عبد المحسن صالح: العالم في مجتمعٍ متخلِّف

عنوان هذا الكتاب «قراءة في شخصيات مصرية»، فما صلة العنوان بعالمٍ مصري، شُغل بالعلوم التطبيقية والميتافيزيقية والنفسية؟ لعل القيمة الأولى لاجتهادات عبد المحسن صالح، أنها اتجهَت إلى بيئتنا المصرية، مجتمعنا المصري، تُحاوِل أن تُجاوِز به التخلف، وتنقلَه إلى عصر العلم والتكنولوجيا.

كان أستاذًا للبكترولوجيا بهندسة الإسكندرية، لكنه — كما قلتُ — عُني بقضية العلم في مجتمعٍ متخلف، أن يلاحق هذا المجتمع تطورات العصر، ويتعرَّف إلى اكتشافاته ومنجزاته. يصفه محمد الرميحي بأنه استطاع أن يجعلَ من علمه جسرًا بين مواطنيه العرب، وبين نتائج العلم الحديث، ويصوغَ الكثير من تجليات هذا العلم صياغةً قريبةً من فهم الإنسان العادي.١
عبد المحسن صالح في مؤلفاته، ليس مجرد عالمٍ يشغلُه تبسيط العلم، لكن الذي يشغلُه — في الدرجة الأولى — هو تحريكُ الساكن، لا بَذْر العلم في تربة التخلف والسلفية والاستاتيكية. يقول: «إن العلم لم يتوصل بعدُ إلى اكتشاف الرضعة السحرية التي يرضعُها الإنسان مرةً واحدة، فإذا به يُصبِح أكثر قدرةً على وزن الأمور وتصريفها بميزان مَن كانت لهم خبراتٌ وتجاربُ واطلاعاتٌ ودراساتٌ هادفة. وهو ما يحتاج إلى أعوامٍ طويلة، تُتيح لصاحبها قدراتٍ ربما لم تُتَح لمن كان في بداية الطريق؛ فأستاذ الجامعة — على سبيل المثال — لم يصل إلى منصبه في قفزةٍ واحدة، لكنه وصل إليه بالتدريج، عَبْر مراحلَ متتاليةٍ من البحث والدراسة والاجتهاد، حتى بلغ المكانة التي يستحقُّها. وهذا هو المقياس الذي يجب أن نتعامل — في ضوئه — في مرافق الدولة الأخرى، وأهمُّها ضرورة احترام التخصُّص. وبمعنًى أدق: وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، تنفيذًا لا شعارًا.٢ عبد المحسن صالح يبسِّط العلم، لا ليسلي قارئه، أو ليحشُوَ ذهنه بمعلوماتٍ طريفة إنما هو يضغط على أهمية العلم، على خطورة دَوره في حياتنا، وأن التغاضي عن ذلك يعني إغماضة الموت. قد نقبل — في زمنٍ مضى — بالاستكانة والتواكلية والرقاد في حِضْن التخلُّف، لكننا لا نستطيع ذلك — بالتأكيد — في زمن الثورات العلمية المتلاحقة؛ المعلومات، والذرة، والإلكترونات، والاتصالات، والمواصلات، والهندسة الوراثية، وغزو الفضاء … إلخ.

يقول لي عبد المحسن صالح: ثمَّة صنفان من البشر؛ متواكلون يسعَون إلى فَناء أنفسهم، فهم يُعيدون كل أمر، وكل كارثة، أو مكروه يحل بهم، إلى الله، فهذه إرادته. والله لن ينظر إلى هؤلاء، لأنه ميَّز الإنسان بالعقل والبصيرة «وكان الإنسان على نفسه بصيرًا.» أما الصنف الثاني، فهم الواعون، الذين يستخدمون عقولهم، فيُحسِنون التصرُّف والفعل وردَّ الفعل؛ فالعقل يقود إلى العلم، والعلم يقود إلى القوة، والقوة هي سنَّة السماء مع كل المخلوقات؛ لأنها تريد بقاء الصالح. والصراع — كما تعلم — سُنة من سُنَن الحياة، وكما يقول القرآن: وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، ويقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، ويقول: «المؤمن القوي خيرٌ عند الله من المؤمن الضعيف» … وآيات أخرى كثيرة.

إن المعرفة هي هدف الإنسان. والفارق كبيرٌ بين الإنسان الذي يعرف، والإنسان الذي لا يعرف. هو فارقٌ أشبه بالفارق بين النور والظلام، أو بين الحياة والموت. ورسالة الإنسان الحقيقية في هذا الكون هي أن يحاول المعرفة، وأن يلجأ إلى العقل الواعي، لا العاطفة المتقلِّبة. لا يعني ذلك إلغاء عاطفة الإنسان؛ فهي الصفة التي يتسم بها دون بقية المخلوقات، ولكنه مُطالَب بأن يجعل العقل في المرتبة الأولى، ثم تأتي العواطف في المرتبة التالية.٣ لقد خلق الله البشر، ووضع لهم — في عقولهم — سلاحًا مهمًّا، هو العقل. إن استخدموه بصورة صحيحة ساروا وملكوا وحقَّقوا الكثير من الإيجابيات، وإن أهملوه فلا يلومَن المرءُ إلا نفسه!٤
يتميَّز الإنسان إذن بنعمة العقل. ومعنى أن يكون للإنسان عقلٌ أن تكون له إرادة، وما دامت له إرادة، فلا بد أن تكون له حرية، ومَن لم يستخدم حرية التفكير والتعبير، فإنه يُجاوِز الصفة الإنسانية، يُجاوِز التميُّز الإنساني، فيُصبِح أقربَ إلى الحيوان. الإنسان لا يمكن أن يُقيَّم بالوزن؛ لأنه ليس سلعةً تُباع وتُشترى، ولو كان ذلك معيارًا لتقدير الإنسان، لكنتُ أول من يزفُّ البشرى إلى الخلق؛ فلدينا ثروةٌ قوميةٌ ضخمة من الدهون مكدَّسة في أرداف كثيرٍ من النساء، وكروش كثيرٍ من الرجال. ومع ذلك، لا يمكن الاستفادة بها، حتى ولو في صناعة الصابون؛ فمصيرها المحتوم تراب، ولا يمكن أن نقيِّم التراب، كما لا يمكن أن نقيِّم الإنسان بوزنه … وعليك أن تقيِّم عقله!٥ يُوصَف الإنسان بأنه خليفة الله في أرضه. وقد فاخَر الله به وفخَر. إذا استخدم الإنسان عقلَه، استغل هذه القَبْسة الرائعة التي تسكُن رأسه. إن آيات القرآن الكريم تحضُّنا على البحث في بدايات الأشياء والخلق. وتقول الآية الكريمة: فانظروا كيف بدأ الخلق، والعلم لا يبحث في الله؛ فقد ترك ذلك لعلماء الدين، أو لعقيدة الإنسان، لكنه يبحث فيما خلق الله، في بدايات خلق السموات والجسَيمات والذرات والخلايا والمخلوقات والإنسان.

•••

أذكُر لقائي الأول بعبد المحسن صالح. كنتُ قد كتبتُ في «المساء» أناقش كاتبًا وزَّع اهتماماته؛ فهو يكتب الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، ويعرض لإنجازات العلم والطب، ويُناقِش فقه الدين ومشكلات الميتافيزيقا. معطياته في ذلك كله، يصعُب أن تُمثِّل إبداعًا ذا قيمة، أو اجتهادًا حقيقيًّا، أو وجهة نظرٍ تستحق النقاش، إنما هي محاولاتٌ في الإبداع تُعاني السطحية والمباشرة، وقراءاتٌ سريعة وغير متعمِّقة، وفهمٌ خاطئ للمتلقِّين، كالدجَّال الذي يهمل التصوُّر بأن واحدًا من الذين يتجه إليهم بكلماته قد يكون على علمٍ وفهم، فيكشف سخافاته.٦

جاءني صوتُه في التليفون: أنا عبد المحسن صالح … أريد أن ألتقي بك.

والتقَينا. واحتوتني — منذ اللحظة الأولى — شخصيته المحبة؛ ابتسامتُه الودود، ومناقشاتُه الجادَّة، وآراؤه، وضحكاتُه. اعتبرتُه، صديقًا، واعتبرَني كذلك. وزرتُه في بيته بالإسكندرية، وحرَصَ على زيارتي كلما سافر إلى القاهرة، وأهداني كل مؤلفاته، ورافقتُه في زيارةٍ علمية إلى بُحيرة ناصر. قضى حوالي الأسبوع يُحلِّل مياه البحيرة، يُحاول تبين تأثيراتها — الإيجابية والسلبية — على البيئة من حولها، وانتهى في بحثه إلى نتائجَ مهمة.

أذكُر أني سألتُه: لماذا اتجهتَ إلى هذا اللون من الكتابة العلمية؟

قال: لهذا قصة … فعندما حصلتُ على درجة الدكتوراه عام ١٩٥٧م، من علوم القاهرة، كان المفروض أن أُعيَّن مدرسًا، لكنني ظلَلتُ ثلاث سنواتٍ بعيدًا. وبلا غضب، انصرفتُ إلى القراءة والتحصيل، واعتبرتُ الدكتوراه بدايةً للتخصُّص في مجالات العلم اللامتناهية، بدايةً أنطلق منها لتحقيق التثقُّف الذاتي بصورةٍ متكاملة، وتصوَّرتُ — يومًا — أن لديَّ حصيلةً من المعلومات أستطيع أن أفيد بها القارئ العادي، فكتبتُ الكثير من المقالات في «الهلال» و«المصور» و«الإثنين والدنيا». وشجَّعَتْني البداية على الاستمرار. ثم ساعدَني التعيين في وظيفة أستاذٍ مساعد بهندسة الإسكندرية، على أن أُخلِص لرسالة العلم وحدَها. قرَّرتُ أن تكون حصيلةُ المقالات التي أكتبها ثمنًا لكتبٍ اشتريتُها، وأستزيد بها من ثقافتي. والآن، لو عدتُ صغيرًا، وخُيِّرتُ في مستقبلي، فسأعلن رغبتي في أن أنصرف للعلم وحدَه، أقرأ وأدرُس وأناقش. وتحضرني الآية الكريمة: وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا.

ران صمت. خلع نظَّارته. أعادها. بدا عليه تردُّد. أضاف: كما يقولون، فإن العلم تجارة المفلِسين ماديًّا، ولكن العلم ذخيرةُ العقل فكريًّا، وحتى لو عشتُ فقيرًا، يكفي أني حقَّقتُ شيئًا.٧

•••

ولد في قرية طما البيشة، التابعة لمركز ببا، بمحافظة بني سويف، في ٢٤ فبراير ۱۹۲٨م. درس بمدارس بني سويف، وتخرَّج في كلية علوم القاهرة عام ١٩٥٠م، وظل بها حتى حصل على درجة الدكتوراه، فعمل في جامعة الإسكندرية. قال لي: أحببتُها لأن معاناتها من التلوث أقل؛ فالبحر يحيط بها من جهاتٍ ثلاث، بينما جبلُ المقطم يحيط بقاهرة المعز! ورغم «صعيديته» فقد ظل عبد المحسن صالح يعتبر نفسه سكندريًّا، يزور عائلته في بني سويف، ويتردَّد على دُور النشر في القاهرة، ثم يعود إلى الإسكندرية، لا يكاد يفارق شقته الصغيرة المُطِلة على شارع توفيق جلال بالإبراهيمية. سألتُه يومًا: لماذا لم تتزوج؟ … أشار إلى الكُتب المتراكمة في أرجاء الشقة: ومن ترضى بالحياة في هذا المخزن؟! وأظنه قد رضي بالزواج من العلم، من القراءة والبحث والاجتهاد ومحاولة التوصل إلى ما يضيف لمجتمعه. بدأ نشر مقالاته العلمية في «الهلال». ثم توالَت مقالاته وكتبه، التي لم تقتصر — كما قلتُ — على مجرد تبسيط العلم، لكنها اتخذَت سبيلًا «تنويريًّا» يستهدف جعل العلم بُعدًا ثابتًا في حياتنا، باعتباره البُعد الأهم في عصر العلم الذي تحياه البشرية.

•••

كان عبد المحسن صالح من أشد علمائنا قدرةً على لفت انتباه قارئه، وإثارة مناقشات لا تنتهي، معه، حول أصعب القضايا العلمية، حتى تلك التي تتصل بما قبل الميلاد وما بعد الموت، في إطارٍ مبسَّط يدفع أقل الناس حظًّا من الثقافة، وربما من التعليم، على القراءة ومحاولة الخروج برأي. يفسِّر إقدامه على تفسير العلم، بأن العلم ثقيلٌ على النفوس؛ فهو يُخاطب العقل، ولا يخاطب الإحساس الدفين داخل النفس الإنسانية. قد تظهره مقطوعةٌ موسيقية، أو أبياتٌ من الشعر، أو أغنيةً جميلة، فقرَّر — من ثَم — أن يكتُب عن العلم، بعيدًا عن تعقيدات العلم٨(ألاحظ أن صديقيَّ سمير الجمل ورجب سعد السيد يقدِّمان الآن — في مجال تبسيط العلوم — إسهاماتٍ يصعُب إغفالها. أذكِّرك — على سبيل المثال — بكتاب سمير الجمل «كيف تكسب زوجتك وتخسر نفسك؟» وكتاب رجب سعد السيد «مسائل بيئية»). ويتذكَّر واقعةً في صباه، عندما رأى فلاحًا يأكل رغيفًا عليه عفَن. اعترض عبد المحسن صالح على ما فعل الفلاح، فقال له مبتسمًا: أكلتُه لأزيل العفونة من بطني! وكان ذلك التصرُّف تعبيرًا عن خبرة أجيالٍ طويلة، ولم يكن اختراع البينيسلين قد اكتُشِف بعدُ!٩

قلتُ له: هل نحن سُلالة قرود؟

قال: نحن سُلالة خليةٍ أولى. الحياة تكتب شفرتها على هيئة جزئياتٍ كيماويةٍ أربع. أربعة حروف، تضم أربعة آلاف مليون معلومة. الإنسان يشارك في سُلالةٍ جنسيةٍ خالدة من أمه وأبيه، وهو يسلِّم هذه الخلية لابنه أو ابنته بواسطة العلاقة الجنسية. وبتعبيرٍ مبسَّط فإن البشر جسورٌ تعبُر عليها الحياة مشوارها الخالد الطويل جدًّا، لإعطاء طوفانٍ دافقٍ من المخلوقات.١٠ لقد استغرق التطوُّر الإنساني أكثر من ألفَي مليون عام، حتى أتى هذا المخلوق الذي يستطيع أن يدرك وينطق ويفكِّر ويُنشئ حضارات وتراثًا، وهذا المخلوق هو نحن. وهو مخلوقٌ اكتسب ميزاتٍ ضخمةً لم يمتلكها أي مخلوقٍ آخر سوانا، ميزات في المراكز العليا في الذهن البشري بما يختلف — بصورةٍ مؤكَّدة — عن ملايين المخلوقات التي افتقدَت تلك الميزات، فلم تستطع أن تتطوَّر وتتكيَّف بالظروف الطبيعية السائدة حولها، فكُتب عليها الزوال والانقراض.
ومن أمثلة كتابات عبد المحسن صالح، التي تستهدف تبسيط العلم، قوله إن خلايا الجسم البشرى — على سبيل المثال — «لا تعرف في حياتها مبدأ الطمع ولا التكويش؛ فبقَدر ما تحتاج إلى طاقات، بقَدر ما يكون لديها من محطات؛ لهذا نرى بعضها يكتفي بخمسين، وبعضها الآخر يحتاج لأكثر من خمسة آلاف، أو ما بين ذلك يكون عدد مولدات الطاقات، ولكلٍّ طاقته، ولكلٍّ عمله؛ فخلايا عضلات القلب تحتاج إلى الآلاف؛ لأن عبء القلب ثقيل؛ فعليه أن ينبض في اليوم الواحد مائة ألف نبضة، ليضُخَّ أكثر من ٦٥٠ كيلوجرامًا من الدم، حتى لقد قيل إن المجهود الذي يبذله القلب يوميًّا، كالمجهود الذي يبذله زعيط وهو يصعد برجًا يصل ارتفاعه إلى أكثر من ثلاثمائة متر؛ أي أقل قليلًا من ارتفاع برجَين كبرج القاهرة. وليس هذا فحسب، بل عليه أن يحمل على ظهره زعيطًا آخر وزنه ۷۰ كيلوجرامًا، حتى يُحِس بالعبء الكبير الذي يبذله القلب العظيم. ومن هنا، فقد أُعطيَت لكل خلية من خلايا عضلاته أكثر من خمسة آلاف مولد، لتعمل ليلَ نهار، وفيها تُشحن بطارياتنا الجزيئية الدقيقة، ثم تُفرغ طاقاتها، لتتحوَّل إلى مجهود، إلى حركة، إلى نبضة، ثم يُعاد شحنها مرةً ومرةً ومرة، وبلايين المرات … كذلك تحتاج خلايا الكبد لكثير من الطاقات؛ لأن الكبد بدَوره مصنعٌ عظيم، يخزن ويوزِّع ويُنتِج ويصنع ويحلِّل ويقوم بعمليات لو أنها وُزِّعَت على أعظم معملٍ كيميائي في العالم، يعمل فيه آلافٌ من العلماء الأكفاء، لكان الكبد أكفأ وأسرع وأدق! كذلك الخلايا العصبية التي تسهَر عليك ليلًا، وتوجِّهك نهارًا، وكأنما هي شبكاتُ رادارٍ عظيمة، تلتقط كل الأحداث الجارية حولك وتبعَث بها إلى المخ العظيم، فيفُك شفراتها بسرعةٍ متناهية، ويبعَث بتعليماته، لكي تتجنَّب حجرًا، أو تبتعد عن كلبٍ مسعور، أو تتمتَّع بالجمال، أو تثور على الأوضاع، أو تجري وتُطلِق ساقَيك للريح إذا وقعتَ في مأزق لن يُنجِّيَك منه إلا الهروب بجلدك لكي تشحن الخلية العصبية نفسَها، ثم تُفرغ شحنتها، وعليها أن تفعل ذلك بسرعةٍ عالية لكي تبعَث بألف نبضةٍ كهربيةٍ في الثانية الواحدة.»١١ ويصف عبد المحسن صالح النواة، بأنها «مركز القيادة الحية في الخلية والجزئيات الوراثية التي تُصدِر التعليمات الكيميائية على هيئة شفراتٍ سريةٍ مسئولةٍ مسئوليةً كاملةً عن حسن سير الأمور؛ ولهذا نعتبرها بمثابة هيئة القيادة التي ترسم وتخطِّط وتنظِّم وتُهيمِن وتُصدِر الأوامر … إلخ. ومن هنا كانت خطورة رسالتها، لأن الخطأ — حتى لو كان طفيفًا — سيؤدي إلى فوضى، إلى نكسة، إلى طفرةٍ سيئة، فتدفع الأجيال التالية من المخلوقات ثمنَها على هيئة أمراضٍ وراثية، والحياة غالبًا ما تقضي على هؤلاء، حتى ولو طال الزمان؛ لأنها تريد أن تحافظ على الصالح القوي، وتقضى على الفاسد الخاطئ، تمامًا كما هو الحال في الشعوب.»١٢ «والنواة — كنواة الذرة — عاصمةٌ جديدة لكل خليةٍ حية، تطوي في داخلها عددًا محدَّدًا من الكروموسومات. والكروموسومات خيوطٌ دقيقةٌ تدثِّرها النواة بغلافٍ رقيق يفصلها عما حولها، وكأنها بهذا تريد أن تتفرَّغ للرسالة الكبرى التي وجدَت من أجلها. ولكن هذا الغلاف لا يمنع الإمدادات والتموين من المركَّبات الكيميائية الأخرى التي تندفع إليها مما حولها من السيتوبلازم لتبني بها جزئياتها، ولتتخلَّق منها جزئياتٌ أخرى تتطلَّبها عملياتُ الحياة. وما أروعَ منظرَ الخلية الحية وأنت تنظر إليها من خلال الميكروسكوب، فتجد النواة تتوسَّطها، أو في ركنٍ منها، ثم تجد السيتوبلازم الحي يدور حولها، ويطوف برحابها، ولا بد أن يدور — كما دار الإلكترون حول نواةٍ من قبل — لكي يتقبل منها الأوامر — أوامر الحياة — يدفع إليها بمركَّبات، ثم تعود إليه مركَّبات أخرى، على هيئةٍ وصورٍ أخرى. وهكذا تسير الحياة بمرافقها.»١٣ أما الفِطر، فهو من «الكائنات الدقيقة التي تلازمنا في كل مقومات حياتنا، وهي ما يُطلِق عليه بعضُ الناس اسم العفَن، ولا بد أنك رأيتَه يومًا، على ثمرة من ثمار الطماطم، فيظهر كعفنٍ أسود عند تشقُّقها بجوار العُنق. وربما تكون قد رأيتَه على هيئة عفنٍ أزرق على الموالح مثل البرتقال، أو عفنٍ أخضر على الجبن، أو البسطرمة تحت ظروفٍ رطبة، أو ربما كعفنٍ أبيض على بقايا طعام وشراب. وعندما تترك ربة البيت — مثلًا — رغيفًا مندًّى بقليل من الماء لعدة أيام، فإنها تجد خيوطًا دقيقة، قد تتجمع في بعض الأحيان على هيئة أقراص، نطلق عليها نحن اسم المستعمرات الفطرية. وقد تتفرَّع هذه الخيوط في كل اتجاه، وكأنها أشبه بخيوط من القطن أو الصوف المنقوش، إلا أنها أدقُّ كثيرًا من تلك الخيوط. ويطلق العامة على مثل هذه الظاهرة لفظًا غريبًا، فيقولون مثلًا «العيش صوف»، أي حلَّ به العفن. والفطريات عالَمٌ قائمٌ بذاته، ينضوي تحت لوائه حوالي مائة ألف نوع من الفطر، والأنواع تتجمَّع تحت أجناس، والأجناس تضمُّها عائلات، والعائلات لها رُتب، والرُّتب تقع في أربعة أقسامٍ كبيرة.»١٤ ويقولُ عن أهمية الماء في حياة الإنسان، إن كل العمليات الحيوية التي تجري داخل الجسم البشرى تحتاج إلى ماء؛ فالإنسان أكثر من نصفه ماء، ولكي يحافظ على هذا المعدل، فلا بُد له أن يشرب كل يومٍ حوالَي كيلوجرامَين من الماء، يدوران في جسمه دورات، ثم يخرجان من منافذَ كثيرة، ولا بد للماء أن يدور مع مكوِّنات الدم حول كل خلية، ليحمل معه نفاياتها، فيُخرجها معه على هيئة بولٍ أو عرق. والجسم بهذه الصورة أشبه بمدينةٍ ضخمة، تمتد أنابيبُها في كل مكان، تحمل مياهًا صالحة للشرب، فتدور في البيوت، ثم تحمل المياه غير الصالحة للشرب أنابيبُ أخرى، فتتخلَّص منها. وهو ما تفعله محطة المجاري. والكُلْيَة في جسم الإنسان تقوم بدور محطة المجاري، فهي تُنقِّي الدم مما فيه من نفايات ذائبة، فيأخذها الماء ويخرج.١٥

تناول لأخطر قضايا العلم، يحرص على البساطة، ويلجأ إلى الصور التي تقرِّب المعنى، ويستعين بالتورية والكناية والتشبيه والاستعارة، وكل ما تَحفِل به اللغة العربية من المفردات والتعبيرات التي توضِّح الجوانب الداكنة في الصورة.

•••

قلت: ما هو الموت؟

قال: لأن جسم الإنسان يشتمل على أعقد وأحكم نظام، فإن هذا النظام لو اختل بصورةٍ ما، فلا بُد أن يبدأ في التقوُّض، ثم الانهيار، ثم الموت. يعود إلى طبيعته الأولى كمادةٍ خام، تدخُل في كائناتٍ أخرى بعد الموت. ولعله من الملاحظ — بالنسبة للنبات — أنه قبل أن يذوي، يعطي بذرًا لكي ينمو نباتٌ غيره، ه، فهو يحمي البذرة، ويعطيها لغيره، حتى تستمر الحياة.

قلتُ: ذلك يدفعنا إلى الحديث عن الروح.

قال: الروح … إنها الحياة التي إذا انتهت في فرد، ظهَرَت في خلية أو خلايا أخرى.

قلت: ألا تؤمن بالتناسخ، أو بتحضير الأرواح؟

قال: العلم واقعي، والأرواح غيبية. وبالإيهام يرى الإنسان ما لا يرى، وبما لا يُوجد في الواقع فعلًا. والعقل يرفض أن يرى الإنسان الوهم كأنه حقيقة، والمسألة — أولًا وأخيرًا — ترجع إلى مدى احتكام المرء إلى عقله ووجدانه.

قلتُ: هل تؤمن بالغيب؟

قال: كذَب المنجِّمون ولو صدَفوا. هكذا العبارة الصحيحة. من الصدفة لا من الصدق، لأنهم — في كل الأحوال — لا ينشُدون الصدق!

قلت: هل تؤمن بالعالم السفلي … عالم القرين والعفاريت والمرَدَة والجان؟

قال: وأنا صغير، كان ذلك هو عالمي الزاخر والغريب، والذي أُعجَب به، وأخاف منه!

قلت: إذن بماذا تؤمن؟

قال: أومن بأنه لو لجأنا إلى العقل في تفسير كل الظواهر والأمور المحيطة بنا، فسيُصادفنا التوفيق.١٦

مع ذلك، فإن عبد المحسن صالح كان كثير التردُّد على جلسات تحضير الأرواح، يُسافِر من الإسكندرية إلى القاهرة لمواعيدَ محدَّدة. جلسات يقيمها أصدقاءُ له من المثقفين. أسأله: هل تؤمن بتحضير الأرواح؟ … يهز كتفَيه: من باب العلم بالشيء! حرَّضَني — يومًا — على أن أرافقه إلى واحدةٍ من تلك الجلسات، لكنني اعتذرتُ بمشغولياتي!

•••

في مكتبي كُتيبٌ صغيرٌ لمؤلِّف قدَّم نفسه بأنه من علماء الأزهر. عنوان الكتيب «كذب على الله من يقول: إن الأرض كروية» تناول فيه «الشبهة التي لصقَت بعقول الذين التزموا الكروية واعتنقوها أشد من عقيدة التوحيد والعياذ بالله تعالى. جاءتهم من ناحية ما نُقل لهم عن أصحابِ علم الهيئة في هذا الصدد؛ لأن أصحاب الهيئة حينما سمعوا قول الله تعالى: أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما فهموا أنها كالكرة، ولعِظَمها وضخامتها لا نُحس بتكويرها، وأنها مكوَّرة على أي تقدير بعد الفَتق من السماء. وقال ذلك بعضُ المفسِّرين المتأخرين، ولكن باحتياط واحتمال التكوير، وأن علماء الهيئة فهموا بالضرورة أن العقل يسلِّم بأن الأرض انفتقَت غير مسطَّحة، ولا بد أن تنفصل مكوَّرة، وتمسَّكوا بهذا، واستمرُّوا على فهمهم واعتقادهم، وانصرفوا عن آيات الله في مدها وفرشها … إلخ.»١٧ وأكَّد المؤلف أنه قد ساعد على بقاء هذه البدعة (!) أسلوبُ الغرب الاستعماري، عدو الإسلام والمسلمين، ليبقى فريق من المتعلمين المسلمين على شك في دينهم كما هو الشأن الآن، ولم يقتدوا بعلماء الإسلام ولا بعلماء التفسير الذين بلَّغوا الإجماع على تفسير الآيات الشريفة بظاهرها وباطنها على بسط الأرض، وهي صريحة الدلالة في مفهومها ومنطوقها.»١٨ عبد المحسن صالح يفنِّد تلك الكلمات الشاطحة — أتصور أنه لم يُتَح له قراءتها — بأن «ظواهر الأمور تجعلنا نُحس بأن الأرض منبسطةٌ ومسطَّحة، فمهما تجوَّلتَ في أرجائها، فإنك لن ترى أنها كروية مع أن هناك أدلةً كثيرةً تشير إلى كروية الأرض لا انبساطها. ولكن لنفرض أن الأرض منبسطةٌ ومسطَّحة، عندئذٍ لا بد أن نقول إن السماء بمثابة سقفٍ مرفوع فوق هذه الأرض المستوية، وفي هذا السقف تنتشر الكواكب والنجوم فوقنا، كما تنتشر الثريَّات المعلقة في سقف الحجرة مثلًا. وعندئذٍ يكون لفوق وتحت معنًى، ولكن الأرض كروية؛ أي إنها أشبه بكرةٍ دوارة في فضاءٍ فسيح، وحولها وفي جميع الاتجاهات تنتشر النجوم والكواكب والأقمار على هيئة أجسام كروية كذلك — وكلها تدور في فضائها. وما دامت الأجرام السماوية — بما فيها الأرض — كراتٍ دوارة، وليست سطوحًا مستوية، فإن أيَّ مخلوقٍ يقف على أيٍّ منها سيبدو له أن كل شيء فوقه، لا تحته كما نتصوَّر.»١٩ واجتهادات — ومعلومات — أخرى، كثيرة، أرجو أن تعود إليها في الكتاب المهم «الإنسان والنسبية والكون».
عبد المحسن صالح يضغط على مقولة إنه من حق أئمة المسلمين أن يختلفوا في تفسير أو فتوى أو تشريع، لكن ليس من حقهم أن يتعالموا ويتعالَوا في أمرٍ من أمور هذا الكون. ذلك — في تقديره — ما لا يُقرُّه منطقٌ ولا عقلٌ ولا دين.٢٠ في الآية الكريمة: قل هل يستوي الذين يعلمون، والذين لا يعلمون، والعلم الآن بين يدَي الإنسان، ونستفيد منه في كل أمور حياتنا، لكن بعض علمائنا يصرُّون على السلفية إطلاقًا، فإذا لم يسارعوا بالأخذ بأسباب العصر وعلومه، فإن الزمن لا يرحم، وقافلة العلم تنطلق بسرعة الصاروخ، لتزداد المسافاتُ اتساعًا بين العلم والجمود، بين الديناميكية والاستاتيكية، بين منطق العصر ومنطق العصور الفائتة … وانتصار العلم هو النهاية الحتمية، ليقضي على كل الخيالات والأساطير والاعتقاد في الخوارق والمعجزات وعودة الأرواح وظهور البركات وغيرها.٢١ يقول على لسان «فهلاو» — شخصية من عندياته: هل يُعقَل أن يصعد الإنسان في السماء حتى يصعد إلى القمر؟ … إنها ولا شك أفكارٌ استعمارية يريدون بها زلزلة عقيدتنا، ولكن - والحمد لله عقيدتنا ثابتةٌ ثبوتَ الجبال.٢٢ والحق أن فهلاو لم يكُن وحده صاحب هذا الرأي. ثمَّة علماءُ كبار ذهبوا إلى استحالة غزو الإنسان للقمر. حتى أستاذنا العالم الكبير الراحل أحمد زكي كتب «الهلال» — أوائل الخمسينيات — يضع الصعود إلى القمر في دائرة الاستحالة!٢٣
إن قوة الشعوب اليوم — كما يقول عبد المحسن صالح — تُقاس بأفكارها وعلمها وعلمائها، وتطوُّرها إلى الأحسن، لا إلى الأسوأ. العلم يقود إلى القوة، والقوة هي لغة عالمنا المعاصر، وهذه القوة يجب أن تستند إلى العقل. الإنسان الحق هو الذي يعرف قيمةَ عقله، وهو الذي يُفيد من هذه النعمة الهائلة لاكتساب القوة لنفسه، ولمجتمعه، فيُعمِّر ولا يخرِّب، ويعمل ولا يلهو، ويتطور ولا يركد، ويصمد ولا ينهار. أما هؤلاء الذين يتصوَّرون أنفسهم لا يُساوون شيئًا فإن عليهم أن يواجهوا الأسئلة: ما الذي حطَّم طموحهم؟ ما الذي جعلهم يحطُّون من شأنهم إلى هذا القَدْر؟ ما الذي طمس عقولهم؟٢٤ ويقول: إن الأفكار دائمًا أمامنا موجودة، لكنها لا تكشف أوراقها إلا لكل من سعى لها سعيها، وتأمَّل أحكامها، ودرَس ظواهرها، والسعيد من أخذ الفكرة، وحاول تقليدَها وتطويرَها، لنتمشَّى مع أنماط الحياة التي تخص الإنسان.٢٥ [لاحظ الإهداء في «مذكرات ذرَّة»: إلى العقلاء من بني الإنسان، علهم بنظام ذرة يوقنون، وفي قوانينها يتدبَّرون] بل إن الحياة والموت — في تقديره — سمتان متلازمتان لهدفٍ كبير، فمن خلالهما تنبُع ظاهرة التجدُّد والتغيُّر، ليتحقَّق التطور إلى الأفضل.٢٦ عيبُ الإنسان الفرد أنه يركِّز كل الحياة في شخصه هو، ويُحاول جاهدًا أن يُحافظ على ذاته من الموت؛ فالموت — بالنسبة له — معناه موت كل شيء يتصل بوجوده، بكيانه وإحساسه وعطائه، كأنه لم يكُن، مع أن الحياة لا تتوقف لأحد، ولا الزمن. انتهَى الزمن فيه هو، لكن الزمن ذاته يظل يمضي، لغاياتٍ أهم، لن تتأتى إلا بموت يعقُبه حياة، اختفاء القديم، ليحل محله الجديد!٢٧ وربما كان الهدف من الموت أن تُبعَث حياة أكبر عقلًا وأنضج فكرًا، وأكثر إدراكًا، وأسمى وعيًا بأسرار الله المطوية في خلقه، وكأنما هي — أي الأسرار — تحتاج إلى عقول أكبر من عقولنا القاصرة. ومع ذلك، فكل شيء يتطوَّر ويتجدَّد، ومن وراء ذلك موتٌ وحياة، لتدور عجلةُ الحياة قويةً هادرةً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.٢٨

•••

سألتُه: قرأتُ مقالة لك تشير فيها إلى أن الزواج عندما يدخل من الباب، فإن الحب يفرُّ من النافذة … هل يعني هذا أنك لا تُوافِق على الزواج كرابطٍ اجتماعيٍّ وأخلاقي؟

قال: أنت لم تفهم قصدي … فالحقيقة أني أصاب بذُعر لمرأى طوفان الأطفال الذي يملأ حياتنا. إن كل طفلٍ منهم يعني في المستقبل القريب، بيتًا وأسرةً وفرصةَ عمل وخلايا في المجتمع، تتصارع مع بعضها، نتيجة لعدم التنبُّه إلى خطر الانفجار السكاني. وهناك سببٌ آخر شخصي: من هي الزوجة التي تُوافق على وجود ضَرة لها وهي دراساتي وأبحاثي العلمية؟!

قلت: فما رأيك في قول علماء الاجتماع بأن الحب، ثم الزواج، هو خديعة الطبيعة للحفاظ على النوع؟

قال: أوافق عليه تمامًا. وأعتقد أن الهورمون هو تلك الخديعة التي تحدَّث عنها العلماء. إن الهورمونات الجنسية هي التي تدفع كل جنسٍ إلى عشقِ الجنسِ الآخر. وأذكُر أن عالمًا كان يُجري بعض البحوث على الهورمونات الجنسية عند الكلاب. وبعد أن أنهَى بحوثه، نسِي أن يُطهِّر يديه. وكانت المفاجأة أن الكلاب في المنطقة التي يسكُن فيها سارت وراءه وهي تتشمَّم يدَيه. اجتذبها هورمون الجنس الذي كان عالقًا بيدَيه. أما مسألة الحفاظ على النوع، فليس المهم أن أكون أبًا بالذات، لطفل بالذات. كل أبناء العالم أبنائي. إن ذروة إحساسي بالسعادة تتجلى في عيون الأطفال.

قلت: فما رأيك في نظريات فرويد؟

قال: بصراحة … خطأ. حكاية الطفل الذي تمثِّل رضاعتَه من ثدي أمه دلالةً جنسية … لا أتصورها!

قلت: إذن … ما تعريفك لكلمة غريزة؟

قال: لفظٌ بديلٌ لجهلنا بما هو كائن، وما هو سيكون.

قلت: ما رأيك في الكتب الجنسية التي تملأ المكتبات؟

قال: بكل أسف، فيها إسفاف وأخطاء، ولا تقوم على أساسٍ من دراسة لعلم النفس، أو علم الجنس، والحق أنا لا أدري كيف تُنشَر هذه الكتب!٢٩

•••

انطلاقًا من إيمانه بأن الحياة تستبقي الأصلح، يطرح عبد المحسن صالح السؤال: الحياة تسير على مبدأ النوع، لا الكم، بمعنى أنه لا يهمها كثرة العدد، بقَدْر ما يهمُّها نوعُ هذا العدد. وتاريخ الأرض الطويل يؤكِّد لنا هذا المعنى، فهل نحن على هُدى قوانين الحياة ونواميسها سائرون؟ أو هل نحن عما يجري حولنا غافلون؟ … ويجيب على السؤال: «لتعلم أن للكون نواميسه، وللحياة قوانينها، فمن عرفها وأدركها وسار على هديها، كان أحق من غيره بالبقاء، ولا جدال في ذلك، وإلا فما معنى مجيء الإنسان العاقل أو المدرك … فهل يُدرِك حقًّا لماذا جاء؟ … إن مجيئه لكي يعمِّر، لا ليدمِّر، لكي يعقل، لا ليُهرِّج، لتكون له رسالةٌ أسمى من رسالة الحيوان الذي نسوقُه ونوجِّهه كيف نشاء. وليس البشر قطيعًا من الأغنام توجِّهه عصا الراعي، بل الأحرى بالإنسان الذي جاء متوجًا لثلاثة آلاف مليون عام من التطور أن يُدرِك أن له في الحياة حريةً وإرادةً ووعيًا بما هو كائنٌ حوله، فيساند الحق، ويحارب الفساد، حتى يستطيع أن يعيش في مجتمع يتصف بصفة الإنسانية لا الحيوانية.٣٠ ويحذر: «إن المجتمعات البشرية — ككل شيءٍ حولها — لفي تطورٍ دائم. وقد يكون التطوُّر دفعةً إلى الأمام، فترقى الشعوب، وقد يكون إلى الخلف فتنتكس. إن إنسان اليوم غير إنسان الأمس، رغم أن هذا امتداد لذاك، وعالم اليوم غير عالم الأمس، رغم أن هذا امتداد لذاك، وصراع اليوم غير صراع الأمس، رغم أن هذا تطويرٌ لذاك. أما إن إنسان اليوم غير إنسان الأمس — ونقصد بالأمس هنا تلك الفترة الطويلة التي مضت على بداية ظهور الإنسان على الأرض منذ حوالَي مليون عام أو أقل — فذلك يعود إلى أن الإنسان القديم لم تظهَر له حضاراتٌ ولم يترك تراثًا ولا علمًا يمكن أن نقيِّمه به. لقد قضى مئاتُ الألوف من الأعوام هائمًا على وجهه في الغابات والفيافي والقفار، يصطاد ويعود بصيده إلى الكهوف. ولم يكن كل همه إلا أن يأكل ويتناسل ويتصارع مع الحياة القاسية من حوله. ومع ذلك فقد كان أكثر إدراكًا ووعيًا وتطورًا من كل ما حوله من أنواع المخلوقات، بدليل أنه استطاع أن يستخدم النار، ويصنع أسلحته من الأحجار والصخور «العصر الحجري». ثم عرف كيف يزرع ويستأنس الطير والحيوان، ويقيم لنفسه حواجز، لتحميه من تقلب الأجواء … إلخ. وباختصار، فقد كان يستخدم عضلاته أكثر من عقله، في حين أن إنسان اليوم يعتمد أساسًا على عقله؛ فقد ذهبت أمجاد العضلات والهِراوات والسيوف، وحل محلها عالَم الأزرار والصواريخ والأقمار … ومع ذلك فلا يزال في عصرنا الحاضر مجتمعاتٌ تستخدم عضلاتها وألسنتها أكثَر مما تستخدم عقولها … ولا تحسبن أن بعض المجتمعات البشرية التي تعيش اليوم تتسم بالغباء المطلَق. ليس هذا صحيحًا؛ فالذكاء موزَّع بالعدل والقسطاس على كل سكان هذا الكوكب، وفي كل مجتمع — بدائي أو متحضر — نسبةٌ من الأذكياء، ونسبةٌ من الأغبياء. ولكن مشكلة المجتمعات المتخلفة أنها لا تريد أن تتطور وتكتسب معرفةً أو علمًا. إن مسايرةَ روح العصر الحديث، تعتمد على التخلي عن بعض القديم، بمعنى أنه يجب أن تزن الأمور بلغة العالم الذي فيه تعيش … إلخ.» ويشير إلى واقع الحال «إن الدول التي تُريد تقدمًا علميًّا وتكنولوجيًّا لا تكتفي بالكلام والوعود؛ لذلك ترونَها تمنح علماءها — خيرة من فيها — كل ما يطلبون. وعندما تيسر لهم حياتهم وأمورهم يقفون من ورائها سندًا، ولا بد أن يصلوا. ويقول «لو كان العلم يُباع لبعناه، ولو كان جرعةً لأسقيناه، ولو كان ثديًا لأرضعناه، ولكنه ليس سلعةً تُباع وتُشترى، بل رسالةٌ يجب أن تُكتنَز وتُقتنَي، خزائنه العقل، ووسيلته البحث والقراءة٣١ وآراء أخرى كثيرة، تؤكد وجوب الأخذ بأسباب العلم والتقدُّم، أخشى لو أني نقلتُ كل ما استوقفَني منها، فربما تحوَّلتُ إلى مجرد ناقل. يكفي أن أحرِّضكَ على قراءة هذا الكُتيِّب القليل الصفحات، العظيم الفائدة «أنت … كم تساوي».
ويشبِّه عبد المحسن صالح الفسادَ الذي تُعانيه بعض الدول بالسرطان. يبدأ صغيرًا، ثم ما يلبث أن يستشري ويتضخَّم، حتى تضعُف الأجسام، وتموت. والفساد — في الدول — يبدأ صغيرًا، من فرد أو عدة أفراد، فإذا لم يتنبَّه المجتمع، ويحاول القضاء على الفساد من بدايته، فإن الفساد سيتضخَّم ويستفحل. وقد تموت الشعوبُ بسرطانها، بهؤلاء الأفراد الذين أفسَدوا مجتمعاتهم، مثلما تموتُ الأجسام بداء السرطان؛ فكما يموتُ الأفراد، تموتُ الشعوب. وموتُ الشعوب يتمثَّل في ذواء حضارتها، وتحوُّلها من حالة الاستقلال إلى حالة التبعية «علينا أن ندرس التاريخ لنتعلم كيف قامت الحضارات، ثم بادت. كيف تقوى المجتمعات، ثم تنهار. كيف ترتفع الدول، وكيف تنخفض؟ من الذي أماتها؟ … إن الانتهازيين والوصوليين والمدمِّرين في عالمنا، أكثر خطورةً على أوطانهم من الأعداء؛ لأن الأعداء معروفون. أما هؤلاء فمُستترون. صحيحٌ أنهم آدميون، ولكن خطورتهم تتركز في أنهم يُظهِرون غير ما يُبطِنون، أو قد يُوحُون إلينا أنهم مصلحون وليسوا هم — في الواقع — إلا مخرِّبين مدمِّرين!»٣٢ ولأن لكل شيءٍ تحملًا وطاقة، فإنه إذا زاد الضنك والضغط والنكد — التعبيرات لعبد المحسن صالح — ثار الشيء وانفجر ليتخلص من ضنكه وكمده ونكده؛ لذلك فإن الثورات — في تقديره — تعبيرٌ مشروعٌ عما في نفوس البشر، مثلما هي تعبيرٌ عما بداخل أي كيانٍ آخر في هذا الكون.٣٣ من حق الجماهير أن تثور إذا واجهَت ظروفًا قاسية، كما تثور كل الكائنات إذا واجهَت ظروفًا قاسيةَ الثورة يجب أن تكون منظَّمة، ولها هدف، وإلا تحوَّلَت إلى فوضى لكن مدمِّرة.٣٤
يخاطب قارئه بالقول: «أنت كإنسان، ذو كيانٍ عظيم، أعظم كيانٍ على هذا الكوكب. تُولد وتنمو وتشُق في الحياة طريقك، ثم تؤثِّر في حياة الناس. وقد تكون دائرةُ تأثيرك عظيمةً أو بسيطة. وقد يأتي غيرك فيكون بمثابة عابرِ طريق، لا يُحِس به أحد، ولا يقيِّمه أحد.»٣٥ ويضيف: «أنت في الوقع تساوي كونًا قائمًا بذاته، حتى ولو قال الناس غير ذلك، وأنت المخلوق الوحيد الذي جاء لهدف في الحياة، ورسالة على هذا الكوكب، هذا إن قدَّرتَ الهدف والرسالة، ووعيتَ المعنى الكامن وراء هذا وذاك. وأنت أثمنُ مما تتصور؛ لأنك بمثابة تتويجٍ عظيم لتجربةٍ كونيةٍ ضخمة، استمرَّت ثلاثة آلاف مليون عام. فكنتَ أنت، وكان غيرك.» ٣٦

•••

سألتُه يومًا: في تصوُّرك، ما القضية الأزلية التي لن ينتهي فيها العلم إلى قرارٍ حاسم؟

قال: قد يبدو غريبًا أن العلم لم يصل إلى قرارٍ حاسم في الأشياء التي من المفروض أن تكون بديهية. وعلى سبيل المثال، فإن بعض العلماء يصف الإلكترون بأنه جُسَيم مادة، والبعض الآخر يصفه بأنه موجَّه. وإذا كان البعضُ الأول قد صدَّق أيام السبت والأحد والإثنين، فإن البعض الآخر حقَّق الصدق نفسه بقية أيام الأسبوع.

مثلًا ثانيًا: الفيروس حي أم غير حي؟ … كلا الرأيَين صواب وهكذا … وإذا أنتَ نظرتَ إلى البشر من مكانٍ مرتفع، فلن تفرِّق بين الرجل والمرأة، والمسألة نسبية. هنا العقل لا يرى الحقيقة والعين أيضًا لا تراها، والعلم لا يؤكد شيئًا، والإنسان إذا تعمَّق في جوهر الشيء فلن يصل إلى الحقيقة المطلقة؛ لأن الذي يصل إلى الحقيقة المطلقة هو الله.

قلت: من خلال تصوُّراتك وتطبيقاتك العلمية: هل قتل عرفة الجبلاوي حقيقة، كما تروي «أولاد حارتنا»؟ … وبتعبيرٍ أدق: هل يستغني الإنسان بالعلم عن الإيمان؟ عن اليقين الديني؟

قال: السؤال الذي يجب أن نلقيه على أنفسنا هو: لماذا جاءت الأديان؟ … إنها — بالطبع — نزلَت من أجل صلاح الإنسان. ولعل تعبير «الدين المعاملة» هو خيرُ ما يحضُرني في هذا المجال. الأديان جسرٌ بين الإنسان وربه، وهي — في الوقت نفسه — جسرٌ بين العلاقات الإنسانية حتى يكونَ الإنسانُ إنسانًا. إن نظام جسم الإنسان هو — في واقعه — مجتمعاتٌ يشارك بعضها البعض في صلاح هذا الجسم. والغريب أن هذه المجتمعات تنجح في مغالبة الأعداء التي تفِد إليها من الخارج، مثل الجراثيم والميكروبات والفيروسات وما أشبه، ولكنها تُواجه محنةً أليمة إذا كان العدو هو بعض أعضائها؛ فالسرطان — على سبيل المثال — خليةٌ متمرِّدة على نظام مجتمع الجسم. أليس ذلك نفسه ما يحدث في المجتمعات البشرية؟ … من هنا، فإني أحرص في المحاضرة الأولى لطلبتي أن أنبِّه إلى حقيقة أن الخُلُق — حتى في مجال العلم — هو أساس كل شيء؛ فالعلم أيضًا خيرٌ وشر. إن اكتشاف الذرة الذي طوِّع لتدمير الجنس البشري، جاوَز ذلك الحد المدمِّر إلى نقيضه، واستُخدمَت الذرة من أجل رخاء الإنسان وتقدُّمه وسلامه. والمفروض أن يكون أستاذ الجامعة مدركًا لدوره في هذا المجال؛ فهو القدوة الحسنة، وبتأثير كلماته تمارس الأجيال الطالعة حياتها.

قلت: أين ترى الله؟

قال: أراه في الخلية. إنها ملكوتٌ يَحار فيه الإنسان ويَهيم. أراه في نظامه العظيم داخل الجسد الإنساني. كل خليةٍ في القلب بها خمسة آلاف محطة، تحصُل على السكر لتحرقه، فتنطلق منها الطاقة التي يحيا بها الإنسان ليحرق السكر ثانية، وهكذا … كل خلية تأخذ نصيبها، لا بد أن تحرقه في محطة القوى.

قلت: فما رأيك في الجنة والنار؟

قال: ألم تذكُرها الكتب السماوية؟ … فهي إذن صحيحة. لكنها ليست بالصورة التي يحلو لبعض المفسِّرين أن يناقشوا بها الأمور.

•••

كانت الإسكندرية تحيا أول أيام رمضان في ٩ مايو ١٩٨٦م، عندما فاجأت عبد المحسن صالح أزمةٌ قلبية. زاره الموت الذي طالما تحدَّث عنه في مقالاته وكتبه. لم أتحرَّ إن كان بمفرده، أم حاول إنقاذه من كانوا معه … فهو قد آثَر الانصرافَ إلى بحوثه ودراساته، ورفَض فكرة الزواج، حتى رحل عن عالمنا.

الموت حقيقة كان عبد المحسن صالح أدرى الناس بمعانيها ودلالاتها. إنه نهايةٌ حتمية لكل حي، لكنها ليست نهايةً عبثية. إنها تأكيد لمعنى الحياة ولاستمرارها؛ فالإنسان يموت بعد حياةٍ قصيرة أو طويلة. تتوقَّف حركته، وتتوقَّف في خلاياه تلك الميكانيكية العجيبة، فلا تزفر الرئة، ولا ينبض القلب، ولا يُصدِر المخ توجيهاته ولا تتحرَّك الجفون أو العيون. انتهَى الإنسان ككائنٍ حي، مات، لكنه — في الحقيقة — لم ينتَه، فهو يتحوَّل — فيما بعدُ — إلى عناصره الأولى، لتدور في أحياءٍ أخرى. والمعنى أبعد ما يكون عن تناسُخ الأرواح، لكنه يعني تلك العجلة الضخمة التي تدور بعناصر الأرض وبأحيائها، فتُحيل التراب حياة، والحياة ترابًا!٣٧
وإذا كان الجاحظ قد مات وعلى صدره كتاب، ولفظ يوسف كرم أنفاسه بين كُتبه، وسط أنقاض بيته المتهدِّم، فإن عبد المحسن صالح مات في غرفة مكتبه بشقَّته المُطِلة على شارع توفيق جلال حدث ما حدث دون ممهِّدات. لم أعرف إلا أن النوبة القلبية فاجأَت الرجل، فمات وهو يُنهي بعض أبحاثه! … لكن ما تركه عبد المحسن صالح من كتبٍ منشورة، يسُد فراغًا حقيقيًّا في حياتنا الثقافية، ليس بمجرد تبسيط العلوم، وإنما بالدور التنويري المؤكَّد الذي دفعه إليه إحساسه كعالم، وكأستاذٍ جامعي، وكمثقَّف، في مجتمعٍ يدين بالجهل والخرافة والمعتقدات البالية!٣٨،٣٩

هوامش

(١) عبد المحسن صالح، من أسرار الحياة والكون، كتاب العربي، العدد ١٥، ص٦، ٧.
(٢) عبد المحسن صالح، أنت كم تساوي، كتاب الهلال، العدد ٢٤٩، ص١٥٩.
(٣) الوطن (العمانية)، العدد السنوي، ١٩٧٥م.
(٤) أنت كم تساوي، ص١٢٥.
(٥) المصدر السابق، ص٢٤٩.
(٦) المصدر السابق، ص۱۰.
(٧) المساء، ۸ / ۱۱ / ۱۹۷۰م.
(٨) الوطن، مصدر سابق.
(٩) عبد المحسن صالح، أسرار المخلوقات المضيئة، هيئة الكتاب، ١٩٦٤م، ص٩.
(١٠) عبد المحسن صالح، الفطريات والحياة، هيئة الكتاب، ١٩٦٤م، ص١٧٥.
(١١) الوطن، مصدر سابق.
(١٢) أنت كم تساوي، ص٥٠، ٥١.
(١٣) المصدر السابق – ص۸۰
(١٤) عبد المحسن صالح، دورات الحياة، هيئة الكتاب، ١٩٦٣م، ص۲۹.
(١٥) الفطريات والحياة، ص۱۹.
(١٦) دورات الحياة، ص١٠٦.
(١٧) الوطن، مصدر سابق.
(١٨) عبد الرافع الدجوي، كذب على الله من يقول إن الأرض كروية، طبع دار الأنوار.
(١٩) المصدر السابق.
(٢٠) عبد المحسن صالح، الإنسان والنسبية والكون، هيئة الكتاب، ۱۹۷۰م، ص٥ وما بعدها.
(٢١) من أسرار الحياة والكون، ص۲۱.
(٢٢) المصدر السابق، ص١٩٤.
(٢٣) الإنسان والنسبية والكون، ص٤.
(٢٤) المقال من قراءات الصبا، وأعتذر عن عدم تذكُّر تاريخ الصدور.
(٢٥) أنت كم تساوي، ص۱۷۳.
(٢٦) من أسرار الحياة والكون، ص١٦٤.
(٢٧) المصدر السابق، ص١٣.
(٢٨) المصدر السابق، ص١٥.
(٢٩) المصدر السابق، ص۲۲.
(٣٠) الوطن، مصدر سابق.
(٣١) أنت كم تساوي، ص١١٦.
(٣٢) أنت كم تساوي، هيئة الكتاب، ۱۹۷۰م، ص۱۸۱؛ و«مذكرات ذرَّة»، دار المعارف، ۱۹۷۱م، ص١٢٥ وما بعدها. ويُرجع إلى «هل لك في الكون نقيض»، ص۱۳۹.
(٣٣) المصدر السابق، ص۱۳۷.
(٣٤) المصدر السابق، ص١٦٢.
(٣٥) المصدر السابق، ص١٦٤، ولعلنا نذكُر حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م.
(٣٦) أنت كم تساوي، ص۷۲.
(٣٧) المصدر السابق، ص٩٤.
(٣٨) الوطن، مصدر سابق.
(٣٩) دورات الحياة، ص٤٣ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤