هؤلاء الرواد الثلاثة … لماذا اختفَوا؟

أسماءٌ ثلاثة، توهَّجَت في سماء حياتنا الأدبية، ثم اختفت كأنها الشُّهب التي تُطالِع أنظارنا — أحيانًا — وهي تمضي إلى المغيب!

هل السبب ما قاله بلزاك: «في مجال الإبداع الفني، إما أن تكون ملكًا متوجًا، وإما أن تكون صعلوكًا ذليلًا، ولا يُوجَد بين بين.» … أو أن هناك أسبابًا أخرى، سياسية أو اجتماعية أو — ربما — نفسية كانت وراء توقُّف أدبائنا الثلاثة، المفاجئ، وغير المبرَّر حتى الآن؟

المثَل الإنجليزي يتحدَّث عن ذلك الذي أُلقي به بين كرسيَّين؛ أي إنه — لسببٍ أو لغيرِ سبب — لم يحصُل على فرصته الحقيقية في التألق، رغم أنه قد لا يقل قيمةً عن هؤلاء الذين شغَلوا الصفوف الأمامية. وكم في حياتنا ممن ينطبق المثَل الإنجليزي عليهم، لا في الفن وحده، وإنما في كل مجالات الحياة. والمثَل المصري يقول: «قيراط حظ ولا فدان شطارة»، بما يعني أن الأفضل فنًّا، قد لا يكون الأفضل حظًّا!

•••

نحن لا نعرف شيئا عن المسرحيات التي كتبها مصطفى ممتاز قبل أن يقتبس توفيق الحكيم مسرحية «غادة ناربو» عن الفرنسية، ويترجمها مع ممتاز في صورة أوبريت غنائية باسم «خاتم سليمان» … وقد قدَّمَت فرقة عكاشة تلك المسرحية، لأول مرة، في مستهل موسمها الخامس في ۲۱ نوفمبر ١٩٢٤م، بألحان كامل الخلعي.

كانت النسخة الخطية للنص المسرحي مودَعةً في المركز القومي للمسرح. أتاح لي الصديق سمير عوض — سكرتير المركز، آنذاك — قراءتها. أتذكَّر الاسم بخط الرقعة على الغلاف، وأنها من تأليف مصطفى ممتاز وحسين توفيق الحكيم.

كان الحكيم أيامها (أواسط الستينيات) في رحلة إلى باريس واتصلتُ بأستاذنا يحيى حقي، أسأله عن الرجل. قال إنه كان موظفًا بإدارة الشياخات والعمد بوزارة الداخلية، وإن المسرح كان شاغله الأهم، لولا توقُّفه المفاجئ.١

وفي مقدمة كتاب «وثائق في كواليس الأدباء» كتب الأديب الراحل رشدي صالح: «والقارئ لا يعرف مصطفى ممتاز، ولكني عرفتُه عن قرب، وشدَّني إليه أنه في شيخوخته، لم يفقد إيمانه بعظمة الأدب المسرحي، بل كان دائم الحديث عنه. وكان دائم التقدير لتوفيق الحكيم، ذلك الرجل الذي واجه ضغوطًا حقيقية لكي يترك المسرح والأدب، وينصرف إلى الوظائف المحترمة، في نظر أهله ونظر المجتمع في ذلك الوقت، ومنها وظائف النيابة.»

ويروي الحكيم أنه عرف مصطفى ممتاز عن طريق زميله في مدرسة الحقوق صابر ممتاز. وتوثَّقَت صداقتُهما بعد أن أخبر كلٌّ منهما صاحبه، أن فرقة عكاشة قدَّمَت له بعض المسرحيات. وكان مصطفى ممتاز قد توظَّف بشهادة البكالوريا في وزارة الداخلية، ومع ذلك، فقد أجاد اللغة الإنجليزية على نحوٍ أتاح له قراءة عيون الآداب الأجنبية، واقتبس الحكيم مسرحية «خاتم سليمان» التي اشترك معه ممتاز في اقتباسها لفرقة عكاشة.

وقد وُضِع اسم مصطفى ممتاز قبل اسم توفيق الحكيم لعدة اعتبارات، من بينها — كما أشرنا — أنه كان على صلةٍ بالمسرح وأهله، وله العديد من المسرحيات التي ألَّفها قبل اشتراكه مع الحكيم في «خاتم سليمان».

والثابت من رسائل مصطفى ممتاز إلى الحكيم أن «ممتاز» كان قد عشق المسرح إلى أذنَيه. بل إنه كان يكتب العديد من المسرحيات في وقتٍ واحد، وكان أكثر همةً من الحكيم نفسه؛ فهو يقول في إحدى رسائله إلى الحكيم: «أما عن تقاعُدك عن المطالعة أو عمل أي شيء، فهو ما لا أراه لك رأيًا، وحبَّذا لو أنك انتهزتَ فرصةَ صفاء الذهن وجمال ما حولك من المناظر، لتعمل عملًا جديًّا ممتعًا، وعسى أن يصلني منك قريبًا ما تُبشِّرني به من شروعك في عمل جديد.»

وفيما عدا كلمات رشدي صالح في مقدمة كتاب الحكيم «وثائق» والرسالة التي نشَرها الحكيم في بداية الكتاب، فإن اسم الرجل يغيب في الكتب النقدية، والمؤلفات التي تُعنَى بتناول إبداعاتنا وحياتنا الأدبية عمومًا، منذ بدايات القرن. وإن أشار المؤرخ الموسيقي محمود كامل في كتابه عن «محمد القصبجي» أن مصطفى ممتاز كان واحدًا من الذين عابوا على محمد القصبجي خروجه على «طاوور» الموسيقى العربية التقليدي في مونولوج أم كلثوم الشهير: إن كنت أسامح وانسى الأسية.

أما لماذا واصل الحكيم الكتابة للمسرح، في حين آثر مصطفى ممتاز أن يتجه إلى اهتماماتٍ أخرى لا تتصل بالفن … فالسبب الذي يرويه الحكيم غاية في الطرافة والغربة معًا، فقد التقى الحكيم وممتاز — مصادفة — في مطالع الأربعينيات وامتد بهما الحديث، وتذكَّرا الزمن القديم. وكما يقول الحكيم، فقد راح مصطفى ممتاز «يُنشِد لي بعض أغاني رواياتنا القديمة، وأنا في ذهول! شدَّ ما تغيَّرتُ أنا، وتغيَّرَت نظرتي للفن مراتٍ ومرات، خلال تلك السنوات، ولكنه هو باقٍ كما كان على احترام تلك القواعد والمُثُل التي كانت هدفنا ومرمى أبصارنا في الكتابة المسرحية. إنه — فيما خُيِّل إليَّ — لم يقرأ شيئًا مما أكتب وأنشر اليوم؛ فهو لا يعترف بعملي الآن، وهو إذ يُحادثني في شئون الفن لا يُبدي اهتمامًا ولا إعجابًا إلا بما كنتُ أصنع قبل ثمانيةَ عشَر عامًا. أما اليوم فأنا في نظره غير موجود. إنه يذكِّرني بأشخاص رواياتنا الغابرة، كمن يُذكِّر بأناسٍ من أهل الحسَب والنسَب والكرم والشهامة لن يجود بمثلهم الزمان؛ فهو يترحَّم عليهم ويقول: مضى كل شيء، ولن نرى مثيلهم أبدًا على خشبة مسرح من مسارح اليوم! هذا صحيح. وجعلتُ أتأمل قوله لحظة، فخامرَني شكٌّ في أمري اليوم، وقلتُ في نفسي: ألا يكون هو على حق … وأكون أنا قد ضلَلتُ وانحرفتُ عن طريق الفن الحق؟! إن فنَّ المسرح فنٌّ مرجعه السليقة السليمة لا الثقافة الواسعة. إنه شيء والأدب شيءٌ آخر. أتُراني محتاجًا إلى ثمانية عشر عامًا أخرى لأكرَّ عائدًا إلى ذلك النبع الذي بدأتُ منه ونأيتُ عنه.»٢

إذن، فقد آثر مصطفى ممتاز اختزال الكتابة المسرحية؛ لأن صورة المسرح في ذهنه لم تُجاوِز ما كانت عليه في العشرين عامًا الأولى من هذا القرن. ما يطلبه عكاشة والخلعي وحجازي، يفصِّله المؤلف بالمقاسات المحدَّدة، المطلوبة. أما الحكيم فقد غيَّرَت رحلتُه الباريسية من صورة المسرح في ذهنه، وفي قلمه. لم يعُد المسرح فن السليقة السليمة — وهو الفن الذي كان يمثِّله مصطفى ممتاز! — لكنه أصبح فنَّ الثقافة الواسعة. وهو المفهوم الذي عاد بالحكيم من باريس لفن المسرح، وللفنون عمومًا.

فهل يعني هذا، أن مصطفى ممتاز كان ضد التجديد في الفن؟ … وهل هذا هو السبب — فعلًا — في توقُّفه عن الكتابة للمسرح، عقب عودة الحكيم من باريس، ليُزاوِج الحكيم — في أعماله الجديدة — بين الفرجة والفكر؟ … وهل كتب ممتاز مسرحياتٍ أخرى لم يُتَح لها العرض؛ لأنه أهمل تقديمها، أو لأن ظروف المسرح شهدَت تغيرًا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وثورة ١٩١٩م؟ … وهل لو أُتيحَت لمصطفى ممتاز الفرصةُ نفسُها التي أُتيحَت للحكيم في السفر، والتعرُّف المباشر والحميم إلى الثقافة الغربية، وإلى الفنون التي حقَّقَت التفوُّق في مواطنها، بينما كانت تُعاني التعثر وهلامية الملامح في بلادنا.. هل كان يُؤثِر التوقف، أو يُضيف إلى حياتنا الثقافية، ما يماثل إضافات الحكيم؟

الأسئلة كثيرة. والأجوبة ربما تتيح لنا التعرُّف إلى جوانبَ مجهولةٍ من بدايات المسرح المصري المعاصر، بالتعرُّف إلى الجوانب المجهولة في سيرة أحد روَّاده … ولعل ذلك ما يقدِّمه لنا — يومًا — أحد طلاب الدراسات العليا في جامعاتنا العربية.

•••

أما الشخصية الأدبية الثانية، فهو أحمد زكي مخلوف.٣ قرأتُ له رواية «نفوس مضطربة» التي أصدَرها السحَّار في مشروع لجنة النشر للجامعيين. وكانت تمثِّل تفوقًا بالقياس إلى الروايات التي صدَرَت في الفترة نفسها (أوائل الأربعينيات).

وأذكُر أني اتصلتُ بأستاذنا نجيب محفوظ، أسأله عن الرجل. قال إنه خريج قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة. وقد عمل في إدارة الجامعة، وزامل فيها — لأعوام — نجيب محفوظ. وتحوَّلَت الزمالة الى صداقة — عمق منها توجُّهُهما الأدبي — ثم شارك زكي مخلوف في لجنة النشر للجامعيين بروايته الوحيدة. وأصبح — فيما بعدُ — من الحرافيش الأساسيين … والتعبير لنجيب محفوظ، الذي أضاف في تأكيد: فضلًا عن ذلك، فإن زكي مخلوف هو أفكهُ شخصيةٍ في الوجود كله! … وقال لي نجيب محفوظ إن آخر ما شغَله زكي مخلوف من وظائف، هو أستاذ اللغة الإنجليزية في إحدى الجامعات السعودية، وإنه كتب روايةً ثانية قدَّمها الى مشروع المكتبة العربية — الذي توقَّف لأسبابٍ غير معلَنة! — وكلف القائمون على المشروع نجيب محفوظ بقراءة الرواية، فقرأَها، وأوصَى بنشرها … لكن السادة المشرفين أعادوا قراءتها، فتبيَّنوا فيها بعض العبارات الجنسية، واعتذَروا عن نشرها.

وسألتُ نجيب محفوظ عن بواعث اكتفاء الرجل بروايتَين، نُشرَت إحداهما، وظلت الثانية في الأدراج. قال: إنه لا يعرف سرًّا لتوقُّف زكي مخلوف عن الإبداع؛ فلم يكن الرجل يعاني الظروف المادية القاسية التي كان يحياها معظم أبناء جيله. كان يمتلك بيتًا وسيارة، بينما يحاول الآخرون مجاوزة ظروفهم المادية القاسية، بما يُعينُهم على استكمال التعليم الجامعي.

أما الرواية الثانية لزكي مخلوف، فقد قال نجيب محفوظ إنها كانت تتناول حياةَ مريضٍ في مصحةٍ نفسية، وإنها كانت روايةً جيدة بالفعل. وحين أصَر مجلس الفنون والآداب على رفضها، فإنه قدَّمها إلى مجلة «صباح الخير». فلما سأل — بعد فترة — عن بواعث تأخر نشرها، أخبروه بضياع المخطوط، ولم يكن لديه نسخةٌ ثانية، فتأكَّد له — ربما — وجوبُ انصرافه عن الفن.

فماذا عن نفوسٍ مضطربة؟

لقد صدرت في ١٩٤٣م. وإذا كانت الأفلام النقدية قد عُنيَت بالروايتَين اللتَين صدَرتا لعادل كامل «ملك من شعاع» و«مليم الأكبر» فضلًا عن مسرحيته «ويك يا عنتر»، أو «عنتر وأنجة» تحاول أن تجد له موضعًا بين جيل الوسط، فإن اسم أحمد زكي مخلوف لم يُطبَع إلا على غلاف روايته اليتيمة.

الرواية تتناول التناحر الحزبي في أعقاب ثورة ١٩١٩م، وانعكاسه على المجتمع، وبالذات على حياة أسرةٍ مصرية، كان عائلها يَدين بالولاء المطلق لزعيم الوفد سعد زغلول، ثم لخليفته مصطفى النحاس.

الأعمال الأدبية التي عرضَت للخلافات الحزبية، اقتصَرَت — أو كادت — على أبعاد الصراع بين الزعامات المختلفة، وتأثيرات ذلك على الحياة السياسية والاجتماعية المصرية ككل … ولكن أحمد زكي مخلوف في «نفوس مضطربة» تناول شخصيةً من قاع الحياة الحزبية، أسهمَت في نشاط حزب الأغلبية، فنالت بعض الغُنم الذي حصل عليه مناصروه في السنوات القليلة التي تولى فيها الحكم، بينما تعرضت — في الأعوام القليلة التي غاب فيها الحزب عن الحكم — لألوان من الاضطهاد والمصادرة والاعتقال والسجن والتعذيب. وكانت النهاية القاسية هي محصلة تلك الحياة العجيبة. ولعل التعبير الأدق لشخصية الشيخ حسن ما يصفه به الراوي: «إنه مخلوق ومركَّب لا ليكون زعيمًا أو رئيسًا، وإنما ليساعد الرؤساء والزعماء حتى ينالوا مآربهم. فإذا نالوها، بعثوا إليه بخطابِ شكرٍ رقيق، ويكون هذا الخطاب موضوع حديثه وامتنانه وفخره. وينسَونه حتى تأتي شدةٌ أخرى، فيهبُّون إليه قائلين إن الوطن في خطر، والبلاد تحترق إذا لم تمتد إليها يدُه وأمثاله من المجاهدين ينقذونها مما يهدِّدها، ولا يتردَّد الرجل ولا يُحجِم.»٤

لقد بدا الرجل مؤمنًا غاية الإيمان بشخصية سعد زغلول، كأنه صحابي يؤمن بالرسول. ومضى يبشِّر به وله، في كل قرى ومدن أسوان. وكان يدعو إلى العنف والتخريب حتى يُضطَر الإنجليز إلى الرضوخ لمطالب الزعيم التي هي — في واقعها — مطالب الشعب. أسرَت شخصية الزعيم، الشيخ حسن تمامًا؛ فهو لا يؤمن بغير زعامته. وإذا قال الزعيم إن الشمس تُشرِق من المغرب، وتغرُب من المشرق، فما على الشمس إلا أن تُطيع، وإلا فلتُفصَل من الحزب.

ولعل المرة الأولى التي واجه فيها الشيخ حسن مغبة الاشتغال بالعمل السياسي، لمَّا أُقيلَت وزارة النحاس، وتولَّى محمد محمود الحكم بدلًا منه. إن المأمور هو تعبير عن إرادة الحاكم في الإقليم. ولعله من هنا تأتي دلالة الاسم؛ فهو يأتمر بأوامر الحكومة القائمة دون أن يكون لمشاعره، أو نوازعه السياسية، أو الاجتماعية، دخلٌ في ذلك. وقد كان أول ما فعله مأمور أسوان — ذلك الذي كان لا يمَل الانحناء أمام ممثلي حزب الوفد — أن دفع بهؤلاء الممثِّلين — والشيخ حسن من بينهم — إلى السجن، ثم أفرج عنهم، ليُعيدَهم إلى السجن ثانية. ثم ولي المديرية مأمورٌ جديد، ما لَبِث أن استدعى الشيخ حسن، وعزم عليه بسيجارة وفنجان من القهوة. وحدَّثه صراحة عن رغبة الحكومة القائمة في الاستفادة من جماهيريته بين أبناء أسوان.

وعلى الرغم من الأيام القاسية التي عانى الشيخ حسن ويلاتها، فإن الرجل ظل حريصًا على موقفه. ولم يجد غضاضةً في أن يضحِّي بكل ما يملك من صحة ووقت ومال، في سبيل الفكرة التي يؤمن بها «أهمل الرجل أولاده تمامًا، برغم أنه كان يعُد نفسه في مقدمة المصلحين الاجتماعيين، فآثر ثَلاثَتُهم طريق الانحراف والجريمة.» وكان الرجل يتألم من افتقاره لمن يفهم جهده، ويدفعه الى مواصلة النضال، حتى بين أفراد أسرته؛ زوجه وأمه وأولاده … وعاد الرجل ذات مساء، بعد جولةٍ مضنية أدرك فيها بشاعة المأزق الذي يتعرَّض له حزبه، ويتعرَّض له هو شخصيًّا. فأمسك ورقةً وقلمًا، وكتب رسالة إلى رئيس حزبه يجدِّد الثقة به، ويؤكِّد أن الشعب لن يتخلى عن إيمانه بزعامته.

ثم ابتسمَت الأيام من جديد للشيخ حسن، بعد توقيع معاهدة ١٩٣٦م، وتولى الوفد الحكم لتنفيذ بنود المعاهدة.

وكانت الظروف المادية الطيبة التي بدأ الشيخ حسن يحياها هي الدافع لأن يتقدم بطلب يد فتاةٍ في سن ابنته. وحاوَل الرجل أن يعوِّض فارق السن بالمقابل المادي والعاطفي، فلم يبخل على زوجه — ليلى — بشيء، واستعان بالمقوِّيات، ولجأ إلى الخمر، لعلها تفيده في ذلك.

ولكن أيام الرخاء ما تلبث أن تذوي وتتلاشى … فقد ذهب حزب الشيخ حسن، وحل محله حزبٌ جديد، جعل مهمته الأولى تطهير الأداة الحكومية من أنصار الحزب الأول. واضطُر الشيخ حسن — حتى لا يتأثَّر وضعُه المادي — للعودة مع أسرته إلى قريته الصغيرة، وكانت تلك العودة بداية تردِّي حياة الرجل إلى مصيرٍ مؤلم … فقد ماتت الزوجة بتأثير مرضٍ غريب، ورغم شدة الصدمة، فإن الرجل لم يُخفِ سعادته حين زاره رئيس الحزب معزيًا، وحاوَل — من بعدُ — أن يتعلم تاريخ الحزب، وأفكار ومبادئ الزعيم، وألقى الرجل بنفسه شيئًا فشيئًا في دوامة الشيخوخة واليأس والاكتفاء من الماضي بذكرياته الجميلة: ألم يكن زعيم الحزب يجد لذةً كبرى في اللعب معه، في أوقات فراغه؟ … ولما عُرضَت عليه وظيفةٌ تحفظ له تماسُك أيامه المقبلة، عاودته عُنجُهيته القديمة، ورفض الوظيفة لأنها في دائرة أحد باشوات الأحزاب المناوئة. وأعلن في ثقةٍ أنه سيصبر حتى يعود حزبه إلى الحكم في القريب العاجل، ثم أصيب الرجل بما يشبه الجنون — أو بلوثةِ جنونٍ حقيقية — فهو يؤكد أن الحالة السياسية الداخلية قد تحسَّنَت تمامًا، وأن حزبه سيعود إلى الحكم، وستُسنَد إليه وزارة الأوقاف. وأدمن الشراب فلا يكاد يُفيق … حتى مات.

هذه روايةٌ رائدة في جملة نواحٍ؛ فهي تسبق كل روايات الأجيال التي قدَّمها لنا طه حسين في «شجرة البؤس»، والسحار في «قافلة الزمان»، ونجيب محفوظ في «الثلاثية» … وهي تنطلق من مقولةٍ رافضةٍ للحزبية التي كانت مرضَ العصر، وتُجيد تحليل الشخصية وتقصِّي دوافع تصرُّفاتها، بحيث تغادر الرواية وقد شغلَت تفكيرك، واتصلتَ بها بأكثر من وشيجةٍ نفسية واجتماعية.

إن شخصية الشيخ حسن واحدةٌ من تلك الشخصيات التي يُجيد رسمها الأدباء، ويُعنَون بتحسين ملامحها وقسماتها بالتفصيلات الدقيقة، وبالألوان والظلال … فاذا أضفنا إلى كل ذلك تميُّز الرواية من حيث فنية التناول — التكنيك — أو الأسلوب، فإن «نفوس مضطربة» روايةٌ رائدةٌ في كل الأحوال، وتستحقُّ موضعًا جيدًا في مكتبتنا الروائية.

•••

ومع أن الاسم الثالث قدَّم العديد من الأعمال الأدبية هي: مليم الأكبر، ملك من شعاع، ويك عنتر — أو «عنتر وأنجة» … فإنه قد انصرف عن الابداع، لسببٍ وحيد، معلَن؛ أن المحاماة مصدر رزق. أما الإبداع فقد يحتاج لأن يُنفِق عليه صاحبه. كانت المقارنة — كما ترى — غير منطقية، ومتعسِّفة٥ … لكن ذلك ما استند إليه عادل كامل بالفعل في انصرافه عن الأدب، والتفرُّغ للمحاماة، بعكس ما فعلَه نجيب محفوظ … فقد اعتبر الفن حياة لا مهنة، وكما يقول «فحينما تعتبره مهنة، لا تستطيع إلا أن تشغل بالك بانتظار الثمرة. أما أنا فقد حصرتُ اهتمامي بالإنتاج نفسه، وليس بما وراء الإنتاج. وكنتُ أكتب لا على أمل أن ألفِت النظر إلى كتاباتي ذات يوم، بل كنت أكتب وأنا معتقد أني سأظل على هذا الحال دائمًا.» وقال لي نجيب محفوظ، إنه حاول — وأبناء جيله — مع عادل كامل، كما حاول مع زكي مخلوف … لكن المسألة كانت أكثر عمقًا من ظاهرها، فمن المستحيل تصوُّر أن الفنان يتخلى عن الفن … لكن الأقرب إلى التصور — بل هو الواقع فعلًا — أن الفنان قد يعطي ما لديه في عملٍ واحد، وربما اثنَين، بينما قد يحتاج فنانٌ آخر إلى العديد من الأعمال ليفرغ ما يختزنُه من رؤًى وقراءات وخبرات.

وأذكر أن الشاعر والاذاعي فاروق شوشة، سأل نجيب محفوظ في بداية الستينيات: في الفترة التي كتبتَ فيها رواياتك التاريخية، ظهر معك كاتبٌ آخر هو عادل كامل، أصدر روايةً تاريخية هي «ملك من شعاع». وعندما انتقلتَ إلى مرحلة الرواية العصرية، انتقل معك أيضًا، فأصدر روايةً عصريةً ممتازة هي «مليم الأكبر» … ويبدو أنه قد زاملَك في الموهبة، وفي الظروف الفكرية، لكنه لم يُواصِل الكتابة، بينما سرتَ أنت … فهل تلقي لنا بعض الضَّوء على قصة هذا الكاتب؟

أجاب نجيب محفوظ: عادل كامل من طليعة كُتاب جيلنا بغير جدال، و«ملك من شعاع»، و«مليم الأكبر» من عيون الأدب العربي المعاصر، ويمكن أن تُعِد مؤلفهما رائدًا لمدرسةٍ أدبية اتضحَت معالمها فيما بعدُ. وقد وجد نفسه — حيال مسئولياته — أن عليه أن يختار بين الأدب والمحاماة، وواجهَته الأزمة التي واجهَتنا، والتي كانت السبب في اتجاه بعضنا الى الصحافة، أو السينما، أو الجمع بين الوظيفة والأدب والسينما والصحافة … ولما كانت طبيعتُه تأبى الحلول الوسط، فقد قرَّر التفرُّغ للمحاماة. وبذلك خسر الأدب العربي أديبًا لا يُعوَّض بحال، ولكني لا أستبعد أن يعود إلى الأدب يومًا ما …»٦

أما «ملك من شعاع» — أول ما صدر لعادل كامل — فهي تنتسب إلى الروايات الفرعونية التي كانت سمةً لفترة أواخر الثلاثينيات، وأوائل الأربعينيات، والتي قدَّم فيها نجيب محفوظ «عبث الأقدار»، و«كفاح طيبة»، و«رادوبيس» … وقدَّم السحار «أحمس بطل الاستقلال»، بل لقد فاز الكاتب الحضرمي الأصل علي أحمد باكثير بجائزة في مسابقة عن روايةٍ تستلهم التاريخ الفرعوني.

وأما «مليم الأكبر» — ولعلها أول عملٍ روائي يحمل اسمًا لخادم! — فإنها تروي قصة خالد الذي يعود من بعثةٍ تعليميةٍ لدراسة الحقوق في إنجلترا، وفي رأسه وأخلاقه وسلوكياته مثالياتٌ رومانسيةٌ تنتسب إلى القرنِ الثامنَ عشر … وهو — مثل مليم تمامًا، وان اختلفَت البواعثُ والظروف — يريد أن يبدأ حياةً جديدة، ترتكز إلى مفاهيمَ وقيمٍ تحرُّرية وإنسانية.

وعلى الرغم من أن منطلَق مليم وخالد كان واحدًا، وهو الرغبة في تغيير الحياة، فإنهما اختلفا تمامًا في الأسلوب الذي يحقِّق هذا التغيير … فخالد رومانسي، ومثالياته تُصاب بنوبات برد عند مصافَحتِها لنسمة. أما مليم فهو واقعيُّ التفكير والتصرُّفات، حتى إنه لا يتورَّع عن إلقاء شباكه على خالد، الذي كان شاغله أن يعين «مليم»!

لقد ثار مليم — الذي امتهن منذ صباه بيع المخدرات لحساب والده — على واقعه المؤلم، وأعلن رغبته في مزاولة أحد الأعمال الشريفة. كما ثار خالد — ابن أحمد باشا خورشيد — على واقع مجتمعه الذي يُناقِض ما يملأ خياله من قيم ومُثل … وكانت بداية تنفيذ مليم لعزمه على الحياة الشريفة، في عمله كنجار، يُصلِّح نافذةً في قصر أحمد باشا خورشيد. ويعثُر على مظروف بداخله خمسمائة جنيه، فيُسلِّمها إلى عمر، الابن الثاني للباشا. فيأخذ الشاب المبلغ، ثم يتهم «مليم» بسرقته بعد انصرافه، ويقدَّم مليم إلى المحاكمة، ليقضي في السجن عامًا ونصف العام.

وقد حاول خالد أن يُنقِذ «مليم» من مؤامرة أخيه، وجشع والده … لكنه اصطدم بما كاد يُفضِي به هو نفسه إلى السجن. ولمَّا شعَر أنه عاجزٌ عن فعل أيِّ شيء، لجا إلى كوخ على مشارف الصحراء، عاش فيه حياة البداوة، التي طالما تغنَّى بها الرومانسيون … لكنه ما لَبِث أن ضاق بتلك الحياة، وهجَرها.

ويغادر مليم السجن. ويجد استمرار حياته في مهنةٍ جديدة، فهو يعمل في بيتٍ بالقلعة، يضُم عددًا من الذين يُطلِقون الشعارات الباهرة، ويُسرِفون في أحاديث الفن والثورة.

ورغم محاولة خالد الفاشلة في الدفاع عن مليم، فإن «مليم» يُصِر أن ينصُبَ حولَه الشباك التي يُعِدها للجميع. وتعود إلى خالد «ثوريته» — فجأة — بعد أن وقع في غرام إحدى فتيات القلعة، ويقضي ليلةً بأكملها في كتابة منشوراتٍ تدعو لإنقاذ الطبقات الكادحة من براثن الفقر. ويُقبَض عليه عند قيامه بتوزيع المنشورات. ورضَخ خالد — أخيرًا — لجشع أبيه وعناده، وعانق الإحباط. أما «مليم» فقد أفاد من متغيِّرات الحرب العالمية الثانية. تاجر مع قوات الحلفاء، فأثرى، وأصبح اسمه محمد بك سلَّام. ثم تزوَّج من هانيا، معبودة القلعة، التي عجز الجميع عن استمالة قلبها، وأنجبا «مليم» الصغير!

النهاية التي انتهَى إليها مليم الأكبر — باختياره — تتصل بالبداية التي اختارها له أبوه … فهو قد انتهَى واحدًا من أثرياء الحرب، بينما بدأ في ترويج المخدرات لحساب أبيه. وما بين البداية والنهاية، حاول مليم — بصدق — أن يتمرَّد على الزيف، وأن يُمارِس عملًا شريفًا. لكن عوامل الإحباط حاصرَتْه، حتى دفعَتْه إلى القذف بمثالياته من حالق. أما خالد، فإنه يُذكِّرنا بالدكتور إسماعيل في «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، فهو — أي خالد — قد سافر إلى إنجلترا، وطاف بدول أوروبا، وبهرَتْه المذاهب الاجتماعية الحديثة. ثم عاد فوجد نفسه غريبًا عن مجتمعه كذلك؛ فإن ما يتحمَّس له من الفكر الأوروبي يقابله واقعٌ متواكلٌ مستسلم؛ ومن ثم فقد انعكس هذا التناقُض الحاد عليه هو نفسه. وإذا كان الدكتور إسماعيل قد أفلح في استعادة نفسه، وناسه، فإن «خالد» لم يفلح في أي شيء. اجتذَبه الضياع، فأسلَم نفسه لدوَّاماته.

«مليم الأكبر» إذا ارتفعنا بالرواية إلى مستوى الرمز، تشير إلى ذلك اليوم المرتقَب الذي يُصبح فيه الخدم سادةً لأسيادهم، أو أن يحلُّوا مكانهم في المجتمع على الأقل … الهدف نفسه الذي عبَّر عنه الفنان في «ويك عنتر» عندما أصرَّت الخادم أن تحصل على زوج سيدتها. وترك الزوج بيته فعلًا، وتزوَّج الخادم.٧
لقد كتب عادل كامل مسرحيته «ويك عنتر» في ١٩٤٢م. وظل النص حبيس الأدراج ٢٢ عامًا، قبل أن يقدِّم المسرح الحديث مسرحية عادل كامل في ١٩٦٤م، باسم «عنتر وأنجة» بعد أن تحوَّل حوارها من الفصحى إلى العامية. واستقبل النقاد المسرحية بحفاوة وإطراء، إلى حد القول إنها «من أكبر الأعمال الدرامية المتكاملة التي عَرفَها تاريخ المسرح المصري الحديث. ويُعتبَر تقديمها للجمهور هذا الموسم، نوعًا من الاكتشاف لمقدرة خلَّاقة كان لا بد وأن تأخذ مكانها الصحيح، في حياتنا المسرحية.»٨

المسرحية تضغط على الفكرة نفسها التي تناولَتها رواية «مليم الأكبر». نظام الطبقات، وانتهازية الطبقة الوسطى. الزوج المستسلم لإرادة زوجةٍ غنية؛ فهي تنفِّذ ما تقرِّره. تُذكِّرنا بمسرحية إبسن الشهيرة «بيت الدمية»، وإن تغيَّرَت المواضع في المسرحية … فإذا كانت نورا قد صفقَت الباب وراءها في «بيت الدمية»، فإن الزوج في مسرحية عادل كامل يكاد يفعل الأمر نفسه … فقد ثار، وهجَر بيت الزوجية، ليتزوَّج الخادمة التي أحبَّها، تعبيرًا عن انحيازه للطبقة الأدنى.

ولكن المسرحية ظلت بيضةَ الديك، في إسهامات عادل كامل الدرامية. كانت أول وآخر ما كتبه في هذا المجال.

البيان الكويتية، يوليو ۱۹۸۹م

هوامش

(١) يصف الدكتور يوسف نجم، مصطفى ممتاز بأنه أحد الذين سبقوا الحكيم في التأليف المسرحي (ملحق الأنباء الكويتية، ٤ / ٦ / ١٩٨٠م).
(٢) من البرج العاجي، مكتبة الآداب، ۱۹۸۱، ص١٠٤.
(٣) لمزيد من التفاصيل: راجع كتابنا «آباء الستينيات»، مكتبة مصر، ١٩٩٥م.
(٤) الرواية، ص۸۱.
(٥) المصدر السابق، ص٥.
(٦) راجع كتابنا «آباء الستينيات».
(٧) الآداب، يونيو ١٩٦٠م.
(٨) مجلة «المسرح»، يوليو ١٩٦٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤