، بقبول رئاسة مدرسة الحقوق.
فرتَّبَ التعليم فيها ترتيبًا جديدًا، فأصبح اليوم امتحان الدخول والامتحانات السنوية والامتحان النهائي، للاستحصال على شهادة في القوانين (دبلوما) أصعب بكثير من قبل، وصَارَ يغرس في أذهان طُلَّابِها المبادئ، ولا يقتصر فقط على نصوص الشَّرائع، وأضحى التعليم فيها مَقصودًا به تثقيف أذهانهم، وتوسيع قرائحهم بعد أن كَانَ أولًا قاصرًا على تنمية ذاكرتهم، وكما تُدرَّس فيها الشريعة الإسلاميَّة، كذلك تُدرَّس فيها القوانين الفرنساوية والقانون الروماني، وإنَّنَا نميلُ لتفضيل طلاب هذه المدرسة بحكمِ الطبيعة على غيرهم، على أنَّ من حصلوا على شهادات من أوروبا لا تبعدهم بالمرَّة، وقد أصبحت اليوم تلك المدرسة مرغوبًا فيها، حتى صَارَ عدد طلابها اليوم ضعفه في سنة ١٨٩٠. كذلك نظَّمَ المسيو تستو دروسًا ليليَّة، ومع ذلك فإني لم أقصد بهذا أن اقولَ إنَّ طريقة التعليم والتربية وَصَلَت الآن لحدِّ الكمال، وإنَّما قد حصل نجاح عظيم بالنسبة للماضي.
وأرى من الضروري أن يدخلَ فيها إصلاح مهم، وهو وجوب أن تكون مُرتبات أساتذتها كافية، حتى تكون وظيفة المعلم مرغوبًا فيها لذاتها، وحتَّى لا تكون مُعتبرة في المستقبل كعمل عرضي، يُتَّخَذ وسيلة يتدرَّج بها إلى المُحَامَاة، أو سبيلًا للوصول لوظائف القضاء.
٢٤  راجع التقرير الأوَّل والثَّاني والثالث لسنة ٨٥ وسنة ٨٦ وسنة ٨٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤