الفصل العاشر

مزايا الغارات الجوية

تأخَّر القطار عن موعد وصوله كثيرًا. كان من المقرر وصوله في ٧:٢٨ لكنه بلغ محطة سانت بانكراس في العاشرة تقريبًا. قرَّرتُ الذهاب إلى غرفتي في وستمنستر مباشرة، وفي طريقي إلى هناك اشتريتُ قبعةً ومعطفًا واقيًا من المطر لإخفاء زيِّي تحسبًا للقاء أي شخصٍ بالقرب من باب غرفتي عند وصولي. بعد ذلك سأتصل ببلنكيرون وأقصُّ عليه جميع مغامراتي. تناولتُ الفطور في مقهًى مُتنقل، وتركتُ حقيبةَ ظهري ومُسدسي في غرفة المعاطف بالفندق، ثم خرجتُ في الصباح المُشمِس الصافي.

غمرَني شعورٌ بالرضا. تأملتُ رحلتي المجنونة، فوجدتُ أنني كنتُ محظوظًا إلى حدٍّ كبير، غير أنني لا أبخسُ نفسي حقَّها. حدَّثتُ نفسي أن المثابرة تأتي دائمًا بثمارها المرجوة، وأن الهزيمة لا تكون إلا بالموت. لقد نفَّذتُ جميعَ تعليماتِ بلنكيرون بحذافيرها. وجدتُ صندوقَ البريد الذي يستعمله أفري. ووجدتُ قناةً للتواصل سِرًّا مع العدو، دون أن أترك أيَّ خيوطٍ خلفي على حسب علمي. كان أفري وجريسون يَحسبانني غبيًّا حسنَ النية. صحيحٌ أنني أثَرتُ الشكوك في صدور الشرطة الاسكتلندية. لكن لا خطَر من ذلك؛ لأن المُشتبه به كورنيليس براند سيختفي في الحال، وليست هناك تُهمٌ موجَّهة ضد الجندي الصاعد، اللواء ريتشارد هاناي، الذي سينطلق إلى فرنسا في أقرب وقتٍ ممكن. على أي حال تبيَّن أن المهمة لم تكن بغيضةً بقَدْر ما تخيَّلتُ. ضحكتُ عندما تذكَّرتُ مخاوفي الكئيبة في جلوسترشير. لقد حذَّرَني بوليفانت من خطورة المهمة على المدى البعيد، لكني وصلتُ إلى النهاية، ولم أواجه أي خطرٍ يُذكَر عدا أن جعلتُ من نفسي أضحوكة.

أتذكَّر، أنني فيما كنتُ أشُق طريقي عَبْر بلومزبري لم أنشغل بالتفكير في التقرير المنتصر الذي سأرفعه إلى بلنكيرون، بل في عودتي السريعة إلى الجبهة. سأكون في القريب العاجل مع لوائي الحبيب. لم أحضُر معركة ميسينز، والجزء الأول من معركة إيبر الثالثة، لكنها لم تنتهِ بعدُ، ولا تزال أمامي فرصةٌ للمشاركة فيها. قد تُوكَل إليَّ قيادةُ فرقة؛ إذ سمعتُ عن هذا الأمر قبل مغادرتي. لم يكن خافيًا أن قائد الجيش مُمتنٌّ من أدائي. لكني في العموم كنتُ آمُل في البقاء مع لوائي. على أي حال، ما أنا إلا مجرد جنديٍّ هاوٍ، ولستُ واثقًا من قُدراتي على التعامل مع وحدةٍ عسكريةٍ أكبر من تلك التي أقودها حاليًّا.

في شارع تشارينغ كروس، سيطرت ماري على أفكاري، فتبدَّد على الفور الإغراء الذي تحمله فكرة العودة إلى اللواء. كنتُ آمُل ألا تدومَ الحرب طويلًا، إلا أنه لا يتراءى لي أنها ستنتهي قريبًا مع تدهوُر الوضع في روسيا. عزمتُ على رؤية ماري قبل رحيلي، ولديَّ مسوغٌ قويٌّ في ذلك؛ إذ إنها مَن حملَت إليَّ أوامر المهمة. بعثَت هذه الفكرة السرورَ في نفسي واستغرقتُ في حُلمٍ سعيد، حتى ارتطمتُ بقوة بمواطنٍ مذعور.

ثم أدركتُ أن ثمَّة شيئًا غريبًا يحدث.

كان هناك صوتٌ مكتومٌ يُشبِه فرقعةَ نزعِ سدادة زجاجةِ ماء صودا. وسمعتُ صوتَ هديرٍ قادمٍ من نقطةٍ بعيدةٍ في السماء. كان المارَّة يُحملِقون في السماء أو يركُضون بجنون بحثًا عن ملجأ يختبئون فيه. رأيتُ أمامي حافلةً تُفرِغ حمولتَها من الركَّاب في سرعة البرق، وتوقَّفَت سيارةُ أجرة محدثةً صوتَ صريرٍ حادٍّ قبل أن يندفع السائق والراكب داخل متجرٍ للكتب المُستعمَلة. استغرقتُ بضعَ ثوانٍ في استيعاب ما يحدث، وحصلتُ عقب ذلك مباشرةً على برهانٍ عملي. فقد سقطَت قنبلةٌ عند نقطة تقاطع، على بعد مائة ياردة، أحالت جميعَ زجاج النوافذ إلى شظايا في نطاقٍ واسع، وبعثَرَت قِطع الحجارة بالقُرب من رأسي. فعلتُ ما كنت أفعلُه مرارًا وتكرارًا على الجبهة، وانبطحتُ أرضًا على بطني.

مَن يقول إنه لا يهابُ القنابلَ أو القصفَ إما كذابٌ أو مجنون. كانت هذه الغارة الجوية على لندن مريعةً على نحوٍ لم أعهده من قبلُ. ربما يعود ذلك إلى أنه من الصادم رؤيةُ مظاهرِ الحياة المتحضرة الراقية والشوارع المنظمة لما يُعَد أمرًا طبيعيًّا جدًّا وسط أكوام الأنقاض في معركة إيبر أو أراس. أتذكَّر أنني كنتُ في مأوًى للجند في قرية في الإقليم الفلامندي؛ حيث نزلتُ بمنزل العمدة، وجلستُ في غرفة أثاثها مُنجَّد بالحرير المُطرَّز بالحفر، ورفُّ المستوقد تعلوه زهورُ الشمع الأبيض، وجدرانها مُزينةٌ بالجداريات الزيتية التي تعود إلى ثلاثةِ أجيالٍ ماضية. قرَّر الألمان قصف المنزل بلا سابق إنذارٍ بسلاحٍ بحريٍّ بعيد المدى، فأثار ذلك حنَقي. كان من المروِّع رؤية الغبار والشظايا تجتاح الغرفة الدافئة المريحة، بخلاف ما لو كنتُ في بناءٍ متهالكٍ خَرِب؛ إذ ما كنتُ سأعبأ بالقصف. من المنطلق نفسه، تبدو عمليات القصف في وسط لندن أمرًا مخزيًا مُفزعًا. كرهتُ رؤية المواطنين المكتنزين الذاهِلين ومربيات الأطفال مع الأطفال المذعورين والنساء البائسات يركضون مثل الأرانب في المأربة.

ارتفع هديرُ الطائراتِ أكثر فأكثر، وعندما نظرتُ للأعلى رأيتُ الطائرات تُحلِّق بتأنٍّ شديد، في تشكيلٍ مُحكَم، فوق لندن التي كانت بأكملها تقعُ تحت رحمتها. سقطَت قنبلةٌ أخرى ناحيةَ اليمين، وسرعان ما تناثَرَت بعضُ شظايا مدينتنا حولي في جلبةٍ عالية. علمتُ أنه حان الوقت للبحث عن مأوًى، وركضتُ دون خجل إلى أفضل مخبأ وقعَت عليه عيني، وهي إحدى محطاتِ قطارِ أنفاق. منذ خمس دقائق كان الشارع مكتظًّا بالمارة، لكنه الآن صار خاويًا إلا من حافلة وثلاثِ سيارات أجرة فارغة تناثَرَت به.

كان مدخل المحطة مليئًا بالمواطنين المذعورين. كانت هناك سيدةٌ بدينةٌ فاقدة الوعي، وممرضةٌ تملَّكَتها نَوبةٌ من الفزع، لكن في المُجمل كان الناس يُحسِنون التصرُّف. ومن المثير للاستغراب أنهم بدَوا غير راغبين في هبوط الدرَج إلى حيث الأمان الكامل الذي تمنحه الأنفاق، بل فضَّلوا الاحتشاد في نقطةٍ يمكنهم من خلالها رؤية ما يجري في العالم العلوي، كأنما يتنازع في أنفسهم خوفُهم على حياتهم ورغبتُهم في مشاهدة ما يحدث. جعلني هذا الحشدُ أنظر بعين الاحترام إلى أبناء وطني. لكن هذا الموقف زعزَع العديد منهم، حتى إنني رأيتُ رجلًا، على مسافةٍ غيرِ بعيدة وظهرُه ناحيتي، تنتفض كتفاه بلا توقُّف كأنما يعاني من تقلصاتٍ معوية.

راقبتُ الرجل بفضول، وعندما تحرَّك الحشد، لمحتُ وجهه من الجانب. شهقتُ من الذهول؛ إذ تبيَّن أنه أفري.

لكنه لم يبدُ كعهدي به. رأيتُ ملامحه المألوفة غير المميزة، وشكلَه العادي وجسدَه الممتلئ، لكن كل ذلك كان يتداعى إن جاز التعبير. كان الفزع قد تملَّك منه. بدت ملامحه تذوب أمام عيني. رأيتُ ملامحه الحقيقية تتَّضح أكثر وخُيِّل لي أنه أصغر سنًّا، كان فاقدَ السيطرةِ على نفسه، بدا مثل كائنٍ عديمِ الشكل في طور التحوُّل. كان كأنما تجرَّد من كل شيءٍ عدا مادته الأساسية. تحت سطوة الهلع تحوَّل إلى رجلٍ آخر.

ما أثار دهشَتي هو أنني كنتُ أعرف الرجلَ الجديدَ أفضل من القديم.

ترك الزحام يديَّ مضغوطتَين قريبًا من جانبيَّ، وكنتُ أدير رأسي بصعوبةٍ شديدة، ولم تكن المناسبة تسمح لمن بجواري بملاحظةِ تعبيرات وجهي. لو أنها كانت تسمح، لحملقوا فيَّ. فقد حلقَت أفكاري بعيدًا عن الغارات الجوية، وعادت إلى صيف عام ١٩١٤ الحار. مرَّ أمام عيني صفٌّ من المنازل الصغيرة القابعة على جرفٍ بحري. وفي حديقة أحد هذه المنازل، وقف رجلان يلعبان التنس فيما كنتُ أراقبهما من وراء شجيرةٍ مجاورة. كان أحدهما شابًّا مكتنز الجسم، يضع وشاحًا ملونًا حول خصره، ويُثرثِر عن متوسطات لاعبي الجولف … ورأيتُه مرةً أخرى في غرفة الطعام في المنزل، يرتدي بدلة السهرة، ويلثغ في كلامه قليلًا … جلستُ قبالتَه إلى طاولة البريدج، وكان هو مطوقًا برجال ماكجليفراي، عندما هُرع رفيقُه صوب درجات السلم التسع والثلاثين المُفضية إلى البحر … كما تذكَّرتُ غرفة جلوس شقتي القديمة في بورتلاند بالاس، وسمعتُ صوت سكادر يتحدَّث بكلماتٍ قلقةٍ سريعةٍ عن أكثر ثلاثة رجال يهابُهم على وجه البسيطة، وكان من بينهم شابٌّ يلثغ في كلامه. حينها ظننتُ أن هؤلاء الثلاثة قتلوا …

لم يكن أفري ينظر نحوي، فانتهزتُ الفرصة لأتفحص وجهه آمنًا ألا يراني. تبدَّدَت جميع الشكوك من عقلي. لطالما صنَّفتُه أمهرَ مُمثل على وجه الأرض، إذ ألم يكن هو من أدى رئيس أركان البحرية ونجح في إقناع حتى زملاء رئيس الأركان المُقربين؟ لكن قدراته لا تُشبه قدرات أي ممثل عادي، فهو يتقمَّص أي شخصية جديدة ببراعة، بما تنطوي عليه من هيئة جديدة، ويتلبسها تمامًا كأنه مولود بها … شعرت أن ذهني مشوش لا أستطيع الوصول إلا إلى استنتاجات عشوائية غير حاسمة … كيف فرَّ من مصير جاسوسٍ قاتل؟ فآخِر عهدي به أنه بين يدَي القضاء … بالطبع، تعرف عليَّ منذ يومي الأول في بيجلزويك … آنذاك فكَّرتُ أني من أخدعه، لكنه كان هو من يخدعُني بدهاءٍ وخبثٍ فريدَين من نوعهما. سرت قُشَعْريرةٌ مريرة في جسدي، وأنا أقف في النفق المكتظ باللاجئين، من شعوري بالخيبة.

ثم رأيتُ وجهَه يستدير ناحيتي، وأدركتُ أنه تعرَّف عليَّ. علمتُ أنه يدرك تعرُّفي على شخصيته الأخرى لا شخصية أفري. سرَت في عينَيه نظرةٌ فضوليةٌ تعكسُ استيعابه للوضع طغت لوهلةٍ على هلعه.

لم يكن من الصعب إدراكُ أن هذا سيضع حدًّا للأمر. لا يزال بوسعي فعلُ شيءٍ ما دام يعتقد أنني لم أكتشِفْه بعدُ، لكنه فور أن يعلم أنني عرفتُ الحقيقة، فسيُفلِت من شباكنا ويتلاشى مثل الضباب.

أوَّل ما خطر ببالي هو أن أسير إليه، وآخُذ بتلابيبه، ثم أطلُب مساعدة الحاضرين بعدما أفضح حقيقته. لكن أدركتُ أن تنفيذ هذه الخطة أمرٌ مستحيلٌ. فأنا مجنَّد يرتدي زيًّا مُستعارًا؛ لذا باستطاعته أن يقلب الحقائق ضدي بكل سهولة. لا بد أن أستخدمَ خطةً أكثر إحكامًا. يجب أن أذهب إلى بوليفانت وماكجليفراي وأضعَهما في إثْره. والأهم من ذلك لا بد أن أقابل بلنكيرون.

بدأتُ أشُق طريقي عَبْر هذا الحشد المتدافع؛ فقد بدت لي الغاراتُ الجويةُ مسألةً حقيرةً لا تستحق الاهتمام. كما أن القصف توقَّف، لكن لم يتفرَّق الحشد، بما يكشف عن الطبيعة البشرية الشبيهة بطبيعة الخِراف، واستغرقتُ ما يقرُب من خمسَ عشرةَ دقيقةً لأشُق طريقي عَبْر الحشد إلى الهواء الطلق. وجدتُ الغارات الجوية انتهت، وعادت الحركة في الشارع إلى طبيعتها. رأيتُ الحافلات والسيارات تعود إلى العمل وتجمُّعاتٍ من المارَّة الثرثارين يتشاركون تجاربهم. انطلقتُ صوبَ مكتبة بلنكيرون؛ لأنها أقربُ ملاذٍ آمنٍ في الأنحاء.

لكن في ميدان بيكاديلي أوقفَني أحد رجال الشرطة العسكرية. وسألَني عن اسمي واسم كتيبتي، فأجبتُه، فيما فحصَت عيناه المُرتابتان جسدي. لم أكن أحمل حقيبةَ ظهرٍ أو بندقيةً كما أن التدافُع في محطة قطار الأنفاق لم يجعل مظهري مقنعًا بدرجةٍ كافية. شرحتُ له أنني عائدٌ إلى فرنسا هذا المساء، فأمرني بإبراز مذكِّرة حضوري. أظن أن تشوُّش ذهني جعلَني أتوتَّر فكذبتُ بصورةٍ مفضوحة. أخبرتُ الضابط أنني تركتُ أوراقي في منزل أختي المتزوِّجة، مع حقيبة ظهري، لكني تلعثمتُ وأنا أُملي عليه عُنوان المنزل. ولاحظتُ أنه لم يُصدِّق كلمةً واحدةً من كلامي.

رأيتُ مساعدَ قائدِ الشرطة العسكرية يسير نحونا. بدا منافقًا مغرورًا، يتباهى بأوسمته الحمراء، يشعُر بالثقة في نفسه بعد أن عايش القصف. على أي حالٍ بدا عازمًا على تأديتِه واجباتِه بصرامة.

قال: «تومكنز! تومكنز! في سجلاتنا جنديٌّ بهذا الاسم. أحضره يا ويلسون.»

قلتُ: «لكن، سيدي، يجب — يجب أن أقابل أحد أصدقائي. الأمر في غاية الأهمية، وأؤكِّد لك أنه ليس هناك ما يقلق بشأني. إن كنتَ لا تصدقني، فسأوقف سيارة أجرة، ونذهب إلى سكوتلاند يارد مباشرة، وسألتزم بما سيقولونه لك عني.»

قطَّبَ حاجبَيه في غضب. وقال: «ما هذا الهُراء؟ سكوتلاند يارد! ما علاقةُ سكوتلاند يارد بهذا الأمر؟ أنتَ محتال. أرى ذلك في وجهك. سآمُر بالاتصال بكتيبتك، وسيُلقى بك في السجن في غضون ساعتَين. أعرف الفارِّين من التجنيد من وجوهم. أحضِره يا ويلسون. تعرف ما يجبُ عليك فعلُه إن حاول الهرب.»

لوهلةٍ خطرت لي فكرة الفرار، لكن الاحتمالات كلها لا تقف في صفي. فاتبعتُ مساعد قائد الشرطة بنفاد صبر إلى مكتبه القابع في الطابق الأول من شارعٍ جانبي. رأيتُ اللحظاتِ الثمينة تمُر، ولا بد أن أفري أخذ حِذْره وأنه يلوذُ بالفِرار الآن، أما أنا، الحافظ الوحيد لهذا السر الخطير، فأسير في هذا الموكب العبثي بخطواتٍ ثقيلة.

أصدر المساعد أوامره. أعطى تعليماته بالاتصال بكتيبتي، وأمر ويلسون بنقلي إلى ما وصفَها بغرفة الحرَّاس. ثم جلس على مكتبه، وانشَغل بكومة من الملفَّات لونُها أصفرُ باهت.

كرَّرتُ طلبي في يأس. قلتُ: «بالله عليك اتصل بالسيد ماكجليفري في سكوتلاند يارد. إنها مسألة حياةٍ أو موتٍ يا سيدي. ستتعرَّض للمساءلة الشديدة إن لم تفعل ذلك.»

في محاولتي اليائسة للخروج من هذا الموقف جرحتُ كبرياءه الهشة. فقال: «إن لم تكُفَّ عن غطرستك فسأكبِّلك. سأنغِّص عليك وأنظر في أمرك في القريب العاجل. والآن اخرج من الغرفة، وانتظِر حتى أبعثَ في طلبك.»

أدركتُ، وأنا أنظر إلى وجهِه الأحمقِ الغضوب، أنني في مأزقٍ كبير. وما لم ألجأ إلى الاعتداء على الحاضرين بالضرب، فلا خيار أمامي سوى الإذعان. حيَّيتُ المساعد باحترام، واقتادني ويلسون للخارج.

شكَّلَت الساعات التي قضيتُها في حجرة الانتظار الفارغة كابوسًا في ذكرياتي. كان هناك رقيبٌ يجلس إلى مكتبٍ منشغلًا بالمزيد من الملفَّات الصفراء الباهتة، فيما انتظر جنديُّ خدمةٍ فوق مقعد بجوار الهاتف. نظرتُ إلى ساعتي، فوجدتُ أنها الواحدة ظهرًا. وسرعان ما سمعتُ باب غرفة المساعد يُغلَق بقوة إعلانًا عن ذهابه لاستراحة الغداء. حاولتُ أن أفتح محادثةً مع الرقيب البدين، لكنه أسكَتَني في الحال. وهكذا جلستُ مُنحنيَ الظهر على الدكة الخشبية أبتلع غيظي.

تذكَّرتُ بمرارةٍ ذاك الشعورَ بالرضا الذي غمرني هذا الصباح. فقد أوهمتُ نفسي أنني شخصٌ استثنائي، وأنا في الحقيقة لم أكن سوى محتال. بدت لي مغامراتُ الأيام الماضية مجرد أفعالٍ صبيانيةٍ لا أكثر. كنتُ أنشُر الأكاذيب وأقوم بالحماقات، فيما أجوبُ بريطانيا طولًا وعرضًا، على اعتقاد أنني أؤدي دوري بمهارة، وأنا لم أفعل سوى التصرُّف مثل الصبي. في مثل هذه الظروف، يندُر أن يُقدِّرَ المرءُ نفسَه حقَّ قَدْرها، وحقَّرتُ نفسي بشدة كانت ستُشمِت بي ألد أعدائي. ولم ترفع معنوياتي حقيقةُ أن هذا الإخفاق ليس ذنبي. كنتُ أبحث عن الأعذار. لكن الحقائق كانت تُدينني صراحة؛ إذ تقول إني أحمقُ فاشل.

بالتأكيد، تلاعَب بي أفري؛ تلاعَب بي منذ يومي الأول في بيجلزويك. أشاد بخطاباتي، وأغدَقني بالمدح، ونصحَني بالذهاب إلى كلايد، فيما كان يضحك من وراء ظهري طيلةَ هذا الوقت. وشاركَه جريسون في ذلك. الآن أدركُ ما حدث. لقد حاول إغراقي بين جزيرتَي كولونساي ومول. وهو مَن أطلق الشرطةَ خلفي في مورفيرن. والبائع المتجول، لينكليتر، أحد رجاله. عزائي الضئيل الوحيد هو أن تلك العصابة رأت أني خطيرٌ بما يكفي لأن تُحاول قتلي، وأنها ليس لديها أيُّ علم بأنشطتي في جزيرة سكاي. أنا واثقٌ من هذا. لقد كانت تُراقِبني طَوال الوقت، لكنها أضاعت أثَري لعدة أيام.

تأملتُ الأحداث الماضية، وتساءلتُ إذا كان لا يزال ثمَّة بصيصٌ من الأمل. فقد فشلتُ في خداع أفري، لكني عثرتُ على مكتب البريد الخاص به، ولو صدَّق أنني لم أربط بينه وبين المجرم اللئيم عضو جماعة «بلاك ستون»، فسيُواصِل اللعب بأساليبه القديمة، وسيقع في شباك بلنكيرون. أجل، لكني رأيتُه عاريًا من كل الأقنعة، إن جاز التعبير، وقد لاحظ أنني كشفتُه. الحل الوحيد الآن هو القبضُ عليه قبل فراره من البلاد؛ إذ صار معنا ما يكفي من الأدلة لإدانته. لا بد أن تطالَه ذراعُ القانون هو وجريسون واليهودي البرتغالي، وأن يُحاكَموا في محكمةٍ عسكرية، ويُعدَموا.

لكنه أُنذر منذ ما يزيد عن الساعة، فيما أنا عالقٌ مع صاحب الأوسمة الحمراء في مكتبه اللعين. أصابتني هذه الفكرة بالجنون، فنهضتُ من مكاني، ورحتُ أذرع المكان جيئةً وذهابًا. رأيتُ علامات الخوف على وجه الجندي الذي كان متأهبًا للضغط على الجرس، ولاحظتُ أن الرقيب البدين قد ذهب لتناول الغداء.

قلتُ: «ألا تريدُ مساعدةَ رجلٍ مسكينٍ يا صديقي؟ أدرِك أنني في ورطةٍ كبيرة، وسأتحمل العواقب مثل الحمَل. لكني أريد إجراء مكالمةٍ هاتفيةٍ لأمر في غاية الضرورة.»

أجاب: «ممنوع. سيُوبخني المدير.»

قلتُ بنبرةٍ تشجيعية: «لكنه غير موجود. لا أريدك أن تفعل شيئًا خاطئًا، يا رفيقي، وسأتركك تتحدث إلى الطرف الآخر شرط أن تنقل رسالتي إليه. لديَّ أموالٌ كثيرة، وسأعطيك جنيهًا إسترلينيًّا مقابل هذه الخدمة.»

كان رجلًا ضئيلًا نحيلًا ذا ذقَنٍ ضعيف، ولاحظتُ التذبذبَ على وجهه.

سأل: «مَن تريد الاتصال به؟»

قلتُ: «سكوتلاند يارد، مركز الشرطة الرئيسي. لا يمكن أن يكون هناك ضررٌ من ذلك. ما عليك سوى الاتصال بسكوتلاند يارد — سأعطيك الرقم — وإيصال رسالة للسيد ماكجليفري. إنه رئيس الشرطة.»

قال: «أرى أنه لا بأس بهذا. لن يعود المدير قبل نصف ساعة ولا الرقيب. لكن أرني المال أولًا.»

وضعتُ الجنيه على المقعد بجواره. وقلتُ له: «هو لك يا صديقي إذا اتصلتَ بسكوتلاند يارد وأبلغتَهم الرسالة التي سأعطيك إياها.»

سار إلى الهاتف. وسأل: «ماذا تريد قولَه للرجل صاحب الاسم الطويل؟»

أجبتُ: «قل له إن ريتشارد هاناي محتجزٌ في مكتب مساعد قائد الشرطة العسكرية في شارع كلاكستون. أخبِره أنني أحمل له أخبارًا مهمة — بل أخبارًا عاجلة وسرية — واطلُب منه أن يحلَّ الأمر في الحال.»

قال: «لكن ذلك ليس الاسم الذي أخبرتَنا به.»

قلتُ: «أجل، ليباركك الرب. أسمعتَ من قبلُ عن الاسم المستعار؟ على أي حال، هذا هو الاسم الذي أريدكَ أن تقوله في الهاتف.»

قال: «لكن لو قَدِم هذا الرجل، ماك، إلى هُنا، سيعلمون أن هناك من اتصل به، ولن يستحسن المدير ما فعلتُه.»

استغرق الأمر عشر دقائق وجنيهًا آخر كي يتغلَّب على تردُّده. في نهاية المطاف، استجمع شجاعته، واتصل بالرقم الذي أعطيتُه له. أنصتُّ في توتُّر، وهو يملي رسالتي على المتحدِّث على الجانب الآخر — إذ اضطُر إلى تكرارها مرتَين — وانتظرتُ الإجابة في لهفة.

سمعته يقول: «لا يا سيدي. لا يريدك أن تأتي إلى هُنا. إنه يفكِّر في … ما قصدته هو أنه يريد …»

تقدَّمتُ نحوه بثبات وانتزعتُ سمَّاعة الهاتف من يده.

قلتُ: «ماكجليفري، أهذا أنتَ؟ معكَ ريتشارد هاناي! بالله عليك، تعالَ إلى هُنا في الحال، وأنقِذني من براثن مساعد قائد الشرطة العسكرية الأحمق. لديَّ أخبار في غاية الأهمية. الوقتُ ليس في صالحنا. تعالَ بسرعة بحق السماء!» ثم أضفتُ: «اؤمر رجالك بالإمساك بأفري على الفور. أنتَ تعلم مخبَأه.»

وضعتُ السمَّاعة وواجهتُ الجنديَّ الذي امتزج الشحوب بالغضب على وجهه. قلتُ: «لا تقلق. أعِدُك أنكَ لن تتعرضَ لأي نوعٍ من المتاعب بسببي. تفضَّل جنيهَين نظير خدماتك.»

فُتح باب الغرفة المجاورة ثم أُغلِق مرةً أخرى. لا بد أن مساعد القائد قد عاد من استراحة الغداء …

مرَّت عشرُ دقائق، ثم فُتح الباب مرةً أخرى. سمعتُ صوت ماكجليفري يتحدث بنبرةٍ حازمة. كان يواجه موظفًا بيروقراطيًّا أدنى رتبةً، وها هو يُحاوِل استغلال الفرصة.

استعدتُ حريتي مرةً أخرى، فتركتُ جنديَّ الخدمة. وجدتُ المساعد في غاية الاضطراب يحاول إنقاذ ما تبقَّى من كرامته، فيما حاول ماكجليفري ذو الهيبة أن يُلقِّنه درسًا في الأخلاق.

قال: «أنا سعيدٌ برؤيتك يا ديك. أقدِّم لك الجنرال هاناي يا سيدي. ربما تجد العزاء في معرفة أن الحماقة التي ارتكبتَها قد تصنع الفارق بين انتصار دولتك وهزيمتها. سأناقش هذه المسألة مع رؤسائك.»

وجدتُ تهديدَه غير منصفٍ بعض الشيء. فاضطُرِرتُ لتزكية العجوز الذي بدت أوسمتُه الحمراء كأنها بلِيَت واهترأَت فجأة.

قلتُ: «الذنب ذنبي لأنني ارتديتُ هذه الحلة. لنَعتَبرْ ما حدث سوءَ تفاهم ونُنهِ المسألة عند هذا الحد. لكن أحبُّ أن أنوِّه إلى أنه حتى مُجند مسكين متهرب من الخدمة يستحق معاملةً مهذبة.»

فور أن دخلتُ سيارة ماكجليفري، قصصتُ عليه قصتي. هتفتُ: «أخبِرني أن ما حدث مجرد كابوس. أخبرني أن ثلاثة الرجال الذين أمسكنا بهم على الجرف البحري الذي يُسمَّى ذا روف أُعدِموا منذ وقتٍ طويل.»

أجاب: «الرجلَين. فقد هرب الثالث. الله وحده يعلم كيف أفلَح في الفرار، لكنه اختفى تمامًا كأن الأرض انشقَّت وابتلَعَته.»

سألتُ: «أتقصدُ البدين الذي كان يلثغ في كلامه؟»

أومأ ماكجليفري برأسه علامة الإيجاب.

قلتُ: «حسنًا، وقعنا في ورطةٍ كبيرةٍ هذه المرة. هل أصدرتَ أوامركَ بملاحقته؟»

أجاب: «أجل. لو حالَفَنا الحظ فسنضع أيديَنا عليه في غضون ساعة. لقد نشرنا رجالَنا في كل الأماكن التي يتردَّد عليها.»

قلتُ: «لكننا تأخَّرنا ساعتَين! سيُقلِّل هذا من فُرصنا في النجاح؛ لأننا نتعامل مع داهية!»

قال: «مع ذلك أظن أن بإمكاننا الإيقاع به. أين تنوي الذهاب الآن؟»

أخبرتُه أنني أريد التوجُّه إلى غرفتي في وستمنستر ثم إلى شقتي القديمة في شارع بارك لين. قلتُ: «انتهى عهد التنكُّر. في غضون نصف ساعة سأصبح ريتشارد هاناي. يا لها من راحةٍ أن أعود إلى بزَّتي العسكرية. بعد ذلك سأبحث عن بلنكيرون.»

ابتسم ابتسامةً عريضة. وقال: «يبدو أنكَ مررتَ بفترةٍ عصيبة. وردَنا من الشمال سيلٌ من الرسائل القلقة عن شخصٍ يُدعى السيد براند. لم أستطع إثناء رجالنا عن مطاردتك؛ لأنني خشيتُ أن أعيق مخططاتك. سمعتُ أنهم في الليلة الماضية فقدوا أثَركَ في برادفيلد؛ لذا غلب على ظني أنني سأراك هُنا اليوم. لا بد من الاعتراف أن الشرطة الاسكتلندية تتسم بالكفاءة.»

عقَّبتُ: «لا سيما عندما يتلقَّون المساعدة من عدة هواةٍ مُتحمسين.»

قال: «وماذا في ذلك؟ أجل، بالطبع. هم يتلقَّون المساعدة. لكني آمُل أن أهنئك قريبًا على نجاح مهمتك.»

قلتُ: «أراهنك على ٢٥ جنيهًا إسترلينيًّا أنك لن تفعل.»

قال: «لا أراهن أبدًا في أمور المهنة. ولِمَ هذا التشاؤم؟»

قلتُ: «كل ما في الأمر أنني أعرفُ رجلَنا أفضل منك. لقد واجهتُه مرتَين. إنه شرير من النوع الذي لن يتوقف عن إثارة المتاعب حتى موته. وحتى بعد موته لن أطمئن حتى أرى جُثته تُحرَق، ثم آخُذ رماده إلى وسط المحيط، وأنثره. أشعر أنه أصعبُ خَصمٍ سنواجهُه أنا أو أنت في حياتنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤