توفيق الحكيم … ومعنى الريادة

الجديد إضافة، وإلا لمَا استحقَّ هذه التسمية — أو الصفة — فعلًا. كل جيل ينبغي أن يضيف — بإبداعاته — إلى إبداعات الأجيال السابقة. ولقد راجعتُ نفسي، وشملَني إحساسٌ عميق بالاعتذارية — مرضنا المزمن — في اللحظة التالية لمصارحتي أستاذنا نجيب محفوظ: إن من حق الأجيال التالية — وواجبها أيضًا — أن تضيف إلى معطياتك، وتجاوزها ما أمكن … لكن الرجل — بفهمه الذكي وأُبوَّته الحانية — وافقني على ملاحظتي بلا تردُّد. وقال: تلك طبيعة الأمور … عدم الإضافة يعني السكون، فالجمود، فالموت!

وبالطبع، فإنه ليس كل «الكبار» يشاركون نجيب محفوظ ذلك الرأي. أذكِّرك بعبقري القصة القصيرة يوسف إدريس، شغلَته مقالات الصحف. حتى تنبَّه — أو نبَّهه الآخرون — إلى غيابه عن حركة الإبداع في القصة القصيرة والمسرحية والرواية، وهي الأجناس الأدبية الثلاثة التي أضاف بها يوسف إدريس إلى أدبنا المعاصر، بدءًا بأرخص ليالي، إلى البهلوان، مرورًا بالحرام والفرافير وبيت من لحم والنداهة والعيب ولغة الآي آي وغيرها.

ومع أن مياهًا كثيرة قد جرت تحت الجسر، فإن يوسف إدريس عاب على أدباء الأجيال التالية محاولاتهم للإضافة، بأن ينهلوا — مثلًا — من التراث الإسلامي أو العربي أو العالمي في إطلاقه، أو يُحاوِلوا الإضافة التكنيكية أو الأسلوبية. وبالتحديد: فقد طالب يوسف إدريس كُتاب القصة القصيرة أن يبدءوا وينتهوا في أعماله، لا معنى لكل المحاولات التالية، لأن القصة القصيرة — في صورتها المتفوِّقة — هي ما أبدعه يوسف إدريس.

الطريف أن يوسف إدريس نفَى أن يكون ما كتبه في الصحف، مجرد مقالاتٍ تُناقِش هموم مجتمعنا. إنه فن قد لا يكون قصةً قصيرة أو رواية أو مسرحية، لكنه جنسٌ أدبي يفوق ذلك، ويتفوَّق عليه.

ولقد غلبني شعور بالضيق، لما تكرَّرت أسئلتي حول الريادة في هذا الجنس الأدبي أو ذاك، وتوفيق الحكيم يكرِّر أجوبته حول ريادته هو شخصيًّا في كل تلك الأجناس. يقول في ثقة: لقد كنتُ أوَّل من كتب في هذا اللون … رواية الأجيال، مثلًا … أو رواية الإسقاط السياسي … أو المسرحية التي تستلهم التراث … أو القصة القصيرة التي تُعنى بهموم الواقع … أو الدراسة الفلسفية والفكرية … إلخ.

ويلتفت إلى ثروت أباظة، الذي كان يتابع حوارنا، في بهو فندق سميراميس: مش كده يا ثروت؟ … أليست «عودة الروح» هي رواية الأجيال الأولى، في أدبنا المعاصر؟ … أليست «يا طالع الشجرة» أولى مسرحيات اللامعقول؟ … و«أشعب» هي بداية استلهام التراث في تضفير عملٍ أدبي؟

غلَبني الضيق — كما قلتُ لك — وأيقنتُ أن الرجل يريد نسبة بدايات كل إبداعاتنا إلى نفسه؛ فليس ثَم جيلٌ سابق ولا جيلٌ معاصر ولا أجيالٌ تالية. إنه هو الرائد دومًا في كل مجالات الأدب.

وظل حواري مع الحكيم يشغلني لفترة. أربط النتائج بالأسباب، والنهايات بالبدايات، والأعمال المعاصرة بما كتبه الحكيم وجيله، وتأكَّد لي — بمداومة الملاحظة والتفكير والنقاش — أن الحكيم هو الرائد الفعلي لمعظم الإسهامات الإبداعية في ثقافتنا المعاصرة، لا لمجرد أن محاولاته في مجالات الأدب كانت غير مسبوقة، وإنما لأنه كان مهمومًا — في الوقت نفسه — بتمهيد الأرض، وتسويتها، لأجيالٍ تاليةٍ من بعده، مسئوليتُها — على حد تعبير رائدٍ آخر، هو المازني — إقامة الفيلات والبنايات بما يشكِّل حياةً أدبية. وكما يقول الحكيم فإن «محاولات التجديد هي دائمًا دليل الحيوية» (ملامح داخلية، ص۱۱۸).

•••

القيمة الأولى لأعمال توفيق الحكيم هي الريادة. قد نختلف في مدى غلبة الفكر على الفن في بعض مسرحياته، وفي اقتراب قصصه القصيرة من ذلك الفن، وفي تناقُض مواقفه الاجتماعية والسياسية … قد نختلف في ذلك كله، وحوله، ومعه … لكن الاتفاق واردٌ وحتميٌّ في قيمة الحكيم رائدًا مؤصِّلًا في ثقافتنا المعاصرة. أفاد من تراثنا القديم ومن أحدَث ما أفرزَتْه الثقافة العالمية، وعُني بتضفير ذلك في أعمالٍ حقَّقَت التفوق أحيانًا، ولم تجاوز نقطة الصفر في أحيانٍ أخرى، لكنها ارتادت دروبًا لم يتعرَّف إليها من قبلُ أدبنا المعاصر، في أجناسه المختلفة.

ولعلي أتصور أن الريادة — كهدف ومسئولية والتزام — لم تشغل بال الحكيم، تُصبح همًّا أساسيًّا في طموحاته الشخصية والعامة، إلا بعد تعرُّفه المباشر إلى المدنية الأوروبية، والثقافة الأوروبية على وجه التحديد.

كان — قبل سفره إلى باريس — فنانًا للفرجة — والتعبير لأستاذنا علي الراعي — كتب ما يريده أصحابُ الفرق ومخرجوها، لا ما يريده هو. بل إن ما يريده هو — في الأغلب — كان هلاميًّا ومشوشًا. كان المسرح شاغله كفكرة، كحبٍّ امتلَك قلبه وذهنه وخياله، لكنه أهمل وضع ذلك الحب في أطرٍ محدَّدة، فلما سافر إلى باريس، وارتاد المسرح الفرنسي، وناقَش الأدباء والمثقفين، وتابع الإصدارات والحركات الفنية الجديدة، أصبح لكلمات: الثقافة، الأدب، المسرح الرواية، القصة، وغيرها، مدلولاتُها التي تختلف تمامًا عن المدلولات التي كانت لها قبل سفره، وأستأذنك في نقل هذه الفقرات من كتاب علي الراعي «توفيق الحكيم فنَّان الفرجة، وفنَّان الفكر». فكَّرتُ في تلخيصها، أو إعادة صياغتها بما لا يُبعِدها عن المعنى الذي يستهدفُه كاتبها، ثم آثرتُ أن أنقلَها كما هي. إنها التعبير الأبلغ عن بداية رحلة الريادة في حياة الحكيم:

«ذهبتُ أيام عكاشة وفرقته، وجعل الكاتب البادئ هدفَه أن يرفع عن المسرحية المصرية تهمة التشخيص، التي عرَّضَته للإهانة في بدء حياته الأدبية، ويجعل لها قيمةً أدبيةً بحتة، كيما تُقرأ على أنها أدبٌ وفِكْر.

فعَل هذا إثراءً للأدب العربي، واحتجاجًا على المسرحية الفارغة العقل التي سادت مسارح مصر قبل سفره وبعد عودته، والتي تقوم على مجرد الحوادث المثيرة والحركات والمفاجآت، ولا تعرف الحوار القائم على دعائم الفكر والأدب والفلسفة.

ولكنه فعلَه أيضًا دفاعًا عن نفسه؛ فإنه لم يشأ أن يعود إلى الوضع الاجتماعي المهين، الذي تمثِّله صورة كامل الخلعي يجلس مع توفيق الحكيم المحامي على قارعة الطريق، يدندن والملحن عاري القدمَين إلا من قبقابٍ خشبي.

أي إن الفنان الشاب قد أسدل — دفاعًا عن وضعه كفنان — ستارًا من الاحترام الفني على أعماله، بوصلها بأعمال المحترمين من الفنانين الكبار، وكأنما يريد أن يصيح من خلال أعماله: إن يكُن الفنان محتقرًا في بلادي، فقد جئتكم يا أهل بلدي بفن لا يجرؤ على احتقاره … أحد» (توفيق الحكيم، فنان الفرجة وفنان الفكر، ص٣١).

لقد حدثَت — إبَّان إقامة الحكيم في فرنسا — متغيراتٌ كثيرة في حياتنا. حين أصدر الدكتور هيكل روايته الرائدة «زينب» (١٩١٤م) فإنه لجأ إلى حذف اسمه، ووضع بدلًا منه «مصري فلاح»، تحسبًا للآراء التي كانت تضع القصة — آنذاك — في باب الطرائف. الأمر نفسه — تقريبًا — فعلَه الحكيم، عندما حذف اسم أسرته من إعلانات مسرحيتَي «العريس» و«خاتم سليمان» حتى لا يقترن اسم الأسرة بأسماء الصعاليك والمتشردين والمهرجين والساقطين، وهي الصفات التي كان والد الحكيم يضع في إطارها كل المشتغلين بفن المسرح، كلهم بلا استثناء. وكما يقول الحكيم فإن «الأدب والاشتغال به وحده، لم يكن يمنح الاحترام والجاه والمال إلا للباشوات أو أصحاب السلطان والمناصب في الحكم والإدارة والقضاء. ولولا أن شوقي الشاعر كان له منصب هام في السراي، وكانت له ثروة، لنظر إليه المجتمع وقتئذٍ نظرتَه إلى زميله حافظ ابراهيم؛ لا أكثر من صعلوك أو مهرج في أعين كبار رجال الدولة، يتعطَّفون عليه بوظيفةٍ يُلقون بها عليه في منٍّ وترفُّع. لم تكن هناك أمثلةٌ مشجعة في الأدب» (سجن العمر، ص٣٦٧-٣٦٨). ثم تغيرت ظروف الصحافة، بتغير ظروف الحياة السياسية. علا نجم الكُتاب بعامة، وكُتاب الصحافة على نحوٍ خاص، وبرزت أسماء: طه حسين والعقاد وهيكل والمازني وغيرهم … ولأن هؤلاء الكُتاب كانوا أدباء في الأساس، فقد عُنوا بمحاولات التجديد والريادة في مجالات الأدب المختلفة. ولقد كان العديد من الكتب التي صدَرَت في العشرينيات والثلاثينيات، فصولًا سبق نشرها في صحف تلك الفترة.

•••

ارتاد الحكيم — عقب عودته من أوروبا — نفس الدروب التي ارتادها من قبله المازني والعقاد وهيكل وشكري وغيرهم ممن عنوا بتسوية الأرض، وإقامة البنايات الأولى، بمسمَّياتٍ عدة … فثَمَّة قصةٌ قصيرة، ومسرحية ذات فصلٍ واحد، ورواية، ومسرحية ذات ثلاثة فصول، ودراسات في الأدب، وأخرى في الفن، وثالثة في الدين … إلخ.

كان المسرح — قبل سفَر الحكيم — شاغلَه الوحيد … لكن شعور الريادة فرض عليه الدورَ نفسَه الذي كان ينهض به الروَّاد … فمارس كتابة الرواية والقصة القصيرة والمقالة الحوارية والسيرة الذاتية والمقالة النقدية والتأملات … فضلًا عن المسرحية التي ظلَّت محورًا أساسيًّا في اهتماماته الفنية.

ولعل إحساس الحكيم بمسئولية الريادة، هو الذي أملى عليه تقديم العديد من الأعمال، تأثرًا بأعمالٍ غربية أتيح له مشاهدتها، أو قراءتها. لا أعني التأثر بمعنى «النقل»؛ فقد حرص الحكيم على أن يحقِّق التفرد في كل أعماله، وأن يكون — دومًا — نسيج ذاته. بل إن الريادة اقترنَت بالتفرد في مرحلةٍ تالية؛ فهو يحرص على أن يكون غير مسبوق. أقول: لعل إحساس الحكيم بمسئولية الريادة، هو الذي أحيا في نفسه رغبةً قديمة، بكتابة مسرحية «بجماليون» عقب مشاهدته لمسرحية برناردشو الشهيرة بنفس الاسم، وهو الذي حفزه لكتابة «يا طالع الشجرة» بعد أن شكَّل تقديم مسرحيتَي «الكراسي» ليونيسكو و«لعبة النهاية» لبيكيت حدثًا ثقافيًّا لا تخطئه العين.

وإحساس الريادة هو الذي أملى على الحكيم تخوُّفه من جهل الناشرين؛ فهم لن يرضَوا — مثلا — باسم «عودة الروح» بعد أن أَلِفوا أسماء من مثل «آلام العشاق» و«حياة المحبين» و«ضحايا الغرام» … الإحساس نفسه هو الذي أملى على الحكيم هذه الكلمات التي خاطب بها أحد أصدقائه: «إني أراك تُجهِد نفسَك كثيرًا لتُخفِّف عني بعض النفقات في الطبع بالبحث عن الناشرين المُهاوِدين، ولكني أرى أنْ لا بد من التضحية في هذا البلد حتى أنشُر شيئًا فيه بعض العمق، فلا تنسَ ذلك» (وثائق من كواليس الأدباء، ص٣٨). الإحساس نَفْسُه أيضًا، هو الذي دفَعه للكتابة في مقدمة «المسرح المنوع»: «فأنا أحاول في قلقٍ جنوني أن أسارع إلى ملء بعض الفجوة على قَدْر إمكاني وجهدي؛ فأنا أقوم في ثلاثين سنة، برحلةٍ قطَعَها الأدب المسرحي في اللغات الأخرى في نحو ألفَي سنة.» «نحن إذن جيلٌ مطالَب بحمل مسئوليةٍ كاملةٍ إزاء الأدب المسرحي، لم تلتفِت إليها الأجيال السابقة، على مدى قرون» (المسرح المنوع، المقدمة).

•••

كتَب الحكيم، بعد عودته من باريس: «إن هدفي اليوم هو أن أجعل للحوار قيمةً أدبيةً بحتة، ليُقرأ على أنه أدبٌ وفكر.»

ولقد كان الحوار هو وسيلة الحكيم المفضَّلة لصياغة أفكاره وخواطره وانطباعاته. وكان رأيه أن الحوار ينبغي ألا يقتصر على الدراما، وأنه من المفروض أن يمتد، فيحمل كل الأجناس الأدبية التي عُني بكتابتها.

وظل الحوار — بالفعل — سمةً أساسيةً في أدب الحكيم لا يقتصر على الأعمال المسرحية وحدها، لكنه يشمل أعماله الروائية مثل «عودة الروح»، والدينية مثل «محمد»، والعديد من قصصه … القصيرة، فضلًا عن حواراته السياسية والاجتماعية التي حاول فيها توصيل أفكاره، من خلال حوارات بين المؤلف وحماره، أو بين المؤلف وآخرين … الحوار — في كل الأحوال — وسيلةٌ فنية، لا يُشترط أن يكون دراميًا، بحيث يُشكِّل صورًا صالحة — بعضها، أو مجموعها — للعرض. إنه مجرد وسيلةٍ فنية، مطلَقة، للتعبير.

•••

الحكيم يُدرِك دوره جيدًا، وما يتطلبه المسرح المصري منه. يقول في مقدمة المسرح المنوع: «إنها مسرحياتٌ منوَّعة في أسلوبها، وفي أهدافها؛ ففيها الجدِّي، والفكاهي. وفيها ما كُتب بالفصحى أو بالعامية، وفيها النفسي، والاجتماعي، والريفي، والسياسي، ونحو ذلك … إن أي مؤلفٍ مسرحيٍّ معاصر لنا، وينتمي إلى أدبٍ أوروبي يعمل اليوم وقدَمُه مستقرَّةٌ فوق تجارب ألفَين من السنين — تجارب راسخة في أدب بلاده — منذ العهد الإغريقي؛ فإن أي أديبٍ مسرحيٍّ أوروبي إنما يقوم على آثار، امتدت على الأجيال منذ نحو ألفَي سنة، مطبوعة منشورة في لغة بلاده، ينقلها جيلٌ إلى جيلٍ مع ما يُنتِجه وما يُبدِعه، كأنها سلسلةٌ فكريةٌ طويلةٌ متصلة، تحمل كل الأنواع والاتجاهات والابتكارات، وتُحاوِل حل كل العُقَد وكل المشكلات الفكرية والفنية واللغوية والأدبية. أما في بلادنا ولغتنا وأدبنا، فميدان التجربة في التأليف المسرحي ضيقٌ محدود؛ لأن أدبنا العربي لم يعترف بالأدب المسرحي، قالبًا أدبيًّا إلى جانب المقامة والمقالة، إلا منذ سنواتٍ قلائل، كما أننا لم ننقل إلى لغتنا أدبَ المسرح، قديمه وحديثه، إلا منذ سنواتٍ قلائلَ أيضًا … فمؤلفنا المسرحي المعاصر إذن ينهض على فراغ، أو على شبه فراغ، من تجاربَ قليلةٍ ضئيلة، لم ترسخ بعدُ في لغته وأدبه، ويعمل وخلفه فجوةٌ هائلة لم تملَأْها جهود السابقين على مدى الأجيال» (المسرح المنوع، المقدمة).

إنها رؤية فنان يتطلع امامه، فلا يجد سوى الخلاء، أو بعض البيوت القزمة المتساندة التي يصعُب أن تشي بالمستقبل، فضلًا عن الأرض التي تفتقد التسوية … وأدرك أن ريادته تبدأ من فراغ — كانت كذلك فعلًا — فلم يقصر مسرحياته على لونٍ بذاته، وإنما حاول الكتابة في كل فنون المسرح، فاستلهم أساطير الإغريق في «أوديب ملكًا» و«بجماليون» و«بركسا» أو «مشكلة الحكم»، ولجأ إلى التراث الأسطوري العربي كما فعل في «شهرزاد»، أو التراث الديني كما في «أهل الكهف» و«سليمان الحكيم»، أو التراث الفرعوني كما في «إيزيس» … وحين كتب الحكيم «أهل الكهف» فقد كان — والكلام له — يستهدف «كتابة مأساةٍ مصرية على أساسٍ مصري» … فالمأساة الإغريقية تُعنى بالصراع بين الإنسان والقدَر. أما المأساة المصرية — في تصوُّر الحكيم — فهي الصراع بين الإنسان والزمن.

لقد وصف طه حسين «أهل الكهف» (١٩٣٣م) بأنها فتحَت بابًا جديدًا في الأدب العربي، وأكَّد المعنى نفسه، أو اقترب منه مصطفى عبد الرازق، والعقاد، وأحمد الصاوي محمد، وغيرهم.

ومع أن الحكيم — اتساقًا مع طبيعته التي تهوى الدعابة والمشاغبة وتحريك الساكن وإثارة الانتباه — قد حاول أن ينفي عن مسرحيته صفةَ الريادة، ودخل في ذلك مساجلاتٍ مع طه حسين، يجد في «أهل الكهف» اتصالًا بما سبق، وأن هناك روادًا سبقوه في الدرب الذي تصوَّر طه حسين أن الحكيم كان أول من ارتاده … مع ذلك فإن «أهل الكهف» مسرحيةٌ رائدة بلا جدال، وهي تكتسب تلك الريادة من فهمها الواعي لطبيعة الدراما المسرحية.

•••

كان المسرح هو اتجاه الحكيم منذ البداية. لم تَستهوِه القصة أو يُقبِل على كتابتها إلا بعد أن نشَر مسرحيته الأولى «الضيف الثقيل» بسنوات.

«عودة الروح» هي المَعلَم الأول في الرواية الواقعية، تلك التي تستوحي هموم الناس ومشكلات المجتمع، وتقدِّم لنا بشرًا عاديين من هؤلاء الذين تلتقي بهم في أماكن الدراسة والعمل والبيت، والشارع والسوق: سنية ومحسن وسليم وعبده وزنوبة وحنفي ومبروك وغيرهم من شخصيات «عودة الروح» هم البداية الحقيقية لأبطال الرواية المعاصرة، التي تتنفَّس الواقع، وتعبِّر عنه. وإذا اختلفنا في نسبة البداية الروائية لحديث عيسى بن هشام أو زينب أو عذراء دنشواي، فإننا نتفق على أن «عودة الروح» تكتسب ريادتها من أنها أول روايةٍ عربيةٍ تُطالِع القارئ على أسسٍ فنيةٍ راسخة.

ويحدِّثنا الحكيم أنه كتب «عودة الروح» بالفرنسية أولًا، ثم طرح المسوَّدة الفرنسية جانبًا، وأعاد كتابة الرواية من جديد باللغة العربية. يقول: «كنتُ قد شرعتُ أكتُب في باريس في أوائل ۱۹۳۷م، الرواية التي سمَّيتُها بعد ذلك «عودة الروح». كتبتُها أوَّل الأمر بالفرنسية؛ لأن شعوري وقتئذٍ هو أن الفن القصصي كالفن التمثيلي لم يزل في مصر محتاجًا إلى الاحترام الذي ظهر به فنُّ المقالة الأدبية. ولا بد للأديب في مصر وقتئذٍ من أن يكون قبل كل شيء صاحبَ مقامٍ راسخ في ميدان المقال الأدبي. أما المتخصِّص في الكتابة القصصية أو المسرحية وحدها دون أن يكون إلى جانب ذلك كاتب مقال، فإن عالَم الأدب عندنا لا يعترف بجدِّية عمله» (وثائق من كواليس الأدباء، ص۳٠-۳۱).

•••

ولم تكن القصة القصيرة مما يشغل توفيق الحكيم: «كان اهتمامي كلُّه مركَّزًا في المسرح والكتابة المسرحية». وبرغم صداقته لأعضاء المدرسة الحديثة — أحمد خيري سعيد ويحيى حقي وإبراهيم المصري ومحمد تيمور ومحمود عزي وحسن محمود وطاهر لاشين — فإنه لم يجاوز في علاقته بهم حدَّ الصداقة العادية التي لا صلة لها بقضايا الأدب والفن؛ فقد كانت القصة القصيرة هي انشغالهم الأهم. وظلَّت أعمالهم — حتى بعد أن حاول الحكيم الكتابة في ذلك المجال — أكثر استواءً ونضجًا وإلمامًا بفنية القصة القصيرة. لكن الرجل أقدَم على كتابة الرواية والقصة «تطوعًا قوميًّا وفنيًّا، أقوم به كلما شعرتُ أن هناك حاجةً إلى الإسهام بجهد».

•••

يقول الحكيم في تقديمه لمسرحية «يا طالع الشجرة»: «ظهرَت بعد الحرب العالمية الثانية — وعلى الأخص في السنوات الخمسين لهذا القرن — بوادر مدرسةٍ جديدةٍ في المسرح. ظهرَت متفرقةً أول الأمر، برخت في ناحية، ويونسكو وبيكيت وفوتييه وآداموف في ناحيةٍ أخرى … ولكن سرعان ما بدا على هذه الحركة علاماتُ التمسُّك والإصرار، وإذا هي تصمُد بقوة أمام هجمات المعارضين من أغلبية النقاد والمشاهدين إلى الحد الذي لم يُصبِح في الإمكان تجاهلها. وقد حاولتُ تجاهُلَها فعلًا على الرغم من مطالعتي وتتبعي لإنتاجها. ولم أفكِّر أثناء إقامتي في باريس عام ١٩٥٩-١٩٦٠م أن أقتربَ منها … ما الذي تغيَّر إذن؟ … هنا بعد عودتي إلى بلادي أخذتُ أتأمل فنون شعبنا. وإذا بي أجد الأرض الحقيقية التي احتوت معدن هذا الفن الحديث كله … إذا كانت السمة الظاهرة في الفن الحديث من تصوير ونحت ومسرح … إلخ، هي التعبير عن الواقع بغير الواقع، والالتجاء الى اللامعقول واللامنطقي في كل تعبيرٍ فني، وابتداع التجريد في الوصول إلى إيقاعاتٍ ومؤثِّراتٍ جديدة، فإن كل ذلك قد عرفَه فناننا القديم والشعبي على أرض بلادنا منذ القدم … هذا هو السبب الذي دعاني اليوم إلى كتابة هذه المسرحية؛ فنحن أولى من غيرنا باستلهام أساليبنا الشعبية في الاتجاهات الفنية المختلفة» (يا طالع الشجرة، المقدمة).

مع ذلك، ولأن الحكيم قد كتب «يا طالع الشجرة» تأثرًا بما كتبه آخرون في الغرب، ففيما عدا مشهد الزوجَين المتحاورَين، بينما كلٌّ منهما يحدِّث نفسه في الموضوع الذي يهمُّه، فإن المسرحية يسهُل متابعة أحداثها وفهمها، في إطار المسرح الذهني الذي شُغل به الحكيم، وشغلنا به، منذ «أهل الكهف»، لا يغيِّر من ذلك تغيُّر الزمان والمكان، وتداخُل الأحداث، وتكرار الحدث الرئيسي، وغير ذلك مما أوهَم به الحكيم نفسَه — وحاول إيهامنا — أنه هو مسرح اللامعقول، مثلما قدَّمه بيكيت ويونيسكو وأشباههما.

ولكن المسرحية بعدُ — كما يصفها لويس عوض — «عملٌ عظيم، عميق الأغوار، توَّج به الحكيم مَفرِق الأدب العربي الحديث، وجدَّد فينا الأمل أن نجدِّد الكرمة الوارفة، ونفيء بها على العالمين» (مقالات في النقد والأدب، ص٢٥٦).

والحكيم — هنا — رائدٌ جاوز الستين بأعوام!

واللافت أن الحكيم يفتقد تأثيره على الأجيال التالية من كُتاب المسرح، برغم وفرة إنتاجه المسرحي، بينما يجد تأثيرًا ملحوظًا على الأجيال التالية من كُتاب الرواية، رغم قلة إنتاجه الروائي. وكما يقول يوسف الشاروني، فإن الحكيم قد يجد في روايات نجيب محفوظ تطويرًا لما بدأه في عودة الروح. وقد يجد في قصص إحسان عبد القدوس، امتدادًا للرباط المقدَّس، وقد يجد في الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي أثرًا من آثار يوميات نائب في الأرياف (دراسات في الأدب العربي المعاصر، ص۳۱).

وفي تقديري أن انعدام التأثير بالنسبة للأعمال المسرحية، مردُّه إلى أن الأجيال التالية من كُتاب المسرح قد تأثَّرت بأعمالٍ تفوق أعمال الحكيم أصالةً وعمقًا، وتنتسِب — بصورةٍ أشد — إلى الأصول الحقيقية لفن المسرحية.

•••

حاول الحكيم في «بنك القلق» كتابة المسرواية، تضفير الأسلوب المسرحي والأسلوب الروائي في عملٍ فنيٍّ واحد، بحيث يكتمل العمل بالتحام الأسلوبَين. بل لقد حاول أن يجمع بين عنصرَي الرواية والقصة القصيرة. يقول في مقدمة «أشعب أمير الطفيليين»: إني أريد الجمع بين أسلوب الإيجاز والتركيز عند العرب، وهو سمة القصة القصيرة … وأسلوب التحليل والإطناب، وهو سمة الرواية الحديثة.»

وأيًّا كان الرأي في المحتوى الفلسفي لتعادلية الحكيم، فإن قيمة هذا الكتاب المهم، في ريادته، ومحاولة تقديم فكرٍ فلسفيٍّ عربيٍّ معاصر، لا يعتمد على النقل، وإنما يستلهم التراث والبيئة والذات … وكتَب الحكيم المقال الديني والسياسي والاجتماعي والفني، والسيرة الذاتية، والنظرية الأدبية … وكان في كل ما كتب رائدًا، بمعنى أنه كان غير مسبوق، لم يشغَله التقليب في آراء الآخرين، بقَدْر ما عُني بالتفكير في قضايا سياسية وميتافيزيقية ومجتمعية وثقافية، وتسجيلها، في العديد من المقالات والكتب.

•••

حتى اللغة، حاول الحكيم أن يطوِّعها بما يخدم قضية الفن. يقول في تقديمه لمسرحية «الصفقة»: «كانت ولم تزل مسألة اللغة التي يجب استخدامها في المسرحية المحلية موضع جدل وخلاف … وقد كثُر الكلام حول العامية والفصحى … فاستخدام الفصحى يجعل المسرحية مقبولةً في القراءة، ولكنها عند التمثيل تستلزم الترجمة إلى اللغة التي يمكن أن ينطق بها الأشخاص … فالفصحى إذن ليست هنا لغةً نهائية في كل الأحوال. كما أن استخدام العامية يقوم عليه اعتراضٌ وجيه، هو أن هذه اللغة ليست مفهومةً في كل زمن ولا في كل قطر، بل ولا في كل إقليم؛ فالعامية إذن ليست هي الأخرى لغةً نهائية في كل مكان أو زمان. كان لابد لي من تجربةٍ ثالثةٍ لإيجاد لغةٍ صحيحة لا تُجافي قواعد الفصحى، وهي — في نفس الوقت — مما يمكن أن ينطق الأشخاص ولا ينافي طبيعتهم ولا جو حياتهم … لغة سليمة يفهمها كل جيل وكل قطر وكل إقليم، يمكن أن تجري على الألسنة في محيطها. تلك هي لغة هذه المسرحية.» ومع أن تلك الدعوة لم يُقدَّر لها النجاح؛ لأن اللغة الثالثة التي دعا إليها الحكيم لا تنفَّذ بقرار، ولا باجتهادٍ فردي — أو جماعي — وإنما يأتي تطوير اللغة، والتقليل من ازدواجيتها، بانتشار التعليم، واستخدامنا بالتالي لمفردات ومصطلحات وتركيبات غير تلك التي أَلِفنا استخدامها … مع ذلك، فإنه يُمكِن أن ننسب دعوةَ الحكيم، وإقدامَه على تطبيقها، إلى محاولاته الريادية في ثقافتنا.

•••

وإذا كان الحكيم قد ظل يكتب إلى غيبوبة الموت، فالحق أنه توقف عن الكتابة الإبداعية قبل ذلك بسنوات. ولم يكن توقُّفه اعتباطًا ولا مصادفة، بل ولا لضرورة فرضَتها اعتبارات السن؛ فهو — كما قال في حوار صحفي (الأسبوع العربي / ٣ أكتوبر ١٩٦٦م) — قد ترك الرواية في رعاية نجيب محفوظ «وهو بدون شك سيقودها إلى بر الأمان.» … «أما كتابة المسرحية فسأتركها أيضًا وأنا مطمئنٌّ إلى أن جيلًا جديدًا قد ظهر في سعد الدين وهبة وألفريد فرج ويوسف إدريس ولطفي الخولي ورشاد رشدي ونعمان عاشور وميخائيل رومان، وهم كُتاب المسرح القومي، إلى جانب كثيرٍ من المواهب الناشئة التي تبرُز في مسرح الحكيم.»

لقد حقَّقَت المسرحية تألقَها على أيدي نعمان عاشور وسعد وهبة ومحمود دياب وألفريد فرج وعلي سالم وغيرهم … وأكَّدَت القصة القصيرة تفوُّقَها على يد يوسف إدريس ومن بعده جيل الستينيات والرواية على يد نجيب محفوظ، ومن بعده جيل الستينيات كذلك … لكن هؤلاء جميعًا مسبوقون بريادة الحكيم. إنه هو الذي تعرَّف إلى طبيعة الطريق، وبذل الجهد — بمعطياته — في إزالة وعورته، وتمهيده.

•••

كان أشد ما يثير الروائي الراحل محمد عبد الحليم عبد الله الدراسات النقدية التي تجد في أعماله امتدادًا — ولو من الناحية الأسلوبية — لأعمال المنفلوطي. يقول لي: ربما أشعر بالسعادة لو أني كنتُ أحيا في عصر المنفلوطي … ولكنني أحيا بعده بعشرات السنين … والحقُّ أن المعطيات الأدبية يجب أن تناقَش في ضوء عصرها. من الصعب قراءة عبد الحليم عبد الله في ضوء المفهومات الفنية والاجتماعية التي نقرأ بها المنفلوطي، ومن الصعب أن نقرأ مجيد طوبيا وعبد الله خيرت ومحمد الراوي وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي وغيرهم في ضوء المفهومات الفنية والاجتماعية لبدايات محفوظ وإدريس ونعمان وعبد الصبور. بل إنه من الصعب أن نُناقِش إضافاتِ هؤلاء «الكبار» إلى معطياتنا الثقافية في غير الإطار الفني والاجتماعي الذي صدَرَت فيه. وكما يقول حكيم مصر، فإن المقارنة يجب أن تكون بين أدب الأمس في عصره، وأدب اليوم في عصره.

إبداع، سبتمبر ۱۹۸۷م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤