حسين فوزي: رحلة في الزمان والمكان

زرتُ حسين فوزي — للمرة الأولى — عقب إحالته إلى المعاش. كان آخر مناصبه: وكيل وزارة الثقافة والإرشاد القومي.

كانت القاهرة تحتفل بعيد الثالث والعشرين من يوليو. انعكسَت الأضواء على مياه النيل القريب من بيته، والذي يُطِل كذلك على حديقة الحيوان.

كنتُ قد قرأتُ له كتابًا وحيدًا هو «سندباد مصري»، فضلًا عن متابعتي لمقالاته في «الأهرام»، ولأحاديثه الموسيقية في البرنامج الثاني بالإذاعة.

لاحظ تردُّدي، فبادَرَني بالسؤال: متى بدأتَ عملك في الصحافة؟

قلتُ: منذ عامَين.

قال بلهجةٍ مشجِّعة: هذه فرصةٌ لتكتسب خبرة.

ثم وضع ساقًا على أخرى، وقال: هاتِ ما عندك.

ونشرتُ حوارنا في «المساء». ثم تعدَّدَت لقاءاتنا في بيته، أو في التليفون، وأهداني مجموعة كتبه بإهداءاتٍ رقيقة.

في زيارتي الأولى، سألتُه عن أسرته. قاطعني: إذا ناقشتَني في قضايا الثقافة، فأهلًا وسهلًا.

وأردف في تأكيد: لا أحب التحدُّث في الموضوعات الشخصية!

ورأيتُ زوجته الأجنبية، ولم أرَ له أبناء. ومنعَني تحذيره الحاسم من أن أطرقَ البابَ المغلق!

•••

سُمِّي «حسين» على اسم جده، وتيمنًا باسم الإمام الشهيد، الذي وُلِد بالقرب من جامعه. وكان والده مهندسًا معماريًّا بوزارة الأوقاف محبًّا للقراءة، ويحتفظ في بيته بمكتبةٍ وجد فيها الابن بداية التعرف إلى دنيا القراءة والمعرفة.

حسين فوزي، مثقَّف مصري، مارس العديد من المهن والهوايات؛ عمل طبيبًا للرمد، وعالمًا في الأحياء المائية، ورحَّالة، ومؤرخًا، ومؤلفًا موسيقيًّا، وكاتبًا للقصة القصيرة، والأوبريت وكاتبًا صحفيًّا، ومقدمًا للبرامج الموسيقية، وأستاذًا جامعيًّا، ومحاضرًا، وعازفًا للآلات الموسيقية، وعميدًا لكلية العلوم، ووكيلًا لوزارة الثقافة والإرشاد القومي. وكما تقول سمحة الخولي، فقد أثبت حسين فوزي قدرة المواطن المصري العادي على ارتياد آفاق الفنون الإنسانية، وامتلاك ناصيتها، وتمثُّلها تمثلًا واعيًا كاملًا. واستطاع بدوره — بعد ذلك — أن ينقل خبراتِه وحصيلةَ ثقافته الفنية الواسعة إلى مواطنيه. وظل يجاهد في الدعوة لها بكل طاقاته الفنية المتعددة، كاتبًا ومعلمًا ومربيًا وناقدًا وموجهًا وداعيًا للفنون، سواءٌ من منبر الإذاعة، أو الصحافة، أو من خلال مناصبه الكبيرة التي تولاها في حياته العملية.١ كان وراء إنشاء البرنامج الثاني بالإذاعة، ومركز الفنون الشعبية، وكورال أوبرا القاهرة، ومعاهد الباليه والسينما والموسيقا، والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ونظَّم أوركسترا القاهرة السيمفوني، وأوكل إلى خبراءَ رومانيين وضعَ أساسِ فن العرائس. نال جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام ١٩٦٩م. وكان يستحق كذلك جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وفي الاجتماع، وفي جوائز الإنسانيات الأخرى، فضلًا أنه — كما أشرتُ — كان طبيبًا وعالمًا في الأحياء المائية والبحار ورحَّالة! وصفه تقرير الجائزة بأنه «من تلك الشخصيات التي تمثِّل المعنى الكامل للإنسان المثقف في العصر الحديث. جمع إلى عقليته ودراسته العلمية المتخصصة، ثقافة أديب وفنان، تعمَّق في الآداب والفنون إلى ما هو أرفع من مستوى الاحتراف، وأعمق من مستوى الهواية … فقد استهوَتْه الفنون منذ صِغَره، فعالج التصوير والتمثيل ومارس الأدب. أما الموسيقا، فقد درسها دراسةً واعيةً ناضجة، مكَّنَتْه من النفاذ إلى أسرارها العلمية والنظرية والفلسفية.» … وأشار التقرير إلى ما قدَّمه حسين فوزي للثقافة المصرية العربية من إضافاتٍ فنية وأدبية أصيلة، وقيامه بدورٍ تثقيفيٍّ قيادي «كان له أثره التاريخي البعيد».

يقول لي ضاحكًا: أنا شاهد على هذا القرن منذ مطلعه؛ فقد وُلدتُ في العام الأول منه. وقد وصف حياته بأنها رحلة في الزمان والمكان. الزمان هو التاريخ المصري منذ أقدم عصوره، والمكان هو المدن والجزر والمواني والبحار والمحيطات التي تنقل بينها أعوامًا متصلة، ومتقطعة، من حياته.

أتوقف — هنا — لأطرح تساؤلًا عن دلالة كلمات رجاء النقاش، أن حسين فوزي ينتمي — في أصوله البعيدة — إلى الشركس أو الترك، ونسبةٌ غير قليلةٍ من المصريين لديهم هذه الأصول، لكنها لم تمثِّل عائقًا في سبيل اندماجهم الكامل مع الشخصية المصرية، ولكن البعض — ومنهم حسين فوزي — تأثَّر بأصله البعيد، فكانت هناك مسافةٌ ما بينه وبين الشخصية المصرية في أبعادها الكاملة.٢ مبعَث ذلك الرأي — كما يؤكِّد النقاش — أن حسين فوزي كان شديد التجاهل لانتماء مصر العربي. وكان يفضِّل عليه الانتماء إلى الحضارة الغربية «ولذلك كنا كثيرًا ما نختلف مع حسين، ونُحِس بغربته عنا، وغربتنا عنه.»٣ ويرى النقاش أن «صلة حسين فوزي بالثقافة العربية — في أصولها الكبرى — كانت ضعيفة.»٤ أما سامي خشبة، فهو يعيب على اجتهادات حسين فوزي، بأن مصر يجب أن تكون قطعةً من أوروبا، بأنها — أي الاجتهادات — لم تكن تعرف الفارق بين نقل وغرس التكنولوجيا، وبين اكتشاف وتطوير الثقافة القومية. وإذا كان البعض من أبناء المدرسة نفسها، أو أحفادها، قد اختَرقوا حاجز الوجوب المستحيل، بأن ركَّزوا جهودهم على دراسة وتقنين الثقافة القومية نفسها، حتى يصبح وعيُنا بحقيقتنا قائمًا على أساسٍ معرفي وعلمي سليم، بقَدْر ما يقوم وعي الغربيين بحقيقتهم، فإن حسين فوزي ظل داعيةً إلى التطوير، وإلى التعليم من الغرب، وإن لم يستطع أن يكون هو نفسُه أحدَ مكتشفي ثقافتنا، فلم يكن مهيَّأً لذلك بحكم دراسته وتدريبه — الكلام لسامي خشبة — ولا أحد صُناع وعينا بحقيقتنا، فلم يكن يَقْدر على ذلك بحكم تعليمه، وانصرافه إلى هواياته الثقافية، أو غذائه الثقافي الخاص، وإن كان قد ظل — وسوف يظل — أحد المحرِّضين الكبار، على أن نتعلَّم أدوات ذلك الاكتشاف، وهذا الوعي الضروري. ومن هذه الزاوية وحدها، يكون لمدرسته مستقبل. أما ما كان يدرسه بنفسه، فينتمي إلى الماضي بيقينٍ نهائي.٥

وفي تقديري، أن مجرد استعادة قراءة كتاب حسين فوزي «حديث السندباد القديم» تقودنا إلى بعض الأصول العربية في ثقافة الرجل، لكن الثقافة الغربية مؤكَّدة، وواضحة، في كتاباته؛ فهي قضية لا تحتمل الوقوف — طويلًا — أمامها.

أما انتماء حسين فوزي، فالحق أن قلبه لم يكن يسع إلا محبوبةً واحدة، هي مصر. كان محبًّا لها بالمعنى الشوفيني. ثمَّة محاولاتٌ للإفادة من تياراتٍ معينة، لكن «المصرية» تظل هي الحرص الأهم. أذكر قوله: «أومن بوطني، وشعب بلادي، المؤلَّف من ملايين المحرومين من الصحة، ومن التعليم، ومن الرفاهية الجثمانية والعقلية.»٦ وحديثه عن الوحدة الكامنة خلف كل تلك الحضارات المتعاقبة، في السراء والبأساء، «الوحدة القوية المتماسكة التي جعلَتني أشعُر بأنني ابنُ أعرقِ الشعوب طرًّا. تلمَّستُ تلك الوحدة، فعرفتُها في حقيقتها الإنسانية. عرفتُها في الشعب المصري، فردًا وشعبًا، مهما تعدَّد حكامه، وتداولَته الإحن والأرزاء … هذا الشعب الذي أفخر بأنني واحدٌ من آحاده.»٧ ويقول في حوار مع فاروق عبد القادر: لستُ متشائمًا، ولن أكون. قرأتُ تاريخ بلادي كله، فهو قادر — خلال عشر سنوات فقط — أن يستردَّ ممكناتٍ هائلة.»٨ ويكتب في «سندباد مصري»: «لقد حدثَت في حياتي الطويلة ببلاد الغربة، ظاهرةٌ ربما لم أنتبه لها. ولعل أغلب من سافر مثلي شابًّا ليقضي سنواتٍ في الخارج، خبَر إحساس الحنين إلى الوطن، الذي يُعرَف في لغات الغرب بالنوستالجيا. وهو شعورٌ يستولي عليك بحدَّة في الأشهر الأولى من إقامتك، بعيدًا عن أرض كيمي. ومع أنني سافرتُ إلى أوروبا كلفًا بحضارتها — وما زلتُ — فإن انصرافي التام إلى دراسة أهم مظاهر تلك الحضارة وأصولها، لم يَحمِني من نوستالجيا أرضِ كيمي. وكان الحنين يُعاوِدني في فتراتٍ متباعدةٍ طوال الخمسة الأعوام التي قضيتُها بعيدًا عن بلادي.»٩ وفي حوار مع فؤاد دوارة: «رغم حياتي الطويلة في الخارج، متأثرًا بجوٍّ حضاريٍّ رفيعٍ جدًا، ورغم زواجي من فرنسيةٍ باريسيةٍ من البورجوازية العليا، فإن صلتي بوسطي الأول لم تنقطع في يومٍ من الأيام، باستثناء الخمس سنوات التي عشتُها في فرنسا؛ فأنا أعيش اليوم في هذا البيت حياةً أوروبيةً كاملة، ولكني أعيش يومَين كل أسبوعٍ على الأقل مع أسرتي (والدتي وأخواتي) في بيئةٍ قريبةٍ من البيئة التي نشأتُ فيها. لقد وُلِدتُ على بُعد خمسين خطوةً من باب سيدنا الحسين، ولذلك سُمِّيتُ باسمه. ولما تركنا باب الشعرية، انتقلنا إلى فم الخليج. وكان شبه مهجور وقتها، فكان مركزًا للعب بالنسبة إلى السيدة زينب والبغَّالة، فلا تتصوَّر إنسانًا قضى طفولته وشبابه حتى سن الخامسة والعشرين في مثل هذه البيئة، ولم يغادرها إلا حين سافر في بعثة إلى فرنسا، لا تتصور أن مثل هذا الشخص يمكن أن يتحوَّل عن أصله.»١٠ بل إن حسين فوزي، الذي يُعلِن إعجابه بالحضارة الغربية في إطلاقها، يتحفَّظ على النماذج السيئة التي عبَّرت بها الحملة الفرنسية عن تلك الحضارة «درَج الناس على القول بأن مصر فتحَت أبوابَها للحضارة الغربية بعد غزو الفرنسيس لها، في أواخر القرنِ الثامنَ عشر، وبعد تقلُّد محمد علي باشويتها في أوائل القرن الماضي. وهذا صحيح في ظاهره.» وإن كان من السهل «تصور سلوك الجنود الفرنسيين وضباطهم في شوارع العاصمة؛ فهم لم يُراعوا حرمة البلد المغلوب، ولا احترموا تقاليده.»١١ هذه ملاحظاتُ مصري، يؤمن بالعلم وبالتقدم، في موازاة الحفاظ على الدين والتقاليد والهوية الوطنية. وكما يقول حسين فوزي «فمصيبة مصر أن طرقَتْها حضارة الغرب على هذا الوجه الأغبر. جاءتها بخيرها في الصور المادية لهذا الخير، وحملَت إليها شرورها في الصور الروحية للشر. مصر لم تتطوَّر عقليًّا ولا فكريًّا في محاذاة تلك الانقلابات العمرانية التي حقَّقَتها حضارة أوروبا بمصر منذ عهد محمد علي. وما فتئَت الصور المادية للحضارة الغربية هي المتغلِّبة، تسبق — بمراحلَ طويلة — الحالةَ العقلية والشعورية لبلاد وادي النيل.»١٢ ويضيف: «ما أسهَل استعارةَ العنصر المادي في حضارةٍ أجنبية، والاقتباس منها. وأرجو أن نكون تنبَّهنا إلى هذه الحقيقة الخطيرة، وهي أن إدراك عنصرٍ واحد من حضارةٍ غريبةٍ عنا، يجب أن يستدرجَ عناصرها الأخرى، إذا أريد لتلك الحضارة الأجنبية أن تؤتي ثمارها الثقافية، ولكنا أُلبِسنا الحضارة الغربية، كما يُلبَس قميصُ المجانين. أقحِمَت علينا من علٍ في شكلها المادي، وفي جبروتِ أهلِها، وشهوة أطماعهم البشعة … إلخ.»١٣

لقد تعمَّدت اختيارَ هذه الفقراتِ المطوَّلة، من كتابات حسين فوزي وأحاديثه، لأناقش — في ضوئها — ما يُنسب إليه من غُربةٍ عن الزمان والمكان المصريَّين.

قدَّم حسين فوزي كتابه «سندباد مصري» (۱۹۳۷م) بأنه من أشد المؤمنين «بكل ما هو غربي»، لكن الأرضية التي يقف عليها: حبه لكل مصري. إنه — منذ الكلمة الأولى — محبٌّ لمصر، مفتونٌ بها، يعي جيدًا خصائصَ شعبها — أهله وناسه — من ملايين الكادحين والبسطاء. وكان الإيمانُ بالغَرب الذي يعنيه، هو الإيمان بتلك الحضارة التي صنعَها الإنسان الغربي في بلاده، منفصلةً تمامًا عن الدور الاستعماري البشع الذي كان يمارسُه في الدول الأخرى، وفي المستعمرات.

حسين فوزي يريد لمصر أن تنهض بدورها الحضاري الذي أهَّلَه لها التاريخ منذ فجره. ولعله — من هنا — يجب أن تتحدَّد نظرتنا إلى تأليفه — في العشرينيات — لأوبريت مصرية متكاملة، ولصدور كتابه «سندباد إلى الغرب»، ولاهتمامه البالغ بالتراث العربي القديم، يقابله اهتمامٌ مماثل — في مقالاته — بالتراكيب العامية المصرية.

إن المحاولة لأن تعود مصر إلى نفسها، بعد إغفاءة أهل الرقيم بضواحي إفسوس، هي الهدف الذي اتجه إليه حسين فوزي في كل محاولاته. وكان يضايقه تخلُّف مصر المدني والفكري، مقابلًا للثوراتِ العمرانية والعلمية التي حقَّقَتها المدنية الأوروبية، وإن حذَّر من أن نلبَس تلك «الحضارة» — أفضل أن أسمِّيها «مدنية» — كما يُلبَس قميصُ المجانين. إن إدراك عنصرٍ واحدٍ منها، لابد أن يستتبعه استدراجُ عناصرها الأخرى، إذا أريد لها أن تُحقِّق ثمارها المرجوَّة … لذلك، كان الرفض الحاسم، والمستمر، لتقبُّل أدوات الحضارة (المدنية) المادية، وأسوأ مظاهرها الاجتماعية، دون ارتباطٍ بظواهرَ فكريةٍ وفنيةٍ وروحية.

•••

يسأل حسين فوزي نفسه: «متى شعَرتُ وأنا أطالع التاريخ المصري، بأنني أعيش بين عشيرتي وبني وطني من أهل القرون الغابرة؟

ويجيب: حدث هذا وأنا أطالع التاريخ المملوكي، ثم ما تلاه بطبيعة الحال. فمهما كان فهمي وإحساسي بحضارة أجدادي الفراعنة، وجهاد أسلافي المسيحيين، ومهما كان إدراكي لمعنى دخول مصر في حوزة الإسلام، فإنني لم أحِسَّ إحساسًا عميقًا بحوادث تاريخي بقَدْر ما أشعرني به التاريخ المملوكي. ولا أعرف ماذا يكون إحساسُ مُواطنيَّ من أهل الصعيد أو الوجه البحري، ولا إحساس مواطنيَّ القبط، وإنما أنا معبِّر عن نفسي كقاهريٍّ مسلم، من أسرةٍ قاهريةٍ حتى القرنِ السابعَ عشرَ على الأقل. وُلدتُ في أحياء القاهرة التي نسمِّيها المعزية، نسبةً إلى من أشار ببنائها، ولم يبقَ من آثار مُنشِئيها سوى القليل؛ فالقاهرة القديمة، التي نشأتُ في حاراتها، هي القاهرة المملوكية، والطابع الغالب على آثارها هو الطابع المملوكي. ثمَّة بقايا طولونية وفاطمية وأيوبية وعثمانية، ولكن جوَّ القاهرة الذي غمرَني في طفولتي، أحسستُ به وأنا أطالع تاريخ الماليك، والحياة التي تجيشُ بها صفحات الشيخ تقي الدين وأبي المحاسن والسيوطي وابن إياس هي حياتي. لأول مرة شعَرتُ حقًّا بأنني أعيش بين عشيرتي وبني وطني من أهل القرون الغابرة.»١٤
إن التاريخ — في طريقة كتابته — ما زال شَذريًّا مُقطَّعًا، لا نرى في فصوله أكثر من التتابُع التاريخي؛ فهي فصول لا تكاد تجمعها صلة. أشبه بمجموعة قصصٍ لأكثر من مؤلِّف، وحقيقة التاريخ المصري هي في أنه قصةٌ واحدةٌ طويلة، تدور حوادثها حول أشخاصٍ عديدين، من جنسيات ولغات وعقائدَ مختلفة، ولكن بطلها واحد، هو الشعب المصري.١٥ تاريخ مصر — منذ فجر التاريخ — ليس سوى جَور الهكسوس والفرس واليونان والرومان، جور الولاة والحكام والأمراء والسلاطين والمماليك والباشوات والخديويين، وتتابُع مظالمهم.١٦ وأكثر من أرَّخ لمصر من أهلها، ومن غير أهلها، أعشى عيونَهم التاجُ الأبيض والتاجُ الأحمر، وأوراق الغار، ولمعان السيوف، وانفجار بارود الكحل، وشنك انتصارات السلاطين والملوك والقواد، والاحتفالات الكبرى بافتتاح قناة، أو بناء خزَّان.»١٧ ظلت لعنة الحكام قائمة، دائمة، لا تفارق الشعب المصري أبد الدهر، يُحارب الوثنية نصرانيًّا، ويعارض الأرثوذكسية الملكية قبطيًّا، ويقاوم الصليبيين مسلمًا، ولن يغيِّر كل هذا من شراهة حكامه المخادعين، ولن يغيِّر ما بنفوسهم من نهَم الاستيلاء على أرضه، وخيرات أرضه، وصناعته؛ لأن بغيتهم كلهم من الحكم، هي عرقُ جبينه ودمه، ونتاجُ عقله وذراعَيه.١٨ إن صناعة المصريين هي إحياءُ موات الأرض، الحرث والبذر والحصاد، وبناء القصور والمعابد والمدارس والمساجد والخوانق والمقابر، ونسج الحرير والكتان والتكفيت والتذهُّب والنَّقْش. وباختصار، فإن صناعة المصريين هي الحضارة والتعمير.١٩ الأهرام والبرابي والتقويم ونصوص الأهرام والكنائس والبيع والمدارس والمساجد والأضرحة المملوكية … كل هذه الآثار تُوحي إلينا بأسماء الملوك والخلفاء والسلاطين، وننسَى مُنشِئها الفعلي، وهو الشعب المصري، ذلك الشعب الذي يقف خلف كل هذه الروائع، ثابتًا للرزايا والمحن.٢٠

يقول لي: إذا أردتَ دراسة خصائصَ هذا الشعب، فاخطَف رِجلَك إلى أحد أسواقه، في مدينةٍ أو قرية، لا يُهِم. تابِع عمليةَ البيعِ والشراء، الفِصال، الأخذ والعطاء، الاتِّفاق أو الاكتفاء بالقول: يفتح الله.. سيُطالِعُك موروثٌ أنثربولوجي متكامل، يعبِّر عن حضارة تعرَّفنا إلى تاريخها المكتوب، وإن لم يُتَح لنا التعرُّف إلى حضارتها المُسرِفة في القِدَم، أي قبل أن تخترع الكتابة. دراسة خصائص هذا الشعب دافع كل إسهاماتي في الحياة الثقافية. أرحل في الزمان، أو في المكان. أستوعبه جيدًا. أجري المقارنات والموازنات، وألقي الأسئلة، وأحاول أن أجد لها ردودًا علمية، وأسجِّل ذلك كله في صورة إبداعات — هل هذا هو التعبير الأنسب؟ — في الأدب، وفي التاريخ، وفي الموسيقا … إلخ … (ولعلي أعترف — هنا — أني أفدتُ من تلك الملاحظة في رؤية المتنبي لخصائص الشعب المصري، في روايتي «من أوراق أبي الطيب المتنبي». رأي المتنبي ليس إلا استقراءٌ لحياة المصريين على امتداد التاريخ، بين ضفتَي النهر). من طبيعة المصري — في تقدير حسين فوزي — أنه يكره الكبت والضغط على حريته في التعبير عن ذاته. إنه يرفض الإملاء والقهر بطريقةٍ معلَنة، ويُعبِّر عن رفضه بكل السبل، بل انه قد يبدو من أكثر الشعوب طاعة وانصياعًا، لكن من المستحيل على أية قوة، أن تقهَر المصري في قرارة نفسه، تعلَّم من تاريخ الذل أن يتظاهر بالرضى عن حُكامه، والرضوخ لأوامرهم ومحظوراتهم، لكنه يختزن الرفضَ في أعماقه، وقد يفجِّره في لحظةٍ ما، وقد يأخذ هذا التفجُّر صورة الثورة!

•••

وفي تقديري، أن «سندباد مصري» هو أهم كتب حسين فوزي. إنه رحلةٌ إيجابيةٌ في المكان المصري، والزمان المصري. لم تُفلِت جزئيةٌ في بانورامية الحياة. ساعد على اكتمالها — أو اقترابها من الكمال — أنها استغرقَت أعوامًا من عمر كاتبها. قرأ وكتَب وأطال فتراتِ المراجعة، ثم أفاد من قراءاته التالية، ووالَى ما كتَب، فبدَّل وحوَّر وحذَف، حتى استقر الكتاب — بعد أعوام — في الصورة التي قدَّمه بها إلى المطبعة، ليحتل المكانة الأهم بين كتابات حسين فوزي، وليصبح — في الوقت نفسه — معلمًا مهمًّا في المكتبة العربية المعاصرة.

«سندباد مصري» هو التعبير الأقوى في حب حسين فوزي لملحمة شعبه «هذا الشعب الذي أفخر بأنني واحد من آحاده». يقول: «منذ زمانٍ طويل، وأنا أطمع في وضع كتاب على هامش التاريخ أصوِّر فيه الحياة المصرية منذ نشأتها، صورةً صادقة لما اختلجَت به نفسي منذ تيقَّظ فيَّ الشعور والإدراك، سواء أمام النيل، وفوق واديه الخصيب، أو في عرض البحر مقبلًا من البحر الأحمر، بعد رحلة طويلة بالمحيط الهندي، عابرًا قناة السويس إلى بحرنا الأبيض، أو جوَّابًا على سطح بحيرات الدلتا الواسعة، أو متنقلًا بين بحيرة قارون ومديرية الفيوم، أو مخترقًا الصحراء إلى الواحات النائية، أو مختليًا بآثار أجدادي في المتاحف هنا، وفي الخارج، أو مرتادًا أطلالَ بلادي القائمة فيما بين الشلال والدلتا؛ أطلال العصر القديم، والحقبة اليونانية الرومانية، وآثار العهد القبطي، والعصور الإسلامية.»

أصعب شيء، تلخيص فصول هذا الكتاب. إنها مثل البقع — أو المساحات — اللونية، تشكِّل — في مجموعها — لوحةً فنية. إنه كتابٌ يصعُب، وإن كان ممكنًا، الحديث عنه، ولكن الحديث عنه — بأمانة — هو المستحيل بعينه، إلا إذا أعدت كتابة صفحاته التي تبلغ الأربعمائة صفحة.

الكاتب يقسِّم فصول كتابه إلى ثلاثة أبواب؛ الظلام، الخيط الأبيض والخيط الأسود، الضياء … لكن اللحظات تتواصل بلا انتهاء ربما تتوازى، وربما تتداخل، وقد يرين عليها ظلام، وقد يسطع فيها ضياء، لكنها تظل — في كل الأحوال — لحظات، أو قل: لحظة عريضة عميقة ممتدة، تبدأ بفجر حضارة الإنسان، وكما يقول الكاتب فإن «المصري من أول العصر الحجري الوسيط، يتجه اتجاهًا حضاريًّا مميزًا، تختص به مصر، لا يشبه في شيء حضارة فلسطين أقرب جيرانه، فتطوُّر الحضارة المصرية، منذ العصر الحجري الوسيط، استقل بوسائله نتيجةً لعزلة مصر، الجزيرة الخضراء، أو الخط الطويل الزمردي وسط إقيانوس من الصحاري، وبحرَين من المياه الزرقاء، وجبال إلى الشرق، وهضاب إلى الغرب، وذلك بعد ما أصاب المنطقة من تغيُّر في مناخها، وكانت من قبلُ متصلة بالشمال الأفريقي كله، تشبه في طبيعتها أعالي السودان كما هي حالًا. انعزلَت عن جيرانها، وإن بقي لها — عن طريق النيل — اتصالٌ ببلاد النوبة، وما فوق أرض النوبة.»

هذه الكلمات، تفسِّر المدارس المختلفة التي نشأَت عقب ثورة ۱۹۱۹م، والتي نادى بعضُها بالفرعونية، ونادى بعضها الآخر بالثقافة الغربية، ونادى البعض الثالث بالتضامن العربي (لم تكن القومية العربية — كدعوة — قد تأكَّدَت في مصر بعدُ)، وكان الهدف الذي سعت إليه كل ذلك الدعوات هو بعث الشخصية المصرية.

وإذا لم تكن هذه الشخصية قد أفرزَت من المحصِّلات الحضارية، ما يؤثِّر تأثيرًا مباشرًا على الأمم التي اتصلَت بها، فإنها في الأقل — والكلمات للكاتب — عملَت عمل الخمائر في العالمَين القديم والحديث، بما قدَّمَت من أمثولة على ما يبلغه جهد الإنسان العقلي والجثماني والاجتماعي، وهي حضارةٌ يمكن أن تجد فيها العناصر التي تثير عجَبك وإعجابَك، من أية زاويةٍ نظرت إليها، وأية ناحيةٍ طرقتَ دراستها.

في عام ٩٢٢ من الهجرة، كانت بداية المأساة التي امتدت وطالت لأكثر من ثلاثمائة عام؛ فقد دان لسليم الأول حكم مصر. وكان من أول القرارات التي اتخذها، حبس ألفَين من المصريين من رجال الحرف والصناعات وكبار رجال الدولة، وترحيلهم إلى القسطنطينية، على مراكب، حملَت فوقها أيضًا، ما استلبه جنود السلطان من المباني المصرية؛ الأثاث والأخشاب والبلاط والرخام والأسقف المنقوشة والأعمدة السماقية بإيوان القلعة، ومجموعة المصاحف والمشاكي والكراسي النحاسية والمشربيات والشمعدانات والمنابر … لم يكن مجرد غزو، ولا امتداد لإمبراطوريةٍ هائلة، بل كان دمارًا شاملًا، امتدَّت آثاره على الحياة المصرية، حتى اللحظة الحاضرة.

والمؤسف أن الخيانة كانت هي النافذة التي تسلَّل منها انتصار سليم الأول، بعد أن استعصَى عليه بابُ مصر. يقول أحد الضباط العثمانيين: ويهرب خاير بك، وغزالي بك، من قواد السلطان قانصوه لينحازوا رجالهم إلينا، وغيَّرت هذه الخيانة شكل الموقعة، وكانت أساسَ انتصارنا (وهنا لا بد أن نتذكر خياناتٍ أخرى كثيرة، أقربُها إلى أذهان الأجيال الحالية، الولس الذي هزم عرابي، وخيانات بعض الذين ركبوا الموجة في ١٩١٩م).

لقد تعرَّضَت مصر منذ الهكسوس لغزواتٍ متعاقبة، واستوطنَتها حضاراتٌ غازية … لكن الظلام الذي رانَ على الحياة المصرية في تلك القرون الثلاثة، كان أسوأ ما عرفَته في تاريخها … ومن ثَم جاء اختيار حسين فوزي ذلك الحدث بداية ﻟ «الظلام» على الرغم من أن العهد العثماني كان حلقةً متأخرةً في سلسلة التاريخ المصري.

ثم تحدَّدَت الصورة — خلال القرون الثلاثة المظلمة — في غياب باشا، وتولي باشا جديد، والكل يسعى إلى السلب ما أمكن، ومن حولهم الأمراء والمماليك، يسرقون وينهبون ويعذِّبون ويقتلون والضحية — في كل الأحوال — هو الشعب المصري.

وبرغم تلك المساحة الزمانية الهائلة من الظلام في تاريخ مصر، فلم تكن هي كل مساحة الظلام في تاريخها. إن الشعب الذي تتعاقب عليه غزواتٌ عديدة، بدأَت بالهكسوس، وانتهَت — ولا تزال — باليهود، تدلهمُّ سماؤه — في أحيانٍ كثيرة — بسُحبٍ كثيفةٍ قاتمة، تمطر — حين تمطر — قهرًا وبشاعة وظلمًا. ولنقرأ هذه الكلمات الموحية، تعبيرًا عن العهد العثماني، والعهد المملوكي من قبله: «العلم والدراسة والمتون والصلاح والفتاوى والأقراء تلازم المصريين، والحرب والضرب والغدر والقتل والنهب والعودة بالرءوس المقطوعة والجلود المحشوة، تجدها دائمًا في تراجم المماليك والعثمانيين.» … بل إن الكاتب يعتذر؛ إذ يختتم على ذلة الشعب المصري، بأنكى وأفظع الوصمات: «هؤلاء «الولاة» الذين غاب أصلُ أكثريتهم، لم تقف عند السطو والنهب والسبي والفسق العلني، بل راحوا يلوطون في الرجال الاختيارية. والرجل الاختيار — كما تعلم — هو الشيخ الذي جاوز الخمسين، أو قارب الستين. وما أبلغ — وأقسى — هذه الكلمات التي خاطب بها الألفي مصر، عندما لاح في حياته شبح الهزيمة: «يا مصر … انظري إلى أولادك وهم حولك مشتَّتين متباعدين مشرَّدين. لقد استوطنك أجلاف الترك واليهود، وأراذل الأرنئود، وصاروا يقبضون خراجك، ويحاربون أولادك، ويقاتلون أبطالك، ويقاومون فرسانك، ويهدمون دورك، ويسكنون قصورك، ويفسقون بولدانك وحورك، ويطمسون على بهجتك ونورك.»

كانت تلك — في تقدير الكاتب — مأساة الشعب المصري مع كل حُكامه، بدءًا بمصر الفرعونية، حتى مصر الحديثة، سواء أكان الحاكم متوخيًا للعدل، أم محبًّا للظلم، وسواءٌ أجاعها، أم ترفَّق بها … فهي — دائمًا — البقرة الحلوب، اللَّقحة التي تدر، الشاه التي يُجزُّ صوفُها في أرفق وسائل الحكم … والرأي — كما ترى — لا يخلو من التعميم، لكنه لا يخلو من الحقيقة كذلك.

فلماذا اندحر الغزاة؟ … لماذا اندثروا، وتلاشَوا، وانتهَوا، بينما ظل المصري في أرضه ينشُد السلام، ولا يخرج للقتال إلا دفاعًا عنه؟

ذلك هو سِر الشخصية المصرية.

إن الحكمة التي تمثَّلَت بها الجماهير المصرية — في مقاومة الجحافل الغازية — هي: إذا أردتَ السلام، فعن طريق الحرب.

والكاتب يشير إلى أن المصريين لم يخرجوا لمحاربة الإسكندر ولا لدرء ولا لمقاومة أوكتافيانوس قيصر، ولا لنزال عمر وبن العاص، ولا لدرء الغزو المغولي، ولا لمحاربة الصليبيين، ولا الفاطميين، ولا العثمانيين ثم يُجيب على السؤال: لماذا لم يخرج المصريون لدرء كل تلك الغزوات؟

يقول: يجب أن نذكُر أن المصريين يتقبَّلون الغزاة ليُخلِّصوهم من حكمٍ غاشم. رضُوا بالعرب، لينقذوهم من حكم بيزنطة، وفتَحوا أذرعتَهم للإسكندر ليُزيح عنهم نِير الفرس. ونابليون بونابرت جاء إلى مصر يحمل رسالة تحرير العالم، على الأقل في الظاهر. دخل مصر كما دخلَت جنود الثورة الفرنسية إيطاليا وألمانيا. ولو كان بونابرت مسلمًا، لرضي به المصريون مخلِّصًا لهم من جَوْر المماليك.

ولكن المصري يلجأ إلى سلاحه، حين يصبح الوسيلة الوحيدة لدرء الخطر عن أرضه. ويُشير الكاتب إلى تلك الثورات والاضطرابات المتوالية على طول التاريخ المصري، كعلامة على يقظة الوطنية المصرية، والحروب التي دافع فيها الإنسانُ المصري عن المنطقة العربية جميعًا، في حطِّين وعين جالوت والمنصورة ورشيد وغيرها … ثم يضيف بُعدًا ثالثًا، ربما سبق إليه المصريون غيرهم من الشعوب، وهو المقاومة السلبية. ويزيد الكاتب، فيجد في اعتناق المصريين للمسيحية مظهرًا من مظاهر مقاومة الاحتلال الروماني.

وإذا كانت الغزوات الخارجية، والحروب، قد استطاعت أن تمحُو من خريطة العالم أسماء العديد من البلدان، وأن تقلِّص من مساحة بعضها الآخر، وأن تُنشئ بلدانًا أخرى فرضَتها عوامل الهزيمة والتفتُّت، فإن الشخصية المصرية — رغم تعاقُب الغزوات وتوالي الأرزاء والإحَن — ظلَّت على تماسُكها. كلما ازدادت الظروف قساوة، زادت من صلابتها، واستطاعت أن تلفظ العنصر الدخيل، أو تُذيبه في بوتقتها.

ويتصل بتلك القضية، قضيةٌ أخرى، طالما تناولَتها الأقلام الغربية، وإن تلاشت بتلاشي العامل الرئيسي فيها، وهو سطوة الاحتلال: إن الفلاح المصري — في عهود الاستعمار — لم يكن يعرف إلا فأسه ومحراثه. وكان يختلق الوسائل فرارًا من الجندية. وكانت «الجهادية» طوال تلك العهود، سخرةً أكثر من أن تكون عملًا وطنيًّا. ولم تكُن ثمَّة قواعد تنظم عملية التجنيد؛ فالبركة في شيخ البلد الذي كان يبدأ الاختيار بإبعاد أسماء أولاده، وأولاد أقربائه، فأولاد أحبائه ومحسوبيه، فلا يبقى في القائمة سوى أسماء الغلابة من عباد الله.

يوثق «المختارون» من أيديهم وأرجلهم، ويسافرون في رتلٍ طويل إلى نظارة الجهادية، التي لم يكن يعنيها — بالطبع — نوع المجندين، وإنما كان يعنيها العدَد الذي تطلبه من الأنفار! … ويُعلِّق الكاتب على تلك الصورة البشعة بقوله: طبيعيٌّ أن يكره المصريون عمومًا، والفلاحون بخاصة، الجهادية اسمًا ورسمًا، حتى يهرب من يستطيع الهرب منهم إلى البادية وكهوف الجبال، ليُجنِّب نفسه الذل والهوان.» ولعلي أضيف إلى قول الكاتب، إن هذا الفلاح الجندي الذي انتُزع من أرضه وأسرته، لم يذهب إلى حرب دفاعًا عما يعنيه، بل كان يُساقُ إلى حروبٍ بعيدة، وراء الحدود، ووراء البحار … أداة مقتولة في أيدي حكامه ومستعمريه! … من هنا، كَرِه الفلاح المصري الجندية، لكنه لم يتقاعس عن خوض المعارك حتى الموت، طالما كان الهدف هو الدفاع عن الأبناء والزوجة والأرض.

إن معجزة الشعب المصري، ليست في حضارته التي وهبها للعالم فحسب، لكنها في تمكُّن الشخصية المصرية من أن تظل حيةً متماسكة، خلال سبعة آلافٍ من السنين، دون أن ينالها غزو ولا تغيُّر عقيدة أو نظام حكم. الإنسان المصري هو هو، صانع حضارة، يغزلُ خيوطَها بدأَب، ويفرض الحكمة على حُكامه فرضًا، يردُّ الغزاة، او يُفنِيهم في ذاته، دون أن يجدوا سبيلًا إلى إفنائه. مقبرة الغزاة تعبيرٌ عاطفي؛ فما أسهل أن تقضي على عدوك بالموت … لكن من الصعب أن يلتحم عدوك بك، أن يذوب فيك، أن يتحدث لغتك، ويؤمن بمعتقداتك، ويمارس عاداتك وتقاليدك، أن يصبح أنت، ولا تصبح أنت هو، برغم أنه القوة الحاكمة، الباطشة، وأنت القوة المحكومة، المسالمة. وتتوالى الأعوام، ويندثر غُزاة، ويأتي غزاة، ولا يطرأ تغيُّر في تكوين الشخصية المصرية، التي جعلَت منذ البدء نسج الحضارة همَّها الأول، تتوخَّى لإتمامه السلام، فلا تحمل السلاح إلا دفاعًا عنه!

أخيرًا، فلعلي أعود فأعترف بصعوبة الكتابة عن «سندباد مصري» … ومع هذا، فإن أجدر ما يجب علينا تسجيله، أن الكتاب وثيقة حب من كاتبه، شغلَه كتابتُها خمسَ سنوات، وإنْ شغله التفكير فيها كل سني عمره الواعي. إن سندبادنا المصري تعبيرٌ عن شخصية تجسَّد فيها الضمير المصري، بكل خصائصه وطبائعه وصفاته، تقوم برحلات في الزمان، وفي المكان، بحثًا في الشخصية المصرية، ودراسة لأبعادها … وهي ليست شخصيةً روائية ولا ملحمية، ولا تُعانق الخيال. إنها — بالتحديد — حسين فوزي نفسه، ذلك المواطن المصري الذي نشأ في الجمالية — قاهرة المعز القديمة — واختلط بناسها، ودرس تاريخ بلاده، وتفهَّمه، ولم يتحوَّل بنظره عنها — كلما ناءت به الأسفار — في حب وقداسة وإشفاق.

•••

كان إقدام مجموعة من المبدعين الشبان الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «المدرسة الحديثة»، تدليلًا على البداية الجديدة التي سعى إليها هؤلاء المبدعون الشبان، ومن بينهم — كما تعلم — حسين فوزي. وكان شعار المدرسة «فلتَحيَ الأصالة، فليَحيَ الإبداع، فليَحيَ التجديد والإصلاح».

الفن — في رأيه — عملٌ من أعمال الإنسان، صدَر عن إحساس الفنان، وفي لحظات انفعاله، على أساسٍ من تجاربه الفردية الشخصية. وهذا العمل يتخلَّق في صورٍ مختلفة، يتذوَّقها الإنسان — والأفضل القول بأنه ينفعل بها — عن طريق حاسة السمع في الموسيقا والشعر المرتَّل والتمثيلية، وعن طريق حاسة الإبصار في الفنون التشكيلية، ومطالعة الشعر أو القصة أو الدراما، ومشاهدة المسرحية وعرض الباليه.٢١ يقول: «الفن ظاهرةٌ فردية قبل أن يكون ظاهرةً اجتماعية. يبدأ تعبيرًا عن الأحاسيس بوسائلَ عدة، منها الكلام المنظوم والمنثور واللحن والصورة والتمثال، ولكن الفرد إذ يعبِّر عن ذاته، لا يُمكِن تصوُّره منفصلًا عن مجتمعه، لا في الحاضر ولا في الماضي؛ فالفن في مجموعه، هو الصورة الحية الباقية لكل المجتمعات. والفن كالفكر، يبدأ مطلقًا، مجردًا، لا يُعنَى بغير صناعة الانفعال في أشكال وأنماط، تحقِّق تناسبًا جماليًّا، أيًّا كانت وسيلة هذا التناسب، ولكنه يؤدِّي دائمًا غايةً اجتماعية، قد تكون مجرد الإمتاع الروحي في أرفع أنواعه، أو الإمتاع الحسي في أحطِّها. وقد يتعدَّى أيضًا إلى التأثير في المجتمع، فيؤدِّي إلى تطويره. وقد يبلُغ حد الإثارة فيه مدى اندلاع الثورة.»٢٢
ثمَّة حقيقةٌ بديهية — هكذا كان يسمِّيها — هي أن الإلزام والإجبار في الفن، معناه القضاء على الجوهر الفرد في الإنسان؛ أي على ملكة الخلق والإبداع، وهي لا تعيش إلا طليقةً في جوٍّ من الحرية.٢٣ ويقول: «لقد عشت مثل هذه التجربة في مطالعاتي أيام الشباب، عندما كنا نتابع تحركات الثورة الروسية في ربع القرن الذي قطَعه الاتحاد السوفييتي. وبينما كنا نُعجَب بمشروعات السنوات الخمس، وبجهاد ذلك الشعب العظيم نحو خلق المجتمع خلقًا جديدًا، أخذنا مطالعةَ أدبه الجديد. وكنا من العاكفين المعجَبين بالأدب الروسي قبل الثورة، ممثلًا في عباقرته: بوشكين وجوجول وديستويفسكي وتورجنيف وتولستوي وتشيخوف … إلخ، فإذا بنا نُصدَم بأدب كله مصانع وجرَّارات ومزارع جماعية وحرب كولاك ومحطات كهرباء. وكان من غير المعقول ولا المقبول أن يعيش شعبٌ بأكمله، وشعبٌ عظيم، على مثل هذا الأدب المنطفئ المُمِل الخامل.٢٤
ومع ذلك، فقد ظل يقين حسين فوزي أنه «لا فن بلا هدف اجتماعي، حتى فيما يُعرَف بالفن للفن».٢٥ وكان يرى في اللغة العربية دعامة صرحنا الثقافي كله وتعمُّقنا دراستها، نحوًا وصرفًا وأساليب، يزيد من اطمئناننا إلى صدق حياتنا، ورسوخ قواعدها. وطالب بأن يقتصر دراسة اللغة المصرية القديمة — اللغة القبطية — على المتخصصين في حقباتها التاريخية. وإذا كان الأدب العربي المصري — والتعبير له — في بعض العصور، يقصُر عن البلاغة الكلاسيكية، فليس معنى هذا النكوص عن دراسته، خاصة وأن الأدب المصري المعاصر تطوَّر على أساسٍ من كل عصور العربية في مصر، وخارج مصر، ومن المؤثِّرات الغربية.٢٦
وكان يجد في موسيقا سيد درويش تعبيرًا عن المصرية الخالصة. «سيد درويش فنانٌ مصريٌّ أصيل، ظهر في حياتنا في لحظةٍ من لحظاتِ يقظتنا القومية، وأدَّى دوره كفنان ومواطن، أحسن ما يكون الأداء. إنني أُصِر على تأكيد هذه الحقيقة لسببٍ بسيط: إننا نود أن يحيا فن سيد درويش على رأس التلفيقات الغنائية القائمة، ونعتقد أن إحياء موسيقاه قد يُسهِم في تنقية الجو بعض الشيء.»٢٧ ويقول في حوار مع فؤاد دوارة: «مهما قلتَ فيه — سيد درويش — فلن تستطيع أن تتهمه بأنه اتخذ الفن وسيلةً للكسب، وانظر ماذا خلَّف وراءه من ثروة، وأنت تعرف أولاده وأهله.»٢٨

•••

كان التباين واضحًا بين أفكار حسين فوزي وشخصيته الظاهرة؛ فهو ابن بلدٍ حقيقي، حاضر البديهة، يميل إلى الدعابة وإلقاء النكت، ويطعم لغة الكتابة بمفرداتٍ عامية، لكنه ظل إلى وفاته مؤمنًا بكل ما هو غربي، حتى فترة القيلولة كان يجد فيها تكاسلًا لا مبرِّر له، وكان ينصَحُني باعتماد الأسماء والمسمَّيات في مفرداتها اللاتينية؛ لأنها لا تحتاج إلى تشكيل. وكان يعتبر عدمَ السفر إلى الخارج، وإهمالَ تعلُّم لغةٍ أجنبية، خطأً يبلغ مرتبة الخطيئة!

وكان أهم ما يميِّزه حيوية دافقة، تتبدَّى في عباراته السريعة، المتلاحقة، وخطواته المُهروِلة — كنتُ أعاني وأنا أسير بجواره حتى لا يسبقني! — وأسئلتِه التي تحاول تلمُّس الجذور، وعزفِه على آلاتٍ موسيقيةٍ متعددة، وكتاباتِه الأدبية والموسيقية والتاريخية، ورحلاتِه في الزمان والمكان، ورعايتِه للقِطَط التي تملأ بيته، وسماعِه المتذوِّق للموسيقا الغربية الكلاسيكية، وموسيقا التراث العربي.

•••

أعترف أني فوجئتُ عندما سافر حسين فوزي إلى إسرائيل، وتقبَّل الدكتوراه الفخرية من إحدى جامعاتها، وألقى عدة محاضراتٍ أكد فيها على صلة القرابة العِرْقية بين المصريين والإسرائيليين، ووجد في التقدُّم الإسرائيلي نموذجًا يجب أن نُعنى باحتذائه، بينما عاود هجومَه المُسرِف على المجتمع العربي! … كلماته حول الإعجاب بكل ما هو غربي، والرفض لكل ما هو شرقي — مقدمة سندباد عصري — تظل في إطار وجهة النظر التي تحتمل المناقشة. أما كلماته الإسرائيلية، فقد أذهلَتني. لم أجد — وما زلت — تبريرًا لها، وإن تفهَّمتُ قول الصديق فاروق عبد القادر، إن الرجل لم يكن يلتمس بما فعل «رضا أصحاب الحل والعقد، الذين لم يكفُّوا عن الحث والتطبيع وإزالة الحاجز النفسي، ولا كان يبغي تحقيق مصلحةٍ عابرة، شأن الكثيرين ممن فعلوا ذلك، لكنه كان مخلصًا كل الإخلاص للاقتناعات الرئيسية التي شكَّلَت أسس تكوينه الفكري، وأهمها — في هذا السياق — الإيمان الكامل والمطلَق، الذي لا يأتيه الباطل من أي مكان، بصحة النموذج الحضاري الغربي وسلامته، وبأنه النموذج الذي يتعيَّن علينا احتذاؤه إن شئنا أن يكون لنا مكانٌ تحت الشمس. وما أيسَر أن يؤدي مثل هذا الإيمان المطلق إلى إسرائيل، هي التي قامت دعايتُها — منذ بدء البدء — على أنها طليعةُ تلك الحضارة، وواحتُها المتقدِّمة في صحراء العرب والشرق والتخلُّف.»٢٩
ولعلي أتذكَّر ما سبق أن أوردتُه من ملاحظات في موقف أستاذنا نجيب محفوظ من قضية الصراع العربي الإسرائيلي؛ من حق نجيب محفوظ أن يكون له موقفه من قضية السلام مع إسرائيل، ومن حقي كذلك أن أتجاوز هذا الموقف، فأؤكِّد الرأي الذي يتصل بنيات إسرائيل في المنطقة، وأطماعها التوسعية التي لم تُفلِح في إخفائها مباحثات ولا خطب ولا تصريحات، فضلًا عن أنها لم ترفع — بعدُ — شعارَها المعلَن «من النيل إلى الفرات أرضك يا إسرائيل!»٣٠
المساء ٢٤ / ۱٢ / ۱۹۷۲م (مع إضافات)

هوامش

(١) المجلة، فبراير ١٩٦٧م.
(٢) المصور، ۳ / ۹ / ۱۹۸۸م.
(٣) المصدر السابق.
(٤) المصدر السابق.
(٥) الحياة، ٦ / ٢ / ۱۹۹۲م.
(٦) سندباد مصري، دار المعارف، الطبعة الثالثة، ص۱۰.
(٧) الطليعة، أغسطس ۱۹۷۰م.
(٨) سندباد مصري.
(٩) عشرة أدباء يتحدثون، فؤاد دوارة، كتاب الهلال، العدد ۱۷۲، ص٦٥.
(١٠) سندباد مصري، ص٥٦.
(١١) المصدر السابق، ص۹۹.
(١٢) المصدر السابق، ص١٠٤.
(١٣) المصدر السابق، ص١٠٤.
(١٤) الطليعة، أغسطس ١٩٧٥م.
(١٥) سندباد مصري، ص۷۱.
(١٦) المصدر السابق، ص١١٦.
(١٧) المصدر السابق، ص٤٥.
(١٨) المصدر السابق، ص١٤٥.
(١٩) المصدر السابق، ص١٤٤.
(٢٠) المصدر السابق، ص۲۱.
(٢١) المصدر السابق، ص۱۳۹.
(٢٢) الكاتب، يناير ١٩٦٤م.
(٢٣) الطليعة، مارس ١٩٦٧م.
(٢٤) المصدر السابق.
(٢٥) المصدر السابق.
(٢٦) المصدر السابق.
(٢٧) سندباد مصري، ص٣٤٦.
(٢٨) الطليعة، أغسطس ١٩٧٥م.
(٢٩) عشرة أدباء يتحدثون، ص۸۰–۸۱.
(٣٠) نجيب محفوظ صداقة جيلين، محمد جبريل، كتابات نقدية، هيئة قصور الثقافة، العدد ١٦، ص٥٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤