يحيى حقي، ملاحظات في القصة القصيرة

إذا حاولنا أن ننسب أستاذنا يحيى حقي إلى جيلٍ أدبي، فإنه يأتي بعد جيل الرواد؛ طه حسين والعقاد والمازني وشكري وأحمد أمين والزيات وغيرهم … ويأتي قبل جيل الوسط؛ محفوظ والبدوي وباكثير وغراب وعبد الحليم عبد الله وذهني وإحسان وغيرهم. وقد استطاع توفيق الحكيم أن ينتسب، بإبداعاته المتميزة — كمًّا وكيفًا — إلى جيل الرواد، فلما ذوت الأسماء الرائدة، ظل ثلاثة — حتى بعد رحيلهم عن عالمنا — هم الأكثر تأثيرًا؛ طه حسين والعقاد والحكيم. أما يحيى حقي، فإن قلة إبداعاته — بالقياس إلى ما أبدعه كلٌّ من جيل الرواد وجيل الوسط — لم تنسبه — بصورةٍ حاسمة — إلى هذا الجيل أو ذاك.

•••

مع ذلك، فإن يحيى حقي — بلا جدال — في مقدِّمة بناة القصة القصيرة العربية المعاصرة، بل إن بعض النقاد يعتبره «أعظَم مَن كتَب القصةَ القصيرةَ في الوطن العربي».١ القصة القصيرة هي الفن الذي حقَّق فيه التفوق إطلاقًا. حتى «قنديل أم هاشم» — أشهر أعماله — يسهُل تسميتُها قصةً قصيرةً مطوَّلة، مثلما أنه من الصعب تصنيفها كرواية، بل إنَّ «صحِّ النوم» — روايته القصيرة — أقرب إلى مجموعةِ قصصٍ قصيرة، مجموعة لوحات، يربط بينها الزمان والمكان. يقول: «لقد عالجتُ معظَم فنون القول من قصة قصيرة ورواية ونقد ودراسةٍ أدبية ومقالٍ أدبي، وترجمتُ عددًا من القصص والمسرحيات … ولكن تظل القصة القصيرة هي هواي الأول؛ لأن الحديث فيها عندي يقوم على تجاربَ ذاتية، أو مشاهدةٍ مباشرة، وعنصُر الخيال فيها قليلٌ جدًّا، دوره يكاد يكون مقصورًا على ربط الأحداث، ولا يتسرَّب إلى اللب أبدًا.٢

•••

والقصة القصيرة التي علق بها يحيى حقي، هي التي تُضيف جديدًا، بأن تكشف عن بعض جوانب النفس الإنسانية، وهي التي تنقل قارئها من الصورة الجزئية المباشرة إلى المعنى الكلي وراءها، وينفُذ — القارئ — من خلالها إلى روح الكاتب نفسه، فضلًا عن ارتباطها بهموم المجتمع، وحرصها — في الوقت نفسه — على إتقان الصنعة، بحيث يزيد إيحاؤها، ويعلو على جماع ألفاظها.٣

•••

ومع أن يحيى حقي يُلِح في ألا يستمع القارئ إلى صرير قلم الكاتب، فإن شخصية حقي تبين عن نفسها في معظَم ما يكتب. يتخيله القارئ حتى ولو لم يكن على معرفة به، ولا شاهَدَه من قبلُ. يتحدث ولا يكتب، يحكي ويسرد، يتوقَّف ليبدي ملاحظة، أو ملاحظات، تزول كل الحواجز — مرئية وغير مرئية — بين الفنان والقارئ؛ فالقارئ يَتَنبَّه — منذ اللحظة الأولى — إلى القصة، وإلى كاتبها، وإلى تعاطُف الفنان مع الشخصية التي يتناولها.

في قصة «أم العواجز» يتحدَّث الفنان عن إبراهيم أبي خليل يقول: «سبحان الذي وسع مُلكُه الخلق كله، ولا اعتراض على حكمه. فلا أبتغى هنا إلا أن أروي قصة إبراهيم أبي خليل وهو يهبط درجات الحياة، كورق الشجر في الخريف، قد ترفعُها الرياح قليلًا، ولكنها — حتى في ارتفاعها — تنطق بالهبوط المكتوب عليها، رويدًا رويدًا، إلى أن يتوسَّد خدُّها الثرى وتدُوسُها الأقدام … إلخ.»٤ وينسى حقي حرصه على كتم صرير القلم، عندما يعبُر — بكلماته — عن استغاثة نعيمة، بائعة الهوى بالسيدة زينب، تطلُب العون والشفاعة والمدد: «يا أم هاشم، يا ستارة على الولايا. لا تغضِّي عينَيك ولا تُشيحي بوجهك. إن الله طهَّرك وصانك وأنزل الروضة، وإن قلبك لرءوف. إذا لم يقصدك المرضى والمهزومون والمحطَّمون، فمن غيرك يقصدون؟ إذا نسينا فاذكُري أنت … إلخ.»٥

•••

ولعلَّه مما يُنسَب إلى ارتفاع صرير القلم، وصف الفنان للجالسين حول مسجد السيدة زينب: «خليطٌ من رجال ونساء وأطفال، ولا تدري من أين جاءوا ولا كيف سيختفون. ثمارٌ سقطَت من شجرة الحياة، فتعفَّنَت في كَفَنها … إلخ.»٦

لقد أخذ يحيى حقي موقف الراوي في معظم قصصه. تمامًا تتعاطف مثلما في السير الشعبية والملاحم … فروايته واضحة، رائقة الصوت، تتعاطَف الشخصيات التي تحكي قصتها بالقَدْر الذي يثير تعاطف المتلقي. وكما يقول الصديق الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، فقد «نجح يحيى حقي في أن ينقل لنا في قنديل أم هاشم سيرةً للبطل المعاصر مستمدةً من السير الشعبية، وكان بذلك رائدًا لكل القصَّاصين المعاصرين، الذين يحاولون أن يعودوا بالفن القصصي إلى جذوره الشعبية الأولى.»

والحق أن تلك الريادة لم تكن مقصورة على «القنديل»، ولكنها تبين عن نفسها — بصورةٍ لافتة — في معظم أعماله القصصية، وجميعها — فيما عدا «صحِّ النوم» — تنتسب إلى القصة القصيرة.

وفي تقديري أن «قنديل أم هاشم» ليست أهم أعمال يحيى حقي. بل إنه من الصعب — كما قلت — نسبتها إلى الرواية، حتى لو تجاوزنا عن معظم خصائص الفن الروائي. القيمة الأهم للقنديل في نظرة الفنَّان المُحِبة والمُشفِقة والواعية للطبقات الأدنى، لهؤلاء الذين يبدون كهوامشَ في المجتمع المصري، وإن كانوا — في الحقيقة — هم قوام هذا المجتمع، هم غالبيَّته وقوَّته الفاعلة.

الفنان يُعنى بالشخصية أكثر من عنايته بالحدث. ما يشغلُه هو ملامح الشخصية، مشكلاتها، نوازعها النفسية، تأثُّرها بالبيئة من حولها. وقد صرَّح — يومًا — أنَّ تأملاته في الطريق هي سِرُّ قوَّته.٧

وإذا كانت «القنديل» تأثُّرًا بالغ الدلالة من الفنان بالحياة في السيدة زينب. الحي الذي وُلِد فيه الكاتب، وأمضى صباه وشبابه الباكر، فإن الحي القديم يبين عن نفسه في الكثير من قصص يحيى حقي، سواء جرت الأحداث في الميدان الفسيح، وما يحيط به، ويتفرَّع عنه، من شوارعَ وأزقَّة ودكاكين وبيوت، أو غابت عن ذلك كله إلى حيٍّ شعبيٍّ آخر.

يتحدث عن تأثير النشأة في أعماله القصصية. يقول: «رغم أننا غادرنا حي السيدة وأنا لا أزال طفلًا صغيرًا، فهيهاتَ أن أنسى تأثيرَه على حياتي وتكويني النفسي والفني. فما زلتُ إلى اليوم أعيش مع الست ما شاء الله بائعة الطعمية، والأسطى حسن حلَّاق الحي وبائع الدقَّة، ومع جموع الشحَّاذين والدراويش الملتفِّين حول مقام الست.»٨

وقد سأل عباس الأسواني يحيى حقي يومًا: «ألم يؤثِّر عملك في السلك السياسي على طبيعتك، وعلى حبك للشعب الذي نشَأتَ في بيئاته الفقيرة؟»

أجاب: «أبدًا … طول حياتي الدبلوماسية لم أتأثَّر بأي مظهر من مظاهرها. إن الإحساس الشعبي هو الذي جعلَني دائما أُحِس بإنسانيتي، وإلا لما زدت عن كوني قرد لابس سموكنج. ثم لا تنسَ أنني عملتُ قبل التحاقي بالخارجية عامَين كمعاون إدارة في منفلوط، خُضتُ فيهما في أعماق الصعيد المصري. ولي قصصٌ تصوِّر هذه الحياة في دماء وطين، وأم العواجز. أما خلِّيها على الله فهو يصوِّر حياة الشعب المصري، والهُوَّة التي كانت قائمةً بينه وبين الحكومة في ذلك الوقت، وأنا أعتقد أنه يجب مقارنتُه بيوميات نائب في «الأرياف».٩

وقد وازن صديقي ماهر شفيق فريد بالفعل، بين خليها على الله، ويوميات نائب في الأرياف، فلاحظ أن كلا العملَين يتحدث عن الهوة التي تفصل بين الحكومة والفلاحين، لكن حقي يبدو أكثر من الحكيم اندماجًا في البيئة التي يصفُها، وأقلَّ تباعدًا؛ لأنه كان يكتب من الداخل، بينما كان الحكيم يكتب من فوق.

حتى المفردات والتعبيرات والأمثال التي يضمِّنها يحيى حقي أعماله، إنما هي استيحاءٌ مباشر من الحياة في السيدة زينب، حياة شعبية، لها خصوصيَّتها وتميُّزها بما يختلف عن الأحياء الحديثة. نحن نقرأ عن المولد وحلقات الذكر والباعة السرِّيحة والحرفيين وصغار التجار والبلهاء والمجاذيب والمساليب والمنكسرين والزار والأسياد والأضرحة وتجار الروبابيكيا … شخصيات وصور ومفردات تنتسب إلى الحي القديم بوشائجَ حميمة. في قصة «احتجاج» — مثلًا — زخمٌ من التعبيرات والأمثال الشعبية التي يتداولها الناس، مثل: رش المية عداوة … اللي ياكل بضرسه ينفع نفسه … القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود … تلاقيه ناقضها من ساسها لراسها … قليل ان ما سألها صيغة أمها دهب ولا قشرة … فركة كعب … دي خيبتك بالويبة … طبق الملوخية البايتة قرديحي بلا لحم … رايح يلقح جتته علينا … بنت دلوعة وبتتبغدد عليه … بتتكلم بالعين والحاجب … جسمها فاير زرع بدري … إلخ.١٠

ونحن نجد الحي الشعبي في قصص: السلحفاة تطير، قنديل أم هاشم، أم العواجز، احتجاج، السرير النحاس، تنوَّعت الأسباب، عقرب أفندي، ذكريات، قصة في عرضحال، إفلاس خاطبة، كن … كان، الفراش الشاغر، وغيرها … بل إن أسماء القصص تبين عن تلك المحبة الدافقة لكل ما هو شعبي.

•••

السياسة همٌّ رئيسي لأستاذنا نجيب محفوظ، لا تكاد تخلو منها إحدى رواياته أو مجموعاته القصصية. أما يحيى حقي فإن ما يشغلُه هو الإنسان الفرد، أو الجماعة البشرية المحدودة، المشكلات الصغيرة والأحلام والأماني والتطلعات والإحباط. وفيما عدا روايته الاستثناء «صحِّ النوم» فإن الزمان المحدَّد يغيب في معظم أعمال يحيى حقي. تستطيع أن تنسبها إلى أي فترة في تاريخنا المعاصر. يسقط هور ابن الطور، يفتتح نجيب محفوظ روايته «بداية ونهاية» بذلك الهتاف الذي ردَّده المتظاهرون في مظاهرات عام ١٩٣٥م، فيدخل القارئ من بوابة الزمن المحدَّد … لكن الهم الاجتماعي يتوضح في أعمال يحيى حقي. الشخصيات البسيطة والمطحونة والكادحة، بل إن تعاطف الفنان مع شخصيات قصصه، ربما أنطقها بما يُناقِض خاصية القصة القصيرة. الفن إضمار، لكن النهاية التي اختارها الفنان في قصة «السلم اللولبي» — مثلًا — تفسَّر بما يصدم ذكاء المتلقي حين يحظى فرغلي صبي المكوجي بحنان ليس أكثر من رد فعل، خوفًا لما يكون قد أصابه بعد أن عضَّه كلب الأسرة. قال لنفسه وهو ينظر إلى الشقة: إيه يا خويا الناس دول؟ ما يحنُّوش على الواحد إلا إذا كان كلب عضه!١١ كنتُ أفضِّل أن يحذف الفنان هذه الكلمة التعليق، كأنها تشير إلى المعنى الذي يقصده الكاتب، فلا يخطئه القارئ: هذا هو المعنى الذي أريده، فخذ بالك!
يصفُ الفنان نظرة الفلاح المصري إلى السلطة، وتعامُلَه معها بأنها «شيء من الرضا المغتصب، وطاعة كلها تمثيل كاذب. هذا الشعور هو قوام مجاوبتهم لكل تدخُّل في أمورهم. من يقدر سوء حظهم لأن كل المحاولات تأتي من أجنبيٍّ عنهم — حكومة أو موظفًا — لا يفهم، يعيش في وادٍ، وهم في وادٍ. إن لم يكن غرضه ملء جيوبه، اقتصر في تدخُّله على التافه والغَث والسخيف، وتَرك ما هو لديهم قرين الحياة ومستلزماتها.»١٢ وفي قصة «حصير الجامع» تحليلٌ واعٍ لعقلية الفلاح المصري، ونظرته إلى السلطة وتعامُله معها. تبين فيها استفادة الفنان الشخصية، والفنية، بالأعوام التي عمل فيها خارج القاهرة، سواء في الوجه البحري أو في الصعيد. ينعزل، أو يكتفي بالتأمل من بُعد، أو السخرية — أحيانًا — مثلما فعل الحكيم في «يوميات نائب في الأرياف». نائب الحكيم كان يحرص على وضعه الاجتماعي؛ فهو لا يُخالِط الفلاحين إلا لضرورات العمل. أما يحيى حقي فقد كان يُخالِطهم، يتحدث إليهم، يعطي ويأخذ، يتأمل بعينَين منتبهتَين، ونفسٍ متعاطفة، وإحساسٍ عميق بالمشاركة.

•••

وللمكان أهميةٌ بالغةٌ في قصص يحيى حقي. يقول: «الإنسان مائة في المائة هو البطل في قصصي … ولكن بي غرامٌ بوصف الأماكن تكملةً للوحة التي أهتم بتقديمها للقارئ، كأنها لوحةٌ مرسومة بالألوان.»١٣

في «قنديل أم هاشم» صوَّر ميدان السيدة زينب ثلاث مرات، كل مرة تعبِّر عن المشاعر الداخلية للدكتور إسماعيل. نظرته إلى الناس والأشياء من حوله. إشفاقه وقلقه وحبه وسخطه. الصورة الأولى حيادية تمامًا، تراها عينا شابِّ صغير، ألف زحام الناس وصخبهم. أما الصورة الثانية، فتعكس التغيُّر في نظرة إسماعيل بعد عودته من لندن، وحصوله على دبلوم في أمراض العيون؛ فهو لا يرضى عن إنسان، ولا عن شيء، والشعب المصري — في رأيه — سمج، ثرثار، أقرع، عارٍ، حافٍ، بوله دم، في برازه ديدان … وأما الصورة الثالثة فتأتي بعد المصالحة مع مجتمعه، ومع نفسه، المصالحة بين إيمانه بالعلم وحرصه على الموروث في حياة شعبه. فهم مشكلات الناس وتفهَّمها، وضعَها في إطارها الصحيح، نزَع من نفسه مشاعر الرفض والسخط، وحل بدلًا منها حُب يرتكز إلى بصيرةٍ واعية.

•••

والصعيد بيئةٌ اجتماعيةٌ أخرى، أجاد الفنان تصويرَها في أعماله، وبالذات مجموعته «دماء وطين». يصف الليل في الصعيد حيث أقام لفترة، عبَّر عنها في كتابه الرائع «خليها على الله»، بأنه كظلمة العمى «تلفَّح به الكون مرغمًا، هبط على الفضاء حملًا ثقيلًا، أحاط بالأرض كالقيد، غطَّى الحقول كالكفَن، ولفَّ القرى كالضماد، وانحدَر — ولا حد لاتساعه — إلى الشقوق فاحتواها. ثم تلفَّت يبحث عن مداخل النفوس التي يعلم أنها تستقبله وتتشرَّبه، فاحتلها يتمطَّى فيها.»١٤
وقد عاب الناقد الراحل عبد اللطيف السحرتي على قصة «البوسطجي» مبالغةً في الوصف كان بوسع الفنان أن يُسقِطها، فلا تتأثَّر القصة. البوسطجي قصة فتاةٍ بِكْر، حملَت أثناء فترة خطبتها. وعندما برزَت بطنُها بالفضيحة، قتلَها أبوها … ولكن القصة حفلَت بتصوير الحياة في قريةٍ صعيديةٍ بكل خصائصها. استطاع المخرج حسين كمال أن يجعل من بوسطجي يحيى حقي عملًا سينمائيًّا جيدًا، لكن الفيلم لم يُفِق الخيال الذي أثارته القصة المكتوبة في وجدان المتلقي، وربما في عقله أيضًا. مجتمع الصعيد بتناقُضاته، وعنصرية المسلم والمسيحي، العلاقة بين الريف والمدينة، وحدة البوسطجي القاسية التي تتحوَّل إلى محاولة لاقتحام القرية، الحياة مع ناسها من خلال قراءة خطاباتهم «من ساعة ما حطيت رجلي في البلد ماطقتهاش. حسيت اني محبوس. فين مصر وشوارعها وناسها؟ … وفين الليل مليان نور وحركة؟ … ولكن هنا … أهو الشباك قدامك. بص. تلاقي إيه؟ … شوية طين مكوم، وناس وسخين مقملين … وتو ما يدَّن المغرب كل واحد يتلم في بيته. والعتمة … يا باي من العتمة. طول الليل حمير تنهق، وكلاب تعوي.»١٥

وفي قصص يحيى حقي محاولة للتعبير عن فلسفة حياة، أو في الأقل، مواقف، أو وجهات نظر، تبين عن نفسها في مجموع تلك الأعمال. وفي مقدمة تلك «الأفكار» إعلاء شأن الإرادة الإنسانية؛ فهي الدعامة التي تستند إليها كل الفضائل، شخصيات مسالمة، ولكنها ضعيفة الإرادة، فتكون النتيجة — والتعبير للفنان — أنها تُجزَر! نجد ذلك في «الشيخ مصطفى»، «أم العواجز»، «السلحفاة تطير»، تحريض على ملاحظة الفارق بين الطيبة المُسالِمة، والخنوع المُستسلِم، بعكس السقوط الذي قد تواجهه شخصيات همنجواي. سقوط يشي باستمرار الارادة، بالإصرار — حتى بعد ذواء الأمل — على المقاومة، ومحاولة تعويض ما فات … الإرادة معدومة في «وسوسة»، وتنتهي إلى مصيرٍ مؤلم في «الفِراش الشاغر»، أو إلى الضياع في «أم العواجز»، وتواجه التحير في «عنتر وجولييت». انتصار يحيى حقي للإرادة الإنسانية لا يعني الإلحاح في تأكيد الانتصار، لكنه قد يسحَق الإرادة تحيزًا وحثًّا على اللجوء للإرادة، والاحتماء بها، واعتبارها سلاحًا نرفعه في وجه كل المثبِّطات. يصارحني صديق: مفزع ذلك المصير الذي انتهَى إليه بطل قصتك! … أجيب باطمئنان: ولماذا لا يحرك ذلك المصير إرادةً في نفسية المتلقي حتى لا يواجهه، أو ما يشبهه؟! … تلك بالتحديد دلالة الإحباط الذي يتردَّى في هاويته شخصيات يحيى حقي. سقوطهم ليس توطئة للانتصار ولا مدخلًا له، كما في أعمال همنجواي، لكنه تأكيد على الضعف الإنساني الذي يجب أن تسانده قوة الإرادة.

والقصة القصيرة عند يحيى حقي تعني «التحديد والحتمية». أما معاناة الرواية، فإنها تعتمد — والتعبير للفنان — على الصدفة والتجريد المصطنَع. إنه يؤمن بأن كل تطورٍ أدبي هو — في المقام الأول — تطور أسلوب. القصة شيءٌ مختلفٌ عن أسلوب المقامة والوعظ والإرشاد والخطابة والزخارف والبهرجة اللفظية والمترادفات والمقدِّمات الطويلة والخواتم التي ترجو مصمصة الشفاه!

معاناة يحيى حقي تبدأ بانتهاء كتابته الأولى للقصة. إنه يعود إلى العمل يقرؤه بوعي الناقد المثقَّف، يحذف ويُضيف ويعدِّل، حتى يطمئن إلى القصة فيدفع بها إلى النشر. وكانت تلك المعاناة هي الباعث الوحيد — وليس الرئيس — لتوقف يحيى حقي عن كتابة القصة … فاللفظة يجب أن تعبِّر عن الشخصية، أو الموقف، التعبير على القد، فلا حشو ولا ملامسة ولا ثرثرة. وكما يقول يحيى حقي، فإن حبه للتجديد والحتمية يبلغ حدَّ الهوس: مزاجي يمقُت أشد المقت أهونَ إطنابٍ أو زيادةٍ أو ثرثرة، يمقُت المعنى الغامض واللفظ المائع، فليس لمعنًى واضح إلا لفظٌ واحد محدَّد، لا يقوم غيره مكانه. وهذا التحديد يُطاق في القصة القصيرة، ولكن يبعث على الاختناق في الرواية الطويلة.١٦ في تقدير فتحي رضوان، أن الألفاظ عند يحيى حقي هي نقطة البداية، لكنها أيضًا محطة النهاية.١٧

•••

في كُتيِّبه «فجر القصة المصرية» عرض يحيى حقي لرواد القصة والرواية في مصر، قدَّم أدباءَ معروفين ومجهولين، ولكنه أهمل أديبًا له إسهاماتُه المؤكَّدة في بدايات الرواية والقصة المصرية. هل أظلم يحيى لو قلتُ إنه أغفَل المازني حتى يتناسى تأثُّره بأسلوبه، بخصائصه المتميِّزة، باللغة البسيطة السهلة التي تقترب بعض مفرداتها من العامية، لجوئه إلى العبارات الاستطرادية، ميله إلى السخرية، توضح صوت الفنان كمتحدِّثٍ عن شخصية أو روايةٍ لحدث؟ التعرف الى الخصائص الأسلوبية للمازني سهلٌ في كتابات يحيى حقي، ما انتسَب منها إلى القصة، أو الخاطرة، أو الدراسة الأدبية!

هوامش

(١) أحمد عباس صالح، جريدة «الشعب»، ٥ / ٧ / ١٩٥٩م.
(٢) المجلة، فبراير ١٩٦٨م.
(٣) المصدر السابق.
(٤) أم العواجز، طبعة الكتاب الذهبي.
(٥) قنديل أم هاشم، القصة.
(٦) المصدر السابق.
(٧) الجمهورية، ٣٠ / ٢ / ١٩٦٠م.
(٨) عالم الفكر، المجلد الخامس، العدد الثالث.
(٩) روزاليوسف، العدد ٢١٤٧.
(١٠) احتجاج – مجموعة «أم العواجز».
(١١) السلم اللولبي، مجموعة «عنتر وجولييت».
(١٢) أم العواجز.
(١٣) الفيصل، يوليو ۱۹۷۹م.
(١٤) دماء وطين.
(١٥) البوسطجي – مجموعة «دماء وطين».
(١٦) الثقافة، يناير ١٩٧٥م.
(١٧) المجلة، فبراير؛ الشرق الأوسط، ٢٣ / ٤ / ١٩٩٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤