السنيور العجوز «فيجو»

كانت مدينة «باهيا» تبدو بيضاء من بعيد، كأنها قطعة كبيرة من الجبل الأبيض، وقد أبدت «إلهام» إعجابها بمنظر المدينة من بعيد … وبعد دقائق كانت السيارتان تَشُقَّان طريقهما إلى قلب المدينة المزدحم، ومرة أخرى اختار «أحمد» فندقًا يطل على المحيط ليكون نقطة انطلاق للشياطين في البحث عن وسيلة لمقابلة المليونير الغامض: السنيور «مارتينز» …

عندما صعد ساعي الفندق بحقائب الشياطين، لم يُضيِّع «أحمد» الفرصة، فقد منحه بقشيشًا سخيًّا جعله يفتح فمه على آخره، ثم قال يسأله: إننا مجموعة من الصيادين الشبان، جئنا لصيد نوع معين من الثعالب البرية. فأيُّ مكان تنصح أن نذهب إليه؟

رد الجرسون الشاب: إنني لست خبيرًا بهذه الأمور يا سنيور، وربما كان من الأفضل أن أرسلك إلى عمي العجوز «فيجو»، إنه صائد عجوز يعيش على حدود البراري.

قال «أحمد» موافقًا: سَيَسُرُّنا جدًّا أن نرى السنيور «فيجو»…

قال الجرسون بابتهاج: سيكون هو أشد سرورًا؛ فهو يقيم وحده في كوخ كبير، وإذا لم يكن قد خرج للصيد فسوف تجدونه في هذا العنوان.

وأخرج الجرسون قلمًا من جيبه، وسحب ورقة من أوراق الفندق ثم أخذ يكتب عليها، و«هدى» تستفسر منه عن التفاصيل حتى تتأكَّد من أنها سوف تعرف العنوان بسهولة، وقد كانت مفاجأة للشياطين أن يأتي اسم «مارتينز» ضمن الحديث …

كان الجرسون الشاب يقول: على الحدود، بين مراعي السنيور «مارتينز» وحدود مدينة «سان أنتونيو»، توجد مساحة واسعة من أراضي الصيد، وعند نقطة التقاء النهر بالمحيط إلى جنوب «باهيا» ستجدون الطريق سهلًا إلى كوخ العم «فيجو»، وبالتأكيد ستعرفونه …

قالت «هدى»: إننا نسمع اسم السنيور «مارتينز» كثيرًا.

رد الجرسون: بالطبع يا سنيوريتا … إنه من أغنى تجار الماشية في بلادنا.

هدى: وهل ثراؤه الفاحش هو سبب شهرته؟!

تردد الجرسون قليلًا ثم قال: لا أدري يا سنيوريتا.

وانحنى الجرسون في أدب ثم غادر الغرفة … وقال «عثمان»: لقد آن الأوان لكي نرى حكاية السنيور «مارتينز» هذا …

أحمد: إن المقادير تقودنا إليه، فبعد أن نغتسل سنَذهب فورًا لمقابلة «فيجو» العجوز … أعتقد أننا قد نجد عندَه شيئًا مفيدًا.

ابتسمت «إلهام» وهي تقول: لا داعي لكلِّ هذا الاندفاع … إننا نعالج قضية خطرة، ورقم «صفر» لم يحدد موعدًا للانتهاء منها … إنني أرجو أن نكون على حَذَر، وأن نقوم بدورنا كمجموعة من الصيادين، وليس أكثر من هذا …

قال «عثمان» معتذرًا: آسف … الحقيقة أنني ضِقْتُ ذَرْعًا بكل هذه الأحاديث.

إلهام: كلُّنا ضقنا بها … ولكن من الأفضل أن نعالج المسألة بهدوء، فقد وَضَعْنا أنفسنا بين فكَّي الأسد، والمفروض ألا نَستثيره.

انصرف كلٌّ منهم إلى الحمام، وبعد نصف ساعة كانوا على استعداد للرحلة إلى منطقة البراري، ونزلوا جميعًا … وبعد أن ملئوا خزاني السيارتين بالبنزين، انطلقُوا خارجين من المدينة المزدحمة، وعندما قاربت الساعة منتصف النهار كانوا يشرفون على المنطقة الواسعة التي تمتد من ساحل المحيط الأطلسي حتى صحراء «بتاجونيا» القاحلة … وبفضل الخرائط، والورقة التي رسمها الجرسون، وجدوا أنفسهم يقفون في بداية طريق مترب، وعلى مرمى البصر كان ثمة كوخ أحمر اللون يقف وحيدًا في قلب المنطقة … وتوقفت السيارتان، ونزل الشياطين الخمسة، وقال «أحمد» مشيرًا إلى الكوخ الخشبي الكبير: أعتقد أن هذا هو كوخ العم «فيجو» …

قيس: أقترح أن نكتفي بسيارة واحدة.

أحمد: إذن نخفي السيارة الثانية بين الأشجار حتى لا نلفت الانتباه.

وأسرعت «إلهام» إلى السيارة «الكاديلاك» تُخرِجُ منها أسلحة الصيد، ثم قادَها «عثمان» ببراعة حتى وضعها تحت الأشجار، ثم استقلُّوا جميعًا السيارة «البونتياك»، وقادها «عثمان» عبر الطريق المترب في اتجاه الكوخ …

كانت المنطقة التي يقع فيها الكوخ تُمثِّل مجموعة من المرتفعات الترابية تتخلَّلها أشجار ضخمة رمادية وخضراء، وتَفرش الأرض كلها أعشاب عالية من أعشاب السافانا … وشَقَّت السيارة الطريق المترب حتى اقتربت من الكوخ، وبقيت مسافة شديدة الوعورة، لم تستطع السيارة أن تَجتازها، فقال «أحمد»: لنتوقَّف هنا … وهيا ننزل!

غادر المغامرون السيارة، وهم يحملون أسلحتهم، وكانت في ظاهرها بنادق صيد عادية، ولكن بين المواسير الواسعة كان في كل ماسورة مكان للرصاص القاتل يَنطلق بمجرَّد ثني الزناد ثنية خاصة.

اتجه الشياطين الخمسة نحو الكوخ، كان الصمت يَلفُّ المكان كله، ولا يقطعه إلا صوت الطيور … ولو كان الشياطين قد قَدِمُوا حقًّا للصيد، لكانت أمامهم فرصة رائعة …

ظلُّوا سائرين بين الأعشاب الطويلة، وفجأة قال «أحمد»: لا تتوقفوا عن السير مهما حدث … إن هناك مَنْ يراقبنا بنظارة مكبرة من اتجاه اليمين.

قال «قيس»: لاحظتُ ذلك، فهناك انعكاس أشعة الشمس على زجاج النظارة.

أحمد: بالضبط … والرقابة تأتي من خلف سور من الأسلاك الشائكة، وهو نفس السور الذي يحيط بمراعي «مارتينز»!

إلهام: لعلَّها حراسة عادية.

أحمد: لعلها أيضًا مقصودة … ففي هذه البلاد، ومع مثل هذا المليونير لا بد أن نتوقع كل شيء.

اقتربوا من الكوخ دون أن يُحسُّوا بمخلوق حي … كان كل شيء صامتًا كأنما لا أحد هناك، حتى وصلوا إلى الكوخ … وكانت مفاجأة إلى حدٍّ ما، فقد وجدوه كوخًا قديمًا يوشك على الانهيار، وقد ارتفعت حوله بعض الأشجار الذابلة كأنها تشارك الكوخ مظهره الزري … وداروا حول الكوخ عندما قابلتهم المفاجأة الثانية … كان العجوز «فيجو» يجلس هادئًا في الشمس، وقد تمدد على كرسي قديم ذي ثلاثة أرجل، أما الرجل الرابعة فقد وضع بدلها بعض قطع الصخور …

وقفوا يتأملون الرجل … كان يبدو كأنه ميت، وقد تدلَّت يداه بجواره، ومدَّ قدميه حتى آخرهما، وقد وضع قبعته مرخية على عينيه يَقيهما وهج الشمس …

تظاهر «أحمد» بأنه يسعل، ولكن «العجوز» لم يرفع وجهه إليهم، فقال «أحمد»: سلامي أيها السنيور «فيجو»!

رفع «فيجو» رأسه بصعوبة، وشاهدوا وجهه الذي كساه الشعر، وعينيه الزرقاوين، وقال «أحمد» وهو يمدُّ يده برسالة الجرسون الشاب: لقد جِئنا من عند قريبك الشاب.

ولم يمدَّ «فيجو» يده ليأخذ الرسالة، بل قال على الفور: إنها بالطبع توصيته لأكون مرشدًا لكم في رحلة صيد.

ابتسم «أحمد» وهو يقول: نعم يا سنيور!

قال «فيجو»: إنَّ «فيجو» العجوز لم يَعُد قادرًا على الحركة.

كانت مُفاجأة ثالثة للأصدقاء في هذه الظهيرة الباردة. وقال «أحمد»: إنَّنا يا سنيور «فيجو» قد نَكتفي ببضعة أسئلة عن أهم مناطق الصيد في هذه الأنحاء.

قال «فيجو»: لم تَعُد هنا مناطق للصيد. لقد استولى «مارتينز» على كل شيء.

تبادل الشياطين الخمسة نظرات سريعة، وقال «أحمد»: إن اسم «مارتينز» هذا يقابلنا في كل مكان.

«فيجو»: طبعًا … لقد أفسد كل شيء.

أحمد: أخشى أن نُضايقه بوجودنا هنا عند حدود أملاكه …

«فيجو»: إنه لن يَسمح لكم بالصيد في هذه المناطق … إنه يدَّعي أن طلقات البنادق تُفسد شهية الأبقار …

أحمد: ولكن … إن …

وقبل أن يُكمل «أحمد» جملته سمعُوا صوت طلقات الرصاص تدوي في السكون، وكانت الأصوات قادمة من ناحية مراعي «مارتينز» … وبدَت علامات الدهشة والتساؤل في عيون الشياطين، فقال «فيجو» موضحًا: إنهم يُجرُون اختبارًا في إطلاق النار للحراس الجدد …

أحمد: حراس جُدُد في مراعي «مارتينز»؟!

«فيجو»: نعم … فبعدَ قليل سوف يبدأ موسم جمع الأبقار، وهم يُدرِّبون عددًا من الحراس المهرة لهذا الغرض …

عاد الشياطين الخمسة لتبادل النظرات، وقال «أحمد»: ما هي شروطهم يا سنيور؟

«فيجو»: لا شيء أكثر من المهارة في إطلاق النار، وإجادة ركوب الخيل …

قال «أحمد» على الفور: سأدخل هذا الامتحان أنا و«عثمان» و«قيس» …

وصمت لحظات ثم قال: سنترك زميلتَينا عندك يا سنيور حتى نعود.

هزَّ «فيجو» رأسَه وقال: على الرحب والسعة … هناك بعض الطعام والشاي والقهوة في الداخل …

تحدَّث «أحمد» مع «إلهام» و«هدى» في كلمات سريعة، ثم اتَّجه الشياطين الثلاثة إلى ناحية سور مراعي السنيور «مارتينز»، وبعد ربع ساعة من المَشي الجاد وجدوا لافتة مكتوب عليها «مراعي مارتينز» ممنوع الاقتراب …

توقفوا لحظات، ثم أشار «أحمد» فمضوا، ولكن لم يتقدموا خطوات حتى دوَّت ثلاث طلقات نارية مُحكمة طارت فوق رءوسهم، فتوقفوا تمامًا … ثم سمعوا صوت حوافر حصان قادم من أحد جوانب السور، وظهر فارس ضخم يَرتدي ملابس رعاة البقر يسرع نحوهم فوق صهوة حصان أسود، وقد رفع في يده اليُمنى بندقية …

وقف الشياطين الثلاثة، وتقدم منهم الفارس سريعًا، حتى إذا وصل أمامهم أوقف الحصان في حركة بارعة، وقال: هل تَعرفون أنكم تسيرون في منطقة محرمة؟!

ردَّ «أحمد» بغضب: لقد جِئنا من أجل اختبار الحراس …

هزَّ «الرجل» رأسه مُستريبًا وقال: إن دخول الحراس الجدد من الباب الرئيسي للمزرعة …

أحمد: نحن لا نعرف هذا، فنحن غرباء …

الرجل: غرباء! وكيف ستَعملون هنا؟!

أحمد: لقد فهمنا أن فترة العمل هي بضعة أسابيع فقط، وقد جئنا لقضاء إجازة في هذه الأنحاء، ولا بأس لدينا من قضاء هذه الأسابيع في هذا العمل …

فكَّر الرجل قليلًا، ثم قال: تعالَوا خلفي …

وسار بحصانه مُتمهِّلًا، وأخذوا يقتربون من سور المرعى الكبير، كان واضحًا أنه أُعِدَّ بمهارة؛ ليكون حصنًا لا يُمكن اقتحامه … فهناك أبراج للمراقبة فيها حراس بالبنادق، وهناك أسلاك شائكة، وأدرك الشياطين الثلاثة أنهم سيدخلون بأقدامهم إلى عرين الأسد.

اقتربوا من السور، ثم وجدوا بابًا مغلقًا من الأخشاب والأسلاك، فأشار الفارس للحارس ففتحه، وتقدمهم على حصانه الأسود، وتبعوه حتى اجتازوا البوابة، وشاهدوا على الفور مجموعة من الرجال يطلقون النار على أهداف مُتحرِّكة، كانت الساحة هي مكان الاختبار … وأخذ «أحمد» ينظر حوله محاولًا أن يرى السنيور «مارتينز»، وأخذ المُجتمعون ينظرون إلى الشياطين الثلاثة في فضول وحذر وتوجُّس …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤