الفصل الخامس عشر

سانت أنتون

بعد ذلك بعشرة أيام خرج الحمَّال جوزيف زيمر القادم من أروسا، يرتدي سروالًا مهترئًا قبيحًا كما هي عادةُ طبقته، وسترةَ صيدٍ قديمة من المخمل المقلَّد ورثَها عن سيدٍ ألمانيٍّ سابق، ويتحدث بلغة أهل كانتون جريسون السويسري ذات الأصوات الحنجرية، حاملًا كل مُتعلقاته في حقيبةِ ظهرٍ ضخمة، إلى محطة سانت أنتون الصغيرة وأطرفَ حين لاقت عيناه ضوءَ شمسِ النهار البارد. ثم وجَّه نظرَه إلى القرية القديمة الصغيرة المجاورة للبحيرة المُغطَّاة بالجليد، لكن كانت وجهته هي القرية الجديدة ذات الفنادق والفيلات التي انبثقَت في السنوات العشر الأخيرة في الجهة الجنوبية من المحطة. بعد سؤال العامِلين في المحطة بتوجُّس، أرشدَه سائقُ تاكسي في نهاية المطاف إلى المكان الذي يُريده، وهو كوخُ أرملة سامرماتر؛ حيث كان يعيش بيتر بينار تحت الإقامة الجبرية.

خاض الحمَّال جوزيف زيمر رحلةً طويلةً مُتعرجة. فمنذ أسبوعَين فقط كان يرتدي زيَّ اللواءِ البريطاني. من ثَم كان ينزل بفندقٍ باهظِ الثمن في باريس إلى أن جاء صباح يوم من الأيام، وركب قطار باريس-البحر المتوسط السريع وهو يرتدي حلةً رماديةً من قماش التويد ويعرُج في سيره، ومعه تذكرةٌ إلى دار نقاهة الضباط في مدينة كان. ومنذ ذلك الحين وهو ينحدِر في السُّلَّم الاجتماعي. كان لا يزال رجلًا إنجليزيًّا في مدينة ديجون، لكنه في مدينة بونتارليه صار بائعًا متجولًا أمريكيًّا سويسريَّ الأصل عاد لتسوية ميراث أبيه. وفي مدينة برن زاد عرجُه حدَّة؛ أما في مدينة زيورخ السويسرية، في فندقٍ صغير بشارعٍ خلفي، فقد صار قرويًّا خالصًا. هناك قابل أحدَ أصدقائه وحصَل منه على ثيابٍ تفوحُ منها تلك الرائحة العطنة الغريبة لكنها أكثر متانةً من أقمشة تويد هاريس التي تُميِّز غالبيةَ المُرشدين السويسريين وجميع الحمَّالين. وحصَل على اسمٍ جديد وعمة عجوز استقبلَته في وقتٍ لاحقٍ بذراعَين مفتوحتَين وقدَّمَته لأصدقائها ابنًا لأخيها، قدِم من مدينة أروسا وجُرِحت ساقه منذ ثلاثةِ مواسمَ شتويةٍ في أثناء أعمال تحطيب، وسُرِّح على إثْر ذلك من التجنيد الإجباري.

تشاء الأقدار أن يسمع نبيلٌ سويسريٌّ عطوفٌ بقصة جوزيف الصالح ويأخذ على عاتقه مهمَّة البحث عن وظيفة له. كان الرجل المُحب للخير المذكور آنفًا شغوفًا بمساعدة الأسرى الفرنسيين والبريطانيين العائدين من ألمانيا، وتذكَّر ضابطًا — أفريقيًّا جنوبيًّا أعرجَ نكِدَ المزاج — يحتاج إلى خادمٍ. ويبدو أن ذلك الجنوب أفريقي عجوزٌ حادُّ الطباع، وكان يقضي إقامتَه الجبرية وحيدًا، وهو يتحدَّث الألمانية؛ لذا فكَّر في أنه سيَسعَد بصُحبة مواطنٍ سويسريِّ الأصل. ساوَم جوزيف بعض الشيء بشأن الأجر، لكنه قبِل الوظيفة بناءً على نصيحة عمَّتِه، وبعد ذلك اتجه إلى سانت أنتون، يحمل مجموعةً كاملةً من الأوراق وفي جَعبتِه مجموعةٌ من الذكريات الجاهزة (استغرقَ بعض الوقت يدرُس بجِدٍّ أسماءَ الجبال والمَمرَّات التي اجتازها) بعدما أرسل سلفًا خطابًا مليئًا بالأخطاء الإملائية يُعلِن فيه عن قدومه. كان يقرأ ويكتب بشكلٍ بسيط، لكنه كان جيدًا في استخدام الخرائط، التي كان قد درَسَها بعنايةٍ ولاحَظ بسعادةٍ أن وادي سانت أنتون يمكِن الدخول منه بسهولة إلى إيطاليا.

في رحلته إلى الجنوب، تزاحمَت في ذهنه أفكارٌ لو سمِعها رفقاؤه في المقصورة المكتظة من الدرجة الثالثة لذهِلوا منها. كان يفكِّر في محادثةٍ خاضَها منذ أيام في مقهًى في مدينة ديجون مع شابٍّ إنجليزيٍّ مُتجه إلى بلدية مودان …

كنا قد التَقَينا مصادفةً في تلك اللحظة الغريبة، التي يتفرَّق فيها الجميعُ ويذهبُ كلٌّ في طريقِه، دون أن يسأل أحدٌ غيره عن شأنه. حيَّاني ويك بخجلٍ ودعاني إلى العَشاء.

لستُ جيدًا في تلقِّي الأعذار، وأحرجَتْني أعذارُ ويك أكثَر مما أحرجَتْه. قال: «أحيانًا أتصرَّف كوغد. أنتَ تعلم أنني أفضلُ من ذلك الشخص الذي رأيتَه في تلك الليلة يا هاناي.»

نهرتُه عن التفوُّه بالترَّهات بغمغمة، ذلك الرد التقليدي في تلك المواقف. ما أثار قلقي هو مُعاناته. كان ذلك واضحًا في عينَيه. لكن في ذلك المساء، توطَّدَت علاقتُنا أكثر من ذي قبل، وصِرنا صديقَين حقيقيَّين؛ لأنه فتَح لي قلبه. كانت هذه هي مشكلته، الميل للبوح عما يجولُ في نفسه؛ فالأشخاص العاديُّون الأسوياء لا يُحلِّلون مشاعرهم. فعَل ويك ذلك، وأظن أن ذلك بعَث في نفسه الراحة.

قال: «لا تعتقد أني كنتُ منافسًا لك. فلم أرغب في الزواج بماري مثلما لم أرغب في الزواج بإحدى خالتَيها. لقد أظهرَت ثقةً بذاتها لا تتزعزع وإيمانًا تامًا بما تفعله، ما أصابني بالرعب. أنا وأمثالي من الرجال غير مُهيَّئين للزواج؛ لأن النساء يُحبِبن أن يَخُضن معترك الحياة، أما نحن فنكتفي بالوقوف على هامش الحياة ومُراقبتها. إنه لأمرٌ صعبٌ أن يكون المرء مختلفًا عن الأغلبية.»

قلتُ: «مشكلتُك يا عزيزي أن إرضاءك أمرٌ صعبُ المنال.»

قال: «يمكِنك قولُ ذلك. غير أني أودُّ أن أصوغ الأمر بعبارةٍ أشدَّ قسوة. أنا أكرهُ أكثرَ مما أُحب. دافِعُنا الرئيسي — نحن المُهتمين بالشأن الإنساني والسلام —هو الكراهية. أليس هذا غريبًا بالنسبة للمُبشِّرين بالمَحبَّة الأخوية؟ لكنها الحقيقة. نكره كل ما يتعارضُ مع أفكارنا بل كل ما يُزعِج نفوسَنا المُرهفة الحس. أمثالُك من الرجال يركِّزون على قضيتهم؛ فليس لديهم مُتسعٌ من الوقت أو الميل لكراهية ما يحول دون مساعيهم. أما نحن فليس لدينا قضية؛ بل لدينا أشياءُ سلبية، لدينا الكراهيةُ وتعذيبُ الذات ومرارةُ الروح.»

حينها أدركتُ أن عيب ويك ليس الغرور الروحي مثلما شخَّصتُه في بيجلزويك. فقد كان الرجل متواضعًا حدَّ ازدراء النفس.

واصَل: «أرى من التفاصيل ما لا يراه غيري، وتتزاحم المشاعر في داخلي. هذه هي لعنتي. أنتَ رجلٌ سعيدٌ وتحقِّق إنجازات في حياتك لأنك ترى جانبًا واحدًا من الأمور. ماذا تفعل لو كنتَ تشعر أن آلاف الخيوط تسحبُك طيلةَ الوقت، أو كنتَ ترى أن كلَّ الطرُق تنطوي على التضحية بشيءٍ غالٍ ونفيس أو تحطيمِ ما تعلَم أنه لا سبيل إلا استبداله؟ أنا مصنوعٌ من مادة الشعراء نفسها، غير أنني لا أملكُ موهبتهم؛ لذا فإنني أعيش مُتخبطًا، أشعُر بالعجز وقلة الحيلة … لنأخُذ الحرب على سبيل المثال. القتال في نظري أسوأ من الفرار في نظر الآخرين. وأومن من أعماقِ قلبي أن الحربَ غيرُ ضرورية وأنها ظلمٌ بيِّن. لكن لا، الاعتقادُ لا علاقة له بالفضيلة إلى حدٍّ كبير. لستُ صالحًا مثلك يا هاناي، وأنتَ لم تتأمَّل أي شيءٍ في حياتك. ذلك الوقتُ الذي قضيتُ في كتيبة العمَّال علَّمني شيئًا. وهو أنني مع كلِّ تطلُّعاتي السامية لست رجلًا صادقًا، بل أشبِه أولئك الرجال الذين يُخلِفون وعودَهم ولا يكترثون بتزكيةِ أرواحهم.»

أذكُر أنني نظرتُ إليه بإدراكٍ مفاجئ. قلتُ: «أظن أنني أفهمُك. أنتَ من النوع الذي لن يُحارِب من أجل دولتِه لأنه غيرُ مُتيقِّن من اختيارها للسبيل الصحيح. لكنه على استعدادٍ لبذل نفسه في سبيلها دون النظر إلى أخلاقيةِ موقفها.»

استرخَت ملامحُه في ابتسامةٍ بطيئة. وقال: «غريبٌ أنك تفكِّر بهذه الطريقة. أرى أن ما قلته قريبٌ من الحقيقة. أمثالي لا يهابون الموت لكن ليست لديهم الشجاعة الكافية للحياة. ينبغي أن يجد الرجال الرضا وهم يخدمون في وظيفةٍ كوظيفتك ويجدون السعادة في إطاعة الأوامر. لكني لا أستطيع الانسجام في أي مؤسسةٍ نظامية. تنقُصُني تلك النزعة للعبودية. لا يمكنُني اتباعُ الأوامر لمجرد أنها أُلقيَت عليَّ فحسب. أمثالي يتحدثون دائمًا عن «الخدمة» لكننا غيرُ مَجبولين على الخدمة. أنا على استعدادٍ لبذل جميعِ ما أملكُ لأكونَ مثل الترس في الآلة على أن أكون غريبًا مُتخبطًا يرى عيبًا في الآلة نفسها … لنأخذ شخصًا صارمًا حازمًا مثلك. بوسعك الانخراط في هذا النظام حتى تصير مجرد اسمٍ ورقم. أما أنا فلا أستطيع فعل ذلك وإن حاولتُ. ولستُ متأكدًا من رغبتي في ذلك أصلًا. أنا أتشبَّث بالتفاصيل المُتفرِّقة التي تجذبني.»

قلتُ: «ليتك كنتَ في كتيبتي العامَ الماضي.»

قال: «أنتَ لا تتمنَّى ذلك. فلو حدث لتسبَّبتُ في الإزعاج فحسب. انضمَمتُ للجمعية الفابية منذ أن كنتُ في جامعة أكسفورد، مع ذلك أنت تُجسِّد الاشتراكية على نحوٍ أفضلَ منِّي. أنا فردانيٌّ فاسد.»

سألتُ: «ألم تُصبح نظرتك للحرب أفضل من ذي قبل؟»

أجاب: «على الإطلاق. لا أزال أتوقُ لسقوط السياسيين الذين دفعوا بالبلاد إلى الحرب ودعموا استمرارها. لكني أُريد مساعدةَ وطني. أعترف يا هاناي بمحبَّتي العميقة لهذه الدولة العريقة. وأظن أنني أُحبُّها أكثر مما أُحب نفسي، وهذا يعني الكثير. فيما عدا القتال، الذي أعتبره خطيئةً لا تُغتفَر، سأبذل كل ما في وسعي لأجلِها. لكن لا تنسَ أنني لا أستطيعُ العمل في جماعة. لو تصرَّفتُ كلاعبٍ غيور، فوبِّخْني.»

كان يغلبُ على صوته حزنٌ ممزوج بالاشتياق، وشعرتُ بإعجابٍ كبيرٍ تجاهه.

قلتُ: «سيفعل بلنكيرون. سنُعلمك الانضباط يا ويك، وستجد السعادة. ركِّز على المهمة التي بين يدَيك ولا تقلَق. هذا هو علاجُ الخوف من تجربة أمورٍ جديدة.»

فكَّرتُ كثيرًا في محادثتنا في أثناء سفري إلى سانت أنتون. لقد كان مُحقًّا للغاية في أمر ماري التي ما كانت ستفكِّر في الزواج به أبدًا. فرجلٌ بمثل هذه الروح المُعقَّدة لا يستطيع الانسجام مع روحٍ أخرى. وفكَّرتُ أن ما يُميِّز ماري هو يقينُها الهادئ. رأيتُ في عينَيها تلك السعادة التي تذكَّرتُ رؤيتها في عينَي إنسانٍ واحدٍ فحسب، وهو بيتر … لكني تساءلتُ ما إذا كانت عيناه لا تزالان على حالهما.

وجدتُ الكوخ، وهو بيتٌ صغيرٌ خشبيٌّ ظل جاثمًا على الهضبة فيما ارتفعَت الفنادقُ الشاهقةُ من حوله. في مقدِّمة الكوخ كان هناك سياجٌ، لكن الجزء الخلفي أفضى إلى منحدَر الهضبة بلا عوائق. وعند البوابة وقفَت امرأةٌ عجوزٌ بظهرٍ مُنحنٍ ووجهٍ يُشبه تفاحةً صفراء. ولا بد أن تنكُّري كان مُقنعًا؛ إذ دعَتْني إلى الداخل مباشرة قبل أن أعرِّف بنفسي.

هتفتُ: «حمدًا لله على سلامتك. كان المُلازم المسكين بحاجةٍ إلى مَن يؤنِسه. هو الآن نائم، كما هي عادتُه بعد الظهيرة، لأن ساقَه تؤلِمه في الليل … لكنه شجاعٌ مثل الجندي … هيَّا، سأُعطيك جولةً في المنزل؛ لأنكما ستعيشان فيه بمفردكما من الآن فصاعدًا.»

قادَتْني المرأة إلى الداخل بهدوء، وأشارت بأصبعها إلى الغرفة الصغيرة التي ينام فيها بيتر في تحذير. وجدتُ مطبخًا مزودًا بموقدٍ كبير وأرضية خشبية بدائية مفروشة ببعض الجلود الرديئة الدباغة. وبجوار المطبخ كانت هناك حجرةُ مؤَن مزوَّدة بفِراشٍ من أجلي. وأرَتْني القدور والمقالي للطهي، والمؤن التي خزَّنَتها، ومكان الماء والوقود. قالت: «سأتسوَّق يوميًّا، وإن احتجتَ إليَّ، فمَسْكَني على بُعد نصف ميل، وراء الكنيسة الجديدة. ليرعَك الله، أيها الشاب، واعطِف على الرجل الجريح.»

غادرَت أرملة سامرماتر، وجلستُ في مقعد بيتر، أتأمَّل المكان من حولي. كان البيت هادئًا وبسيطًا ودافئًا، ومن النافذة تسلَّل بريقُ الجليد الذي غطَّى قِممَ التلال الماسية. وعلى الطاولة بجوار الموقد قبعَت ممتلكاتُ بيتر المحبوبة مثل كيسِه المصنوع من جلد الغزال، وغَلْيونه الذي نحتَتْه جاني جروبيلار في سانت هيلينا، وعلبة ثقابٍ عسكرية مصنوعة من الألمونيوم كنتُ قد أعطيتُها له، ونسخة ذات حروفٍ كبيرة من الكتاب المُقدَّس يمنحها كاهنُ الجيش للجنود ذوي النزعة الخيرية، ونسخة قديمة مُهترئة من رواية «سياحة المسيحي» مزوَّدة بصورٍ مبهرجة. فتحتُ الكتاب على صورة «الأمين» وروحُه تصعد إلى السماء من النار التي أُعدِم بها في «سوق الأباطيل» مثل ديكِ غابٍ مذعور. كان كلُّ شيءٍ في الغرفة مرتَّبًا للغاية وكنتُ أعلم أن ذلك من فعل بيتر لا السيدة سامرماتر. وعلى مشجبٍ خلف الباب تدلى معطفه المليء بالرُّقَع، تبرُز من جَيبه حزمةُ خطابات. وفي إحدى الزوايا، قبَع شيءٌ كنتُ قد نسيتُ أمره، وهو كرسي المُعاقين.

ملأَني منظر مُمتلكات بيتر الصغيرة البسيطة بالإجلال. تساءلتُ ما إذا كانت عيناه ستشبه عينَي ماري الآن، لأنني لا أتصوَّر حياتَه مشلولًا. فتحتُ باب غرفة النوم بهدوءٍ شديدٍ وتسلَّلتُ إلى الداخل.

وجدتُ بيتر مُستلقيًا على فِراشٍ قابلٍ للطي، وعليه بطانيةٌ سويسريةٌ مُخطَّطةٌ ممتدةٌ إلى أذنيه، يغُطُّ في نومٍ عميق. كان هو بيتر العجوز كما عهدتُه بلا أدنى شك. كان يتمتع بمهارة التنفُّس المُنتظِم من الأنف التي تُميِّز الصيَّادين، وبدت الندبةُ البيضاءُ على جبهته البنية الداكنة كما أتذكَّرها. الشيء الوحيد الذي اختلف فيه منذ أن رأيتُه آخر مرة هو أنه تركَ لحيتَه تنمو من جديد، وقد استحالت إلى اللون الرمادي.

وأنا أنظر إلى بيتر، تدفَّقَت ذكرياتُ جميعِ ما خضناه معًا إلى عقلي، وكدتُ أبكي من الفرح لوجودي بجانبه. وا أسفاه على النساء! لا يمكن أن يفهمنَ العلاقة بين الأخلَّاء من الرجال؛ إذ لا يُوجَد ما يُماثِلها في حياتهن؛ فهي تنتمي إلى ذلك العالم الهمَجي الجامح الذي نُقسِم على التخلي عنه عند الزواج. حتى ماري لم تفهَم سوى جانبٍ يسيرٍ منها. لقد ظفِرتُ بحبها للتو وهو أفضلُ ما حصلتُ عليه يومًا، لكن لو أنها دخلَت الغرفة في تلك اللحظة، لما التفتُّ إليها. لقد عدتُ إلى حياتي القديمة، ولم أعُد أفكِّر في حياتي الجديدة.

فجأة أدركتُ أن بير استيقَظ من نومِه وينظر إليَّ.

همس: «ديك، ديك، صديقي القديم.»

طرح عنه البطانية، ومد ذراعَيه النحيفتَين الطويلتَين ناحيتي. أمسكتُ بيدَيه، وظلِلْنا صامتَين هنيهة. بعد ذلك رأيتُ التغيير الكبير الذي طرأ عليه. فقد انكمشَت رجلُه اليسرى، وأصبحَت من تحت الركبة تُشبه ساق الغليون. وظهرَت في صفحةِ وجهه وهو مُستيقظٌ تجاعيدُ تعكس معاناةً شديدة، وتراءى لي أنه صارَ أقصرَ من ذي قبل بمقدارِ نصفِ قدم. لكن عيناه لا تزالان تُشبهان عينَي ماري. في الحقيقة بدتا أكثر صبرًا وسكينةً مما كانتا في ذلك الوقتِ عندما جلس بجواري في عربةٍ تجرُّها الخيل وتطلع إلى مروج الصيد.

رفعتُه من على الفراش — إذ كان خفيف الوزن مثل ماري — وحملتُه إلى مقعده بجوار الموقد. بعد ذلك غليتُ الماء وصنعتُ الشاي مثلما كُنا نفعل في كثيرٍ من الأحيان.

قلتُ: «عزيزي بيتر، سننطلِق في رحلةٍ طويلةٍ مرةً أخرى، وهذا الكوخ كاستراحةٍ مريحة. لقد صنَعنا الكثيرَ من الحكايات الجميلة معًا، لكن هذه ستكونُ أفضلَها. أخبِرني أولًا، كيف هي صحتك؟»

أجاب: «أنا بخير، استعدتُ قوَّتي من جديد، لكن أتحرَّك ببطء مثل السُّلحفاة. كنتُ أعاني من الوحدة في بعض الأحيان، لكن لنستكمل كلامنا في هذا الأمر لاحقًا. والآن أخبِرني عن المعارك الكبيرة.»

كنتُ متشوقًا لسماع أخباره؛ لذا لم أسمح له بتغيير دفَّة الحديث. لم تكن لدَيه أيُّ شكاوى عن العلاج الذي تلقَّاه في المشفى باستثناء عدم محبته للأمان. وقد أظهَر الأطباءُ مهارةً فائقة، بحسب قوله، وبذلوا غايةَ وسعهم لعلاجه، لكن كانت الأعصابُ والأوتارُ والعظامُ الصغيرةُ تضرَّرَت بشكلٍ كبيرٍ فعجزوا عن إصلاح ساقه، وكان بيتر يكرَه البتر كراهةً شديدةً شأنه شأن غيره من البويريين. قابل طبيبًا، ذهب إلى دامارالاند فيما مضى، وحكى له عن الأماكنِ المُشمسةِ الشديدة الحرارة، فشعَر بالحنين إلى موطنه. لكن ظلَّت كراهته للألمان كما هي. فقد رآهم يسوقون جنودَنا مثل الحيوانات الوحشية، وكان الضابط المسئول عنهم له ملامحُ تُشبِه الجنرال شتوم، وذقَنه بارزًا يُغرِي المرء بلَكمِه. لكنه استثنى من ذلك الطيارَ العظيمَ لينش الذي هزمه.

قال: «إنه رجلٌ أبيض. أتى لزيارتي في المشفى وحكى لي الكثير من الأشياء. أظن أنه أوصَى العامِلين بُحسنِ معاملتي. إنه رجلٌ ضخمٌ يا ديك، في ضعف حجمي تقريبًا، ذو وجهٍ مستديرٍ مبتهجٍ وعينَين شاحبتَين مثل فريكي سيليرز الذي يقتنصُ طيور الكرك بدقةٍ بالغةٍ من على بُعد مائتَي ياردة. عبَّر لي عن أسفه لإصابتي بالعرَج؛ إذ تمنَّى أن يحظى بالمزيد من المعارك معي. تنبَّأَت له إحدى العرافات بأني سأخطُّ نهايته بيدي، لكنه يظنُّ أن الأمر اختلط عليها. أتمنَّى أن ينجُو من هذه الحرب؛ فهو رجلٌ صالح وإن كان ألمانيًّا … لكن أتمنَّى الهلاك للآخرين! هم مثل الحمقى الذين يذكُرهم الكتاب المقدَّس؛ كثيرو اللحم قبيحون في أوقات النعم، ومغرورون شرسون في أوقات البلاء. إنهم صنفٌ من البشر لا يَسعد الإنسان بصحبتهم.»

أخبرني بيتر أنه كي يُحافظ على روحه المعنوية لعبَ لُعبةً صغيرة مع الألمان للترويح عن نفسه. كان يُبدي أمامهم فخره بالانتماء إلى شعب البوير وينتقِد البريطانيين بقسوة. كما أنه، حسبما فهمتُ، نقل لهم عدةَ معلوماتٍ مُضللة كي يخدعَهم. وعند مُغادرته، كان قد ترك لديهم انطباعًا جيدًا، وعندما قَدِم إلى سويسرا انعزل عن الجرحى البريطانيين، وفقًا لنصيحة بلنكيرون الذي قابلَه بمجرَّد عبوره الحدود. وفهمتُ من ذلك أن بلنكيرون يقف خلف إرسال بيتر إلى سانت أنتون، وخلال وجود بيتر هناك، بصفته بويريًّا ساخطًا، خالط الألمان كثيرًا. واستجوبوه بشأن قواتنا المسلحة الجوية، وأخبرهم بالعديد من الأكاذيب الذكية، وفي المقابل عَرفَ أشياءَ مثيرة.

قال: «إنهم يعملون بجدٍّ يا ديك. لا تنسَ ذلك أبدًا. الألماني عدوٌّ عنيد، وكلما تفوَّقنا عليهم بنوع من الطائرات، سيعملون بجدٍّ إلى أن يخترعوا نوعًا أفضل. لديهم طيَّارون بارعون، لكن أعدادهم ليست بالكثرة، كما هو الوضع عندنا، ولا أعتقد أنهم يستطيعون هزيمتَنا على الإطلاق في المعارك العادية. لكن يجِب أن تُراقب لينش لأنني أخشاه. فقد سمعتُ أنه يقود طائرةً جديدةً ذات محركاتٍ قويةٍ وجناحَين عرضهما قصير لكنهما مُتقوِّسان، مما يُساعده على الصعود بسرعة في الهواء. ستتفاجأ قواتُنا عندما تُباغتهم هذه الطائرةُ من فوقهم. ستقول إننا سنتغلَّب عليها في وقتٍ قريب. وهذا ما سنفعلُه، لكن إن استُخدمَت هذه الآلة في وقتٍ حرجٍ فستُشكِّل الفارقَ البسيطَ الذي يؤدي إلى خسارة المعارك.»

قلتُ: «أتعني أنه إذا جهَّزنا لهجومٍ واسعِ النطاق وأبعَدنا طائرات الألمان عن جبهتنا، فقد يتسلَّل لينش وجماعتُه من فوق دفاعاتنا ويكشفُ خططَنا؟»

أجاب بجدِّية: «أجل، أو إذا تعرَّضنا لهجومٍ نجم عنه ثغرةٌ في دفاعاتنا، فسيُرشِد لينش الألمان إلى كيفية اختراقها. لا أظن أننا سنشنُّ هجومًا في المُستقبل القريب؛ لكني مُتيقِّن من أن ألمانيا ستُهاجمنا بشتَّى الطرق. هكذا سمعتُهم يتحدثون، وذلك ليس مجرد تهديدٍ فارغ.»

في تلك الليلة طبختُ عَشاءنا المتواضع، ثم جلسنا ندخِّن غَليونَينا وقد تركنا باب الموقد مفتوحًا، فتغلغلَت رائحةُ الخشبِ المحروق الذكيةُ إلى فتحات أنفَينا. أخبرتُ بيتر بكل ما فعلتُه، وحكيتُ له عن «الطيور البرية» وأفري والمهمة التي نحنُ بصددها. وصَّت تعليماتُ بلنكيرون على أن نتوارى عن الأنظار ونُبقيَ أعيُنَنا وآذانَنا مفتوحة؛ لأننا بعيدان عن الشكوك؛ البويري الأعرج المُتبرِّم وخادمه الغليظ الطبع الذي جاء من أروسا. ففي مكانٍ ما هنا يقبع مقَر أعدائنا السري الذي يلتقون فيه، وإليه يأتي كيليوس في مهامِّه الخبيثة.

أومأ بيتر برأسه بحكمةٍ وقال: «أظن أنني خمَّنتُ المكان. كانت ابنةُ العجوز تحمِلني بالكرسي المُتحرِّك إلى القرية أحيانًا، وجلستُ في حانات نُزُلٍ رخيصة، وتحدَّثتُ إلى الخدَم. تُوجَد هناك بِركةٌ عذبةٌ يُغطِّيها الجليد الآن، وإلى جانبها منزلٌ كبيرٌ يُسمُّونه «بينك شاليه». لا أعلم شيئًا عن المكان باستثناء أن ساكنيه أثرياء، لكنَّني أعرفُ كلَّ المنازلِ الأخرى في القرية، وهي مأمونة. وهناك أيضًا الفنادقُ الكبيرةُ لأنها في غاية البرودة وتُعَد أماكنَ عامةً يُمكِن للأجانب عن القرية الاجتماعُ فيها.»

وضعتُ بيتر في الفراش، وغمرَتْني البهجة وأنا أعتني به، وأُعطيه دواءَه المُقوِّي، وأعدُّ قربةَ ماءٍ ساخنٍ لتخفيفِ آلام الأعصاب. وتصرَّف هو مثلَ الطفل الوديع، ولم يبرَحه تفاؤله وبشاشتُه لحظة، رغم أني رأيتُ أن ساقَه تُسبِّب له معاناةً شديدة. حاول الأطباءُ معالجةَ ساقه بالتدليك، ثم تخلَّوا عن الأمر بعدما أثبتَ فشلَه، فلم يجد أمامه سوى التحمُّل حتى يُثبِّط جسدُه القويُّ ألَمَ أعصابه طبيعيًّا. نقلتُ فراشي من حجرة المؤن ونمتُ في الغرفة معه، وعندما استيقظتُ في الليل مثلما يفعل المرء في المرة الأولى التي ينام فيها في مكانٍ غريب، خمَّنتُ من أنفاسه أنه مُستيقظ ويتألَّم.

في اليوم التالي، رأى المارةُ قعيدًا أشيب يجلس في عربة مقعدَين يدفعُها قرويٌّ أعرج، يقصدان سفح الهضبةِ الطويلةِ باتجاه القرية. كانت السماءُ صافيةً والجوُّ شديدَ البرودة إلى الحد الذي يُصيب الوجنتَين بالخدَر، وشعَرتُ بالانتعاش؛ لذا كان من الصعب أن أظلَّ متذكرًا ساقيَ العرجاء. كانت تسُد الوادي من ناحية الشرق كتلةٌ كبيرةٌ من الصخور والجليد هي جزءٌ من جبلٍ لا تُرى قمَّته. لكن في الجنوب أطلَّت على أشجار التنُّوب المُغطاة بالثلج مزخرفة كالدانتيل ولها رأسٌ حادٌّ مثل الإبرة. نظرتُ إليها باهتمام؛ إذ يمتدُّ وراءها وادٍ يفضي إلى ممر شتاوب الجبلي، وخلفه تقع دولةُ إيطاليا وماري.

كان لقرية سانت أنتون القديمة شارعٌ ضيقٌ طويلٌ وحيد، ينعطف بزاويةٍ مُستقيمةٍ مُفضيًا إلى جسرٍ فوق النهر المُتدفِّق من البحيرة. من تلك النقطة فصاعدًا كان الطريق ينحدِر بشدةٍ صعودًا، لكن قبلها كان الشارع يمتدُّ على مستوى حافة البحيرة نفسه، واصطفَّت على جانبَيه بيوتُ الضيافة الرخيصة، مُغلقةً ومهجورةً تمامًا، وبضعُ فيلاتٍ ذاتِ حدائق. وفي الطرَف البعيد من الشارع، قبل أن ينحدِر الطريقُ إلى غابة الصنَوبَر مباشرة، كان يُوجَد نتوءٌ صخريٌّ يمتدُّ إلى البحيرة فاصلًا بينها وبين الطريق بمسافةٍ مُمتدة. في ذلك المكانِ امتدَّت أراضي منزل أكثر أُبَّهةً من سابِقيه، زيَّنَتها أشجارُ الغارِ المُغطَّاة بالثلج وشجيراتُ الورد وشجرةٌ أو شجرتان كبيرتان غيرها، وعلى حافةِ البحيرة قبَع المنزلُ نفسه، المُسمَّى «بينك شاليه».

دفعتُ كرسي بيتر مارِّينِ من جانب المدخل على طبقة الجليد المُغطِّية للطريق السريع، التي خشخشَت تحت عجلاتِ الكرسيِّ المتحرِّك. من خلال الفُرَج بين الأشجار، رأينا المنزلَ الذي بدت واجهتُه جديدة، لكن ظهرَت آثارُ الزمن على الجزء الخلفي منه؛ إذ لاحظتُ أن جدرانه العالية التي تخلَّلَتها بعض النوافذ، تُشرِف على البحيرة. كان المنزل أشبَهَ ببرجِ قلعةٍ منه بالشاليه، لكن أعتقِد أنه سُمِّي باسمِه نسبةً للشرفة الخشبية فوق الباب الأمامي. كان المنزل كلُّه مَطليًّا بلونٍ ورديٍّ قبيح. كما اشتمل على مبانٍ خارجية — المرأب أو الإسطبلات بين الأشجار — وفي المدخل رأيتُ آثارًا حديثةً لسيارة.

في طريق عودتنا، تناولنا بيرةً رديئةً في أحد المقاهي، وتعرَّفنا على المرأة التي تُدير المكان. اضطُر بيتر إلى أن يحكي لها قصَّته، وتحدَّثتُ عن عمَّتي في مدينة زيورخ، وفي نهاية المطاف قصَّت على أسماعنا شكاواها. هي امرأةٌ سويسريةُ الأصل، تشعُر بالغضب من جميع الأطراف المتحاربة التي أفسدَت عليها رزقَها، وتكره الألمان كراهيةً عمياءَ لكنها تخشاهم بالقَدْر نفسه. كان من الصعبِ الحصولُ على القهوة والشاي والوقود والخبز، بل لم يكن من السهل شراءُ الحليب والجبن، بالإضافة إلى أنهما يُكلِّفان قَدْرًا كبيرًا من المال. ترى المرأةُ أن الدولة ستستغرق سنواتٍ كثيرةً في استرداد عافيتها، ولن يكون هناك المزيد من السياح؛ إذ لم يتبقَّ سوى مقدارٍ قليلٍ من المال في العالم. سألتُ عن منزل «بينك شاليه»، فأخبرَتْني المرأة أن مالكَه رجلٌ يُدعى شفيجلر، وهو أستاذٌ جامعيٌّ عجوزٌ من مدينة بِرن، يأتي أحيانًا في الصيف لقضاءِ بضعةِ أيامٍ في الشاليه. كان يُؤجِّره أحيانًا كثيرة، لكنه ليس مستأجرًا الآن. سألتُها إن كان هناك مَن يقطُنه، فأجابت أن بعضَ أصدقاء شفيجلر — وهم قومٌ أغنياءُ من مدينة بازل — نزلوا به في الشتاء. قالت بمرارة: «يجيئون ويروحون بالسيارات الفارهة، ويجلبون الطعام من المدن بالخارج. ولا يُنفقون أيَّ مالٍ في هذا المكان الفقير.»

سرعان ما صار لحياتنا أنا وبيتر نمَطٌ مُعيَّن، كأننا نعيش معًا منذ وقتٍ طويل. في الصباح، كان بيتر يخرج بكرسيِّه المتحرك، وبعد الظهيرة أُنجِز مهامِّي بساقي العرجاء. تماهَينا مع بيئتنا وخالَطنا سكان البلدة؛ لذا لم يشُكَّ فينا أحدٌ. وكان يزورنا أسبوعيًّا في عُجالةٍ ضابطٌ سويسريٌّ شاب، مهمَّتُه العنايةُ بالجرحى البريطانيين. وكنتُ أتلقى خطاباتٍ من عمَّتي في زيورخ، تحمل ختمَ بريدِ أروسا، وتشتمل من آنٍ لآخر على نصائحَ أو تعليماتٍ ذات صياغةٍ غريبة ممنْ تُسمِّيه عمتي «الراعي العطوف». بصفةٍ عامةٍ كان يُطلب منِّي أن أتحلى بالصبر. وفي بعض الأحيان تلقَّيتُ خطابًا بشأن صحة «بنتِ عمَّتي الصغيرة التي تسكُن على الجانبِ الآخرِ من الجبال». وذاتَ مرة، أُخبِرتُ أن أتوقَّع زيارةً من أحد أصدقاء الراعي، وهو الطبيبُ الحكيمُ الذي تحدَّث عنه كثيرًا، وعلى الرغم من أني ظلِلتُ أراقب «بينك شاليه» لمدة يومَين، فلم يأتِ أحد.

لم تُثمِر تحرياتي عن شيء. كنتُ أذهب إلى القرية بعد الظهيرة، لأجلسَ في مقهًى منعزلٍ وأتحدَّث مع المزارعِين وحمَّالي الفنادق بألمانيةٍ بطيئة لكن كانت المعلوماتُ شبهَ منعدمة. كنتُ قد عرفتُ كل ما يمكن معرفتُه منهم عن «بينك شاليه»، ولكنهم كانوا بالكاد يعلمون أي شيءٍ مفيد. فقد نزَل بالمنزل شابٌّ يُمارس هواية التزلُّج، وأقام به لمدة ثلاثِ ليالٍ، وكان يقضي النهارَ في جبال الألب فوقَ غابةِ أشجار التنوب. وشاعَ أن أربعةَ أفراد، رجلَين وامرأتَين، من تلك العائلة الغنية من بازل قضَوا ليلةً في المنزل. تفحَّصتُ المنزل من البحيرة التي كان من المُفترَض أن يُساوَى الجليدُ الذي يُغطِّيها كي تُصبحَ حلباتٍ للتزحلق على الجليد، لكن ظلَّت تغطِّيها كومةٌ من الجليد المتطاير إليها بسبب غياب الزائرين. كانت الجدرانُ المرتفعةُ للجانبِ الخلفيِّ من المنزل مبنيةً عند حافةِ البحيرةِ مباشرة. أذكُر أنني حاولتُ استخدامَ طريقٍ مختصَر عَبْر الأراضي المُفضية إلى الطريق السريع، فحيَّاني خادمٌ ألمانيٌّ مُبتسمٌ بتحية المساء. لاحظتُ بشكلٍ ما أو آخرَ وجودَ خدَم حول المكان، بأعدادٍ كثيرةٍ لا تتناسب مع قلة ورود الضيوف عليه. لكن فيما عدا ذلك، لم أصل إلى أيِّ شيء.

غير أني لم أشعُر بالملل؛ فقد كان معي بيتر يُسلِّيني. كانت جنوب أفريقيا كثيرًا ما تَرِد على خاطره، وما أحبَّ شيئًا أكثر من مَحبَّته لمراجعةِ جميعِ تفاصيلِ مغامرتنا القديمة. فقد كان يستعيدُ هذه الذكرياتِ القديمةَ دون ألم، بخلاف ذكرياته عن الحرب التي كانت طازجةً ومريرةً بالنسبة إليه. كما أحبَّ الخروج في المساء بساقه العرجاء للتطلع إلى أصدقائه القدامى؛ النجوم. أطلَق على النجوم أسماءً كانوا يستخدمونها في المراعي، فكان يُسمِّي نجم الصباح الأول «فورلوبر»؛ أي الصبي الصغير الذي يسوقُ الثيران، وهو اسمٌ لم أسمعه منذ عشرين عامًا. وفي الأمسيات الطويلة كنا نَروي الحكاياتِ المثيرة، لكني كنتُ أذهب إلى الفِراش دائمًا مفطورَ الفؤاد. كانت عيناه تفيضان بالاشتياق، وهو اشتياق لا للماضي أو البلاد البعيدة، بل إلى العنفوان والقوة اللذَين كانا مصدر اعتزازه فيما مضى.

ذاتَ ليلةٍ حكيتُ له عن ماري.

قال: «ستكونُ زوجةً سعيدة، لكن يجب أن تُعامِلها بمهارةٍ شديدة؛ لأن النساءَ مخلوقاتٌ غامضة، وأنا وأنتَ لا نفهم طرائقهن. سمعتُ أن الإنجليزيات لا يستطعنَ الطهي ولا الحياكة مثل نسائنا؛ لذا، فيمَ ستقضي وقتَ فراغها؟ النساء الفارغاتِ يُشبهن فرسًا كثيرة اللحم.»

لم يكن مُجديًا أن أحكي له عن ماري؛ لأن ذلك العالم غريبٌ عنه تمامًا. لكن لاحظتُ كم ازدادت وحشتُه عندما أخبرتُه بالأمر. لذا حدَّثتُه عن المنزل الذي أنوي شراءَه في إنجلترا عندما تنتهي الحرب — سيكون منزلًا قديمًا في مدينةٍ جبليةٍ خضراء، ذاتِ حقولٍ تسَع أربعَ أغنامٍ في المورغن الواحد، وجداول من الماء العذب تتدفَّق في التجاعيد الأرضية، وبساتين برقوقٍ وتفَّاح. قلتُ: «وستمكُث معنا طيلةَ الوقت. سنُخصِّص غرفةً لك وخادمًا ليعتني بك، وستُساعدني في الزراعة، وسنصطاد السمك معًا، وسنُمسِك البط البري القادم من البِرك في المساء. لقد عثرتُ على قريةٍ أفضل من هاوتبوش حيث حلمنا بامتلاك مزرعة. فإنجلترا دولةٌ مباركةٌ سعيدة.»

هزَّ رأسَه علامة النفي. وقال: «أنتَ رجلٌ طيب يا ديك، لكن امرأتك الجميلة لن ترغبَ في رؤيةِ عجوزٍ قبيحٍ مثلي يتجوَّل في منزلها بساقه العرجاء … لا أظن أنني سأعود إلى أفريقيا لأن جوَّها المُشمِس سيُصيبني بالأسى. سأجد منزلًا صغيرًا في إنجلترا، وسأزوركَ يا صديقي العزيز في يومٍ من الأيام.»

في تلك الليلة بدا أن رَباطة جأشه خانَتْه للمرة الأولى. كان صامتًا لفترةٍ طويلة، وذهب إلى فراشه مُبكرًا، حيث أعتقد أنه بقي مُستيقظًا. ولا بدَّ أنه فكَّر كثيرًا في الليل؛ إذ بدا في غاية الهدوء والرضا في الصباح.

راقبتُ هدوءه بذهول. كان يفوقُ قُدرتي على الاستيعاب. فقد كان بيتر في غاية الضعف والفقر، فهو لم يمتلك أي شيءٍ في العالم سوى لياقتِه البدنية، وها قد خَسِرها الآن. ولا تنسَ أنه فقدَها بعد بضعةِ شهورٍ من فرحتِه العارمة عندما اكتشف في الجو غايةَ وجوده. في بعض الأحيان، كان يتعرَّض لسيرة هذه الأيام التي عاشها وسط السحُب ويختلِق معركةً جديدةً فيختنق صوته. كنتُ أرى اشتياقه لعودته إليها. ومع ذلك لم تصدُر عنه شكوى من أي نوع. هذه هي السنَّة التي سنَّها لنفسه واستقى منها شرفَه، كان يُواجه مُستقبله بالشجاعة نفسها التي استجمعَها لقتال حيوانٍ بريٍّ أو لينش نفسه. غير أنها كانت تستلزم قدْرًا أكبر من الجَلَد.

الأمر الآخر أنه وجد الإيمان. أشك أن هذا هو التعبيرُ الصحيح؛ لأنه كان مُتدينًا طيلةَ حياته. والرجال الذي يعيشون في البرِّية يعلمون أن أمرهم بين يدَي الرب. لكن إيمانه القديم كان باليًا — أشبه بخُرافاتٍ بدائية — وإن أضفى عليه صبغةَ التواضُع. لكنه صار يُحِب قراءةَ الكتاب المُقدس وتأمُّل نصوصه في لياليه المُوحشة، وتشكَّلَت لدَيه عقيدةٌ خاصة. صحيحٌ أنها قد تكون عقيدةً غيرَ مصقولة؛ فهي قطعًا غير منهجية، لكن إن كان الدليل على الإيمان هو دعمه لصاحبه في أيامه العصيبة، فلا بدَّ أن إيمانَ بيتر حقيقي. كان يبحث في الكتاب المقدَّس و«سياحة المسيحي» — فكلاهما مُلهمان له بالقَدْر نفسه — ويجد فيهما نصوصًا يُفسِّرها بطريقته الخاصة لتتلاءم مع حالته. تعامل بيتر مع جميع النصوص بحَرفيةٍ شديدة. فكان يتعامل مع ما حدث منذ ثلاثة آلاف سنة في فلسطين كأنما يدورُ في البيت المجاور له. كنتُ أُمازِحه وأُخبره أنه يفعل مثل قيصر ألمانيا الذي يُفسِّر النصوص بما يتناسبُ مع أغراضه، لكنه اكتفى بالابتسام من فَرْط صدقه. أتذكَّر في ليلةٍ من الليالي، فيما كان بيتر يستذكر ماضيه في السماء، وجد فقرةً في إحدى الرسالتَين إلى أهل تسالونيكي تدور حول بعث الموتى للقاء ربهم في السماء، فشعَر بسعادةٍ عارمة. اعتقَد بيتر، كما ترى، أن أيامَه على الأرض معدودة، وأحبَّ أن يفكِّر أنه عندما تتحرَّر روحه من الأرض، فستجد طريقها إلى تلك النشوة القديمة من جديد.

ذات مرَّة، تعرضتُ إلى مسألة جلَده، فقال إنه يحاول التشبه بشخصية «الثابت» في الرواية. لقد اختار أن يحذُوَ حَذْو هذه الشخصية بعينها، وإن كانت شخصيةُ «القوي للحق» هي الأكثر شبهًا به، غير أنه كان يرى أنه لا يرقى إليها. كان يتحدَّث عن الثابت، بطريقته الغريبة، كأنه صديقٌ لنا مثل بلنكيرون … حين أرى صبرَ بيتر وحكمتَه ورقَّتَه أشعُر بتواضُعٍ جَم. حتى الرب نفسه لا يُمكن أن يجعله متعاليًا؛ فهو لم يخطُر قَط له أن يتصدَّر للوعظ. لم يَعِظني إلا مرةً واحدة. كانت إرادتي قد بدأَت تتزعزع من طولِ الانتظار؛ إذ لطالما كنتُ أميل للطرُق المختصرة. وذات يوم، صارحتُ بيتر بحقيقة مشاعري، فهبَّ من فوره وقرأ عليَّ نصًّا من «سياحة المسيحي» يقول: «يوُّد البعض لو أن هناك طريقًا أقصرَ إلى بيت الرب، ولا يتكلَّفون عناءَ اجتيازِ التلالِ أو الجبال، لكن هذا هو السبيل الوحيد، وله نهاية.»

غير أن الوضع ظلَّ على ما هو عليه، وعندما حلَّ شهرُ مارس دون أي تطورات، ازداد اضطرابي. أخبرنا بلنكيرون من قبلُ أننا في سباقٍ مع الزمن، وها هي الأسابيع تمضي بلا عمل. كنا نتلقى رسائله التي يُرسلها بصفته عمَّتي من حينٍ لآخر. وعلمتُ من إحدى رسائله أنني سأترك وظيفتي قريبًا؛ إذ اقترب موعدُ ترحيلِ بيتر إلى وطنه، وسيتلقى الأمر بالمُغادرة في أي يوم. وفي رسالةٍ أخرى، حدَّثني بلنكيرون عن بنت عمَّتي في الجهة المقابلة من التلال، وأنها تأمُل في الذهاب إلى قريةٍ صغيرةٍ تُدعى سانتا كيارا في فال سالوزانا في القريب العاجل. أخرجتُ الخريطة في عُجالة، وحسبتُ المسافةَ من هذه النقطة إلى قرية سانت أنتون، وتأمَّلتُ الطريقَين المؤدِّيَين إلى هناك — كان الطريق القصير يمُر من مَعبَر شتاوب الجبلي والطويل من مَعبَر مارمولادا. دفعَتْني هذه الرسائلُ إلى الاعتقاد أننا قريبون من اللحظة الحاسمة، لكن لم تَرِد أي تعليمات. كما لم أعثر على معلوماتٍ جديدةٍ لأنقلَها في رسائلي؛ فلم أجِد شيئًا في «بينك شاليه» سوى خدمٍ عاطلين، بل لم أتيقَّن حتى أن «بينك شاليه» لا ضرر منه، كما لم أقترب قَدْر أنملةٍ من مكانِ كيليوس. ولم تمنعني مُحاولاتي في التحلِّي برباطة الجأش مثل بيتر من الشعور بالارتباك واليأس من وقتٍ لآخر.

لم يكن أمامي سوى المُحافظة على لياقتي البدنية؛ إذ أحسَسْت أني قد أحتاج إليها في القريب العاجل. كنتُ مجبرًا على مواصلة التظاهر بالعرج في النهار؛ لذا كنتُ أتدرَّب في ساعات الليل. كنتُ أنام في فترة الظهيرة، فيما يأخذ بيتر قيلولته، وعند اقتراب الساعة من العاشرة مساءً، بعدما أضع بيتر في فراشه، أخرج من الكوخ في هدوء، وأسير لمدة أربعِ أو خمسِ ساعاتٍ للتريُّض. كانت تلك الجولات التي أخرج إليها بعد منتصف الليل ساحرة. كنتُ أشُق طريقي عَبْر أشجار الصنَوبَر المُثقَلة بطبقات الثلج، صاعدًا المنحدَر، إلى أن أبلغ الحواف الجبلية التي شكَّل الجليدُ المُتراكِم عليها دوائرَ وتعرُّجات، وينتهى بي المطاف إلى قمةٍ حيث أقف متأمِّلًا العالَم المُتجمِّد المنبسِط تحت قدمي والسماء المُرصَّعة بالنجوم فوق رأسي. وذات ليلةٍ بلغَ فيها البدرُ تمامَه، وصلتُ إلى المَجلَدة القابعة عند رأس الوادي، وتسلَّقتُ الركام إلى حيث يبتدئ الجليد، واختلستُ النظر بخشيةٍ إلى الشقوق المُخيفة فيه. في مثل هذه الساعات، استأثرتُ بالأرض لنفسي؛ إذ لم يكن هناك أي صوتٍ باستثناء انزلاقِ الثلوجِ من فوق كاهلِ الأشجار أو تشقُّق الجليد أو خشخشته، ما جعلَني أتذكَّر أن المجلدة هي نهرٌ جليديٌّ متحرك. في مثل هذه الأجواء بدت الحربُ بعيدةً بُعد السماء والأرض، وشعَرتُ بضآلة معاناتنا البشرية، حتى فكَّرتُ في بيتر وهو يتقلب ذات اليمين وذات الشمال ليجد الراحة، في ذلك الكوخ البعيد بالأسفل. وأدركتُ أن روح الإنسان هي أعظم شيءٍ في هذا العالم الفسيح … سأعودُ في غضونِ ثلاثِ أو أربعِ ساعات، وأغتسِل في الماء الذي سُخِّن في غيابي، ثم أتسلل إلى فراشي، أكاد أشعر بالذنب لأن لديَّ ساقَين سليمتَين، فيما حظِيَ رجلٌ أفضل منِّي، ذلك الذي ينام على بعد ياردة، بساقٍ واحدة.

الغريب أنه في تلك الساعات، كان يبدو أن الحركة في «بينك شاليه» أكثر مما هي عليه في ساعات النهار. وذات يوم، فيما كنتُ أتنزَّه في البحيرة بعدما انتصف الليل بفترةٍ طويلة، رأيتُ أضواءً قادمةً من جانبه المُطِل على البحيرة الذي عادةً ما تكون نوافذُه معتمةً ومقفَلة. عَبَرتُ من أراضيه مراتٍ كثيرةً في الليالي غير المقمرة. وفي إحداها رأيتُ سيارةً كبيرةً تجتاز ممرَّ السيارات بسرعةٍ كبيرةٍ دون أن تضيء مصابيحها، وسمعتُ أصواتًا هامسةً عند الباب. في مرةٍ أخرى، مرَّ بي رجل، راكضًا بسرعة، ودخل المنزل من بابٍ صغيرٍ في الجانب الشرقي، لم أكن قد لاحظتُه من قبلُ … وتدريجيًّا بدأتُ أوقن أننا أصبْنا بمُراقبتنا هذا المكان، وأن بالداخل تحدُث أشياءٌ يجب أن نكشفَ الغطاءَ عنها. كان من المُمكن أن أقتحم المنزل، لكن لا أدري إن كان ذلك سيُحبِط خطط بلنكيرون أم لا؛ إذ لم تَرِدني منه أي معلوماتٍ بخصوصِ الاقتحام. ازداد شعوري بالارتباك أكثر من ذي قبل. وكنتُ أستلقي في فراشي مُستيقظًا أخطط للتسلُّل إلى المنزل بشكلٍ ما … بوسعي أن أتظاهر أنني قرويٌّ من الوادي المجاور قد لُوِيَ كاحله … أو قد أذهب إلى المنزل بحُجة البحث عن قريبي وسط الخدَم … أو قد أشعِل حريقًا بالمنزل فتُفتَح الأبواب على مصراعَيها للجيران المُراعين …

وفجأة تلقَّيتُ تعليماتٍ في خطابٍ من بلنكيرون.

أتت التعليمات في خطابٍ داخل طردٍ يحوي جواربَ دافئةً أرسلَته لي عمَّتي الطيبة. لكن الخطاب لم يكن مُرسلًا منها. كان الخطاب مكتوبًا بحروفٍ كبيرةٍ عريضة، وبخط بلنكيرون المُميز. أخبَرني أنه أوشك على الانتهاءِ من مهمته. وقد توصَّل إلى خيطٍ بخصوص كيليوس، الذي تأكَّد أنه الطائر المنشود، الذي سيُحلِّق ناحية الجنوب في المستقبل القريب ويعبُر الجبال للسبب الذي أعرفه.

كتب: «أحرزْنا تقدمًا كبيرًا، وستنشغل كثيرًا الأسبوع القادم، بمشيئة الرب. سار الأمر بصورةٍ أفضلَ مما كنتُ آمل.» لكن لا تزال هناك أمور لا بدَّ من إنجازها. لقد عثرَ على قروي — اسمه كلارنس دون، وهو صحفي من مدينة كانساس — جندَّه لصالحه. وصف ذلك الرجل بأنه «الاستثنائي» ومدحه عندي أيما مديح. سيأتي ذلك الرجل إلى سانت أنتون؛ لأن هناك شيئًا يجري في «بينك شاليه»، سيُطلِعني على تفاصيله. من المُخطَّط أن أقابل الرجل في مساء اليوم التالي، في التاسعة وخمسَ عشرةَ دقيقة، عند الباب الصغير، في الطرف الشرقي من المنزل. ختم الرسالة قائلًا: «لا تتأخر، يا ديك، بحق السماء، ونفَّذ أوامره كما لو أنها صادرةٌ مني. إنها مسألةٌ معقَّدة، لكنكما شجاعان بما يكفي، لتحقيق الفوز. لا تقلَق بشأن ابنة عمك الصغيرة. إنها بأمان، وقد أنهت دورها.»

تنفَّستُ الصُّعَداء فورَ أن قرأتُ الرسالة لا سيما كلماتها الأخيرة. وأخذتُ أقرؤها مرارًا وتكرارًا للتأكد من أنني استوعبتُ مغزاها. ساورَني الشك في أنها قد تكون مزيَّفةً هنيهة، ويعود السبب في ذلك بشكلٍ أساسي إلى عدم ذِكر بيتر، الذي لعب دورًا كبيرًا في الرسائل السابقة. لكن لم يُذكر بيتر ما دام أنه ليس طرفًا في المهمة المطلوبة؟ أقنعَني التوقيع أن الرسالة حقيقية. عادةً يوقِّع بلنكيرون باسمه الكامل بخطٍّ مزيَّن أنيق لرجال الأعمال. لكن حينما كنتُ على الجبهة، صار يكتب اسم عائلته بخطٍّ تصعُب قراءته متبوعًا بحرفَي الجيم والسين بين قوسَين. كانت هذه هي طريقة توقيع الرسالة، فكانت دليلًا قاطعًا أنها حقيقية وليست مزيفة.

قضيتُ ذلك اليومَ واليومَ الذي يلِيه في حماسةٍ شديدة. استشفَّ بيتر ما كان يحدث، وإن كنتُ لم أُخبِره، خشيةَ أن أُثيرَ غَيْرته. لا بد أن أترفَّق به بشكلٍ زائد؛ لأنني أرى شَوقَه للمشاركة في الأمر. في الحقيقة، لقد سألَني بخجلٍ إن كنتُ أستطيعُ إشراكَه معي بشكلٍ أو آخر، واضطُررتُ إلى الكذب قائلًا إنها إحدى جولاتي العشوائية حول «بينك شاليه».

ترجَّاني بيتر قائلًا: «حاوِلْ أن تعثُر على وظيفة لي. لا أزال قويًّا، رغم ساقي الواحدة، ويُمكِنني أن أستخدِم سلاحًا ناريًّا.»

أعلنتُ أنه سيحين دورُه في الوقت المناسب، وأن بلنكيرون وعَدَ بإسناد مهمةٍ إليه، لكن لا أدري على الإطلاق كيف سيحدث ذلك.

في الساعة التاسعة مساءً من تلك الليلة الموعودة، كنتُ على ضفة البحيرة المقابلة للمنزل، على مقربة من الشاطئ، أشُق طريقي إلى مكان اللقاء المُرتقب. كان الظلام حالكًا في تلك الليلة؛ إذ رغم أن السماء كانت صافية، كان الضوء المنبعِث من النجوم خافتًا نتيجة الضباب ولم يكن القمر قد ظهر بعدُ. وضعتُ في جيبي بعضًا من قِطَع الشكولاتة، خشيةَ أن يطول غيابي ولا أستطيع الوصول إلى الطعام، بالإضافة إلى المُسدَّس والمصباح اليدوي. كان البرد قارسًا، لكني قد توقفتُ عن الاهتمام بالطقس، وارتديتُ حُلتي الوحيدة دون معطفٍ طويل.

كان المنزل ساكنًا مثل مقبرة. لم أرَ أي بصيص ضوء، أو أشمَّ أيًّا من الروائح الدالة على وجود سكان من دخان أو طعام. كانت مهمةً مُخيفة، أن أصعَد الربوةَ الشرقيةَ الشديدةَ الانحدار، حتى أبلغ بدايةَ الحديقةِ المنبسطة، في ظلامٍ حالكٍ أتلمَّس طريقي فيه مثل الأعمى.

تحسَّستُ جانب المنزل إلى أن وجدتُ بابًا صغيرًا. بعد ذلك، اختبأتُ وسط شُجيرات الغار، في انتظار رفيقي. ووجدتُه أمامي.

سمعتُ همسًا بلهجة وسط غرب الولايات المتحدة مُميزة: «أأنتَ جوزيف زيمر؟ لا أريد أن أناديَ اسمك بصوتٍ عالٍ، لكن أظن أنك الرجل الذي أُمرتُ بلقائه هُنا.»

همستُ سائلًا: «هل أنتَ السيد دون؟»

أجاب مادًّا يدَه للمصافحة: «نعم. سعدتُ بلقائك.»

وضعتُ يدي في يدِه المُغطَّاة بقفازٍ دون أصابع، وسحبَني إلى الباب الصغير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤