الفصل التاسع عشر

الطيور البرية تدخل القفص

قال الجالس عند الطاولة: «تفضَّل يا سيد أفري.» كان هناك حاجزٌ أمامي، يمتد من المدفأة إلى الباب الذي دخلتُ منه للتو، ليحجُب التيار الهوائي القادم من الباب الذي دخلتُ منه. كان الحاجز يرتفع أعلى رأسي، لكن به بعض الشقوق يُمكِنني مراقبةُ الغرفة من خلالها. وجدتُ طاولةً صغيرةً أسندتُ ظهري إليها؛ إذ كنتُ في غاية الإنهاك.

كان الجالس إلى طاولة الكتابة بلنكيرون الذي امتدَّت صفوفٌ من أوراق سوليتير أمامه. ظلت بقايا الحطَب تحترقُ ببطءٍ في المدفأة، وعن يميني قبَع مصباحٌ ألقى بضوئه على الموجودين بالغرفة. وبَقيَت رفوف الكتب والخزائن مستترةً بالظلام.

قال بلنكيرون وهو منهمكٌ بترتيب أكوام الأوراق فيما تغضَّن وجهُه بالابتسامات الترحيبية: «انتظرتُ لقاءك فترةً طويلة.» أتذكَّر أنني تساءلتُ عن السبب الذي دفَعَه لأداء دورِ المُضيفِ لصاحب المنزل الحقيقي.

وقف أفري مُنتصِبَ القامة أمامه. الآن وقد خلع جميع أقنعته وصار يقف على عتبة انتصاره بدا رجلًا مهيبًا. رغم الغمامة التي غشَّت عقلي حينها وجدتُ نفسي مدفوعًا للاعتراف أن أمامي رجلًا وُلد للمهام العظيمة. كان له ذقَن يشبه ذقَن ملكٍ رومانيٍّ منقوشٍ على العملات المعدنية، وعينان هازئتان تألفان الغموض. كان يصغُرني في السن، عليه اللعنة، وانعكس ذلك بوضوح على ملامحه الآن.

سلَّط أفري عينَيه على مُخاطبِه، فيما تراقصَت على شفتَيه ابتسامةٌ قبيحةٌ أيَّما قُبح.

قال: «إذن فقد أمسكنا بالغراب العجوز أيضًا. لم أحلُم بأن يُحالفَني الحظ إلى هذه الدرجة، ولأصدقك القول، أنا لم أعبأ بأمرك كثيرًا. لكننا سنُلحِقك بالبقية. سنجعلكم عبرةً لمن لا يعتبر!» وألقى برأسه للوراء وضحك.

أنشأ بلنكيرون يقول: «يا سيد أفري …» لكنه قاطعه.

قال: «لا تَستخدِم هذا الاسم. لقد ولَّت هذه الحقبةُ حمدًا للرب! أنا الكونت فون شبابينج وأعمل ضابطًا في الحرس الإمبراطوري. لستُ واحدًا من الأسلحة العديمة الأهمية التي استخدمتها ألمانيا للقضاء على أعدائها طيلةَ الفترة الماضية.»

قال بلنكيرون ببطء وهو لا يزال منشغلًا بأوراق اللعبة: «حقًّا.»

لقد حانت اللحظة الموعودة، وعزم أفري على الاستمتاع بانتصاره حتى آخر قطرة. بدا أن جسمه ينتفش، وعينَيه تتلألآن، وصوته يفيض زهوًا. قدَّم أفري أداءً مسرحيًّا استثنائيًّا واستمتع في أثناء ذلك لأقصى درجة. لا أظن أنني حقدتُ عليه لاستعراضه؛ إذ كنتُ أتحسَّس شيئًا في جيبي. صحيحٌ أنه فاز، لكنه لن ينعَم بانتصاره طويلًا، لأنني سأطلقُ النارَ عليه في أقرب وقت. ركَّزتُ عيني على بُقعة، فوق أذنه اليُمنى مباشرة، حيث أردتُ وضع رصاصتي … فقد كنتُ متأكدًا من أن قتلَه هو الوسيلة الوحيدة لحماية ماري. كنتُ أخشى هذا الرجل بدرجةٍ تفوقُ خشيتي للسبعين مليون ألماني. هذه هي الفكرة التي سيطرَت على عقلي وسط الإعياء الذي تملَّك جسدي.

قال الرجل الذي كان يُسمِّي نفسه أفري: «لا وقت لديَّ لأهدره معك. لكني سأمنحك بضع لحظات لأخبرك بالقليل من الحقائق. لم تحظَ خطتك الطفولية بأي فرصة للنجاح. فقد خدعتُك في إنجلترا وأنا أتلاعبُ بك منذ ذلك الحين. لم تُقدِم على خطوة إلا وقابلتُها بضدها بهدوء. مرحى يا رجل، لقد منحتَني ثقتك. السيد دون الأمريكي …»

سأل بلنكيرون: «ماذا عن كلارنس؟» وانعكسَت على وجهه نظرة تجسِّد الدهشة المُطلقة.

أجاب: «أديتُ دَورَ ذلك الصحفيِّ المُثير للاهتمام.»

قال بلنكيرون بصوتٍ رقيقٍ حزين: «لا أصدِّق! ظننتُ أنه لن يأتيَني خطرٌ من جانب كلارنس. فقد أحضر خطابًا من العجوز جوي هوبر وكان على معرفةٍ بجميع الشباب في إمبوريا.»

ضحك أفري. قال: «يؤسِفني أنك لم تُقدرني حقَّ قدري أبدًا، لكني أظنُّ أنك ستفعلُ ذلك الآن. إن عصابتَكَ لا حيلةَ لها ولا قوة بين يديَّ. والجنرال هاناي …» ليتَني أستطيعُ وصفَ الازدراءِ الذي نطق به كلمة «جنرال».»

سأل بنلكيرون باهتمام: «أجل … ديك؟»

أجاب: «هو سجيني منذ أربع وعشرين ساعة. كما احتجزتُ الآنسة الجميلة ماري أيضًا. ستأتون ثَلاثَتُكم معي إلى دولتي في غضونِ فترةٍ قصيرة. لن تتخيَّل كيف. نحن نُسمِّي الطريقة «قطار الأنفاق» وستَحظى بشرف متابعة كيفية عملِها … لم أقلَق كثيرًا بشأنك لأنني لا أحملُ لك ضغينةً شخصية. فما أنت سوى أحمقَ غبِي، ما تُسمُّونه في بلدكم «هدفًا سهلًا».»

قال بلنكيرون بجدية: «أشكرك أيها الكونت.»

تابع: «ولأنك موجودٌ هنا فستنضَم للآخرين … كلمة أخيرة. إن هزيمة البلهاء أمثالك أمرٌ عديم الأهمية. إنما حقَّقتُ ما هو أعظمُ منه. لقد انتصرَت دولتي. وستشهد وأصدقاؤك ذلًّا ما شهدَته روما في تاريخها. هل استوعَب عقلك الغبي فداحةَ ما أقول؟ لقد فازت ألمانيا، وفي غضون يومَين ستندهش الأرضُ كلها من قَدْر عظمتها.»

نظرتُ إلى بلنكيرون فإذا بسَحابةٍ قاتمةٍ من اليأس قد غشَّت وجهه. تهدَّل جسدُه الضخم في مقعده، وانكسرَت عيناه، وتحرَّكَت يدُه اليسرى بإنهاكٍ بين أوراق لعبته. لم أستطع دفع عقلي للتفكير، لكني تعجَّبتُ بمرارة من أخطاء بلنكيرون الفادحة. لقد سار مثل الأعمى إلى الفخ الذي نصَبه له أعداؤه. لا بد أن بيتر أخفَق في إيصال رسالتي إليه، فلا يعلم شيئًا عما حدث في الليلة الماضية، أو عن رحلتي المجنونة إلى إيطاليا. لقد فشِلنا، وفشِلَت جماعتُنا البائسةُ كلها، بيتر وبلنكيرون وأنا … استقر شعورٌ غريبٌ في زاويةٍ نائيةٍ من عقلي، أن ثمَّة شيئًا في الأمر أعجزُ عن فَهمه، وأن هذه الكارثة ليست بالبساطة التي تبدو بها. لكن لم تعُد بي طاقةٌ على التفكير لا سيما مع سيطرة أفري المتغطرس على أجواء الغرفة … حمدًا للرب أن رصاصةً تنتظره في جيبي. كانت تلك هي الحقيقة الوحيدة الثابتة في عقلي الفوضوي. ولأول مرة في حياتي عزمتُ على قتل رجلٍ واحدٍ بعينه، وأمدَّتني تلك الغاية براحةٍ بغيضة.

فجأة دوَّى صوتُ أفري بحدة. «أخرِج يدكَ من جيبك. أنت مُحاصَر من ثلاثِ جهات. تحرَّكْ حركةً واحدةً وسيُحيلك رجالي إلى مصفاة. لقد جلس آخرون قبلك في هذا الكرسي؛ لذا فإنني أتخذ الاحتياطاتِ اللازمةَ دائمًا. أسرِع. ضَع يدَيكَ الاثنَتَين على الطاولة.»

لم يكن هناك أدنى شكٍّ في هزيمة بلنكيرون. لقد انهزم وخرج من اللعبة، ولم يبقَ لنا سوى بطاقةٍ رابحةٍ واحدةٍ أحملها في جيبي. استند بلنكيرون على ذراعَيه في وهَن باسطًا راحتَيه.

قال بصوتٍ في غاية اليأس: «أخمِّن أنك تحملُ الكثير من البطاقات الرابحة يا كونت.»

أجاب: «بل لديَّ جميعُ الأوراق الرابحة.»

بعد ذلك حدث تغييرٌ مفاجئ. رفع بلنكيرون رأسه ونظر بعينَيه الشاردتَين الناعستَين في عينَي أفري مباشرة.

وقال: «أتحدَّاك.»

لم أصدِّق أذني. واندهش أفري.

قال أفري: «انتهى وقتُ الخداع.»

قال بلنكيرون: «أتحدَّاك رغم ذلك.»

في تلك اللحظة، شعرتُ بشخصٍ يشُق طريقَه عَبْر الباب، ليتخذ مكانه بجواري. كان الضوء في غاية الخفوت، فلم أرَ سوى هيئته المربَّعة القصيرة، لكنه همس بصوته المألوف في أذني. قال: «هذا أنا، أندرو آيموس. يا لها من خدعةٍ عظيمةٍ يا رجل. لقد أتيتُ لأشهد نهايتَها.»

وقفتُ في ترقبٍ شديد، لم يَختبره سجينٌ في انتظار نُطق القاضي بالحكم النهائي في قضيته، ولا قائدٌ يتلهف لأنباء معركةٍ كبيرة، أتابع ما يحدث في اللحظات التالية. لقد نسيتُ كل تعبي، ولم يعُد ظهري بحاجة إلى دعم الطاولة. التصقَت عيناي بالشق، واستقبلَت أذناي كل لفظةٍ في نهَم.

كان بلنكيرون يجلس منتصبًا في مقعده ويضع ذقَنه بين يدَيه. وتبدَّدَت كل آثار الكآبة من وجهه النحيل.

قال: «أقول إنني أتحدَّاك يا كونت فون شبابينج. سأخبرك ببضعة أمور. ليست بحوزتك أيُّ أسلحة؛ لذا لا داعي لتحذيرك بشأن العبث بها. أنتَ مُحق في القول إن هناك ثلاثة شقوق في الجدران يمكنك إطلاق النار من خلالها. لمعلوماتك، هناك فوَّهة بندقية في كل ثقبٍ منها، وجميعُها مصوَّبة نحوك في اللحظة الراهنة. من مصلحتك أن تُحسِن التصرف.»

انتصب أفري في وقفته مثل القضيب. وهتف: «كارل، جوستاف!»

ظهر رجلان على جانبَي أفري، مثل السحر، وطوَّقاه كما يطوِّق الحرسُ المجرم. أدركتُ أنهما ليسا الخادمَين المهندمَين اللذَين رأيتُهما في «بينك شاليه» قبل ذلك. أحدهما لم أرَه من قبلُ. والآخر كان خادمي جوردي هاميلتون.

رمقَهما بنظرةٍ سريعةٍ كانت كفيلةً بأن يفهم منها الموقف، بعد ذلك جال ببصره في أرجاء الغرفة مثل حيوانٍ جريح، قبل أن يستعيد توازنه. كانت شجاعتُه فريدة.

قال بلنكيرون ببطء: «أريد أن أُخبرك بأمرٍ. كان القتال حاميَ الوطيس، لكن الهزيمة صارت من نصيبك كما أرى. أُحيِّيك على مهارتك في انتحال شخصية كلارنس دون. فقد خدعتَني ببراعةٍ منقطعةِ النظير، ولولا رحمة الرب لانتصرتَ علينا في نهاية المطاف. شخصٌ واحدٌ تعرَّف عليك، في غالبية الأحوال، مهما كان القناع الذي ترتديه، وهو ديك هاناي. أعطيك أعلى الدرجات على انتحالِ شخصية كلارنس … أما في البقية فقد هزمتُك هزيمةً ساحقة.»

نظر بلنكيرون إلى أفري بثبات. قال: «أنتَ لا تُصدِّق. حسنًا، سأثبِت ما قلتُه للتو. لقد راقبتُ قطار الأنفاق لبعض الوقت. وسخَّرتُ رجالي لهذه المهمة، وأعتقد أن غالبية الخطوط أُغلقَت في الوقت الحالي من أجل الإصلاحات. هذا باستثناء الخط الرئيسي المؤدي إلى فرنسا. أبقيتُه مفتوحًا لأنني سأنقل شحنةً عن طريقه في القريبِ العاجل.»

آنذاك لاحظتُ رجفة في جفنَي أفري. لقد بدأ يخور رغم رباطة جأشه.

واصل بلنكيرون: «أعترف أننا فُزنا بأعجوبة لأنك خدعتَني في أمر كلارنس. لكن جنرال هاناي كان عَقبةً كبيرةً في طريقك يا كونت. لقد أسأتَ التقدير عندما أفضيتَ إليه بخطتك. ظنَنتَ أنه في قبضتك، في حين أنك خاطرتَ مخاطرةً كبيرةً مع رجلٍ مثل ديك، اللهم إلا إذا كنتَ قد قتلتَه قبل رحيلك عنه … لقد هرب من ذلك المكان، وفي وقتٍ مبكِّرٍ من الصباح، وأوصل إليَّ كل ما يعرفه. بعد ذلك صار كل شيءٍ سهلًا. تلقَّيتُ البرقية، التي أرسلتَها إليَّ في الصباح باسم كلارنس دون، وضحكتُ عند قراءتها. وقبل منتصف النهار سيطرتُ على الطاقم بأكمله. لقد ذهب خدَمُك عَبْر قطار الأنفاق إلى فرنسا. وإيرليش — حسنًا، أنا آسف بشأن إيرليش.»

الآن صرتُ أعرف اسم اليهودي البرتغالي.

قال بلنكيرون بأسفٍ: «لم يكن رجلًا سيئًا، وكان في غاية الأمانة. لم أنجح في إقناعه بالاستماع إلى صوت العقل وكان سيعبث بالسلاح الناري. فاضطُررتُ إلى قتله.»

سأل أفري بحدة: «هل قضى نحبه؟»

أجاب: «أجل. لا أخطئ التصويب، كما كانت مسألةَ حياةٍ أو موت. إنه الآن يرقُد تحت الجليد؛ حيث أردتَ إرسالَ ديك هاناي. هو لا يُشبهك، يا كونت، وأظن أن لديه فرصةً في دخول الجنة. لو لم أكن تابعًا متعصبًا للكنيسة المشيخية لدعوتُ لروحه بالرحمة.»

ركَّزتُ نظري على أفري فحسب. رأيتُه وقد شحبَ وجهُه كثيرًا وزاغ بصرُه. كنتُ واثقًا أن عقله يعمل بسرعة البرق لكنه مثل الفأر في مصيدةٍ فولاذيةٍ مُحكَمة. ما رأيتُ رجلًا يعاني أشد المعاناة مثلما كان أفري في تلك اللحظة. لقد انهارت قلعتُه الجصيَّة من حوله، وفقد توازُنَه من شدة الصدمة. هذا الرجل شديد الاعتزاز بنفسه وقد تعرَّضَت كبرياؤه لضربةٍ قاصمة.

قال بلنكيرون: «هذا بالنسبة لموضوعنا المألوف. لنتحدَّث الآن بشأن سيدة بعينها. لم تتصرَّف ببالغ اللُّطف معها يا كونت، لكن لن ألومك في ذلك. هل سمعتَ الصفير الذي دوَّى عندما دخلت إلى هُنا؟ لا! كان مُدويًا مثل بوق جبريل. لا بد أن بيتر سخَّر كل الهواء في رئته لنفخه. حسنًا، كانت هذه إشارةً بوجود الآنسة ماري سالمةً في سيارتك … لكن في عُهدتِنا. أتعي ما أقوله؟»

وعَى أفري كلامه جيدًا. تسلَّل احمرارٌ طفيفٌ إلى وجنتَيه.

تابع: «هل تريد معرفةَ مصير جنرال هاناي؟ لست متأكدًا من مكانه في اللحظة الحالية، لكن أظن أنه في إيطاليا.»

ركلتُ الحاجز جانبًا، فكاد آيموس يسقط على وجهه.

قلتُ: «لقد عُدت»، وسحبتُ مقعدًا ذا مسندَين، وألقيتُ نفسي فوقه.

كانت رؤيتي هي القشَّة الأخيرة بالنسبة لأفري. كنتُ في حالةٍ مزرية، شاحبًا من الإعياء، مبللًا، قذرًا، أرتدي ثياب الحمال جوزيف زيمر البالية المهَلهَلة، كانت قد تمزَّقَت من الصخور الحادة في ممَر شفارشتاينتور. جفلَت عينا أفري ما إن التقت بعينيَّ، وقرأتُ الرعب فيهما. كان يُدرك أنه يقف في حضرة عدُوه اللدود.

قال بلنكيرون بابتسامةٍ مشرقة: «أتيتَ في اللحظة المناسبة تمامًا. كيف وصلتَ إلى هُنا بحق الرب؟»

أجبتُ: «سيرًا على الأقدام.» لم أرغب في الكلام إذ كنتُ أشعُر بالوهن. أردتُ فحسبُ أن أمتِّع نظري بالتمعُّن في وجه أفري.

جمع بلنكيرون بطاقات لعبته، ودسَّها بسرعة في جرابٍ جلديٍّ صغير، قبل أن يضعها في جيبه.

قال بلنكيرون: «أريد أن أخبرك بشيءٍ أخير. لقد استُدعيَت الطيور البرية لموطنها لكنها لن تبلغه أبدًا. هذا لأننا قبضنا على أعضاء المنظمة مثل بافيا وهوفجارد وكونرادي. إيرليش مات بالفعل. وستنضَم إلى البقية في قفصنا.»

نظرتُ إلى صديقي فإذا به يزداد مهابةً. كان يجلس في مقعده بثقة، بوجهٍ يُشبه قضاة الإعدام، وعينَين غير ناعستَين بل تُحاصِران أفري. كما تخلى عن وتيرته البطيئة في الكلام، وعباراته العادية، وخرج صوتُه قاسيًا حادًّا كصوت ارتطام صخور الجرانيت.

قال: «أنتَ في قفص الاتهام الآن يا كونت فون شبابينج. لقد بذلتَ ما في وسعك لسنواتٍ لتقويضِ كل ما هو أخلاقي. لا أشكُ في أنك نلتَ استحسانَ دولتِك. لكن ما الذي فعلَته دولتُك لتنالَ استحسان العالم؟ في القريب العاجل، ستدفع ألمانيا ثمنًا باهضًا جرَّاء أفعالها، وستكون أنتَ الحصة الأولى من هذا الثمن المستحق.»

قال أفري بشفتَين جافتَين وجبين يتفصَّد عرقًا: «سألجأ للقانون السويسري. أنا أقف على أرضٍ سويسرية، وأطالب بتسليمي للسلطات السويسرية.»

قال بلنكيرون بنبرةٍ مطمئنة: «أوه، لا، لا. السويسريون أناسٌ لُطفاء، ولا أُحب أن أزيدَ أعباءَ دولةٍ حياديةٍ مسكينةٍ بتسليمك لها … طيلة هذه الفترة كان طرفا اللعبة يتصرفون خارج حدود القانون، وسيستمر الوضع على هذا المنوال. لقد تصرفنا وفقًا لقواعد اللعبة، وهذا ما ستفعله أنت أيضًا … لقد قتلتَ واختطفتَ وأغويتَ الضعفاء والجاهلين، على مدار السنوات الماضية، لكننا لن نحكم على أخلاقك. سنترك ذلك للرب القدير بعدما تعبُر للعالم الآخر. سننفُض أيديَنا منك في أقرب وقتٍ ممكن. ستُسافر إلى فرنسا عَبْر قطار الأنفاق حيث سنسلمك إلى الحكومة الفرنسية. فلديهم من الأدلة، حسبما أعلم، ما يكفي لأن تُجريَ عليك حكم الأعدام رميًا بالرصاص كل ساعةٍ لمدة سنة.»

أظن أنه توقَّع أن نُنفِّذ فيه الحكم في الحال ونرسله لينضم إلى إيرليش تحت الجليد. على أي حال لاحت بارقة أملٍ في عينَيه. ربما فكَّر في احتمالية الهرب من السلطات الفرنسية لو حظي بفرصة استخدام قدراته المذهلة. لكنه انحنى أمامنا برباطة جأشٍ نوعًا ما، واستأذنَنا في التدخين. فكما قلتُ للرجل شجاعةٌ فريدة.

هتفتُ: «لن نفعل شيئًا من هذا القبيل يا بلنكيرون.»

أمال رأسَه ناحيتي بجدية. سأل: «بمَ تفكِّر يا ديك؟»

أجبتُ: «لا بد أن نُنزِلَ به عقوبةً تتناسب مع جُرمه. كان الإرهاق قد تمكَّن مني حتى إني كنتُ أبذل جهدًا خارقًا لتكوين عباراتي، كأنني أتحدَّث بلغةٍ أجنبيةٍ غير مفهومة بشكلٍ كبير.»

سأل: «ماذا تعني؟»

قلتُ: «أقصد أنك لو سلَّمتَه إلى فرنسا إما سيُفلتُ من أيدينا بطريقة من الطرق أو سيحظى برصاصةٍ قاتلة، وفي هذا من الرأفة ما لا يستحقُّه. لقد أرسل هذا الرجلُ وأشباهُه ملايينَ الأوفياء إلى قبورهم. في الفترة الماضية، جلس مثل عنكبوتٍ ضخمٍ يغزل شبكته، ومع كل خيطٍ غزله سكب شلالًا من الدماء. أمثالُه مَن دبَّروا لهذه الحرب لا الجنود الألمانيون المقاتلون الأغبياء الشجعان. لهذا هم المسئولون عن كل هذه الوحشية الغليظة … مع أنه لم يقف يومًا في مرمى القذائف. أرى أن نضعَه على الجبهة. لا أعني أن نفعل به مثلما فعل داود بأوريا الحثي. أريده أن يحظى بفرصةٍ عادلةٍ مثل بقية الرجال. لكنه، بمشيئة الرب، سيعرف نتيجة ألاعيبه المرحة … لقد أخبرني أنه في غضون يومَين ستُحطِّم ألمانيا جيوشنا تمامًا. وتحدَّث بزهوٍ عن دوره الكبير في هذا الأمر. حسنًا، لنُرسِله إلى هناك ليشهدَ ذلك بنفسه.»

قال بلنكيرون: «أراها عقوبةً عادلة.»

ركَّز أفري عينَيه عليَّ، في ذهول ورعب، مثل طائرٍ يقف أمام أفعَى مُجلجِلة. وغشَّت وجهَه مرةً أخرى تلك النظرة التي رأيتُها في محطة المترو، وهي بقايا بشريتِه المتضائلةِ خلف أقنعتِه. بدا أنه أخرج شيئًا من جيبه في خفيةٍ كي يضعَه في فمه، لكن جوردي هاميلتون أمسَك برُسغِه وحال دون ذلك.

سأل خادمي في صدمة: «ماذا تفعل؟ يظهر، يا سيدي، أن السجين يُحاوِل ابتلاع السُّم. هل أقوم بتفتيشه؟»

بعد ذلك وقف أفري بين الحارسَين وقد قبض كلٌّ منهما على إحدى ذراعَيه.

قلتُ: «عندما وقعتُ في قبضتك الليلة الماضية يا سيد أفري، أرضيتَ غرورك بالتباهي أمامي. وكنتُ أتوقع ذلك لأن طبقتك الاجتماعية لا تُنشِئ النبلاء. أما نحن، فنُعامِل سجناءنا بطريقةٍ مختلفة، لكن من العدالة أن نُخبرك بمصيرك. ستذهب إلى فرنسا وسأتأكد من نقلك إلى الجبهة البريطانية. هناك، مع فرقتي القديمة، ستتعلَّم شيئًا يسيرًا عن الحرب. أريدك أن تفهم أنه لا يمكنك الفرارُ على الإطلاق. سيُؤمر الرجال بمراقبتك ليلَ نهارَ، وسيضمَنون أنَ تختبر ساحة المعركة بكل قسوتها. ستُكابِد ما كابدَه الآخرون لا أكثر ولا أقل. أومن بعدالة الرب، وأعلم أنك ستلقى الموت عاجلًا أو آجلًا على يد قومك، وستموت بشرف رغم عدم استحقاقك لهذا الشرف. لكن، قبل أن ينزل بك الموت، ستختبر ذلك الجحيمَ الذي أرسلتَ إليه الرجالَ الأوفياءَ في الفترة الماضية.»

في لحظات الوهن، كما في لحظات الأزمات الكبيرة، يتقلد العقلُ زمام الأمور، وقد يعمل في مسارٍ مُنفصلٍ عن إرادة المرء. لم تكن نفسي هي التي تتحدَّث، بل صوتٌ منفصل عنها لا أعرفه، صوتٌ تلوح من نبرته سلطةٌ غريبة. استَشعَر أفري النبرةَ الحاسمةَ الباردةَ لكلامي، وبدا جسمُه يذبُل ويضعُف. ولم يمنعه من السقوط سوى قبضة الحارسَين.

أنا، أيضًا، كنتُ على حافة الانهيار. لم أكن في كامل وعيي في أثناء إخلاء الغرفة من الجميع، عدا بلنكيرون وآيموس، وحاول الأول أن يجعلني أرشُف بضعَ قطرتٍ من الكونياك من كأسٍ ما. جاهدتُ للنهوض على قدميَّ وأنا أعتزم الذهاب إلى ماري، لكن ساقيَّ عجزتا عن حملي … سمعتُ، كأنني في حُلمٍ بعيد، آيموس وهو يقدِّم ثناءه للإله المطلَق القدرة الذي لا يؤمن به رسميًّا. قال: «ماذا قال الرجل العجوز في الإنجيل؟ لتأذن لخادمك بالرحيل في سلام. هذا ما أشعُر به الآن.» بعد ذلك انقضَّ النوم عليَّ كرجلٍ مسلَّح، فغفوتُ في المقعد المجاور لرماد الحطب الخافت، لتسكينِ آلامِ أطرافي، وتخفيفِ توتُّرِ أعصابي، وتهدئةِ اضطرابِ عقلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤