الفصل الثاني

النظام الجديد

وهنا يصح للقارئ يسأل: وما أمر هذا النظام الجديد؟

ونحن إنما نستمد معلوماتنا عن هذا النظام من كتب النازيين ونشراتهم وصحفهم وما إلى ذلك، وفي مقدمة هذه المصادر كتاب «كفاحي» للهر هتلر، ويعتبره النازيون ضروريًّا لتقريب الاشتراكية الوطنية إلى أذهان الجماهير على الرغم من صعوبة أسلوبه وغموض معانيه، وكذلك مؤلفات «ألفرد روزنبرج Rosenberg» رسول النازيين وفيلسوفهم الأكبر، ومن بينها كتابه في عام ١٩٢٢ عن مبادئ الحزب الاشتراكي وأهدافه، وكتابه المشهور في عام ١٩٣٠ عن «خرافة القرن العشرين». وقد أعد هذا الكتاب لطبقة المفكرين من «ذوي المواهب العقلية» الذين توسم فيهم النازيون القدرة على إدراك ما يدق فهمه على الجماهير من خفايا هذه الوطنية الاشتراكية. أما كتاب المطالعة أو القراءة الأولية فقد وضع لجماعة الشباب الهتلري. ومن بين تلك المصادر كذلك كتاب «أرنست برجمان Bergmann» عن «عقائد الدين الجرماني الخمس والعشرين»، وبحوث كل من «روبين Dr. Ruppen» و«هينكل Hinkel» و«إزوالد شبنجلر Sieburg» و«فردريك سيبورج Spengler»، والأستاذ «أرنست هوير Hauer» وغيرهم. وكذلك لا ينبغي أن يفوتنا أن نذكر برنامج الحزب النازي نفسه وقد وضع في عام ١٩٢٠.

ويتضح مما يذكره جميع هؤلاء الكتَّاب أن «التعاليم النازية» ترتكز على حقيقة أساسية واحدة، هي أن الحضارة الحالية يهودية في صميمها تنكر البطولة وترفض النضال والصراع من أجل الحياة، فتحرم الإنسان لذلك من صفات النبل والشرف؛ ولذلك كانت هذه الحضارة التي يقوم عليها النظام اليهودي العالمي في الوقت الحاضر ملوثة بجراثيم الانحلال، وينخر فيها الفساد ولا مفر من تحطيمها في النهاية؛ حتى ينفسح الطريق لقيام نظام آخر معارض لهذا النظام اليهودي المادي. وعلى أساس هذه المغالطة استند النازيون في رسم تلك القواعد التي شيدوا عليها صرح النظام الجرماني الجديد في ألمانيا أولًا ومن بعد ذلك في أوروبا.

وخلاصة هذه القواعد أنه كان للوطنية الاشتراكية فضل السبق في إدراك حقيقة العالم في وضعه الصحيح؛ فهي لذلك صاحبة الحق وحدها في قيادة الحرب الصليبية — أي حرب الصليب المعقوف — من أجل بعث الإنسانية وإحيائها وتغيير النظام القائم، على أن يتم ذلك البعث والتغيير على أيدي جنس بشري كُتبت له السيادة منذ الأزل على بقية شعوب العالم: الأمر الذي لا يتسنى حدوثه قط دون أن يُطبق ما أسماه النازيون «مبدأ الزعامة» أو «الزعامة المسئولة Feuhrer Prinzip» ومعناه أن تنقاد الحياة في الدولة لتنظيم عسكري دقيق من شأنه تركيز السلطة في شخص زعيم مطلق التصرف يطيعه المجتمع طاعة عمياء، ويكون وحده المسئول عن هذا المجتمع، ويفسر ذلك «فردريك سيبورج» في قوله: «إن الجرماني يتميز فقط بمقدار الخدمة التي يؤديها للدولة، فلا ينبغي أن يوجد بألمانيا مجرد أفراد عاديين من البشر، وإنما المطلوب هو وجود جرمانيين يفنون أنفسهم في تأدية هذه الخدمة والدولة التي من هذا النوع تعرف باسم دولة الزعامة Feuhrerstaat وشعارها «أمة واحدة، ودولة واحدة وزعيم واحد».»
ولذلك لم يلبث زعيم الوطنية الاشتراكية «أدولف هتلر» أن نال بفضل مبدأ الزعامة المسئولة، حقًّا مقدسًا يتحتم بمقتضاه على كل جرماني أن يدين له بالطاعة العمياء وينفذ إرادته دون مناقشة، وقد وضح ذلك «هانز فرانك Hans Frank» وكان من فطاحل القانونيين النازيين — عندما قال في خطبة له في أكتوبر ١٩٣٥:

إن الاعتراف بقدسية القوانين التي يوقع عليها أدولف هتلر باسمه لهو أعظم واجباتنا إطلاقًا؛ لأنها مستلهمة من روح الأمة الجرمانية؛ ذلك أن الله وحده أعطاه السلطة، فهو لذلك الرسول الذي أرسله الإله ليذود عن حقوق الجرمان في العالم.

بل لقد تطرف النازيون في هذا الخلط؛ إذ أكد «فابريكوس Fabricus» أن الزعيم هتلر إنما ينتمي إلى «أولئك الذين ينفذون إرادة الله ويحققون حياة السيد المسيح في هذه الحياة الدنيا على نحو منقطع النظير».
ومن أسس التعاليم النازية كذلك أن الجرمان هم سادة الجنس البشري وهم أولئك الذين قُدر لهم من الأزل أن يؤلفوا الطبقة الحاكمة في العالم، ويعتمد النازيون في ذلك على أن الشعب الجرماني أرقى الأجناس البشرية وأنقاها قاطبة، ورغبة في تدعيم هذه السيطرة العالمية ابتدع النازيون ما أسموه «نظرية الدم»، وبمقتضاها وزِّعت أجناس البشر طبقات ومنازل؛ فوضعوا في الطبقة العليا الجرمان أهل الريخ الألماني Reichdeustche، ويليهم في نفس الطبقة العليا الجرمان الذين لا يعيشون في الريخ ويعرفون باسم «الأقرباء Volksgenosse» أو Volksdeutsche. ويأتي بعد هؤلاء النورديون الخلص (أمثال الدانمركيين والنرويجيين والسويديين)، ثم النرلنديون والنورمانديون، ثم الأنجلو سكسون وغيرهم من «الأقرباء» التيوتون. أما الطبقة السفلى فقد وضعوا فيها الزنوج، ثم وزعوا فيما بين هاتين الطبقتين — العليا والسفلى — بقية الأجناس الأخرى بالترتيب التالي: الطورانيون، ومنهم الأتراك والهنغار، ثم المغول، ومنهم الفن والبلغار، ثم الأجناس الخليطة مثل الرومانيين، ثم السلاف، ثم اليهود، ثم شبه الزنوج.

ومما تجدر ملاحظته أن النازيين أخرجوا من هذا التقسيم الكلت واللاتين، على أن يجري اختيار الطبقة التي يليق في نظر النازيين وضعهم فيها حسب الظروف ومقتضيات الأحوال، مسترشدين في إجراء هذا الاختيار بأمور ثلاثة: هي وثوق الصلة والقرابة التي تربط بين هذين الجنسين والأجناس التي تتألف منها الطبقة العليا، ثم درجة نقاوة الدم، وأخيرًا مقدار استعداد هذين الجنسين لممارسة شئون الحكم.

وعدا هذا أنكر النازيون أن آسيا والشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض كانت جميعها مهد الحضارة، بل ادعوا أن أقدم ثقافات العالم إنما ظهرت في البقاع النوردية — أي في طرف بحر البلطيق الغربي — ولذلك سهل عليهم الادعاء بأن عبقرية الجنس الجرماني ونشاطه أو حيويته هما وحدهما اللذان أخرجا إلى الوجود كل ما كان ذا قيمة في عالم الفن والعلم والصناعة. وفضلًا عن ذلك سوَّغ النازيون فكرة السيطرة الجرمانية بادعائهم أن الجرمان من الناحية البيولوجية الصرفة أصلح الأجناس قاطبة للنضال من أجل البقاء، ومن شأن هذه الصلاحية ذاتها أن تمكنهم في النهاية من السيطرة على العالم أجمع، فالأقدار وحدها إذن هي التي اختارت الجنس الجرماني لهذه السيطرة.

وقد ترتب على القول بوقوع الاختيار على الجرمان منذ الأزل لممارسة هذه السيطرة العالمية أن أصبح من الواجب على الجرمانيين ألا يعترفوا بغير قانون واحد، هو ذلك القانون الجرماني الذي يخوِّل هذا الجنس المختار أن يفعل كل ما يحقق في النهاية دعم السيطرة الجرمانية العالمية، مهما كانت هذه الفعال مخالفة للقواعد الخلقية والأحكام القانونية المعروفة، بل رفض الجرمان أن يعترفوا بهذه القواعد والأحكام بدعوى أنها من مخلفات الحضارتين الرومانية والمسيحية، وكل منهما في نظر النازيين حضارة منحلة تمسكت بها أجناس وضيعة ولا يمكن أن يسترشد بمبادئها الجنس الجرماني الرفيع الشأن، سواء أكان ذلك في حياته الداخلية أو في علاقاته الخارجية مع الدول وسائر الأمم. وإلى جانب هذا، اعتبر النازيون أن الغرض من كل نشاط خارجي إنما هو تعزيز الكيان الجرماني الداخلي، حتى يستطيع الريخ أن يبذل بفضل القوة التي يكسبها نشاطًا خارجيًّا جديدًا لا تلبث ثمرة نجاحه أن تندمج في الكيان الجرماني الداخلي، فيبذل الريخ بفضل ذلك نشاطًا خارجيًّا أقوى، وهكذا يستمر هذا النشاط قويًّا مجددًا حتى يتم للجنس الجرماني «المبجل» إحراز السيطرة على العالم، أي إن التنظيم الداخلي في نظر النازيين كان حجر الأساس في بنيان «دولة الزعامة»، والأداة التي لا غنى عنها لتحقيق السيطرة الجرمانية العالمية.

وقد استرشد النازيون في هذا التنظيم الداخلي بقواعد مرسومة أهمها ضرورة استخدام جميع القوى البشرية والمادية الموجودة في الدولة واستغلالها إلى أقصى حدود الاستغلال؛ وذلك لتهيئة أداة الحرب والقتال التي تمكِّن الجرمان من الاستيلاء على الأرض التي يدعي النازيون أن من حقهم أن يملكوها، ثم توطيد مركزهم كأسياد مسيطرين على هذا العالم. وكان معنى ذلك أن يعبئ النازيون جميع الأيدي العاملة ثم أدوات الصناعة والزراعة وسائر وسائل الإنتاج في الدولة، وهو عمل شاق جسيم ما كان يستطيع النازيون أن يقدموا عليه دون الالتجاء إلى الحيلة والدهاء تارة والقسوة الصارمة والغدر تارة أخرى؛ حتى يزيلوا ما يوجد من عقبات داخلية قد تحول دون تنفيذه.

وعلى ذلك فقد اصطنع النازيون الاعتدال في أول الأمر مع مخالفيهم من المواطنين الذين لم ينضووا تحت لواء الوطنية الاشتراكية، وأفاد النازيون من هذا الاعتدال المصطنع؛ لأنهم كما — سبق القول — لم يكونوا بالأغلبية التي تستطيع الانفراد بالحكم عند وصولها إليه، كما استطاعوا عن طريقه تسخير جميع الأيدي العاملة والانتفاع بموارد الثروة التي كان يملكها رجال الصناعة والمال، ولم يكن هؤلاء قد أدركوا بعدُ جسامة الخطر الذي يتهددهم، وكان غرض النازيين من تسخير هذه القوى إعداد آلة الحرب اللازمة لتنفيذ برنامجهم.

وفي سبيل تهيئة وسائل الحرب استرشد النازيون في إدارة شئون الدولة بمبدأ الاكتفاء الذاتي أو الأوتاركية الاقتصادية Economic Autarchy حتى تستطيع الدولة في وقت الحرب مقاومة الحصر البحري إذا استلزمت ذلك خطة الدفاع؛ وحتى تجد من المواد الداخلية المستمدة من إنتاج الأرض ما يكفيها إذا اتخذت خطة الهجوم. أضف إلى هذا أن الأوتاركية الاقتصادية من شأنها إيجاد «الموازنة» بين العوامل الداخلة في تكوين الدولة الاقتصادي، فلا تصبح الدولة صناعية صرفة أو زراعية صرفة. وقد عارض النازيون في أن تظل دولة الريخ صناعية صرفة؛ لأن النازية نظرت دائمًا إلى الزراعة كعمل حيوي لتربية العقل السليم في الجسم السليم، وهي تربية ضرورية لإنشاء ذلك الجنس وتلك الطبقة من السادة الجرمان الذين كان من حقهم ممارسة شئون الحكم والسيطرة على العالم دائمًا.

على أنه مما تجدر ملاحظته أن العمل بمبدأ الاكتفاء الذاتي يحرم على النازيين إنشاء الصلات التجارية مع العالم الخارجي؛ وبخاصة لأنهم كانوا يخشون أن تؤدي هذه الصلات إلى ضياع ذلك الخلق الجرماني «الرفيع» الذي يميزهم من غيرهم كأمة. ومع ذلك أجاز النازيون التجارة، ومع العالم الخارجي في حالات معينة، أهمها: أن تكون هذه التجارة وسيلة يتمكن النازيون بفضلها من تجهيز أداة الحرب وإعدادها بكل سرعة، ثم تحقيق «الاكتفاء الذاتي» نفسه، وذلك إما بافتتاح الأقاليم الغنية بالموارد الطبيعية التي كانت تنقصهم، وإما بتهيئة الوسائل لإنتاج ما يمكن أن يستعيضوا به عن تلك الأشياء التي لم توجد في داخل دولتهم، وهذا فضلًا عن جلب الكماليات التي قد يطلبها الشعب لمجرد الترفيه عن نفسه كالبن مثلًا. ثم أجاز النازيون الاتجار مع الأمم الأخرى إذا نجم من ذلك ربح لهم أو توقعوا إصابة هدف سياسي معين من وراء هذه التجارة.

وكان من قواعد التنظيم الداخلي كذلك أن توجِد الدولة مجتمعًا من أفراد متجانسين في تركيبهم الجثماني والعقلي، وتعمل للمحافظة على كيانه وضمان رقيه؛ وذلك حتى تحقق غرضًا أسمى بفضل إشرافها على التربية والتعليم؛ هو تنشئة أجيال جديدة من الشباب القادرين على حمل السلاح وبذل النفس في سبيل تأدية الرسالة الجرمانية على خير وجوهها، وحرص النازيون لذلك على أن ينشئوا شبابهم تنشئة صارمة؛ حتى يصبحوا قساة غلاظ الأكباد لا يعرفون شفقة ولا رحمة، وأصحاب عجرفة وعُنجهية وكبرياء لا تلين قلوبهم الصلدة لعاطفة حب أو صداقة، بل إن النازيين كانوا يشترطون الالتحام في المعارك الدموية كآخر مرحلة من مراحل التعليم والتربية لتنشئة أولئك الرجال الأفذاذ Supermen الذين تتألف منهم طبقة الأسياد المعدة للحكم والسيطرة. وكانت الأعمال اليدوية الوضيعة من نصيب تلك الشعوب المسخَّرة المغلوبة على أمرها.

ومع أنه كان من واجب الدولة — على حد قول النازيين — المحافظة على كيان المجتمع وضمان رقيه، فقد كان من رأيهم أن على الدولة أن تُضحي بهذا الواجب المزدوج إذا دعت الحاجة الملحة إلى انصرافها بدلًا من تحقيق هذه الغابات إلى امتلاك تلك الأراضي التي كان من حق الجنس الجرماني أن يمتلكها في سبيل الوصول إلى السيطرة العالمية.

•••

هذه إذن كانت أهم القواعد التي بنى عليها النازيون صرح النظام الجديد في أوروبا؛ ومن الواضح أنهم كانوا يعتبرون الجنس الجرماني أرقى أجناس البشر إطلاقًا وأنقاها دمًا، ومن حقه بفضل هذه الرفعة ونقاوة الدم أن يتمتع بالسيطرة على العالم، ولا بد للوصول إلى هذه السيطرة من تسخير سواد الأمة الألمانية لخدمة طبقة السادة الممتازين أصحاب الحكم في الدولة، ثم تسخير سواد الشعوب الأوروبية وشعوب العالم جميعها لخدمة الجنس الجرماني. وكانت دعامة هذا النظام الجديد ومساك حياته «الزعامة المسئولة»، أي تلك الزعامة التي كانت مسئولة في داخل الريخ عن الشعب الألماني، وفي خارج الريخ عن بقية شعوب العالم في النهاية، وهي زعامة تقوم على أساس الطاعة العمياء لشخص الزعيم في جميع التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الريخ وفي أوروبا وفي العالم. وأما رسالة الجنس الجرماني فكانت لا تقتصر على تقويض أركان الحضارة الرومانية المسيحية في أوروبا، بل تريد أن تفرض على الإنسانية نوعًا جديدًا من الحضارة التي عرَّفوها باسم حضارة الصليب المعقوف أو حضارة الأرض والدم، الأرض التي تخلق العقول السليمة في الأجسام السليمة، والدم الذي يخوِّل الجنس الجرماني حق السيطرة العالمية.

•••

وكان النازيون يعتقدون أنه لا مَعْدى لهم عن إخضاع القارة الأوروبية لسيطرتهم الجرمانية؛ حتى يتسنى لهم إحراز السيطرة العالمية. واستندوا في ضرورة امتلاك القارة إلى أنه كما تحتم عليهم أن يقيموا في داخل ألمانيا كتلة صلدة متماسكة قوية تمكن الريخ من احتلال ذلك المركز المعد له في أوروبا، فإنه تحتم عليهم كذلك أن يضموا إلى هذا الريخ أرضًا شاسعة في القارة الأوروبية ذاتها؛ حتى يؤلفوا من هذه الممتلكات كتلة أخرى صلدة متماسكة تمكِّن الجرمانية من فرض سيطرتها التامة على سائر أنحاء العالم؛ لأن النازيين كانوا يعتبرون أوروبا مركز العالم أو المحور الذي يشد إليه ويجذب حوله أقاليم الأرض وبلدانها بفضل الروابط التاريخية والثقافية والاقتصادية والصناعية والعسكرية التي ربطت بين أوروبا وكل أقطار العالم.

ولذلك فكَّر فلاسفة النازيين وجهابذتهم تفكيرًا طويلًا عميقًا في الطرق والوسائل التي يجب أن يتبعوها من أجل «جرمنة» القارة الأوروبية، وأسفر هذا التفكير الطويل العميق عن نظرية عرجاء مشوهة هي نظرية «الحكم بحق الدم»، وهي تكمل في الحقيقة نظرية «الزعامة المسئولة»، ومعناها أن تكون السيطرة الحكومية في جميع البلدان المفتتحة والتي خضعت لقواعد النظام الجديد من نصيب الجنس الجرماني وحده؛ فيباشر أبناؤه شئون الحكم بها ويحرم أهلها في الوقت نفسه من ضمانات القانون الألماني والأنظمة الألمانية التي وضعت لصون نقاوة الدم والشرف الألماني، وكان ذلك منشأ الصلة بين هذه النظرية ونظرية الدم السابقة. بيد أنه مما تجدر الإشارة إليه أن السادة النازيين ما كانوا يقصدون في يوم من الأيام تطهير أو تنقية دماء تلك الأجناس الوضيعة غير الجرمانية؛ لأنهم امتنعوا عن إدماجها في الجنس الجرماني «المبجل».

وعلى ذلك فقد سلك النازيون عند محاولة «جرمنة» أوروبا طريقين: فقد ميَّزوا بين المناطق التي يقطن بها جرمانيون أنقياء الدم — وما زالت واقعة خارج حدود دولة الريخ الثالث وقتذاك — والمناطق التي تقطن بها شعوب غير جرمانية؛ فسموا الأولى «المناطق المفقودة»؛ أي تلك التي خسرها الجرمان في العصور السابقة وبات من واجبهم أن يعيدوها إلى أحضان الجرمانية ويدمجوها في الريخ الألماني بشريطة أن يجري ذلك من غير إعداد أو تهيئة سابقة، فتسري عليها القوانين الألمانية مباشرة وتخضع بمجرد هذا الاندماج لجميع الأنظمة النازية. وأما عند جرمنة المناطق الأخرى فقد وجدوا من الضروري إجراء إعداد وتهيئة سابقة قبل إدماج هذه المناطق في الريخ الألماني نهائيًّا. واتبع النازيون في ذلك عملية ذات شبه كبير بما يعرف بنظام الدوائر ذات المركز الواحد. وتفسير ذلك أن النازيين كانوا يبدءون باعتبار الريخ مركزًا لدائرة أولى يضم محيطها عدة أقاليم تقطن بها أجناس غير جرمانية، فصاروا يعملون لإعداد وتهيئة هذه الأقاليم الواقعة في داخل محيط الدائرة حتى إذا ما فرغوا من ذلك أدمجوها في مركز الدائرة وهو الريخ الألماني واستطاعوا بفضل ذلك أن يؤلفوا من الريخ والأقاليم المندمجة فيه مركزًا ثانيًا لدائرة أخرى جديدة أجروا بداخلها نفس العملية، وهكذا دواليك حتى يتمكنوا من «جرمنة» شطر من القارة الأوروبية قبل أن تنزل بساحتهم الهزيمة.

وكان الأسلوب الذي اتبعه النازيون في تهيئة وإعداد الأقاليم التي أرادوا إدماجها في الريخ الألماني سهلًا، قوامه ضمان سيادة الجنس الجرماني أولًا، ثم ربط هذه الأقاليم بالريخ الألماني ربطًا وثيقًا من الناحية الاقتصادية على أساس أن يكون الغُنْم كله في نصيب الألمان والغُرْم كله واقعًا على الأهلين الذين صاروا يسخِّرون في خدمة الريخ. وفضلًا عن ذلك فإن النازيين ما كانوا يتورعون عن استخدام جميع الحيل والطرق الشيطانية لإبادة العناصر الأجنبية في الأقاليم التي أرادوا إعدادها قبل إدماجها في الريخ. فكان من وسائلهم تلك الهجرة الاختيارية التي أسفرت عن «إرغام» اليهود على مغادرة ألمانيا، ثم اقتلاع أسرات بأكملها من مواطنها بقضها وقضيضها للعيش والعمل في مناطق غريبة بعيدة، كما فعلوا مع التشيك واليهود في بقية أوروبا، ثم إقفار البلاد من أهلها وسكانها، وذلك بمنع النسل إما بالتفرقة بين الزوج وزوجه على غرار ما فعلوا مع البولنديين عندما نقلوهم للعمل الإنتاجي في الريخ، وإما بتعقيم الأفراد تعقيمًا إجباريًّا، أو العمل بنصيحة فلاسفة النازيين أمثال «بانز Banse» و«جونثر Geunther» وغيرهما ممن أشاروا باستخدام الطرق العلمية لتقليل العناصر الأجنبية أو إبادتها، وكان غرضهم من ذلك التخلص من البولنديين وإفناءهم، ومن هذه الطرق قتل المرضى وذوي العاهات بدعوى الإشفاق عليهم من أن تستبد بهم الآلام على نحو ما فعلت ألمانيا مع الأشرار والمعتوهين والمرضى الميئوس من شفائهم وغير المرغوب في وجودهم عمومًا. واستطاع النازيون أن يقتلوا حوالي مائة ألف شخص في داخل الريخ نفسه في مدة عامين «١٩٣٩-١٩٤٠»، وتولى هذا العمل الرهيب رجال الجستابو، فاختاروا مراكز هذه المجزرة في البلدان الثلاثة الآتية: «جرافنيك Grafeneck» بالقرب من «شتوتجارت»، «هارثيم Hartheim»، و«بيرنا Pirna» بالقرب من درسدن.
وكان من أثر هذه الأساليب الجهنمية أن انتشرت «موجات الانتحار» التي ذهب ضحيتها كثيرون في بلدان أوروبا المقهورة، من ذلك ما جاء في جريدة «لونوفوطان» البارسية في عدد ١٦ يناير ١٩٤١ أن حوالي نصف سكان بلدة «أبفيل Abbeville» القريبة من ساحل القنال الإنجليزي لقوا حتفهم في موجة انتحارية غريبة جعلت هؤلاء المنكوبين يُلقون بأنفسهم في نهر «السوم»، أو يختفون من عالم الوجود دون أن يتركوا أثرًا وراءهم، وقد اتضح بالكشف الطبي على بعض الجثث التي أمكن العثور عليها في النهر أن الوفاة إنما حدثت جراء ضربات شديدة على الرأس بآلة ثقيلة، أي إن الوفاة لم تكن بسبب الغرق.

•••

وقد كسب الألمان الجولة الأولى من معركة السيطرة على أوروبا، وفي أثناء الأعوام الثلاثة الأولى من انتصارهم ظهر كأنما قد توطدت أركان قلعتهم الأوروبية نهائيًّا، فمضوا يطبقون النظام الجديد في البلدان التي افتتحوها واحتواها الريخ الثالث ضمن حدوده.

وظهر عند تطبيق النازيين هذا النظام الجديد أنه كان يشتمل على ناحيتين: إحداهما سياسية، والأخرى اقتصادية، يتممان بعضهما بعضًا، وهدفهما المشترك فرض السيطرة الجرمانية على القارة الأوروبية، مستندين إلى ذلك التراث التاريخي القديم الذي انحدر إليهم من دولة الجرمان العنيدة ذات السيطرة على أوروبا في العصور الوسطى. وعلى ذلك فقد ارتكزت الفكرة الرئيسية التي قامت عليها «جرمنة» أوروبا على جوهر التنظيم الأوروبي في تلك العصور؛ فقد أنكر النازيون أن العالم الأوروبي استطاع خلال القرون العشرة الماضية أن يقطع شوطًا بعيدًا في تكوينه الاقتصادي والسياسي حتى ظهرت تلك الدول التي جمعها إطار الخريطة الأوروبية في عام ١٩٣٩، وهي الدول التي بنت وجودها في الحقيقة على قيام «الدولة الوطنية» منذ أن أخذ في التصدع كيان العصور الوسطى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عصر النهضة الأوروبية الحديثة، وعلى وجه الخصوص منذ بزغت شمس القرن السادس عشر. فمن أقوال «ألفريد روزنبرج» المشهورة: «كانت الدولة الوطنية المثل الأعلى الذي أرادت أن تحققه الثورة الفرنسية، أما الثورة الوطنية الاشتراكية العظيمة (أي الثورة النازية) فقد تمخضت عن مولود جديد، هو الإمبراطورية الجنسية … ولذلك ينبغي أن تزول الدولة الوطنية من الوجود أو تتحول إلى إمبراطورية قوامها الجنس وحده.»

ولما كان النازيون ينقمون على الحضارة الأوروبية أنها يهودية مادية ويريدون إزالتها، فقد سهل على الدعاية النازية كخطوة تمهيدية، وفي سبيل الدعوة إلى السيطرة الجرمانية أن تمجد تراث العصور الوسطى على اعتبار أن الحضارة في تلك العصور بلغت أوجها في الفترة التي ظهر الجرمان فيها قوام الإمبراطورية الرومانية المقدسة. فذكرت إحدى صحفهم Deutsche Allegemeine Zeitung في عدد ٢٧ يناير ١٩٤١:

لا نجد — نحن الألمان — ما يخجلنا من العصور الوسطى، بل على العكس من ذلك كانت تلك العصور فترة من الزمن تثير الإعجاب وتدعو حقًّا إلى الفخر بها؛ لأنها أنتجت نوعًا من الحضارة أو الثقافة الممتازة، وهذا على الرغم من ذيوع بعض الآراء الطريفة التي نجح الإنجليز في الإيحاء بها إلى الأمريكيين عن هذه العصور، حتى انطبعت في أذهان هؤلاء كأنها حقائق ثابتة.

وقبل ذلك ببضعة أعوام ذكر «ملر فان در بروك Moeller Van Der Bruck» في كتابه الذي ظهر عن ألمانيا وإمبراطوريتها الثالثة، في عام ١٩٣٤:

نحن لا نفكر في أوروبا القائمة اليوم؛ لأنها حقيرة وتافهة، ولكنا نفكر في تلك التي قامت بالأمس، والتي سوف تقوم في الغد بفضل ما يمكن انتشاله وإنقاذه منها! نحن نفكر في ألمانيا الخالدة على ممر الأيام والدهور! في ألمانيا القديمة! أي تلك التي مضى ألفان من الأعوام على ظهورها.

وقبل ذلك أيضًا ذكر الأستاذ «بانز Banse» في كتابه عن «المجال والأمة في عالم الحرب»:

إن من واجب النهضة الجرمانية أولًا أن تعمل على بعث الروح الجرمانية من الأعماق ثقافيًّا وسياسيًّا، على أن يكون من غرضها جعل التفكير والحديث والنشاط «أو العمل» جرمانيًا خالصًا في الأرض الجرمانية، ومن واجبها ثانيًا أن تجعل الأرض التي تقطن بها شعوب جرمانية داخلة بأملاكها ضمن حدود دولة موحدة قوية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون الدولة الألمانية المعروفة بحدودها المرسومة في عام ١٩١٤.

وفي الواقع أراد النازيون إعادة الخريطة الأوروبية إلى ما كانت عليه بين عامي ٩١٨–١٢٦٨ ميلادية، أي من وقت قيام أسرة سكسونيا إلى سقوط آل هوهنشتاوفن، فنشروا في كتاب المطالعة الأولية للشبيبة الهتلرية خريطة بعنوان «الجرمان يحققون وحدة أوروبا»، وهي خريطة الإمبراطورية الرومانية المقدسة حوالي عام ١٠٠٠ ميلادية، أي بحدودها الممتدة من جنوبي مملكة الدانمرك في الشمال إلى أعلى الحذاء الإيطالي في الجنوب، وتقع في داخل حدود هذه الإمبراطورية الجرمانية كل من دوقية بوهيميا ومارك «أو عواصم» مورافيا والنمسا ودوقية كارينثيا وفريزلند ودوقية اللورين، وكل هذه كانت تقطن بها شعوب جرمانية. وفي شرقي هذه الحدود رسم النازيون دوقية بولندة ثم مملكة هنغاريا. وفي الغرب رسموا مملكة برجنديا. وقد أظهر النازيون في هذه الخريطة مملكة الدانمرك ودرقية بولندة ومملكة هنغاريا ومملكة برجنديا كدويلات أو إمارات تدين بالتبعية والطاعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة.

هذه إذن كانت الخريطة التي أراد النازيون أن يرسموها للمجتمع الأوروبي الحديث؛ لإحياء المجد القديم على حد قولهم؛ أو لتحقيق سيطرة السادة الجرمان على أوروبا. وفي السنوات الثلاث الأولى استطاع النازيون إدراك ما أرادوا إلى حد كبير، ذلك بأنهم أدمجوا في الريخ الثالث كل المناطق الجرمانية مثل النمسا «التي سُميت بالعواصم الشرقية Ostmark»، والسوديت ودانتزج والممر البولندي، وأقاموا من دانتزج والممر البولندي ما أسموه الأقليم أو المقاطعة الشرقية Ostgebiet، وأسموه كذلك إقليم الملاحظة أو المراقبة Warthegau، وعينوا عليه حاكمًا هو «زعيم الإقليم Gauleiter»، ثم أدمج النازيون أرض «أوبين ومالميدي Oupen et Malmédy»، وكانت هذه مقاطعة بلجيكية منذ عام ١٩١٩، ثم اللورين على أن تكون جزءًا من مقاطعة ألمانية أسموها العواصم الغربية Westmark. وفضلًا عن ذلك عمد النازيون إلى تهيئة كل من لكسمبرج والإلزاس وشلزويج-هولشتين الدانمركية لإدماجها جميعًا في الريخ الألماني، واتخذوا من التدابير ما يكفل ذلك، فأبعدوا العناصر الأجنبية القاطنة بها كاليهود أو الفرنسيين أو البولنديين، ثم جعلوا «الريخمارك» العملة المتداولة قانونًا في هذه الأقاليم وأدخلوا لكسمبرج والإلزاس واللورين ضمن سياج ألمانيا الجمركي. وقد مر بنا كيف جزَّأ النازيون تشيكوسلفاكيا وأنشئوا من بوهيميا ومورافيا حكومة واحدة وضعوها تحت الحماية الألمانية. على أن هذه «الحماية» ما لبثت أن أُدمجت في الريخ الثالث ابتداءً من أول أكتوبر ١٩٤٠.
وكان من أثر الهدنة التي وقعها الألمان مع الفرنسيين في غابة «كوومبين Compiègne» في ٢٢ يونية ١٩٤٠ أن رسمت خريطة فرنسا على نحو أسفر عن اقتطاع جميع الأرضين التي كانت تقطن بها شعوب جرمانية حوالي عام ٩٠٠ ميلادية، ثم انضمام هذه الأراضي من الناحية العملية إلى ألمانيا. فقد استرشدد النازيون باعتبارات عسكرية واقتصادية معينة عندما احتلوا أقاليم السواحل الفرنسية المطلة على القنال الإنجليزي والمحيط الأطلنطي، ولكن هذه الاعتبارات وحدها لا تفسر سبب استيلائهم على شمبانيا وبرجنديا وإقليم جبال الجورا الصخرية. ومن السهل معرفة السبب الذي دعاهم إلى احتلال هذه الأقاليم إذا روجِعت خريطة «شعوب أوروبا حوالي سنة ٩٠٠م»، وهي خريطة رسمها «شبرد W. R. Shepherd» في أطلسه التاريخي المعروف؛ إذ يتضح من هذه الخريطة أن النازيين إنما اقتطعوا من فرنسا جميع الأقاليم التي كانت تسكنها شعوب جرمانية حوالي القرن التاسع الميلادي.
ولم يقف النازيون عند ذلك بل إنهم جزَّءوا يوغسلافيا؛ فأنشئوا «دولة كرواتيا الجديدة Croatia» في مايو ١٩٤١، ورسموا لها نفس الحدود التي كانت لمملكة كرواتيا القديمة حوالي عام ١٠٠٠ ميلادية، ثم أدمجوا في الريخ أجزاء يوغسلافيا الأخرى التي كانت تابعة للمملكة الجرمانية أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة في ذلك الحين، وهي «كرنيولا Carniola وسلوفينيا».
أما بولندة التي كانت في القرن العاشر الميلادي تدفع الجزية للإمبراطورية الرومانية المقدسة — أي للأمة الجرمانية — فقد أراد النازيون أن يقيموا بها «حكومة» على غرار دوقية بولندة القديمة، ولم يكن يقطن بها جرمانيون؛ ولذلك فإنه بمجرد إخضاعها واقتطاع تلك الأراضي التي اقتسمتها فيما بينها كل من ألمانيا والروسيا وسلوفاكيا، أنشأ الريخ مما تبقى من أرضها الحكومة العامة لبولندة Le Gouvernement Général، وعين «هانز فرانك Hanz Frank» حاكمًا عليها ويعد من فطاحل رجال القانون النازيين، وكان يشغل وقتذاك منصب وزير العدل في الريخ الألماني. ولما كان معروفًا أن نظرية نقاوة الجنس الجرماني تمنع النازيين من محاولة «جرمنة» العناصر الأجنبية؛ فقد أصبح من المتوقع أن تظل هذه «الحكومة العامة» بمثابة دولة بولندية يقطن بها إلى جانب البولنديين أولئك اليهود الذين طردهم الألمان من البلاد التي استحوذوا عليها، وخصص النازيون لإقامة اليهود مساحة معيشة عند لوبلين Lublin قرب الطرف الجنوبي الشرقي لهذه «الحكومة العامة»، واهتم النازيون بتوثيق الروابط الاقتصادية بين هذه «الحكومة العامة» وألمانيا على أساس استغلال مرافق البلاد لفائدة الريخ وتسخير أهلها في خدمته. غير أن سرعان ما حدث في ١٥ أغسطس ١٩٤٠ أن أفصح «هانز فرانك» عن نوايا الريخ الجديدة عندما قال: «نحن نقيم الآن في هذه البلاد وكجرمانيين لن نغادرها أبدًا؛ ولذلك فإنا سوف نعامل هذه البلاد في المستقبل كجزء لا يتجزأ من ألمانيا الكبرى، لا غنى عنه لمجال قوتها Macht-raum ولن يُنظر إليها على أنها أقاليم محتلة فحسب.»
وكان مما دعا النازيين إلى تغيير خطتهم الأولى أنهم وجدوا من السهل عليهم بعد انتصاراتهم الساحقة في مايو ١٩٤٠، أن يتبعوا أسلوب «الدوائر ذات المركز الواحد» من أجل جرمنة بعض أجزاء بولندة المتاخمة للريخ، فأرادوا إنشاء كتلة جرمانية من تلك «الحكومة العامة» التي أسسوها، وذلك بإقصاء وإبادة العناصر البولندية وغيرها من العناصر التي كانت تقطن بهذا المركز الجديد الذي أرادوا إنشاءه، فضلًا عن التمهيد لإعداد دائرة الحكومة العامة قبل إدماجها في الريخ الألماني. وبناء على ذلك ألغى الألمان في ديسمبر ١٩٤٠ «الرعوية البولندية» قانونًا، وأصبح البولنديون في وضعهم الجديد بمثابة «القُصَّر» أو «المحميين Schutzgbefohlene»، ثم ما لبث حتى ظهر أثر تطبيق النظام الجديد من الناحية العملية في فرض ضريبة إضافية قدرها ١٥٪ يدفعها البولنديون المقيمون في الحكومة العامة، علاوة تلك الضرائب التي تدفعها الطبقتان الأخريان: طبقة جرمان الريخ Reichdeutsche، وطبقة الجرمان الأقرباء Volksdeutsche، أي إن البولنديين صاروا هم واليهود في مستوى واحد، وكانت هذه الضريبة الإضافية تُدعى ضريبة «الموازنة الاجتماعية Sozialausgleichsabgabe» وكان الغرض من ذلك أن يدفع البولنديون الضريبة الإضافية — على حد قول النازيين — كنوع من التكفير أو التعويض عن ذلك المركز الوضيع الذي كانوا يشتغلونه بالقياس إلى مركز طبقة الجرمان الرفيعة الشأن، ولم ينتظر الهتلريون حتى تتم عملية إعداد «الحكومة العامة» لإدماجها في الريخ الألماني نهائيًّا، بل عمدوا إلى تجزئة أرضها إلى إقطاعيات أُعطيت للنازيين الذين صاروا يؤلفون طبقة «البارونات» على غرار ما حدث إبان العصور الوسطية. ومما عزَّز هذا التنظيم الإقطاعي، أن العلاقة بين الجرمان «النازيين» والشعب البولندي كانت تشبه في جوهرها علاقة السيد برقيق الأرض في إقطاع العصور الوسطى. وفضلًا عن ذلك فقد اختار النازيون الموظفين الذين أوفدوهم إلى بولندة لتطبيق «النظام الجديد» بها من حثالة القوم، ثم تفتق ذهنهم عن اصطلاح جديد أضافوه إلى معجم اللغة الألمانية، ترجمته الحرفية «صالح أو لائق للخدمة في بولندة Polendiensttauglich» وكانوا يطلقونه على كل شخص سيئ السمعة يميل إلى الإجرام وإتيان المخازي. فإذا ارتكب أحد الألمان جرمًا يستحق عقوبة الحبس طبع النازيون على تذكرة تحقيق الشخصية أو بطاقة العمل المعطاة له كلمة «لائق للخدمة في بولندة»، أما إذا تكرر إجرامه أُلحق على الفور بالخدمة في بولندة.

•••

وفي الواقع كان هناك — عدا ما ذكرنا — أدلة كثيرة تشير إلى رغبة النازيين في الرجوع بأوروبا إلى التنظيم الذي كان سائدًا خلال العصور الوسطى، على أن المهم في ذلك كله أن هؤلاء النازيين كانوا متأثرين بالاعتبارات التاريخية والسياسية والاقتصادية والعسكرية التي سلف بيانها، فأرادوا فتح القارة الأوروبية بأسرها: من «نارفيك» شمالًا، إلى بحر إيجه جنوبًا؛ حتى يمكنهم اتساع رقعة ممتلكاتهم من امتلاك ذلك المجال الذي عدوه ضروريًّا لاستمرار حياتهم Lebens raum وقوتهم Macht raum. وقد أدرك هذه الأطماع الظاهرة حلفاء النازيين وأولئك الذين تعاونوا معهم؛ فاعترف «موسوليني» في خطاب له في ٢٣ فبراير ١٩٤١ بدخول كل من فرنسا المحتلة وبلجيكا وهولندة ولكسمبورج، وإسكندناوة والدانمرك في نطاق النفوذ الألماني. وكان هناك ميدان واحد فحسب يستطيع أن يجد فيه مجالًا للتوسع حلفاء النازيين والمتعاونون معهم من أمثال إيطاليا وإسبانيا، ولم يكن هذا الميدان سوى القارة الأفريقية.

•••

أما وقد أفلح النازيون إلى حد كبير في تحقيق حلم العصور الوسطى ورسموا للقارة الأوروبية تلك الخريطة التي مكنهم انتصارهم من تخطيطها، فإن معرفة النتائج التي أسفر عنها تطبيق النظام الجديد في البلدان المفتوحة من شأنه أن يبين مقدار ما لحق بالشعوب المقهورة من أذى جسيم في عهد السيطرة النازية؛ إذ إن تطبيق النظام الجديد من الناحية الاقتصادية خاصةً كان معناه سلب الشعوب المغلوبة ونهب كنوزها وتجريدها من وسائل العيش وحرمانها حق الحياة في أمن واستقرار، وقد اتبع النازيون عدة أساليب شيطانية حتى يُكسبوا سرقاتهم الصبغة القانونية؛ كابتكار ما أسموه سياسة الريخمارك، وإصدار أوراق نقد معينة، وسك قدر من العملة الصغيرة كي يستخدمها الجنود الألمان في البلدان التي افتتحوها، ثم المطالبة بنفقات الاحتلال الألماني في أوروبا المحتلة، هذا عدا أعمال السلب والنهب سافرة كانت أو مقنعة مما يدخل في قائمة الأسلاب والمغانم.

وكان المقصود من سياسة الريخمارك أن يصبح «المارك الألماني Reichmark» العملة المتداولة قانونًا في جميع البلدان التي خضعت لسيطرة النازيين؛ وذلك حتى يسلب النازيون الشعوب المغلوبة على أمرها وينهبوها، فقد عمد النازيون إلى وضع سعر «المارك» حسب مشيئتهم وأهوائهم، يرفعون قيمته أو يخفضونها تبعًا لما كان عليه سعر العملة المحلية في البلدان المفتتحة، فتجدهم مثلًا في هولندة ولكسمبرج وأوبين ومالميدي وغيرها يرفعون سعر المارك بدرجة عظيمة حتى تصبح العملة المحلية رخيصة بالقياس إلى الريخمارك مع أنها كانت تلك البلدان ذات قيمة أعلى من قيمة المارك الألماني قبل الغزو النازي، وفي البلدان التي أدمجها النازيون مباشرة في الريخ الثالث مثل دانتزج والنمسا وغيرها خفَّض هؤلاء سعر المارك الألماني حتى تصبح قيمته متساوية مع قيمة العملة المحلية وكان سعر هذه العملة أقل من سعر الريخمارك قبل الفتح الألماني. ومما هو جدير بالذكر أن رفع الريخمارك وخفضه كان من حيث الشكل عملًا قانونيًّا لا غبار عليه.
وكان المقصود من خفض سعر الريخمارك صون العلاقات التجارية والاقتصادية واستقرار هذه العلاقات بين البلدان التي أراد النازي إدماجها في الريخ وبين الريخ نفسه، أما في غير ذلك من البلدان التي كانوا لا يريدون إدماجها في الريخ فإنهم كانوا يقصدون من رفع سعر الريخمارك إعطاء الفرصة للألمان حتى يتمكنوا من شراء منتجاتها بأبخس الأثمان فضلًا عن استطاعتهم أن يبيعوها المنتجات الألمانية بأثمان باهظة، أضف إلى هذا أن بعض هذه البلدان التي قصد النازيون أن ينهبوها كان يقطن بها عناصر أجنبية كالبولنديين في «وارثجو Warthegau» والبلجيكيين والفرنسيين في لكسمبورج والبلجيكيين في «أوبين ومليدي»، وكان هؤلاء يمتلكون الشطر الأكبر من ثروة هذه البلاد المادية والنقدية. وعلى ذلك أعطى رفع الريخمارك الفرصة للنازيين حتى يغتصبوا لأنفسهم تلك الثروة بأقل ثمن ممكن، وعلاوة على ذلك فإنه لم يكن يقصد من وضع سعر للريخمارك على هذا النحو الاستيلاء على السلع والمنتجات والغلات الزراعية فحسب، بل تمكين الألمان على وجه الخصوص من شراء أسهم الشركات والمؤسسات الصناعية والمالية بأثمان بخسة؛ أي الاستيلاء على شطر كبير من رءوس الأموال — منقولة كانت أو ثابتة — كخطوة لا غنى عن اتخاذها في تلك البلدان المفتوحة؛ تمهيدًا لفرض سيطرة الجرمان الاقتصادية على أوروبا بأجمعها في النهاية.

وقد ظهر أثر وضع سعر للريخمارك في التبادل التجاري كذلك بين الريخ الألماني، وتلك البلاد التي خضعت لسلطان النازيين، فمن المعروف أن التجارة الدولية تؤثر دائمًا في سعر العملة؛ بمعنى أنه إذا زادت صادرات دولة عما تستورده نتج عن ذلك «فائض» في ميزانها التجاري، واعتُبر ذلك في صالحها، كما أنه ينهض دليلًا على أن السعر يرتفع في الدولة المستوردة عما هو عليه في الدولة المصدرة، وفي ظروف التجارة الدولية العادية، تسعى الدول التي زادت وارداتها على صادراتها من أجل إعادة الموازنة وإزالة هذا «الفائض» باتخاذ وسائل شتى معروفة، من أهمها محاولة زيادة الصادرات، وعقد القروض الخارجية، والدفع من أرصدة الذهب وغير ذلك. ولكن التبادل التجاري بين الريخ الثالث والبلدان المفتتحة كان يخضع لقواعد أخرى.

فقد عمد النازيون من أيام الفتح الأولى إلى استنزاف جميع منتجات الدول المغلوبة على أمرها لحاجتهم إلى هذه المنتجات، صناعية كانت أم زراعية، فعظمت صادرات الدول المفتتحة إلى الريخ دون أن تستطيع استيراد شيء يذكر من ألمانيا، ونجم عن ذلك أن صار لهذه الدول كافة «فائض» لمصلحة ميزانها التجاري، أي إن الريخ الألماني أصبح — بمعنى آخر — مدينًا لهذه الدول بمبالغ طائلة، حتى لقد بلغ دين الدانمرك على الريخ الثالث حتى يوم ٣٠ نوفمبر ١٩٤١، ٨٤٩ مليون كرونر، وهذا فضلًا عن قروض من نوع آخر نشأت من قيام الدنمرك بنفقات الاحتلال الألماني لبلادها، وقد بلغت هذه النفقات حتى ٣١ ديسمبر ١٩٤١ حوالي ٩٠٧ ملايين؛ أي إن الاحتلال الألماني كلف هذه البلاد مدة عام ونصف ما يزيد على ١٧٠٠ مليون كرونر. وفي أول يناير ١٩٤٢ بلغ دين الدانمرك على ألمانيا ٢٠٠٠ مليون كرونر.

ومع هذا، فقد منع الألمان تلك الدول «المصدرة» التي ظلت دائنة للريخ بأموال طائلة من أن تستورد من دولة أدولف هتلر شيئًا من تلك السلع والمتاجر اللازمة لها، والتي كان لا غنى عن استيرادها؛ حتى تتعادل كفتا الميزان التجاري بين الريخ وهذه الدول المغلوبة على أمرها من جهة؛ وحتى تستخلص هذه الدول ما كان لها من ديون جسيمة على ألمانيا من جهة أخرى. وقد ابتكر شيطان النازي وسيلة أخرى للإمعان في نهب الأمم المقهورة؛ إذ صار الريخ يمتنع عن دفع أثمان السلع المصدرة إليه بدعوى عدم إخراج العملة الألمانية من الريخ، واعتاض عن ذلك بأن صار يطلب إلى البنوك المركزية في البلدان المفتتحة أن تقوم بسداد المطلوب من الريخ لحساب تلك البلاد على شريطة أن يكون الدفع بالعملة المحلية الوطنية نفسها؛ فلا يكون السداد بالريخمارك الألماني. ولما كانت قيمة الريخمارك تزيد كثيرًا على قيمة العملة المحلية حسب السعر الحكومي في البلدان المنهوبة فقد ترتب على ذلك أن أضحت الأثمان التي يدفعها النازيون للسلع والمتاجر المصدرة إليهم بخسة ضئيلة، وعلاوة على ذلك كان معنى تكليف البنوك المركزية بالدفع من الناحية العملية خصم هذه الأثمان من حساب نفقات الاحتلال الألماني التي فرضوها على البلدان المختلفة. وبفضل هذه الأساليب الملتوية صار الألمان يستولون على منتجات البلاد المقهورة، دون أن يدفعوا شيئًا من أثمانها. ولا جدال في أن هذا العمل كان ضربًا من السرقة يستره قناع قانوني زائف.

وكان من خطط النازيين عند فرض السيطرة الجرمانية الاقتصادية على أوروبا اتخاذ برلين مركزًا للتجارة الأجنبية في هذه القارة؛ حتى تحتل برلين ذلك المركز الممتاز الذي استمتعت به لندن في عالم الاقتصاد والمال قبيل الحرب الأخيرة، فأصروا على أن تجري المعاملات التجارية والمالية بين أية دولة وأخرى عن طريق برلين دائمًا؛ مثال ذلك أنه إذا كان أحد الهولنديين مدينًا بمبلغ من المال لشركة بلجيكية، فإنه يستحيل عليه أن يسدد حسابه بالدفع رأسًا إلى الشركة البلجيكية، بل صار حتمًا عليه أن يدفع هذا الدين بالريخمارك إلى مؤسسة معينة أنشأها الألمان في برلين لمباشرة جميع العمليات التجارية والمالية الخاصة ببلجيكا، فتتولى هذه المؤسسة الدفع بالريخمارك إلى الشركة البلجيكية. أما ما كان يحدث فعلًا فهو أن تكلف هذه المؤسسة «البنك المركزي» في بلجيكا بأن يقوم هذا البنك بعملية الدفع من حساب نفقات الاحتلال بالطريقة التي سبق بيانها، أضف إلى ذلك أن الألمان كانوا يحتمون على الدول المحتلة التي تتبادل التجارة فيما بينها أن تودع برلين مبلغًا من الريخمارك يُرصد لحسابها، ويُستخدم في أعمال التصفية التجارية. ويتكون هذا الرصيد بسبب إرغام هذه الدول على تصدير منتجاتها إلى الريخ ومطالبتها بتأدية خدمات مالية معينة وإجبارها على إعطاء ضمانات من الذهب والسندات وما إلى ذلك من وسائل أخرى. بيد أن هذه الدول ما كانت تحصل على شيء من الريخ في مقابل إنشاء هذا الرصيد، ذلك بأن الريخ درج دائمًا على الدفع عن طريق البنوك المركزية بالأساليب التي سبق ذكرها. على أن الريخ إلى جانب ذلك كله كان يحصل على عمولة كبيرة في نظير قيامه بهذه العمليات المالية والتجارية بين الدول. فكان من نتائج ذلك كله أنه أصبح من المتعذر على أية دولة من الدول التي خضعت لسلطان النازيين أن تنظم شئون حياتها الاقتصادية على النحو الذي كانت تقتضيه مصلحتها أو بما يمكنها على الأقل من مواجهة مطالب الألمان الاقتصادية والمالية المرهقة.

وثمة ترتيب آخر ابتكره النازيون لصرف مرتبات جنودهم في البلدان المحتلة؛ فقد اخترعوا ما أسموه «سندات إذنية عسكرية Wehrmachtspverflichtung»، وكانت هذه من فئات كبيرة «٥٠٠٠٠ ريخمارك فما فوق» وتحمل تعهدًا بدفع قيمتها، وقصر التعامل بهذه السندات الإذنية العسكرية على البلدان التي تصدر فيها، ومنع التعامل بها في داخل الريخ نفسه، كما أنه تعذر تحويلها إلى الماركات الألمانية بالرغم من أن القيمة المدونة بها كانت بالريخمارك. ثم طبع النازيون أوراق بنكنوت أسموها أوراق مكاتب أو بنوك الأقراض الألمانية Reichskreditkassenscheine ومهمة هذه المكاتب أو البنوك إصدار أوراق البنكنوت من الفئات الصغيرة «٥٠، ٢٠، ٥، ٢، ١، ٠٫٥٠ ريخمارك»، علاوة عن سك عملة نقدية صغيرة للمعاملات اليومية، وكان من المتعذر كذلك التعامل بهذه الأوراق والنقود خارج المنطقة المحتلة التي كانت تصدرها ومن باب أولى الريخ نفسه. على أنه مما تجدر ملاحظته أن تلك السندات الإذنية وأوراق البنكنوت ما كانت في الحقيقة إلا وسيلة لإقراض مبالغ معينة للجنود الألمان تمكنهم من شراء منتجات البلدان المحتلة، وذريعة يتخذها الريخ للامتناع عن صرف مرتبات الجنود بالعملة الألمانية حتى لا تنتقل العملة الألمانية إلى البلدان المفتوحة أو تنفق بها. وفضلًا عن ذلك أُرغمت «البنوك المركزية» في البلدان المحتلة على قبول هذه السندات الإذنية والبنكنوت والنقود وتحويلها إلى عملة محلية، على أن ترصد في مقابل ذلك السندات الإذنية العسكرية وغيرها لحساب الريخ الختامي فتخصم قيمتها من نفقات الاحتلال، ووعد النازيون بتسوية حساباتهم في آخر الأمر مع البلدان المحتلة عند انتهاء الحرب. وبلغت قيمة ما أصدرته البنوك المتنقلة في بولندة في العامين الأولين من الاحتلال ١٠٠٠ مليون ريخمارك، وفي النرويج والدانمرك ٥٠٠ مليون. وعندما امتدت الحرب إلى الأراضي المنخفضة صدر قرار في ١٥ مايو ١٩٤٠ أجاز لتلك البنوك إصدار أو «إقراض» ما قيمته ٣٠٠٠ مليون ريخمارك لقوات الاحتلال النازية وهيئاتها في الدنمرك والنرويج وهولندة وبلجيكا ولكسمبورج وفرنسا، فبلغت قيمة ما صدر حتى أواخر عام ١٩٤١ في جميع البلدان المحتلة — ما عدا تشكوسلفاكيا — ٤٠٠٠ مليون ريخمارك أو حوالي ٣٤٠ مليون جنيه إنجليزي. ولم يكن إصدار هذه السندات الإذنية وما إليها يستند إلى غطاء كاف من الذهب أو غير ذلك من الضمانات الثابتة. ثم ما لبثت كمية الأوراق والعملة المتداولة أن زادت، ولكن اختفت من الأسواق السلع والمنتجات؛ لأن الألمان كانوا يستولون عليها أولًا بأول، مما أدى إلى تضخم في النقد كبير، ارتفعت بسببه أثمان الحاجيات ارتفاعًا فاحشًا جعل الشعوب المقهورة وقتذاك تعيش في ضنك وبؤس شديدين.

وكانت «نفقات الاحتلال الألماني» من وسائل السلب والنهب التي تفتقت عنها أذهان النازيين؛ فقد استغلت الدعاية النازية في البلدان المحتلة مسألة تعويضات الحرب التي فرضها الحلفاء على ألمانيا المهزومة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وطفق دعاتهم يتحدثون عن تلك الأضرار البليغة التي أصابت بلادهم بسبب هذه التعويضات، ثم أخذوا يطمئنون الدول المقهورة بأنهم بالرغم من انتصارهم لا يريدون أن يفرضوا أية تعويضات من ذلك النوع عليها، بل يكتفون عوضًا عن ذلك بتحصيل النفقات التي يسببها احتلال الجنود الألمان لبلادهم حتى إذا وضعت الحرب أوزارها لم يعد للريخ وجه للمطالبة — كما فعل الحلفاء في الحرب السابقة — بأية تعويضات عند عقد الصلح النهائي. ولم يكن ذلك كله إلا وعودًا كاذبة؛ لأن الغرض من نفقات الاحتلال كما فرضها الألمان على البلدان المحتلة إنما كان مجرد السلب والنهب، ذلك بأن النازيين لم يقدروا قيمة نفقات الاحتلال على أساس ما كانت تستطيع أن تدفعه البلدان المفتتحة دون إرهاق لمواردها أو تعطيل لمرافقها وإنتاجها؛ بل إنهم لم يحاولوا اتخاذ ما يتكلفه جند الاحتلال الألماني من نفقات — معتدلة كانت أم فادحة — أساسًا لتقديرهم، وإنما قدَّر النازيون نفقات الاحتلال على أساس ما كانت الدول قبيل انهيارها قد خصصته من أموال في ميزانياتها للدفاع عن سلامتها في أثناء الحرب، مع العلم بأن النفقات المخصصة للدفاع في أوقات الحروب إنما هي نفقات غير عادية، ويستلزم تقديرها تقليل المصروفات في أبواب الميزانية الأخرى. وعلى ذلك كانت نفقات الاحتلال التي طلبها النازيون جسيمة مرهقة بلغت نسبتها في فرنسا مثلًا ١٤٠٪ من مجموع ميزانية الحرب في عام ١٩٣٩، وفي بوهيميا ومورافيا حوالي ١١٤٪ من مجموع ميزانية الحرب في تشيكوسلوفاكيا للعام نفسه، وهكذا كان الحال في سائر البلدان المحتلة. ويتبين جسامة ما نهبه الألمان بسبب نفقات الاحتلال هذه إذا وقفنا على حقيقة التعويضات التي أُرغمت ألمانيا على دفعها بعد صلح فرساي، فقد بلغ ما دفعته إلى الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى ١٠ بلايين مارك تقريبًا في مدة سبع سنوات بين عام ١٩٢٤–١٩٣١، وذلك عندما كان الاتفاق الخاص بالتعويضات ما يزال ساريًا، ولكن الألمان استطاعوا أن يجمعوا من فرنسا وبلجيكا وهولندة والدانمرك والنرويج وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا في سنة واحدة من سنوات سيطرتهم على أوروبا حوالي ٧ أو ٨ بلايين مارك، أي إنهم جمعوا في عام واحد حوالي ٨٠٪ مما دفعه الألمان من «تعويضات» كانت موزعة على سبع سنوات، بل إن التعويضات التي دفعتها ألمانيا إلى فرنسا في خلال هذه السنوات السبع كانت أقل من ٤ بلايين مارك. أما النازيون فقد استمروا حتى نهاية الحرب يحصلون مثل هذا المبلغ من فرنسا كل ستة شهور كنفقات احتلال. ومما يجدر ذكره أن ألمانيا في سنوات التعويضات السابقة (١٩٢٤–١٩٣١) استطاعت أن تعقد قروضًا خارجية بلغت ٢٥ بليون مارك، أي ما يزيد على ما دفعته هي من تعويضات مرتين ونصف مرة. من المعروف أن ألمانيا لم تسدد معظم هذا الدين، بل رفضت أن تدفع التعويضات بعد عام ١٩٣١، وزيادة على ذلك منع النازيون في ظل نظامهم الجديد الدول المحتلة من أن تعقد أية قروض، وظلت ألمانيا متمسكة بنفقات الاحتلال حتى وقت انهيارها.

غير أن كل هذه الوسائل لم تكن كافية لسد جشع النازيين ونهمهم، فلجئوا إلى حيل أخرى لابتزاز الأموال واغتصاب ثروة البلدان المقهورة. وكان من أساليب النهب والسلب التي درجوا عليها مصادرة أملاك العدو، وقد بلغت قيمة هذه الأملاك في بولندة مثلًا ١٠٠ مليون جنيه إنجليزي، والاستيلاء على رءوس أموال الأعداء المستثمرة في البلدان التي احتلها النازيون، وقد بلغت قيمة رءوس الأموال البريطانية وحدها حوالي ٢٥٠ مليونًا من الجنيهات الإنجليزية، والاستيلاء كذلك على أملاك اليهود ومصادرة ثراوتهم، وكانت قيمتها في الريخ الثالث وحده تتراوح بين ٢٥٠–٥٠٠ مليون جنيه إنجليزي، وفي تشيكوسلوفاكيا حوالي ١٢٥ مليون جنيه إنجليزي، هذا إلى مصادرة أموال الجمعيات أو الهيئات التي اعتبرها الريخ معادية له على غرار ما فعلوا في هولندة بمقتضى قرار أصدروه في ٦ يولية ١٩٤٠، وبجانب هذا كله فرض النازيون الغرامات على المجالس البلدية والسلطات المحلية في المدن، مثال ذلك أنهم فرضوا على بلدة «تروندهيم Trondheim» في النرويج غرامة قدرها ٦٠٠٠٠ كراون أو ما قيمته ١٣٠٠٠ دولار، نظير ما بدا منها من العداء نحو الجنود الألمان. كما فرضوا على «لهاي» في هولندة مبلغ ٦٠٠٠٠ جلدر أو ٣٠٠٠٠ دولار مقابل إتلاف ثلاث سيارات عسكرية ألمانية كانت متروكة على قارعة الطريق، وعلى مدينة باريس ٢٠ مليونًا من الفرنكات أو ٤٠٠٠٠٠ دولار؛ لأن أحد الأفراد رفع العلم البريطاني فوق أحد الفنادق بدلًا من علم الصليب المعقوف، وعلى «أورليان» بفرنسا مليونًا من الفرنكات لتعطيل أسلاك التليفون، ثم تكررت الغرامة ثلاث مرات، وللسبب نفسه أُجبرت المدن النرويجية «ستافنجر Stavanger» و«روجالند» و«هوجيسند» على دفع غرامات بلغ مجموعها ٥٠٠٠٠٠ «كراون».

ولم يكن هذا كل ما نهبه النازيون من البلدان المحتلة؛ فقد استولى الألمان بمقتضى اتفاقات الهدنة التي عقدوها مع البلدان المغلوبة على أسلاب كثيرة، كما أنهم ما لبثوا حتى صادروا الذهب المودع بالبنوك؛ فبلغ مقدار ما جمعوه حتى أواخر عام ١٩٤١ حوالي ٩٠ بليون مارك أو ٣٦ بليون دولار أو ٩٠٠٠ مليون جنيه إنجليزي، وهذا المبلغ بالذات — على حد قول الهر هتلر في سبتمبر ١٩٣٩ — يساوي كل ما أُنفق على التسليح في ألمانيا منذ أن وصل النازيون إلى الحكم في بداية عام ١٩٣٣ إلى وقت سيطرتهم على أوروبا.

•••

ولم تقف أعمال السلب والنهب التي انطوى عليها النظام الجديد عند هذا الحد؛ فقد عمدوا إلى نقل الآلات وأدوات الصناعة، بله المعامل برمتها من البلدان المفتوحة إلى الريخ الألماني، وإرغام «العمال» على الهجرة إلى ألمانيا والعمل في مناجمها ومصانعها وحقولها، ذلك بأن الألمان كانوا قد أنشئوا منذ ١٩٣٥ ما أسموه «الوحدات المتحركة الاقتصادية» ووضعوها تحت إشراف الجنرال «توما» أحد قوادهم، وكانت مهمة هذه الوحدات في وقت السلم أن تقسم ألمانيا إلى «أقاليم دفاعية Wehrkreise» بلغت ثمانية عشر إقليمًا؛ وذلك لتعبئة النشاط الاقتصادي في البلاد استعدادًا للحرب، حتى إذا نشبت فعلًا أصبحت مهمة هذه الوحدات المتحركة أن تنقل أدوات الصناعة وآلاتها من المناطق المعرضة للخطر في داخل الريخ نفسه إلى أماكن أكثر أمنًا، وكذلك نقل أدوات الصناعة من البلدان المفتتحة إلى الريخ الألماني. وقد نجم عن هدم المصانع ونقل آلاتها إلى ألمانيا أن انتشرت البطالة في البلدان المحتلة وحُرم ملايين العمال وسائل العيش في بلادهم. وابتدع النازيون لحل مشكلة البطالة الطارئة «علاجًا» زاد من بؤس الشعوب المحتلة، ذلك بأن النازيين كانوا في حاجة مستمرة إلى الأيدي العاملة لإدارة ومواصلة الإنتاج الحربي؛ فعمدوا إلى إرغام العمال المتعطلين في بلادهم على «الهجرة» إلى ألمانيا للعمل بمصانعها، وابتكروا وسيلة شيطانية لإحصاء هؤلاء العمال المتعطلين وإجبارهم على الذهاب إلى ألمانيا للعمل بمصانعها، وذلك بأن سلطات الاحتلال النازية ما لبثت حتى ألزمت العمال العاطلين أن يقيدوا أسماءهم بسجلات مكاتب العمل نظير إعطائهم «بطاقة بطالة» ينالون بمقتضاها مكافأة معينة يعتاضون بها عما كان يُدفع لهم من أجور في أثناء العمل. وكان العمال لا يستطيعون الحصول على المقادير المخصصة لهم ولأسراتهم من المؤن والأغذية إلا إذا أبرزوا هذه البطاقات إلى جانب بطاقات التموين العادية المعطاة لهم. غير أن السلطات النازية كانت تشترط في الوقت نفسه أن يجد العمال المتعطلون عملًا ملائمًا في زمن قصير، وكان ذلك مما يستحيل تنفيذه للأسباب التي بسطناها، وعلى ذلك كان يُطلب إلى هؤلاء العمال إما أن يرضوا بالذهاب إلى ألمانيا وإما أن تُسحب منهم بطاقات البطالة، فإذا رفضوا السفر إلى ألمانيا كان من السهل بعد ذلك على مخازن البيع الحكومية أن تتذرع بشتى الوسائل حتى لا تصرف مقادير التموين المخصصة للعامل وأسرته، ولم يكن للعامل إزاء ذلك إلا أن يقبل الذهاب إلى ألمانيا حتى يطرد شبح الجوع عن نفسه وذويه.

وقد ذكرت الإحصاءات الرسمية الألمانية أن عدد العمال الأجانب في ألمانيا حتى ٢٧ أكتوبر ١٩٤٠ بلغ ١٦٠٠٠٠٠ منهم حوالي ٥٠٠٠٠٠ من أسرى الحرب، وفي يناير ١٩٤١ بلغ عددهم ٢٠٠٠٠٠٠، وكان لا يدخل في عدادهم التشيك؛ لأن العمال من التشيك صاروا لا يعدون من الأجانب بعد إدماج «حماية بوهيميا ومورافيا» في الريخ الألماني منذ أول أكتوبر ١٩٤٠، ثم زاد عدد العمال الأجانب في الريخ بعد أن وافقت إيطاليا في فبراير ١٩٤١ على إرسال ٣٢٠٠٠٠ عامل إلى ألمانيا. وكان من أثر حملة الألمان في بلاد البلقان أن أسر الألمان حوالي ٥٠٠٠٠٠ من يوغوسلافيا أرسلوا منهم للعمل في الريخ ٢٥٠٠٠٠؛ وكذلك جمع النازيون من مملكة كرواتيا الجديدة ٥٠٠٠٠ عامل، وبلغ عدد الأسرى من البريطانيين واليونانيين الذين أُرسلوا للعمل في ألمانيا ٢٣٠٠٠٠، فكان عدد الأجانب المشتغلين في ألمانيا حتى صيف ١٩٤١ بين ٢٧٠٠٠٠٠ و٣٠٠٠٠٠٠ رجل، يضاف إليهم عدد من التشيك وأسرى الحرب الذين كانوا يشتغلون بعض الوقت فقط.

وكان هؤلاء جميعًا يعملون في ظروف قاسية مرهقة؛ إذ إن متوسط ساعات العمل في الأسبوع الواحد بلغت حوالي ستين ساعة على أقل تقدير، وكان العمال يقيمون في ثكنات ثم طُلب إليهم أن يدفعوا من أجورهم الضئيلة نفقات السكن والطعام عدا بعض الضرائب المحلية والتأمين ضد المرض والحوادث وما إلى ذلك. وأما إذا استطاع العامل بعد هذا كله أن يرسل شيئًا من المال لمساعدة أسرته فإن حكومة الريخ كانت تستولي على ما يرسله، ثم تكلف بنوك الدول المحتلة بدفع ما تساويه هذه المبالغ من العملة المحلية.

ولعل أقسى ما في هذه المسألة أن الألمان كانوا يرسلون هؤلاء العمال الأجانب إلى المناطق المعرضة لغارات الطائرات البريطانية، وقد ذاق العمال الدانمركيون الأمرَّين بسبب اشتغالهم في مصانع وأحواض «لوبيك» و«همبورج» وغيرها، بل إن الألمان ما كانوا يسمحون بوقف العمل حتى في أثناء الغارات، وهلك بسبب ذلك عدد عظيم من العمال الهولنديين بميناء «همبورج» في إحدى الغارات الشديدة في نوفمبر ١٩٤١، أما النازيون فقد فسروا هذه الكارثة بقولهم: «إن هؤلاء العمال كانوا متعبين إلى حد لم يدع لأحد منهم فرصة لمغادرة المكان والالتجاء إلى المخابئ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤